أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - د. سوداني :بيان حول ذاكرة الجسد في المسرح البصري















المزيد.....


د. سوداني :بيان حول ذاكرة الجسد في المسرح البصري


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 1966 - 2007 / 7 / 4 - 10:57
المحور: الادب والفن
    


أجرى الحوار: منير بولعيش و محمد الأزرق

في قراءتنا للمشهد المسرحي العربي الراهن، لا بد لنا أن نتوقف عند نتاج رجل المسرح العراقي المقيم في الدانمرك (د. فاضل سوداني): كتابة و إخراجا و تنظيرا، و قد شكلت مشاركته القيمة في ندوة طنجة المشهدية فرصة لاستدراجه في حديث معرفي عن مجهوداته في تأصيل (المسرح البصري) و كذا الكلام عن همومه الذاتية خاصة فيما يتعلق بالوطن والمنفى و الهوية و الآخر...


1 ـ دكتور فاضل سوداني يقوم مشروعكم الفني و التنظيري على ما تسمونه بالمسرح البصري المرتكز على خلخلة التوصيفات الأرسطية للمسرح (بداية، عقدة، حل) مع الإنحياز للفرجة البصرية على حساب المعايير الأدبية و رد الإعتبار للجسد و للطقوس الميثولوجية القديمة...
دكتور فاضل، هل تعتقد حقا أن الذائقة الفنية العربية مؤهلة لاحتضان هكذا مشروع قائم على التجريب و إثارة الأسئلة المصيرية و إنتاج وعي مفارق ؟


ـ إن المسرح البصري الذي أدعو لتحقيقه خطوة مهمة لتجاوز نمطيته وثرثرة اللغة الأدبية في المسرح العربي. وتحقيقه يشمل جوانب العرض وكذلك النص المسرحي والجانب الأول له علاقة بعمل الممثل والمخرج وسينوغرافيا الفضاء وكذلك الجمهور ويتم هذا من خلال تحقيق ما أدعوه بالبعد الرابع للزمن والفضاء في العرض المسرحي البصري
والجانب النظري يأخذ جانب النص البصري..
إذن كيف يمكن أن نفهم هذا الأمر:يعتبر التعامل مع الجسد بصريا من قبل المخرج أو الممثل فنا معاصرا ولغة ديناميكية لخلق الصورة المعبرة في فضاء طقس العرض البصري، ويعد هذا في حقيقة الأمر مفهوما حداثويا، ارتبط بالتحولات الإبداعية التمردية في القرن الماضي. لذا فإن الكثير من الدراسات والعروض والتيارات والتجارب المسرحية الأوربية أكدت ومازالت على تحقيق الجانب البصري في أداء الممثل أو الرؤيا الإخراجية أو سينوغرافيا الفضاء المسرحي، كلغة جديدة في الإخراج المسرحي، بدءا من تجارب جوردن كريج و راينهاردت، و مايرهولد و أدلف آبيا و مخرجو مسرح الطليعة الفرنسيين و انتهاءا بتجارب بيتر بروك وجوزيف شاينا و روبرت ولسن و ليباج و كانتور و بينا باوش و يوجين باربا و أريان منوشكين و الياباني تاداشي سوزوكي وكل ما يرتبط بتجارب مسرح الصورة الأوربي وبعض تجارب المسرح البصري العربي وخاصة تجارب المسرح التونسي، وتجربة حميد محمد جواد و صلاح القصب في العراق وانتصار عبد الفتاح في مصر. و لقد أثر آنتونين آرتو و مفهومه حول مسرح القسوة و الإخراج المسرحي الميتافيزيقي المعاصر في تشكيل صورة العرض في المسرح العالمي، حيث حاول اكتشاف لغة جديدة للمسرح بحيث
( تكون قوة سحرية تستحضر ما وراء مملكة المنطق والكلمات أو أن توحي به ) وبمعنى آخر إن المسرحية كنص يجب أن تكون منظورة بقدر ماهي مسموعة ولذلك فان آرتو ربط بين الميتافيزيقا والحلم والإخراج لأن المسرح بالنسبة له ( يجعلنا نحلم ونحن مستيقظون، ويكف أن يكون مسرحا إذا تخلى عن هذه المهمة ). ومن خلال هذا حاول أنتونين آرتو أن يخلق مسرحا ميتافيزيقيا يستبدل فيه الكلام المنطوق بلغة جسدية بصرية محسوسة لأنه يرى بأن المسرح لا يؤثر على السمع فقط و إنما على الحواس الأخرى و أهمها البصر.إن حلم آرتو في خلق مسرح مرئي بوسائل بصرية يتحول فيه العرض إلى طقس أو شعيرة و يرتبط بالأحلام و الرؤى التنبئية ، كان له صداه في كتاب ومخرجي المسرح المعاصر ، ودفع بالكثير من الفنانين لتحقيق نظريته أو حلمه الإبداعي مثل غروتوفسكي و بيتر بروك وجوزيف شاينا و كانتور وغيرهم من الذين خلقوا لغة الوجد التصوفي في المسرح .
وهذا هو المنهج الفني والفكري الذي يعيد ديناميكية الإبداع في المسرح المعاصر، وفي ذات الوقت يرفض شتى صنوف الإلتباس والجهالة والغموض المتعمد لدرجة الإستهتار بالقيم الإبداعية من أجل المنافع الأنانية الضيقة والأهداف السياسية التي تخلق شرور تجارة الفن الرائجة الآن وتخلق أيضا المناخ المناسب لعبث الجهلة والمزيفين وإشاعة الخيانة الفنية في المسرح المعاصر عموما والمسرح العربي بالذات.
2 ــ دكتور فاضل كيف انبثقت في ذهنك هذه الفكرة: فكرة تأصيل نظرية المسرح البصري ؟


ـ إن دعوتنا للمسرح البصري انبثقت من خلال الرغبة في تحقيق البعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي و التي تعتمد على البعد البصري ـ الميتافيزيقي لذاكرة الجسد المطلقة و علاقتها بتحولات الأشياء، و تخلق عرضا مسرحيا يستند على النص البصري، وديناميكية ذاكرة الأشياء التي يعيد الممثل والمخرج خلق كينونتها عند التعامل معها بصريا في الفضاء الإبداعي و كذلك على الإخراج البصري الذي يعتمد التأثير بالصورة الديناميكية والوسائل البصرية الأخرى و لذلك فإن البعد الرابع الذي أعمل وأبحث فيه لتحقيقه بصريا هو رؤيا بصرية في الفضاء المسرحي تتكامل من خلال المرادفات التطبيقية و الإخراجية و الرؤيوية التي تعيد خلق النص ( المفروض أن يكتب بصريا ) لتحوله إلى نص ورؤية بصرية إخراجية مضافة، وتؤدي إلى الكشف عن سر الحاضر والمستقبل المرتبطان بالماضي إبداعيا.
وضمن هذا المدخل فان جسد الممثل كوسيلة تعبيرية يعد خزينا مثيولوجيا بصريا يرتبط بالأسرار العميقة لمعاناة الإبداع وهذا يؤهله أن يحل بهذا الغنى في جسد آخر ( أي في الشخصية أو الشخصيات الأخرى ) بواسطة الذاكرة البصرية المطلقة لجسده، و يختلف هذا المفهوم عن ذاكرة الممثل المثيولوجية أو عن التاريخ المسرحي بشكل عام، ففي هذا المجال يتحكم التاريخ كتراكم معرفي وفني.
فالذاكرة الجسدية المطلقة هي القدرات الجسدية غير المكتشفة لدى الممثل وجوهر ديناميكيتها التعبيرية هو (الآن )، لتجعل من الحضور الآني للممثل في العرض، حاضرا للممثل والشخصية في ذات الوقت، غير أن لحظة تقريب وتلاحم هذه الأزمنة الثلاث (الماضي والحاضر والمستقبل ) تشكل تلامسها، وهذا يعني تشكيل الرؤيا الإخراجية الإبداعية والتأليف البصري، أي أن عمل المخرج يتجسد في الزمان، بمعنى تقريب هذه الأزمنة الثلاث فيما بينها من أجل خلق بعدا إبداعيا رابعا يعتبر كرؤيا بصرية جديدة للفنان تحتم خلق وتنشيط الذاكرة الجسدية.
وبما أن المسرح تاريخيا قد وجد المؤلف ( الكتابة الأدبية ) و بعد ذلك المخرج ـ الدراماتورج، فإن الضرورة الآن تحتم أن يوجد مؤلف النص البصري. و لهذا فان البعد الرابع هنا يهتم بإعادة خلق الفضاء المسرحي بصريا ومخاطبة الجمهور بلغة الصورة والرموز و الإحالات والتأويل واللغة البصرية بعيدا عن اللغة الأدبية أو انتقائها وتكيفها واستخدامها كجزء من اللغة البصرية. فالنص ضمن مفهومنا هذا يُكتب للمشاهدة وليس للقراءة الأدبية ويمكن للقارئ أن يقرأ النص بصريا في فضاء العرض، وهذا يعني أن يمتلك المؤلف ( أو المخرج عندما يكون مؤلفا ) رؤيا بصرية من خلالها يفهم إيقاع الصورة والحدث على خشبة المسرح وليس على الورق. إن النص هنا لا يقتصر على الكلمة كدلالة ولغة سمعية فقط و إنما أن تكون هنالك مساحة أكبر للوسائل البصرية، ومن خلالها يتحقق الخطاب المسرحي. و بمعنى أن يكف المؤلف عن الاستمرار في تحقيق فعل الكتابة الأدبية التقليدية فقط، ليتحول إلى كاتب للنص البصري ومع المخرج يخلقان العرض البصري. و بالتأكيد أن مثل هذا النص المسرحي البصري سيكون ضد الأدب بالضرورة.
إضافة إلى فرض مفهوم العلاقة السرية التفاعلية التي تحدد وظيفة الجمهور المتفاعل فيمتلك تأويله التفاعلي لأنه المتفاعل النموذجي في الزمن الإبداعي لفضاء الطقس المسرحي البصري.لهذا فهو ليس جمهورا ولا متلقيا وإنما هو متفاعل، ويتفاعل هذا المتفاعل مع السؤال المصيري المستقبلي الذي يعالجه الطقس المسرحي البصري.
لذلك يمكننا الحديث الآن عن النص البصري المفتوح، الذي تتلامس فيه الأزمنة الثلاث و تتداخل، من أجل خلق بصرية العرض، لأن النص المغلق هو في حقيقة الأمر نكبة لبصريات العرض والطقس المسرحي المعاصر. ولا يمكن للمسرح المعاصر أن يقوم بمهمة التأثير مالم يعيد صياغة فضاءه الأدبي والفكري ( النص ) والجانب السنغرافي أي مكونات فضاء العرض أي الصياغة البصرية و السميولوجية و التأويلية، وهذا يتطلب تغيرا في المفاهيم الأساسية للغة العرض المسرحي.
ومن هذا نستنتج بان أهم الوسائل التي تجسد مثيولوجية المسرح المعاصر وتربطها بالميتافيزيقيا هو النص البصري ( الذي يجب أن يتعلم المؤلف اكتشاف تكنيكه وكيفية كتابته)، والفضاء الإبداعي للمخرج الرائي، ومن ثم جسد الممثل كذاكرة ابداعية بصرية مطلقة وخزين مثيولوجي كما أسلفنا، وهذا يعني تحقيق فن الأسرار والنوايا الخفية للمستحيل المسرحي، انه رؤيا السر المباح لتكامل العرض الطقسي وتكامل الإمكانيات البصرية و الإبداعية لذاكرة الجسد البصرية.


3 ـ بعد ما راكمته على مستوى الإنجاز الركحي و مستوى التنظير، برأيك دكتور فاضل سوداني، ما هي الشروط المطلوب توفرها في المسرح العربي الراهن، كي يكون في المقام الذي يسمح له بخلق بصمة مائزة عن سائر التجارب المسرحية في العالم ؟

ـ هذا السؤال يدفعنا إلى تشخيص طبيعة العلاقة بين المسرح والمدينة العربية، وهل هنالك حقا وجود لهذه العلاقة ؟ أم أن هنالك وهما وادعاء دعائيا و إعلاميا للأنظمة ذاتها. وبما أن الأنظمة العربية تكره الفن والجمال، وتخاف من علاقته بالمدينة، نتيجة لجماهيريته، فإنها إما أن تكيفه مع أهدافها الإيديولوجية والسياسية، وبهذا فإنها تقوم بالتشويه الفكري و إما أنها ترفضه بحجج دينية سلفية كما ذكرت سابقا.
ولهذا فليس هنالك علاقة مصيرية بين الفن والمدينة العربية لأن تطور المسرح وتكامله فكريا وجماليا يفرض مقدمات جوهرية تؤثر في المدينة كمجتمع والإنسان كفرد برغم تعقيدات التطور الإجتماعي. وأهم هذه المقدمات هي الديمقراطية الإجتماعية، وحرية الفنان و الذات ككائن بشري مبدع فاعل، بما فيها حرية الإكتشاف و التجريب في الفكر والفن وشتى أشكال الوعي الثقافي. فالمدينة المتحضرة التي تحتم مقدمات التكامل الاجتماعي، و يشكل التطور العلمي والفكري والثقافي أساس وجودها اليومي، بالتأكيد ستكون مدينة مستقبلية، و يوتوبيا و مدينة الحلم و الفردوس إنها المدينة والمدنية التي تؤثر على المتعايشين في فضاءها الديناميكي. وبما أن المسرح قضية حضارية أساسا، فإنه ينشأ ويتطور في المدينة الحضارية، وتحتمه تكاملية المجتمع المديني. ولهذا فإن أي تفكير بجوهر وماهية المسرح، هو بحث قوامه وطبيعته اجتماعية فلسفية ـ جمالية وفينومينولوجية ـ ظاهراتية ـ أيضا .. وبالرغم من ارتباط المسرح بالمثيولوجيا والطقوس الدينية لمختلف المجتمعات القديمة، إلا أنه كان ـ ومازال ـ يعبر بشكل بصري عن التصورات والأسس الفكرية والفلسفية و المشكلات الإجتماعية للمدينة والإنسان، إن الإلتباس الذي يعيق تطور المسرح العربي الآن، ويخلق جوهر أزمته، هو أن المدينة العربية غير مؤهلة لخلق المسرح، لأن المتعايشين في المدينة منشغلين عن المسرح بأمور أخرى، إما أن تكون اقتصادية أو إيديولوجية، أو سياسية، أو فكاهية تخديرية، أو أنهم يعيشون في سجن كبير، أو أن الأنظمة التي تسير وتسجن هذه المدن تعتبر المعرفة الفكرية والجمالية شيئا ثانويا.
و عكس هذا فإن المسرح، لا يمكن أن يوجد، ويكون ديناميكيا إلا في قدرته على إثارة الأسئلة الجوهرية والمصيرية في عصر تكنولوجي جديد. إضافة إلى أن المسرح يشكل بالنسبة للمدينة خطورة جوهرية لأنه يخلق التجمعات ويثير الأسئلة و ينتج وعيا جديدا، ويقوم بعدوى المعرفة، لهذا فإنه يعد هامشيا في صلب برنامج النظام الذي يقود المدينة العربية.
والجانب الآخر الذي يمتلك أهميته، وتفرضه لغة المسرح وطبيعته الفنية، هو تغيير العلاقة مع الجمهور المتلقي ليتحول إلى متفاعل و يقوم بفعل المشاركة كما كانت عليه وظيفته في الطقوس المسرحية قديما، الشئ المهم أن تكف المؤسسة الثقافية التابعة للدولة في أن تفرض هيمنة أديولوجية واستخدام المسرح كمؤسسة للسياحة.
هنا تكمن ضرورة إعادة معمارية السرد الرؤيوي والفكري للطقس المسرحي في المدينة العربية المستقبلية، من هنا كانت دعوتي لكتابة النص البصري الذي يفرض على المؤلف العربي أن يكف من الإستمرار بكتابة نص أدبي يعتمد الكلمة فقط و الثرثرات الفكرية وعدم طرح الأسئلة المصيرية، ويبتعد عن بصريات العرض ويقدم وصفة أيديولوجية تشجع الدولة.
إن اعتماد بصريات النص كتابة من قبل المؤلف واعتماد الرؤيا الإخراجية البصرية من قبل المخرج البصري سيساعد على إمكانية استعادة مجد المسرح حتى يصبح له ارتباط عضوي بحياة الجمهور أو خلق تلك العلاقة الحميمة المتجذرة بالمدينة كما في مدينة القرون الوسطى الأوربية،او كما كان عليه المسرح اليوناني القديم في أثنيا.


4 ـ بعد ما يقارب من ثلاثين سنة من النفي و الإغتراب، بماذا تشعر دكتور فاضل ؟
هل تعتقد أن المنفى ضيع على مشروعك الجمالي الديناميكية و شروط النضج الطبيعية التي كان يمكن أن يوفرها له تواجدك داخل العراق ؟ أم أن المنفى كان فرصة حقيقية للحرية و أيضا للإحتكاك بالآخر و الإنفتاح بالتالي على تجارب و اقتراحات فنية مختلفة ؟

ـ إن المشروع الفني لأي فنان هو زمن يسمح بطرح سؤال جوهري، قد لا يكفي عمر الفنان لمعالجته، لكن الإغتراب الذي عشته و مازلت له تأثيره الكبير حيث تتغير الكثير من المفاهيم، لكن انفرادات الروح التي تهجس الإغتراب والتي تأسست في الوعي الأول و أمام الباب الأول وفي الشارع الأول في وطن الولادة ، لابد أن يكون لها تأثيرها الايجابي أيضا و أنا أعتقد بأن المنفى الداخلي أو المكاني ـ الجغرافي

شيء مهم للمبدع حتى يمتلك عينا أخرى و تمثلا آخر لأن الإنسان ليس ذات واحدة وإنما متعددة و لهذا فإن المكان الواحد لا يعني تعدد الذوات في الذات الواحدة إضافة إلى أن نزوع الإنسان يكون دائما نحو الفضاء الواسع ، إذن المنفى حتى وإن كان أوروبيا مهم جدا للمبدع من أجل الغنى الفكري والروحي ومن أجل اكتشاف الذات الداخلية الأخرى .
والسؤال المهم الآخر، هو علاقة الإنسان بالتاريخ، وبماضيه الشخصي، وبتراثه كانسان في عالم ديناميكي، بحيث يتطلب الأمر قراءتهما من جديد قراءة ديناميكية نابعة من روح العصر واحتياجات زمننا، وبهذا نستطيع أن نزيل قدسية الثوابت و التابوهات و المتحجرات التراثية و التاريخية، و ندخلها في الحداثة والعصر والزمان المعاصر، و هذه مهمة أساسية للفنان في علاقته بالآخر، وعلاقته بالمسرح والفن عموما.
من هذا المنطلق فإن مشروعي المسرحي عموما (تأليفا وإخراجا وبحثا أكاديميا) ينطلق من الأسئلة التي أقلقتني منذ التطورات التي حدثت في العالم العربي، والعالم عموما، في ستينيات القرن الماضي وحتى الآن، سواء سياسيا أو فنيا وبالتأكيد أن أسئلتي وقلقي الإبداعي ستختلف عن أسئلة المبدعين من الأجيال السابقة وذلك لاختلاف الزمن، لذا فإنني أؤمن بأن هدف الفن والمسرح خصوصا هو إمكانية البحث في تلك البؤر الغامضة من وجود الإنسان والأسئلة التي تساعده في محنته المصيرية، إضافة إلى البحث في خلق الجمال لجعل عالمنا أقل عنفا وأكثر تقبلا و هذا يدفعني إلى أن أضع الإنسان الآخر ( خارجي ) و ذاتي الأخرى ( داخلي ) في معادلة جديدة هي علاقة الإنسان بالآخر وعلاقته بذاته، و بمعنى انعكاس قلق الفنان المبدع من أجل فهم عالمه وغموض الكون المحيط به، و من ثم انعكاسها على الآخر الأكثر غموضا لأنه يهمني أيضا.
وبما أننا نعاني من وحشية الآلة ومن عزلة خانقة تشكل حساسية جوهرية للفنان في زمن العولمة جراء التطور التكنولوجي، مما يؤدي بالفنان المعاصر إلى المعاناة من اغترابه الذي تخلقه الآلة و الثورة التكنولوجية و عزلته المضاعفة جراء عدم تمثل إبداعه من قبل الآخر الذي لايفهمه، مما يؤدي إلى عدم تكاملية منجزه الفني و يؤدي ـ أيضا ـ إلى عدم تكامل مفردات لغته الفنية لعدم امتلاكه قدرة التعبير المطلقة عن أسرار الحياة والوجود و بالتأكيد فإن هذا يعمق الهوة بين الفنان والعالم الآخر و ينسحب هذا الاغتراب أيضا على مجالات ثقافية أخرى مما يضع المثقف والعالم في زمن العولمة أمام أزمة فكرية و معرفية تثير الكثير من الالتباس والغموض.
و مما يعمق هذا الإغتراب والعزلة وهستيريا الروح المعاصرة هو: وجود الفوضى الكونية المنظمة التي تبدو حضارتنا من خلالها وكأنها تنحدر نحو هاوية النهاية وليس غريبا أن يفنى كل شئ ويعود الإنسان إلى العصر الحجري وبالرغم من أن العولمة منحتنا حق الشك في كل اليقينيات من جديد بما فيها الطواطم المقدسة إلا أن ما يزيد عمق الأزمة المعاصرة هو العمل و بقصدية على استلاب الإنسان الثقافي ومحاولة محو أي اختلاف فكري عن طريق سلطة العنف و القمع .
إذن ما هي الحصانة الداخلية في مواجهة هذه الخطورة ؟ بالتأكيد فان مثل هذه الأسئلة وغيرها هي التي تقلقني الآن و تقلق معاصري والإجابة عنها من خلال المسرح البصري، فالفنان غريب دائما بالمفهوم الوجودي و لهذا فان الإبداع ـ فقط ـ يجعله منسجما من جديد مع ذاته أولا ومع الآخر ثانيا . ان المنفى بكل اشكاله يعمق وعي الانسان بالعالم والتاريخ ، ويتعمق ارتباط الفنان بذاته ووجوده بالتاكيد عندما يكون في وطنه بالرغم من انه يشكل اغتراب ومنفى داخلي ، وكذلك فان المنجز الفني يتكامل في بين جمهور يفهم لغتك واحاسيسك الشرقية التي لابد ان تتحول الى مشاعر كسموبولوتية وانسانية شاملة .
5 ـ من المعروف عنك دكتور فاضل، أنك واحد من المسرحيين العراقيين الذين لم يقطعوا الصلة أبدا مع التراث العراقي الغني و المتنوع، بل أن مشروعك المسرحي قائم على العودة و النهل من هذا الإرث الحضاري الهام...
د. فاضل بماذا تفسر هذا الإحتفاء المستمر و الدؤوب بتراثك العراقي و خاصة التراث الحسيني، هل هو نوع من الحنين النوستالجي الدائم إلى مرابع الصبا، أم هو طريقة من طرق الحصانة الداخلية للذات المغربة و المنفية لما يقارب من ثلاثين
سنة ؟

ـ الوعي الكوسموبولوتي لمبدع يعني في ذات الوقت هو الوعي الإنساني الأشمل وكذلك يعني الحفاظ و إغناء الهوية أيضا إضافة إلى أن المبدع لايمكن أن يفهم الآخر وحضارته ما لم يفهم أولا ديناميكية وخصائص ثقافته وتراثه الجمالي فكم من الغنى في التراث الشرقي مما دفع الكثير من الفنانين استلهامه كما هو الحال بالنسبة إلى هنري ماتيس واستلهامه التراث والحياة المغاربية أو بيكاسو أو أنتونين أرتو و برشت و الكثير من الفنانين العالميين ، إضافة إلى أن الهيمنة المركزية للمفاهيم الفكرية والمسرحية الغربية يجب أن تدفعنا إلى اكتشاف تكنيك لغة بصرية جديدة فيها الكثير من الديناميكية كما في التراث الشرقي أو العربي بشرط أن يتم استلهامه بوعي معاصر وعلمي وليس سلفي .
فتكنيك هذه اللغة مثلا يحتم اكتشاف لغة تخاطب جديدة وأهم مثل على هذا هو أن برشت اكتشف التغريب والراوي من التراث الشرقي بالرغم من أن الحياة الثقافية في الشرق القديم اعتمدت على الحكاية والراوي أو الحكواتي الذي يسرد قصصا تاريخية واقعية أو أسطورية متخيلة مشحونة بالحكمة الاجتماعية والفلسفية المستقاة من التراث .
وعندما استخدم برشت وسائل المسرح الآسيوي وخاصة الأغنية والراوي فإنه كان واعيا بأهمية هذه الوسائل في خلق العلاقة الجدلية بين عناصر العرض الملحمي وهي تشكل أساس تمايز التراث الشرقي و ضمن مفهوم برشت للمسرح الملحمي ودور الراوي في العرض المعاصر الهادف إلى المتعة والمعرفة يمكن أن نكتشفها بجذورها البدائية في الأشكال التراثية الماقبل المسرحة في التراث العربي وبهذا فإن برشت منح الفنان العربي كيفية البحث في أشكاله التراثية من أجل خلق خصوصية مسرحه المعاصر و هو بالذات دفعنا إلى الإهتمام بالحكواتي كشخصية مسرحية درامية في المسرح .
ضمن هذا الهدف استخدمت في بعض أعمالي وكتاباتي تلك الطقوس الشرقية وبالذات العراقية التي لها علاقة بالدرامية والإحتفالية والفرجة وهي طقوس كانت تمارس لوقت قريب مثل خيال الظل و الحكواتي و كذلك التعزية الحسينية وغيرها باعتبارها طقس ديني ودرامي يخلق الفرجة الشعبية التي تتحقق من خلال العناصر الدرامية الموجودة في هذا الطقس الذي يذكرنا ببعض الطقوس التراجيدية البابلية أو اليونانية القديمة و تعتبر هذه الطقوس تعبيرا ديناميكيا عن طبيعة الحياة الإجتماعية والسياسية في المجتمع العربي و الإسلامي القديم لأنها تعكس الواقع بكل قسوته وتشير إلى المشاكل السياسية والاجتماعية مما يُغني ويحفز الرغبات الداخلية المشحونة بالمواقف النقدية التي يتبناها الإنسان في علاقته بالسلطة لكن من خلال التركيز على الجانب الإمتاعي والترفيهي والذي يعد تذوقا جماليا متماشيا مع مقاييس المجتمع القديم و بالتأكيد فإن هذا هو السبب الأساسي لديمومتها في حياة المجتمع الشرقي بالرغم من تعرض القائمين عليها لأشكال مختلفة من الاضطهاد والمنع .

و قد تاثر الكثير من المخرجين والكتاب العرب الذين اهتموا بنقل التراث العربي إلى المسرح المعاصر واستخدموا الحكايات والطقوس التراثية من مختلف المصادر العربية الغنية دراميا مثل الفريد فرج وعبد الكريم برشيد وسعد الله ونوس و عادل كاظم والطيب الصديقي وغيرهم .
وعلى النقيض من هذا لعب العقل البر يشتي المؤدلج و المشاكس دورا كبيرا في تأكيد الأيديولوجيا في المسرح ولهذا فان مؤلفي ومنظري ومخرجي هذا الإتجاه أعني المسرح الملحمي البريختي والمسرح الطليعي أو اللامعقول أو مسرح العبث و بعدها التجارب و التيارات المسرحية الآنية الأخرى و لكن يجب أن نفهم بان هذه الطقوس و الأشكال المسرحية لا يمكن أن تشكل جوهر تأصيل المسرح العربي المعاصر كما يدعي بعض الباحثين كما هو الحال بالنسبة إلى خيال الظل حيث لا يشكل و لا يخلق شكلا مسرحيا تعبيريا يتماشى مع روح العصر ويستلهم مشكلات حقيقية ومصيرية يعاني منها المجتمع العربي لأنه جزء من الماضي والتراث وأن دعوة سعد لله ونوس في إنشاء متحف لهذا الفن تقدم فيه باباته كما كانت تقدم في الماضي هي دعوة صائبة و بهذا نحفظ فنا كما حفظت البابات مسرحها القديم أو أن يقدم في المقاهي التراثية كشكل مسرحي تراثي .
ولكن طقوس التعزية الحسينية التي تقدم في عاشوراء من قبل الشيعة فيها الكثير من درامية العرض المسرحي و مكوناته وهي طقوس دينية معروفة بالتشابيه والتي مازلت تقام حتى اليوم في إيران والعراق ولبنان و أهميتها خاصة لأنها تقترب من مسرح الفرجة والعرض الشعبي و بالرغم من طابعها الديني إلا أن طبيعة العلاقة بين الجمهور والمؤدي تعتمد دائما على تغريب الحدث والشخصية مع إمكانية تميزنا لملحمية الأحداث أيضا و يمكن دراستها في الوقت الحاضر على اعتبارها طقسا دراميا سواء من ناحية الطاقة التصويرية الكامنة في لغة الطقس أو من ناحية الحركة التعبيرية التي يفجرها قطاع كبير من الجمهور المشارك في هذه الطقوس والذي يتعدى دوره من المشاهدة إلى المشاركة الفعلية في هذه الشعائر التطهيرية .
إن التكنيك المسرحي لعرض التشابيه في التعازي يعتبر طقسا دراميا و تراجيديا يعتمد الحوار والشعر و الأدوات و الديكورات الشرطية ويستوجب الغناء والطبول والموسيقى الصاخبة إيقاعا عنيفا و كذلك الحركة والملابس والأدوات و الألوان ما هي إلا وسائل خاصة بهذا الطقس تميزه عن أي طقس آخر و بالتأكيد إضافة إلى ما ذكرت فإن عودتي لهذه الطقوس واستخدامها لها علاقة أيضا بنوستالجيا متفردة لطفولة واحلام ومرحلة شباب كانت قلقة وتائهة لكنها كانت هنية ، إنها حنين لكل هذا وانا من مكاني في شمال الكوكب اعيش في ظلام مدن الصفيح الأوربية .



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظهيرة الخروج
- سرية الإبداع بين المخرج والمؤلف في المسرح العربي
- شكسبير و الوجه القبيح للطاغية (ريتشارد الثالث وصدام حسين ) ...
- الضفة الأخرى من الجريمة والعقاب
- همس الليالي البيضاء في العرض المسرحي البصري
- المفكرون العرب لا يمتلكون الاحساس بالزمن
- المخرج المسرحي العراقي د.فاضل سوداني .....الحضارة الشرقية غن ...
- خيال الظل العربي الاسلامي
- الدلالات السميولوجية في فضاء العرض المسرحي
- جلجامش …….. والبعد السميولوجيي للنص البصري المعاصر
- فان كوخ يعرض طقسا مسرحيا
- النقد المزدوج وغربة المسرح العربي
- الفنان العراقي عوني كرومي وبرتولد برخت
- العراق والسياسة والمنفى والغرب ومسرح الصورة
- جحيم الحرية والتباس الحقيقة الذاتية
- بصريات الجسد في الطقس المسرحي
- ذكرى عنادل العمارة ( ميسان) المهاجرة
- رسائل تشيخوف يقرأها المخرج بيتر بروك دراميا
- عروض مسرحية عن همس الحواس و ذاكرة الاشياء
- عرض مسرحية حدّ ث ودلالات الفكر الاخراجي في المسرح


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - د. سوداني :بيان حول ذاكرة الجسد في المسرح البصري