أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل الثاني عشر (الأخير)















المزيد.....

زهور بلاستيك رواية الفصل الثاني عشر (الأخير)


شريف مليكة

الحوار المتمدن-العدد: 2004 - 2007 / 8 / 11 - 11:32
المحور: الادب والفن
    



النهاية

زهرة تدبل.. تموت.. قلبى يدوب م الشجن
حست ببرد الليل.. سمعت لصوت الزمن
وزهرة من غير عطر.. باهرة بطول لِــيام
واحدة التراب جاد بيها.. وللتانيه تدفع تمن!!

لم أزل أقود سيارتى وأصابعى مضمومة بقوة حول عجلة القيادة.. كنت أشعر كما لو كانت أصابعى سوف تنخلع وتتساقط عن كفـَّىَّ لو لم أبق قبضتى قوية هكذا.. لم تكف تلك الأصابع عن الحركة المتوترة المتشنجة منذ إنتهت المكالمة التليفونية.. إرتعشـَت أول الأمر ترقبـًا عند سماع جرس التليفون، وأنا فى طريقى لمدرسة إبنى، فنحيت بالسيارة نحو الجانب الأيمن للطريق، وإلتقطتُ التليفون الصغير بصعوبة لإرتعاشة أصابعى تلك.. جاءنى صوتها البارد الأجوف من أعماق المجهول.. بادرتنى نانسى فاجنر من خلال أسنانها الصفراء وإبتسامتها المصطنعة التى قفذت إلى عبر الأثير قائلة:
"لقد إنتهى الآن كل شيء، وتستطيع أن تأتى غدًا لتصحبه".. هكذا بكل وضوح ومباشرة كالثلج الأبيض البارد حينما يفرش عباءته فيغطى الوجود كله بكل ما فيه، وهى أيضـًا من جهتها لم تدع أى مجال للشك فى حتمية النهاية..

لم أكن أدرى عندها ماذا سأفعل أولا.. كنت أدرك بأن هناك سلسلة خطوات يجب أن تتخذ فى مثل تلك الظروف، ولكننى لم أع لحظتها من أين أبدأ..
وضعت التليفون على مقعد السيارة الجانبى، ورفعت كفىَّ وأصابعى المفتوحة تحتضن وجهى الزاهل وتفاجأ بسخونة دمعة تنساب فوق الخدود فتمسحها.. وتفاجأ بشرتى برعشة الأصابع فوقها فأدركت لحظتها جسامة الموقف.. لم أكن أدرى بسر ذهولى ووقع الخبر علىَّ كالمفاجأة.. ألم أكن أتوقع بل وأنتظر لحظة وجوب تلك المكالمة بين الحين والآخر، بعدما تردى بأبى الحال كل ذاك التردِّى، إلى حد رفع كل الأنابيب عنه، جلبًا للنهاية المحتومة، ودرءًا للمزيد من العذابات؟ إذن فلم التشنج والذهول وكأنها مفاجأة ألمـَّت بى؟ لا.. يجب أن أتماسك بل وأرتفع فوق الضعف، لأمضى فى طريقى حتى النهاية..

تماسكتُ.. وأنا أخاطب أمى، وأختى، وزوجتى.. تحشرج صوتى.. نعم.. ولكننى لم أبكِ، ولم أضعف أمامهم أبدًا.. أبلغـتُ إبنى وإبنتى ثم أصدقائى، وأنا قوى ومتماسك..
عرضوا علىَّ أن يصحبوننى فى رحلتى لألتقى بأبى يوم الوداع، ولكنى أبَيتُ بشمم، فأنا حقـًا قوى ومتماسك..
وليلتها ضغطتُ أيضـًا وبقوة لألملم أصابعى فوق عجلة القيادة، لعلها تكف تلك الرعشة السخيفة!.. ومضيت بسيارتى وحيدًا فى ظلمة الطريق الخالى، فى تلك الليلة من ليالى الربيع الوليدة، صامت أنا وصامتة الدنيا من حولى.. إلا من صوت لضحكة خافتة آتية من ناحية المجهول..
ضحكة معروفة لدىَّ، سمعتها مرارًا مجلجلة بطول الدرب الذى سرنا به، وهو ممسك بيده الكبيرة الدافئة الحاضنة القائدة دومًـا من بداية الطريق وحتى النهاية..

تلك الضحكة المجلجلة يوم حملنى فوق ظهره وسبح بى فى غمار بحر الإسكندرية اللذيذ، ثم تركنى أخبط بذراعىََّ الصغيرتين لأطفو، ويسبح أمامى ويديه الحانيتين تساندنى وترفعنى كلما كلت ذراعىَّ الواهنة عن تحمل مشقة السباحة وحدها..
تلك الضحكة التى أطلقها ونحن سائرين جنبًا الى جنب، وأنا بعد فى العاشرة وأتبارى فى معرفة ماركات السيارات المارقة وسنة إنتاجها..
تلك الضحكة التى لاقتنى يوم بحتُ له عن حبى الأول، وأنا أرفل فى أوائل سنوات المراهقة.. حينها قال لى بأن الحب الأول هو تمرين للقلب والنفس حتى ينضجا إستعدادًا لحياة زوجية طويلة..
تلك الضحكة التى إحتضننى بها على شاطئ البحر أيضـًا، بعدها بسنوات، وهو عائد من مكتب السنترال يزف لى خبر نجاحى الباهر فى الثانوية العامة، ويشترى الفطائر المجففة اللذيذة، والمياه الغازية المثلجة لكل الأهل والأصدقاء المجتمعين على الشاطئ، والفرحة المطلة من عينيه يومها لا تبدوا لها نهاية..

قوى ومتماسك كنتُ دائمًا.. منذ أن تسللتُ من بيتنا طفلا صغيرًا لأجلس فى دكان الحلاق بأسفل العمارة أراقب أصابعه تجري تتكتك بالمقص بمهارة فوق شعيرات الزبون تساوى ما بينها.. ثم تتكتك فى الهواء زهوًا.. ويجدنى أبى اللاهث بحثـًا عنى فى كل مكان، فأعلِمه برغبتى بأن أكون حلاقـًا عندما أكبر، فيكافئنى بعلقة ساخنة.. وحين إنفلتت يدى يومًا من قبضة أمى لأنزلق بين الزحام لأتمَلـَّى بمشاهدة الأفيشات المبهرة بمدخل دار للسينما بوسط البلد المكتظ، فيجدنى أبواى متسمرًا أمامها، بعد أن فقدا الأمل فى العثور علىَّ، وأنا بعد هائمًا فى تفاصيل اللوحات والصور المعلقة هنا وهناك، أحلم بأن أصير يومًا فنانـًا!..
قوى ومتماسك كنت، وأنا أنظر عينى أبى الحزينة وأنا أبلغه عن كبوة تعثرى فى إحدى مواد الدراسة، لأول مرة فى حياتى القصيرة حينذاك.. وتعهدى لنفسى بإصرار يومها ألا أجلب لتلك العينين ذلك الحزن من بعد.. وكان..
قوى ومتماسك كنت أيضًا قبل حقبة، يوم سقط أبى مريضـًا، فحملته فوق ذراعىَّ متنقلا بين عيادات الأطباء وبين سريره وبين الحمـّام ليقضى حاجته.. أخفيتُ دمعتى يومها ودفنتها فى وسادتى ليلا.. ونهارًا أطلقتُ العنان لفرحتى حين نطق لسانه المشلول أول كلمة فى طريق كلمات التعافى..
قوى ومتماسك كنتُ يوم أن قررت السفر والغربة لملاحقة مستقبلى العلمى وإصرارى على النجاح حتى النهاية..

ولم تزل أصابعى ترتعش فوق عجلة القيادة، ومازالت السيارة تخوض غمار الليل فتهتك غموضه بأنوارها الكاسحة..
ولا زلتُ أنا قوى ومتماسك، حين وقعت عيناى فوق وجه أبى النائم بإستسلام فى صندوقه المبطن بالوسادات الحريرية، توحى قسماته براحة عجيبة طالما تاق إليها.. ومددت أصابعى المرتعشة لتلامس خده وجبهته المثلجين، وسألته فى صمتٍ عما إذا كان مسرورًا حيث هو كائن.. وملأ قلبى دفء عجيب عندما جاءنى الرد إيجابًا.. فتوقـفــَت عندها عن أصابعى تلك الرعشة السخيفة التى كانت قد لازمتنى، فخلتها سوف تدوم للنهاية..

أغلقوا الصندوق بعدها، ولم أكف أنا عن التفكير فى أن ذلك كان حتمًا سيخنقه، لأنه طالما أحب الأماكن المفتوحة، ونسمة الهواء المسائية تزيح ثقل الرطوبة المتراكمة بشرفتنا بالقاهرة فى الصيف، وحتى لسعة الهواء البارد فى الشتاء أحبه وإحتضنه غير مبال .. لم يكن أبدًا يطيق كتمة النفس تلك.. ولكنه عاد فطمأننى بأن ذلك لا يضايقه الآن.. لأنه هو لم يبق بعد بداخل الصندوق، وإنما مجرد جسده المسجـَّى به، جسم بلا روح، بلا مشاعر، بلا أحاسيس.. وأما "هو" فكان فى احسن حال.. حال أفضل من كل حال مر به أو تخيله.. وإنبهرتُ أنا بتلك المعرفة.. ترى هل يكون ذلك حقيقى؟ وإن كان، فهو حتما موجود حولنا، ويشعر بى، بل ويرانى ويسمعنى أنا وكل هؤلاء المجتمعين لوداعه الأخير..
لابد أنه جد فخورٌ الآن بكل هذا الحب الذى تركه وراءه ميراثـًا فى قلوب تلك الزمرة المجتمعة بهذه القاعة، تستمع لكلمات التأبين الملقاة هنا وهناك، تنعى "المرحوم" وتعظم ذكراه لديهم، وتبشر السامعين بوجوب النهاية..

قوى ومتماسك وأنا أحمل النعش الداخل فى صحن الكنيسة لأداء صلاة الجنـَّاز بها، ثم بعدها وأنا أحمله ثانية لمؤخرة السيارة القاتمة السواد، التى قادت رتلا من السيارات الحزينة فى موكب صامت تحت سماء مغمورة بلفافة كآبة تغلفنا كلنا معًا.. وبرغم ذلك حوطت ذراعى بكتف أمى المنهارة بصلادة وقوة لا أدرى كنهها..
متماسك كنتُ وأنا واقف عند عتبة حفرة عميقة بين شواهد قبور متناثرة من حولنا.. حفرها فى الطين الأسود أربعة رجال أشداء، باحثين للرجل عن مكان، فى باطن تلك الأرض، التى جاء منها أولا، عندما ناء سطحها عن إحتماله..
وتحت ظل شجرة شاهقة مورقة ومحملة بأزهار وردية، نفحها بها وصول الربيع قبل أيام، من رحلته البعيدة، ذابت أطراف الجذور بين قبضات التراب المنتظرة أن تحتضنه، ليتوحدا ثانية.. وأنا ممسك بكف إبنى، الشاب الصغير الذى أصر على الحضور لوداع جده الحبيب..
وإلتفــَّت حبال غليظة حول أطراف النعش الأربعة، ثم علت مشدودة فوق أكتاف صخرية لأربعة الرجال الأشداء، ثم جعلوا يتركون لها العنان ببطء مدثرين الصندوق رويدًا إلى عمق الحفرة.. ويتغايب إنعكاس شعاع النور عنه وعنا حتى يسود الظلام التام..

صرخة أليمة تحوم بالمكان، وتملأه، حين يتصدع ثم يهوى جدار القوة، والتماسك.. ويتلاشى، وكأنه لم يكن له يومًا وجود.. فيغشى الأب والإبن حزنٌ دفين، يلقيهما معًا فى نوبة بكاء صامت، مكتوم.. وتتلاقى دموعهما بين حبات التراب والطين التى تحملهما فوقها.. وتزداد قبضاتهما تماسكًا.. فيلتحما سويًا فى طيًات حزنهما، تتلاعب بهما عواصف الشجن فى موجات متلاحقة، فيلتمسا فى بعضهما البعض طريقــًا للنجاة.. وبين دموعهما كانا يتأملان معًا الجمع المحيط بهما فى دائرة حب لا أول لها ولا نهاية..

(تمت)



#شريف_مليكة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زهور بلاستيك رواية الفصل الحادي عشر
- زهور بلاستيك رواية الفصل العاشر
- زهور بلاستيك رواية الفصل التاسع
- زهور بلاستيك رواية الفصل الثامن
- زهور بلاستيك رواية الفصل السابع
- زهور بلاستيك رواية الفصل السادس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الخامس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الرابع
- زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث
- .زهور بلاستيك رواية.. الفصل الثاني
- زهور بلاستيك رواية


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل الثاني عشر (الأخير)