أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث















المزيد.....

زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث


شريف مليكة

الحوار المتمدن-العدد: 1899 - 2007 / 4 / 28 - 06:51
المحور: الادب والفن
    



الأم

أول طريقــــَـك فى الحياه... كلمه
والنور يعدى يبدِِّل الضلمه
بكره لابد تـــخوض ف ميت حريقه وحريقه
قالت لى أمِّى.. عن بكره انا حالمه!!

ساعة العصارى تبدأ حدة حرارة الشمس فى الإنكسار بقرية آبا الصغيرة بمحافظة المنيا.. كانت الأم مضطجعة على فراشها تحتضر، حين نطقت بصوت واهن بإسم إبنها "سامى" تدعوه أن يقترب منها.. همست بى أن أصرف الجميع خارجـًا، ففعلتُ متحرجـًا بخاصة من حضرة العمدة الذى جاء ليتفقد حالة أمى، وزوجته القديمة، قبل أن يتزوج بأنوسة الشابة الجميلة التى أنجبت له درات عينيه نافع ومهران.. قلت بإستحياء :
ـ "معلهش.. دقيقتين كده يابا الحاج.. قصدى ياجناب العمدة.. أشوف أمى عاوزة إيه.. دقيقتين بالعَدَد..".
نظرة حارقة لن أنساها أنا، مهما طال بى العمر، تلك التى ألقاها بى "الحاج شرقاوى" فى تلك اللحظة قبل أن يلملم بأطراف عباءته ويطويها أمامه وهو يدور بجسده القوى، رغم تقدم العمر به، ويتجه نحو باب الغرفة يتبعه شيخ الغفر ومصطفى أفندى مدير مكتب الصحة اللذان أتيا مجاملة له لزيارة السيدة المريضة حرم حضرة جناب العمدة..

كان الحاج شرقاوى الأب الذى تفتحت عيونى عليه فى هذه الدنيا.. فكنت دومًا أناديه بأبويا الحاج منذ أن تزوج من أمى الأرملة الشابة زهرة عائلة المصرى، التى فقدت زوجها "إبراهيم أفندى أنور" مأمور المركز متأثرًا بجراح رصاصات بنادق عصابة الجبل.. كان موته مفاجأة للجميع حينئذ، حيث شاع يومها أن قوته وتحكمه فى أمور المركز ما كانت الا بمناوءته لسلطان عصابة جبل نفسها، بالإضافة لعلاقاته القوية برجالات الحكومة فى مصر المحروسة.. فكان لهيمنته على مصائر بلدتهم لأجل غير محدود من ناحية، ولمصرعه المفاجئ من ناحية أخرى، أكبر الأثر على قرار شرقاوى، شيخ الغفر حينئذ، بالتفكير بالزواج من أرملة المرحوم الشابة الجميلة، مغتنمًا الفرصة للإرتباط بإسمها والتنعم بالثراء والسلطة اللتين كان من المؤكد أن يستحوذ بهما .. وبالرغم من إختلاف الديانة، إلا أن شرقاوى ورجالاته أشاعوا بين الناس بعلاقته بالأرملة المليحة، مما أحدث ببلبلة فى بلدتهم الصعيدية، وشاءت الأقدار أيضا أن سارعت عائلة المصرى العريقة فى البلد بالموافقة على هذا الزواج المتعجل، لبتر تداعيات الأقاويل الماسة بالعرض والشرف، ولإعادة الأمن والإستقرار لبلدتهم بأسرع وقت ممكن..

وبمرور الوقت ، إزداد لمعان نجم شرقاوى وسطوته فى البلدة بعد أن جمع بين الثروة والصيت وجلس حالا ً فوق كرسى العمودية، الذى فاز به بسهولة بعد رحيل عمدة البلدة الذى لم يخلف إبنًا ليرث الكرسى من بعده.. وأصبح كبير كبار البلدة بين يوم وليلة، ثم أطلق لقب الحاج شرقاوى على نفسه وأبَى حتى على أهل بيته إلا أن ينادَى به، أو بجناب العمدة.. وإمعانـًا فى المكابرة، وسعيـًا لمحو صلاته بماضيه كشيخ للغفر، ومرؤوسًا لدى زوجته الأولى، تزوج الحاج شرقاوى ثانية من أنوسة الشابة الجميلة إبنة حضرة ناظر المدرسة الإبتدائية.. وإنتقل بها الى دار العمودية الجديدة التى شيدها بأحد أطراف البلدة فوق هضبة يطل منها على جميع بيوتات بلدتهم، بما فيه دار عائلة المصرى المشيدة عند الجانب الآخر من البلدة، حيث عاشت زوجته الأولى ـ أمى ـ فى عزوة عائلتها ترعى ولدها، إبن مأمور البلدة الصريع.. وأنجب هو من أنوسة ولديه نافع ومهران.. وكان مع ذلك لا يزال يتردد على زوجته بنت الحسب والنسب بين الحين والآخر، زيارات رسمية يدور فيها الحديث حول الأرض والريع والمحصول والفلاحين وأجورهم، ثم تنتهى بتركه للفافة من ورق جرائد ملفوفة بعناية حول بضعة جنيهات هى مزيج من إيرادات الأرض ومصاريف المعيشة لزوم حرم حضرة العمدة وولدها اليتيم..

مدَّت يدها المعروقة نحو يدى وإحتضنـَتها بحنان غير مألوف لى، فسَرت رعشتها المستضعفة الى يدى، ونظرت إلىَّ بعينين غائرتين فى مقلتين يابستين، مزروعتين فى وجهها الضامر المحاط كلية بأردية العفاف والنسك، وتنهدت قائلة بنبرة راجفة:
ـ "يا سامى يابنى ياحبيبى أنا خلاص أيامى معدودة.. لكن العمر قدامك أنت وربنا يبارك لك فى أيامك الجاية.. الأرض دى أرضك ولا يمكن أستريح وشرقاوى ده ناهبها ومالك خيرها له ولعياله وآخر كل موسم يتجود علينا بالفتات.. ده حقك ولازم ترعاه أنت بإيديك وأسنانك" ..

نظرت نحوها مشفقـًا على حالينا معـًا.. فها أنذا الشاب، والعجوز ـ من جهة العجز عن المواجهة ـ الدائم السلبية، الذى ترعرع فى عز عائلته العريقة وعزوتهم، ولكنه لم يشعر يومًا بقربه من أمه، أو بعاطفة خاصة نحوها وإن كانت دائمًا ، ومعها أسرتها والحق يقال، تلبى كل طلباتى، فلم تعوزنى الأيام أن أحرك يومًا إصبعًا لأحقق غاية..

وهى راقدة تنازع الموت، وقد إستحال جمالها ورونقها الى ضمور وشحوب مكلل بأوشحة رمادية تزيد من كآبتها، وقد أدى بها عجزها وإستكانتها يومًا بأن تتزوج من مجرد مرؤوس على غير دينها، تحت ضغط ظروف لم تنهض هى أو أسرتها لتجابهها.. وأنا أضعف من مواجهة رأس البلد وسيدها لأنتزع منه سبب جبروته وسلطانه، حتى وإن كان حقى المشروع.. ثم أين كانت هى طيلة تلك السنين، من أرضها وأرض أجدادها التى نهبها شرقاوى أمام عينها، ولِمَ سكتت هى وأسرتها؟ ألم تكن قادرة أن توقفه حين كانت قوية بشبابها وعزوتها حينذاك؟ لمَ لمْ تكبح جماحه يوم أن ترك بيتها ليعمـِّر بيت عروسه الجديدة بأموالها هى وأموال أسرتها؟ لِمَ إختبأت عن عيون البلدة، تحت جلد المرأة العاجزة، المستضعفة، المستكينة خلف جدران بيتها العالية.. نظرت نحوها وأطرقت، ولم أنبس ببنت شفة، لأننى عرفت آنذاك ماذا كان ينتظرنى فى الأيام القادمة..

أغلقت الباب خلفى ودرت بالبهو بعينى فوجدته خاليًا إلا من إبريق الشاى وأكواب متناثرة هنا وهناك، وقد إنصرف الجميع، وتمنيت لحظتها لو أن "عامر" صديقى الوحيد كان معى الآن.. وشخـَصتُ نحو الباب الخارجى فرأيت، من خلال مواربته، الشمس الحمراء الساقطة فى لجة المغيب، وسط دوائر من الأتربة علت بسبب دبَّات أقدام الفلاحين العائدين من حقولهم يجرُّون دوابهم بعد إنقضاء اليوم.. وتقدمت بخطوات ثابتة نحو قرص الشمس، ودفعت بالباب الخشبى السميك أمامى فارتجت ضلفتاه تحت وطأة ساعدى الأيمن، ورفعت يدى اليسرى نحو رأسى وأحكمت وضع طاقيتى فوق رأسى، وخرجت الى العتبة الخارجية وكأننى أخطو لأول مرة خارجًا من دارى، وعينىَّ مسلطتان نحو بيت العمدة..

عند عتبة كل منزل على جانبى الطريق الطويل الذى يقطع البلدة من شرقها الى غربها، جلس الرجال فى مجموعات صغيرة يشربون الشاى ويدخنون كراسى المعسل وهم يتلفتون حولهم فى صمت مريب، وكأنهم ينتظرون حدثـًا جللا.. أما الصبية والأطفال فكانوا يجرون حولهم ويدورون ووجوههم جادة ساكنة، لا مرح فيها ولا إستمتاع وتخالهم يؤدون واجبـًا فرض عليهم.. إستوقفنى فعلا ً الصمت المحيط بالطريق وكأنه الصمم، أسبل عباءة شفافة من حولى أنظر من خلالها كل الأشياء ولا أسمع لها صوتـَّا.. وكان الظلام يقترب نحو البلدة بعد أن غابت الشمس خلف دار العمدة فى آخر الطريق، وبدأت الأنوار تظهر تباعًا من مصابيح البيوت خلف النوافذ الموصدة، ثم نارت مصابيح على جانبى الطريق، أمر بها جناب العمدة، عند ثلثه القريب من دار العمودية حيث يستقبل أكابر البلدات المجاورة، الذين لا يصح أن تسرى مواكبهم فى ظلام الطريق، عند زيارة بلدتنا..

ومازلت أذكر اليافطات الملونة والأعلام المزركشة المربوطة بين العواميد بعرض الطريق تعلن مبايعة أهل البلدة الأبدية لحضرة جناب العمدة، وندت الى مسامعى ليلتها أصوات فرقة موسيقية تقترب.. و فعلا ً ظهرت عند آخر الطريق جوقة من العازفين بدفوف ونايات ومزامير، وإزداد ضجيجهم كلما إقتربت.. وإنفتحت أبواب المنازل على جانبى الطريق وخرج عشرات الأقزام، مبيضة وجوههم بمساحيق وألوان وأردية البلياتشو، يقفزون فى الهواء، ويتشقلبون فى مرح جلىّ، ثم تبعهم من أبواب المنازل رجال ونساء وأطفال يغنون ويتراقصون طربًا على أنغام الفرقة الموسيقية، ويحملون أعلامًا صغيرة يلوحون بها فى الهواء، عليها صورة ملونة لحضرة العمدة، يتغنون بمآثره، ويعلون بشأنه لمقام أبى زيد الهلالى..

ثم حضرمن كل ناحية وكل صوب شيوخ حاملين المباخر، يتبعهم شباب ورجال ملتحون، ونساء مكتنزات متدثرات بأقمشة بيضاء فضفاضة تحيط بوجوههن المكتظة بالشحم، وإنطلق الجميع يتمايلون فى حلقات، ويلقون برؤوسهم يمينـًا ويسارًا صارخين بصوت واحد متناغم :
ـ "الله.. الله.. الله.."
وفى وسط هذا المولد المقام بغرب البلدة، شققت بصعوبة طريقى بين الزحام والجلبة متعجبًا لهذا التغيير المفاجئ فى حال الطريق..

طرقت بكفى المنبطحة بقوة على باب الدار الماثل فوق الربوة، وإنتظرت.. ولويت عنقى للخلف فأبصرت الأنوار والســامر المنصوب عند ناحية الطريق القريبة من بيت العمدة، فغطت المصابيح واللافتات المنصوبة فوق ظلام الجانب البعيد من البلدة، وحتى دار عائلة المصرى.. وسمعت صليل المزلاج الحديد يرفع وإنفتح الباب ليطل وجه غفير شاب وقد علت خلف رأسه فوهة البندقية المعلقة فوق كتفه..
ـ "جناب العمدة موجود؟"
ـ "أيوه موجود.. إتفضل"
ودخلت لأجد بهوًا فسيحًا مبلـَّطـًا بالقيشانى الملون وتتوسطه نافورة على الطراز العربى تطلق مياهها فتتساقط فى حوض يحيطها على شكل بركة تسبح فى جنباته الأسماك الملونة .. قلت فى سرى: "سبحان العاطى من غير حساب".. وعلى الجانب الأيسر من البهو جلسَت فرقة تخت للموسيقي الشرقية يتوسطها عازف قانون، كان يعزف حينها منفردًا، وأمامه وقفت مطربة فى العقد الرابع أو الخامس، مكتنزة الجسم، محشورة حشرًا بداخل فستان كستنائى مطرز بالترتر الرخيص، توزع نظرات وإبتسامات نحو الحاضرين منتظرة دورها فى الغناء.. وعلى الجانب الأيمن جلس العمدة وحوله صحبة من الرجال من ذوى الشأن، كما يتبدا من لباسهم اللامع ووجوهم الحمراء المنتفخة، بينما دارت بينهم النارجيلة المطعمة بالطمباك التركى والحشيش الشامى وقد فاحت رائحته العبقة فملأت المكان..

ـ "يا أهلا ً بالغالى إبن الغالية.. إتفضل يا راجل.. بيتك ومطرحك يا سامى يابنى.."
نادانى الحاج شرقاوى مرحبًا، والدخان يتصاعد من فمه ومنخاره فى دفعات مع كل كلمة يتفوه بها.. وما أن أخذت بضعة خطوات تجاههم حتى قام الرجال من مقاعدهم الوثيرة واقفين لتحيتى، فشعرت بتيه وعزة زادتنى حماسًا لأداء المهمة الصعبة التى تركت بيتى من أجلها، وحضرت لأتممها.. لوقيت بالأحضان والقبلات من الجميع، وحتى جناب العمدة الذى ترك دار أمى منذ قليل بدون كلام أو سلام أو حتى إستئذان ليجابهنى، يلقانى الآن فى بيته لقاء الحبيب والصديق الصدوق.. بل وأجلسنى بجانبه، عن يمينه، على الأريكة الفسيحة بعد أن نحـَّى بإبنه نافع جانبًا، فانحشرت بينهما..
ـ "ياحضرة العمدة أنا جايلك فى موضوع.."
فقاطعنى الحاج شرقاوى قائلا ً :
ـ "قول لى يابا الحاج.. زى ما كنت دايمًا بتقول وإنت عيل صغير.. إيه.. ولا كبرت يعنى يا واد؟" فقلت:
ـ "عيب يابا الحاج.. دى العين ماتعلاش ع الحاجب.. أنا كان قصدى أقول يعنى.."
ـ "لا تقول ولا تعيد .. مش الأول تلقط نفـَسك م المشوار.. هات يا واد اللاى هنا خللى الواد سامى إبنى يشد له نفـَس بحق تعب الطريق.." قاطعنى ثانية الحاج شرقاوى..

ولاحظت أنه دعانى إبنه على مسمع من كبار البلد، بل ومن نافع إبنه البكرى، الجالس عن يمينه الذى ربت بدوره بكفه فوق ظهرى مرحبًا، فإنتشيت مزهوًّا، وسحبت نفسًا طويلا ً متفكرًا فى نفسى.. وهل كان يصح لإبن أن يطالب أباه بأرض وميراث زوجته ـ وإن كانت أمى ـ وهى بعد على قيد الحياة.. ياله من عار كنت سأجلبه على نفسى، بل ونقمة كانت ستحل فوق رأس عائلة المصرى كلها.. الحمد لله وجاءت سليمة.. وسحبت نفسًا ثانيـًا ووجدت نفسى أقول، بعد أن لعب الحشيش برأسى:
ـ "ربنا قادر يقوِّمك بالسلامه يامـَّه ويكتب لك طولة العمر.."

بعد تلك الليلة، أدرك " سامى إبراهيم " إبن مأمور البلدة على سن ورمح، ما قد صار إليه حاله اليوم، أصبح الآن إبنـًا بالتبنى للحاج شرقاوى، شيخ الغفر السابق، لا حول له ولا قوة.. أدرك أنه لن يستطع بعد الآن أن يقدم لأمه، سليلة عائلة المصرى العريقة، سوى الإبتهال والدعاء لتقوم لها قائمة من جديد.. فآثرت الإنزواء بعيدًا عن عيون الحاج شرقاوى وحاشيته فلا أقرأ فى عيونهم تلك النظرة المحتقِـرة التى رأيتها فى عيون نافع إبن حضرة العمدة فى تلك الليلة..

حتى ذلك اليوم الذى أتانى من القاهرة صديق دراستى "عامر" بقامته الفارهة ووجهه المستطيل الصارم، وعيونه المعقودة المهتمة خلف نظارته الغامقة السميكة، و كان عائدًا الى البلدة خلال أجازة نصف العام.. حمل عامر دومًا تلك الملامح الجادة فوق وجهه أينما ذهب، فتحسبه دومًا مشغول بحل قضية كبرى، وخصوصًا حين يمد بأصابعه ليضبط وضع نظارته فوق عينيه، إذا ما لاقاك لأول مرة، أو حين يهم بالكلام، فتخال بأنه سينطق بالحِكـَم أو يبوح أمامك مثلا بأسرار الكون المكنونة، فى حين أنه لا يقصد فعلا ً سوى أن يضبط بنظارته لأنه بالكاد يبصر إلا لو كانت فى مكانها المحسوب فوق أنفه..
كان عامر يعمل معيدًا بكلية الهندسة بجامعة القاهرة، ويكبرنى بعام أو أكثر قليلا، وهو صديق العمر الذى كان يرعانى كأخ أكبر فى المدينة الجامعية حينما كنا ندرس سويًا بالجامعة، وحتى أجـَّرنا سويًا شقة بالقاهرة لنستقل بأنفسنا، بعيدًا عن جو الطلبة النازحين الى العاصمة بمشاكلهم وكثرة تحرشهم بنا.. لم نتأقلم أبدًا بينهم، وخاصة لما بدر منـَّا من تسيب وعدم مثابرة على مراعاة أمور الصلاة جماعة، والإجتماعات المتلاحقة، وإطلاق اللحى المدهونة بالطيب والمسك، ففررنا سويًا الى لجة الحياة بالقاهرة وبحثنا عن سكن مستقل..

جاءنى بشوشـًا ملوِّحًا بورقة تبينت بعدها أنها إستمارة القرعة للهجرة الى أمريكا.. أمريكا مرة واحدة؟؟ فملأتها على الفور، ورميتها فى صندوق البريد، وبعدها بستة أشهر كنت فى الطائرة المتجهة الى أمريكا.. وفى مطار نيويورك إصطحبونا الى غرفة مستقلة ، أنا وشابين، عرفت بعدها أنهما من العراق وتونس، وبعد ساعتين أمضيناهما صامتين تمامًا فى غرفة ضيقة خاوية إلا من جهاز لصرف المياه المثلجة، جاءنا ضابط، وقادنا الى باب زجاجى فتحه فخرجنا الى مساحة شاسعة بالجانب الخلفى للمطار حيث كانت طائرة هيليكوبتر ضخمة تنتظر، وتدور فوقها مروحتها الفارعة محدثة دوى رهيب أدخل رعبًا لم أعهده من قبل الى قلبى.. وفى لحظات إرتفعت بنا الطائرة بسرعة عجيبة وهي مائلة بشدة على جانبها، وأتذكر أننى ، ومن فرط الخوف، قد أغمضت عينى تمامًا، متمتمًا بصلوات وأدعية أحفظها، رددتها مرارًا وبدون توقف لمدة ثلاثة ساعات وحتى حطـَّت بنا الطائرة ثانية.. ووصلت للجزيرة فى أغسطس2000 يا عزيزى..

* * *
.. ثم إبتلع آخر ما بالكأس ، وأدار وجهه نحوى وكأنه عاد لتوه من رحلة طويلة بطول سنين العمر البائدة..
نظرت إليه بإهتمام وأنا أرقبه سارحًا فى تفاصيل ماضيه يجتره بكل تفاصيله وينقلها لى تلقائيًا بدون أدنى مراجعة أو تزويق.. أحسست أنه كان قد إتخذنى مجرد عذر ليراجع أمام نفسه تفاصيل ذلك الماضى ليعيد تقييمه.. ونظرت الى ساعتى خفية حتى لا يعتقد بأننى أستعجل إنهاء اللقاء، وأدركت فعلا ً أنه لايزال أمامى متسع من الوقت أستمع لبقية الحكاية.. سألته عما إنكان يرغب فى مشروب ثانٍ، فأومأ برأسه، وهو ينفخ بدخان سيجارته أمامه ويتابع دوائر الدخان تتراقص أمامه ثم تتلاشى..
* * *



#شريف_مليكة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- .زهور بلاستيك رواية.. الفصل الثاني
- زهور بلاستيك رواية


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث