أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل السادس















المزيد.....


زهور بلاستيك رواية الفصل السادس


شريف مليكة

الحوار المتمدن-العدد: 1906 - 2007 / 5 / 5 - 11:23
المحور: الادب والفن
    



عامر سيد شندويلى

وف وسط حوش الدار قامت هناك نخله
تتباهى تتعاجب ع الخارجه والداخله
تمره.. وضليله.. والهامه عاليه لفين!
بس الحقيقه نقول.. بتجود ومش باخله!

وكما هى عادة النوم دومًا، إغتسلت بالإستغراق فيه، وكان صباح جديد.. كما كنت قد توقعت، إتصل بى عامر فى اليوم التالى ودعانى لأن أقابله فى تلك الليلة أمام الجامع قريبًا من منزله، مباشرة بعد صلاة العشاء.. تعجبت لهذا الإختيار الغريب من عامر ـ ذلك الـ عامر الذى كنت أعرفه على الأقل ـ فسألته عن موعد إنتهاءه من الصلاة عادةً، حيث لم أكن أعلم، أو أستفسر عنه أحد ولو لمرة واحدة منذ هجرتى، عمَّا إذا كان هناك جامع بالمدينة.. وكان عهدى بعامر أنه يشاركنى تلك "اللامبالاة" ـ لو أردت ـ بشأن ممارسة طقوس العبادة المألوفة، وإن كنا تناقشنا عن شئونها مرارًا وعلى مدار علاقتنا الممتدة، حول زجاجة كونياك رخيصة أحيانا، اوبضعة زجاجات "ستيلا" مثلجة فى أحيان أخرى، المهم أنه لم يكن يحلو لنا معالجة مشاكل الكون إلا ونحن سكارى! تحاورنا كثيرًا فى أمور الله، والخلق، والعدم، والوجود، والموت، فبدا لى وقتها أنه كان يميل للإيمان بتلك الغيبيات بشكل عام، وإن كان يتصارع مع إشكالية تعميل عقله فى الإتيان ببراهين لتثبت له حقيقة وجود تلك الأشياء من عدمه، بين الحين والآخر..

كانت تلك فكرتى عن عامر الذى عهدته بقرية آبا الصغيرة بمحافظة المنيا أولا، ثم بالمدينة الجامعية وشقتنا بالمنيل بعدها.. لذا تعجبت من ذلك الإختيار.. ولكنى على أى حال إستقليت الأتوبيس ـ لأول مرة ـ فى ذلك اليوم، وكنت واقفـًا أمام مدخل الجامع التى أتفقنا أن نتقابل عنده، فى تمام السابعة.. وتعجبت من نفسى لمَّا سألتنى إيزابل ليلتها أين كنت ذاهب، لأننى إدعيت مشوارًا للتسوق ..

كدت أعبره ضمن جموع المؤمنين، الملتحين، المتشحين بالجلابيب البياض، الخارجين جمهرة من باب مفتوح عند يمين المدخل، بجوار أول السلم.. ولكنه بالطبع تعرف علىَّ، وأقبل نحوى فاتحًا ذراعيه القويتين محتضنـًا إياى، وأنا مذهول لمنظر لحيته التى نمت فى جزر متفرقة من جانبى وجهه وعند ذقنه، شعيرات سوداء سميكة ملتوية نافرة، من وجهه المثلث القوى الملامح، تلك التى بدت لى أكثر وضوحًا وقوة، لمَّا حلق شعر رأسه بهذا القِصر ثم أسبله بتلك الطاقية البيضاء السخيفة، كالتى كنا كنا نرتديها ونحن أطفال بالبلدة، ونظارته السميكة كما هى تضفى على وجهه مسحة من الوقار بالرغم من سخافة الطاقية..

شتان بين هيئته الآن وبين الصبى الذى عرفته ببلدتنا فى قرية آبا بالمنيا؛ "عامر سيد شندويلى" الإبن المفضل لدى والده "عم سيد"، كما كنا ندعوه، بسبب تفوقه الدراسى وبسبب شبهه الشديد به، وخصوصًا لما بلغ سن الشباب، فكان دومًا يتفاخر بكونه الوحيد بين إخوته السبع الذى يشبهه فى الصورة الوحيدة المعلقة فى صحن دارهم وهو يشد على يد "الريس جمال" يوم تسلم عقد ملكية أفدانهم الخمس..

ومازال يضمنى إليه ويربت تباعًا فوق ظهرى، مرحبًا، ورائحة فوَّاحة تنضو من كل ملابسه تدفعنى بشدة لأن أنهى ذلك العناق المتـَّصل، بلا جدوى.. وبدأت ـ لعجبى ـ أشعر بالأسف لأن أتيت للقائه، ولكنى عدت وإستنكرت ذلك الشعور..

سحبنى من ذراعى، بقبضته القوية جرنى جرًا نحو المقهى المصرى " قهوة النيل" القريب، وطلب إثنين شاى "غامق ومعسِّل ياحاج أيمن والنبى"..
ـ "والله زمان يابو السيم.. واحشنى والنبى ياوله!" وبعد قليل من التردد قلت:
ـ "وانت كمان.. بس إنت إتغيرت يا عامر .. إيه إللى حصل لك؟" فأجاب متنهدًا:
ـ "لأ دى بقى حكاية طويلة.. عندك وقت؟"
وفعلا كانت طويلة تلك القصة التى بدأت أيام مرض أمى وسفرى للبلدة لرعايتها.. فقد أتته أمينة ذات يوم وطرقت باب شقتنا بإصرار، فلما فتح فوجئ بها تهرول داخلة وهى تبكى وتلطم خديها، "إلحقنى يا باشمهندز.. إلحقونى يا عالم!!" وهكذا مرارًا و تكرارًا "إلحقنى.. وإلحقونى" حتى إستطاع أن يفهم منا أنها حبلى.. حاملة بجنين لأحدنا فى أحشائها!.. حيث أنها لم تر دمًا منذ شهر أو يزيد، وتعانى من غثيان مستمر وقئ.. لم يستطع بالطبع أن يأخذها لزيارة طبيب خشية الفضيحة، ولم يقبل أن يعلمنى عن ذلك الأمر مراعاة لإنشغالى بمرض أمى.. وعلى الجانب الآخر لم يجد سببًا واحدًا معقولا يمنعه من تنفيذ ذلك الأمر الذى كان يتفكربه.. وسط كل ذلك الضياع الذى كان يحيط به آنذاك، لم يكن لديه الكثير ليخسره، فقرر عامر كعادته أن يحل الأزمة، منطقيًا وبحسم.. قرر أن يتزوج من أمينة.. هكذا بكل ببساطة!
وأمينة هذه كانت فتاة عادية المظهر، سمراء ذات سحنة مصرية أصيلة، متوسطة الجمال بقوامها الملفوف وقامتها القصيرة وعينيها الكاحلتين الشقيتين، وشعرها الفاحم المتموج الذى كانت تخفيه دائمًا تحت المنديل، فى تجوالها اليومى بين طوابق العمارة، تسترزق بمساعدتها للسكان فى أعمال النظافة، أو التسوق بالنيابة عن المسنين منهم.. لم تكن أكملت تعليمها حيث أصر أبوها عم أنور، الرجل النازح من النوبة بعد التهجير، على أن تبقى بالبيت حينما بدأ جسمها يفور، فتركت المدرسة غير آسفة حيث لم تبدى إستعدادًا حقيقيًا للتعلم منذ البداية.. وبالرغم من ذلك فكانت أمينة تتمتع بذكاء فطرى جعلها تدب بخطوات عملية جريئة بين جنبات العمارة، وبالسوق القريب، جعلت منها فتاة محبوبة بين السكان، وأتت بدخل معقول جدًا كانت تساعد بجزء منه والديها على تدبير شئون أسرتهم، وتدخر الجزء الباقى ليعينها على مواجهة الزمن وما يخفيه فى طيات عباءته من مفاجئات..
وكانت تلك الرغبة المكنونة فى إدخار الجنيهات القليلة التى تتحصل عليها تنمو يومًا بعد يوم، حتى أصبحت ملحة تدفعها إلى المزيد من الجهد وإلى الإبتكار للإتيان بالمزيد منها.. فبدأت مثلا فى يوم من الأيام تستيقظ مبكرًا جدًا لتوزع جرائد ومجلات بالعمارة وبالعمارات المجاورة بعد إتفاقها مع صاحب الكشك عند ناصية الشارع العمومى بالقيام بذلك العمل بعد أن كبر فى السن ولم يعد قادرًا عليه، ثم جمع الأجرة من السكان فى آخركل أسبوع نظير عمولة.. وهكذا بدأتُ أتعرف عليها حينما كنت ألقاها فى الصباح فى طريقى للكلية فأحييها فى مرة، ثم أبتسمُ فى مرة ثانية، فحديث مقتضب ذات يوم، ثم مستفيض فى يوم آخر، ثم سألتها أن تتولى تنظيف حجرتنا، وهكذا حتى وصلنا إلى ما آلت إليه علاقتنا بها مع الأيام.. ولم أكن أنا ، أو بالطبع عامر، أول رجل فى حياتها، وإن لم يهتم أن يسألها أحدانا عن هذ الأمر فى ذلك الحين، ولكننى لا أدرى إن كان عامر قد خاض معها فى تاريخ علاقاتها بعد ذلك، أى بعد زواجهما..

وبعدها بدأت علاقته بأبيها عم أنور وأخيها الأكبر محمود تتوثق خلال فترة وجيزة تبعت (كتب الكتاب)، وتوطدت أكثر بعد إتمام الزواج، وبعد أن أصبح من العائلة، حيث بدءا يصطحباه معهما لمسجد "مصطفى محمود"، حيث تعرف على زمرة من المؤمنين الذين إحتضنوه وشجعوه لمعرفة طريق الحق، وزودوه بالكتب والمراجع الهادية إلى وجه الكريم.. ولكن أهم من لاقاه هو العالِم "الشيخ محمود عبد الغفار"، الذى إستقى على يديه سبل العلم الحقيقى بتفاسير القرآن ومعانى السنة وقوانينها، وتعاليم الفقهاء الأولين، ودروس الجهابذة منهم فى الأحكام الدنيوية والفتاوى وأصولها ومرجعياتها..

عالم جديد بحره واسع إستغرقه طويلا، إنتشله من فراغ حاضره الفقير الجاف، وإن لم يفلح فى إشباع كل نهمه المعرفى فى أمور الدنيا والدين بعد.. حتى إنه إستجاب يومًا لدعوة أحد الأخوة لملئ إستمارة للهجرة إلى أمريكا؛ فربما إختاره الله سبحانه وتعالى للجهاد ونشر الدعوة بين الكفار فى بلاد الهجرة، كما هاجر المصطفى من قبله لنشرها بين الكفار من أهل قريش.. أخذ بثلاث إستمارات، له واحدة، ولزوجته واحدة، وواحدة لى أنا.. وباءت بالإستجابة إستمارة زوجته، وبعدها إستمارتى، فسافرا قبلى بنحو ستة أشهر، يبدو أنها المدة التى إحتاجها ليطلق لحيته لهذا الحد..

المهم أنه أدرك بعدها أن أمينة لم تكن حُبلى ولا يحزنون، وإنما كانت تعانى من أعراض وعكة أصابتها ومرَّت، فحمد ربه لأنه لم يكن متأكدًا وقتها مما إن كان ذلك الجنين من صُلبه هو، أم أنه كان لغيره، أو أنه قد كان يمكن أن يكون ـ وبصورة مفزعة ـ لى أنا.. أى لصديقه الوحيد سامى!!..

أصابت القرعة "أمينة" فهاجرا سويًا، وإستقرَّا بمساعدة من شاب مصرى أمريكى، تعرَّف عليه بعد وصوله، مهاجر منذ صباه مع أبويه.. ساعده أولا على إيجاد سكن له، ثم بعد أيام قليلة بدأ العمل فى مجال الأنظمة الإلكترونية للكومبيوتر حسب دراسته للهندسة الكهربائية بمصر، بشركة مسئولة عن شئون النقل البحرى بالميناء.. وإستمرت العلاقة بينه وبين "عماد حبيب" لفترة، وإن كانت صداقتهما قد تعثرت بسبب إختلاف المعتقد، حيث حرص الإثنان على ممارسة طقوس العبادة بنوع ما من الصرامة، التى بدت فيها ممارسة الآخر، وكأنها نوعًا من الإنحراف عن الطريق القويم.. وقد قابلتُ "عماد حبيب" فيما بعد، ووجدته شابًا دمث الخلق، وإن كانت حياته محصورة بين دراسته بكلية الطب ـ حينذاك ـ ونشاطاته الكنسية، حتى بدا كلامه وإيانا، إذا حاد عن شئون الطب أو الصحة على وجه العموم، وكأنه تبشيرى إلى حدٍ بعيد، فلم نتواصل أيضًا وقتها، وإن تلاقينا لاحقـًا..

إنتهينا من كوب الشاى ومن حكاية أمينة وعماد حبيب، ولكنى شعرت بأننى لازلت أفتقد حكايات "عامر".. أحسست بمساحة بيننا لم يدعنى هو أن أقربها، وإن كنت مازلت متعطشـًا للدنو منه أكثر لإستعادته إلىَّ الصديق الحميم.. سألته إن كان يرغب فى تدخين بعض من المعسـِّل، ولكنه إعتذر، فأدركت عندها بأن قدحين من البيرة مستحيل!.. طلبت لى نارجيلة وكوبين جديدين من الشاى، ومكثنا ننتظر قدوم الطلبات فحكيت له عن عملى وعن علاقتى بإيزابل، وإن كنت قد عففت عن الحديث عن أمورها الشخصية.. ومر بمجلسنا فى أثناء حديثى أكثر من رجل رمونا بالسلام، فإتضح لى مدى تقربه من الجالية المحيطة، حتى جاءنا الأخ "سعدالله أبوأحمد"، وسحب كرسيًا بجانبنا، وببساطة وعفوية كان يشاركنا جلستنا..

شاب عراقى مهاجر، يرتاد المسجد بين الحين والآخر، حسب ظروف حياته.. وهو طفل ٌ كبير أسمر الوجه أشعث الشعر واللباس، ممتلئ الجسم، ثقيل الوزن، خفيف الدم.. تفضـَّل فى خلال دقائق قليلة أن يحكى لى ـ بصفتى صديق عامر طبعـًا ـ عن تاريخ حياته بالكامل!.. نما وترعرع بالبصرة وسط عشيرته الشيعية، وفى عام 1988 وبالرغم من أنه كان لايزال بعد طفلا فى السابعة عشر، إلا أنه طـُلب للتجنيد، فشارك مع جيش العراق كجندى لشهور قليلة، فى حربه ضد إيران..

إنتهت بعدها الحرب فعاد يبحث له عن عمل.. كان طفلا حلمه أن يقتنى يومًا محلا للبقالة، فعمل صبى لبقال متواضع ببلدتهم لعامين.. ولكنه عاد وطـُلب للتجنيد ثانية يوم إجتياح الكويت فى أغسطس1990 .. ونجا من الموت بأعجوبة وعاد للبصرة فى فبراير1991 .. ولم يكن قد أمضى بضعة أيام حين دُفع به مع ذويه حينئذ فى محاولة الشيعة فى الجنوب للإنقلاب ضد قوات حزب البعث ورئيسه صدام حسين، فى زخمة إنكسار الجيش العراقى على أيدى جيوش الحلفاء.. وكان فى العشرين آنذاك، شابًا غريرًا لا يفقه فى السياسة بشئ، ولكنه حماس الشباب! وهو وحده لا يُجدى، فقد أعلن الحلفاء إنهاء العمليات دونما الإجهاز على النظام البعثى، درءًا لإنكسار موازين القوى كما إعتقدوا حينذاك، فسقط صاحبنا أسيرًا فى أيدى النظام..
ولحسن حظه، مرة أخرى، لم يعدم مع الأسرى وإنما كان سعدالله أحد الشيعة المنفيين إلى الصحراء بالمملكة السعودية، التى أبت أن تقبلهم بمدنها، فعاش وعاشوا فى خيام بالصحراء الملتهبة لمدة سبع سنوات، قال أنها كانت الجحيم بعينه.. سبعة سنين تفرقوا بعدها شتاتـًا إلى مختلف بقاع الأرض، وجيئ به إلى هنا فى عام 1998 ..
ولكن إحكام مأساته لم يكن لينفرج بعد.. فقد تزوج سعدالله بأمريكية، وشرع يحقق حلمه القديم فى أن يتملك دكان بقالة، وإنما يبدو أن الطبع يغلب التطبع، فلم تعلمه الأيام كيف يتعامل مع الواقع.. فقد كان للأسف يضرب إمرأته، أحيانـًأ، ربما لتأديبها عند اللزوم.. ولكن ذلك لم ينطل على لوائح القانون المدنى هنا، فخسر سعدالله دكانه، وزوجته، بل وأمضى عامين فى السجن فقد خلالها أهليته ليعاود مسيرته، وإستـُدعى فعلا للترحيل، ولكن إلى أين؟ فقد كان قد فقد صلته بأهله فى العراق من قبل، حينما نـُفى الى الصحراء السعودية بلا أوراق إثبات هوية أو جواز للسفر.. بقى هو إذن معلقـًا بين السماء والأرض، لا وطن له اليوم ليحتضنه، ولا أمس يركن إليه، بل ولا غد يرنو له..

* * *

قلت لسامى أن سعدالله أبو أحمد هذا كان بصدد تمضية بقية عمره ساعيًا لإقتناء محل، لمجرد أن يعلـِّق فوقه يافطة يكتب عليها إسمه، فيكون ذلك هو وطنه ومصدر هويته، التى طالما بحث عنها وطالما راوغته.. وكنا قد وصلنا إلى المطعم الإيطالى المنشود، فدعوته للدخول، ولكنى ذكرته بأننى الداعى للعشاء، تجنبًا للإحراج المعهود عند طلب الحساب، فوافق.. دخلنا وإخترت منضدة بجانب الواجهة الزجاجية المطلة على الشارع الخامس بمانهاتن، الذى ربما يعَد أشهر شارع فى العالم..

وعاد سامى من جديد يغترف من حصيدة ذكرياته، ويطرحها أمامى، وكأنه مفتون بتلك الرغبة فى الفضفضة ليتخلص من حِمل طالما حمله وحده فى جنبات قلبه.. والحقيقة أنه كلما حكى بدا لى أكثر إنسانية، وتباعًا كنت أتخلص من ذلك الشعور بعدم الراحة الذى إعترانى عندما لاقيته لأول مرة..

* * *

كلما إزداد تقرب عامر من صحبة الجامع والمؤمنين، كلما كانت تتباعد العلاقة بيننا.. ولكنه ظل يتأرجح بينهم وبينى حتى ذلك اليوم المشؤوم.. صبيحة 11 سبتمبر 2001 .. كنت جالسًا أمام شاشة الكومبيوتر أدخل أرقامًا ومبيعات ومشتريات، حين رن التليفون ..
ـ "إنت قاعد بتعمل إيه عندك؟ شفت إللى حصل؟" جاءنى صوته ملتاعًا على التليفون..
ـ "إيه .. فيه إيه.. مالك؟" وظننت أنه قد تشاجر مع أمينة أو شئ من هذا القبيل.. ولكنه إندفع قائلا:
ـ "ضربوا مبنى التجارة العالمى فى نيويورك"..
ـ "هم مين دول؟"..
ـ "ماعرفش.. ممكن تكون حادثة.. أستر يا رب.. أستر يا رب.. دلوقتى ع التليفزيون أنا شايفها قدامى.. طيارة كبيرة مغروسة فى المبنى.. ونار.. ودخان.. ورعب.. يانهار إسود.. واحد نط من فوق المبنى.. آه والله زى ما باقول لك كده.. حاجة فظيعة.. أستر يا رب".. جاءتنى عباراته متقطعة كهذيان المحموم..
ـ "طب إهدا بس.. لمَّا نشوف.. جايز تكون حادثة زى ما قلت" ولكنه صرخ مقاطعًا..
ـ "يا ولاد الكلب! طيارة تانية خبطت المبنى التانى.. إلحق يا سامى.. طيارة تانية.. حريقة ياسامى.. ياولاد الكلب.. الناس مرعوبة بتجرى فى الشوارع.." قاطعته بسرعة..
ـ "طب إهدا إنت بس.. أنا ح اسيبك عشان أروح أشوف التليفزيون فى الكافيتريا.. ح ابقى أكلمك بعدين.."..

وفعلا تجمع كل العاملين تقريبًا بقاعة الكافيتييا، وطاف الحزن فوق رؤوس الجميع، حتى أن تجهشت سيدات بالبكاء.. إنتابتنى وقتها نوبة من الألم تعتصرنى وتقتلع من روحى تدريجيًا نشوة الحياة، وكأننى وقد تسرب إلى جسدى سمٌ فتاك، قفز إلى عيناى ثم إلى عقلى من أمامى هاهنا، من شاشة التليفزيون، من مشاهد الموت والدمار، والهلع المذرى، لأناس عاديون، يشبهون تمامًا كل الذين يملأون القاعة من حولى الآن، يجرون فى الشوارع المغمورة بسحب الدخان، وذرات التراب والرماد، صارخين، مذعورين، فارين فى كل إتجاه، نحو النجاة، نحو اللاشئ.. وسقطتُ متهالكًا فوق أقرب مقعد، لحظة إنهيار البرجين، بمن فيهم، أمام أعيننا.. تفكك التماسك القوى بين ذرات البناء الذى كان سببًا لشموخه وإحتضانه لآلاف البشر بين جنباته.. ومن فرط الشر، تنافرت الذرات، وتحول المبنيان إلى أكوام من التراب والأسمنت والحديد المصهور المتناثرة، المتباينة.. فإنهار الصرح، و إنهار معهما أى أمل فى تحجيم شأن تلك الكارثة، وكـُتبت بالدم أسماء أعداء البشرية أمام عيون البشر أجمعين.. تـُرى، هل من فكاك الآن؟

إتصلت بى إيزابل يومها لتطمئن إن كنت بخير.. وتعجبت من سؤالها، من يسأل عن من؟ ولكنى أجبتها وأنا متخوِّف من جرح مشاعرها:
ـ "أنا بخير.. وأنتِ؟.. كله تمام؟.. لازم أشوفِك النهاردة.. ح اجيلِك بعد الشغل على طول".. وكنت وقتها قد أجَّرت مسكنـًا بجوار إيزابل، على بعد حوالى ميلين منها وثلاثة أميال من مصنع التعليب بالجهة الجنوبية من الجزيرة.. بعيدًا عن بيت عامر ومنطقة سكن المصريين فى وسط البلد.. وكنت أهم بالإنصراف فى آخر ذلك اليوم الكئيب حين وجدت بأسفل الدَرج عامر واقفـًا ينتظرنى.. كان منظره غريبًا فى ذلك اليوم على نحو لم أكتشف كنهه فى بادئ الأمر، وإن كان قد بدا لى حزينـًا، أو بمعنى أصح منكسرًا كعهدى به أيام القاهرة.. وإقترب منى لمَّا إنتهيت من نزولى وقال:
ـ "شفت المصيبة.. ولاد الكلب دمرونا!!" فتطلعت إلى وجهه لأتبين من يقصد بأولاد الكلب.. وعلى الرغم منى ضحكت فجأة قائلا :
ـ "الله!!.. أمال فين دقنك يا مولانا؟؟" فإبتسم هو لأول مرة قائلا :
ـ "لأ.. ما خلاص بقى!!" فسألته بسرعة:
ـ "ليه؟ إيه إللى حصل؟" فأجاب بإقتضاب أولا، ثم أخذ يسترسل تباعـًا..
ـ "أبدًا.. بعد ما كلمتك الصبح أخدت بعضى ورحت على طول ع الجامع عشان أشوف ح نعمل إيه فى المصيبة إللى إحنا فيها دى.. لاقيت الناس متجمعين هناك.. الظاهر جم قبلى.. بس كانوا بيضحكوا ويهزروا مع بعض.. أنا قلت دول أكيد مش داريانين باللى حصل!!.. شوية ولاقيت واحد جاى م المطبخ بصينية عليها كبايات شربات وبيوزعها ع الموجودين وهم بيقولوا: الله أكبر! الله أكبر!.. أنا ما صدقتش عينىَّ!!.. ماصدقتش ودانى!! وحياتك يا سامى ياخويا ما فتحت بقى.. أخدت بعضى وقمت.. واحد نده وقال على فين يا أخ عامر؟ ده الإحتفال لسه ح يبدأ إن شاء الله.. ماردتش.. وخدت ف وشى ومشيت من غير حتى ما أعرف هو مين ده إللى كان بيكلمنى.. حسيت أنه صوت بيتكلم من عالم تانى.. وسمعته بيقول طيب روح يا أخ عامر فى حفظ الله، وإبقى تعالى تانى، وهات معاك باقى الأخوة إن شاء الله.. ده النهارده عيد كبير قوى.. عيد؟؟ عيد إيه يا متخلف يا إبن الـ ..؟ دى مصيبة سودة.. ومشيت على طول ع البيت.. لاقيت أمينة بتتفرج ع التليفزيون.. ع الأخبار.. ووشها جامد.. ما فيهش أى تعبير.. لما شافتنى قالت لى شفت؟ .. يستاهلوا.. عشان يبقوا يقتلوا تانى ف المسلمين.. علشان يعرفوا إن زى ما هم كبار برضك الله أكبر!!.. دخلت الحمام ولقيتنى بابكى.. أى والله يا سامى بُكا.. زى بتاع العيال.. وخفت لا أمينة تسمعنى ف كفيت وشى ف فوطة علشان ما تسمعنيش.. بصيت لروحى ف المراية ولاقيت وشى مبلول ودقنى ملزقة ووسخة.. مادريتشى إلا وأنا ماسك موس وباحلقها.. بعديها أخدت دش.. وجريت ع الشارع لا أمينة تلمحنى.. فضلت ماشى بابكى لحد ما رجليـَّا جابونى على عندك"..

أخذت بذراعه، وإصطحبته معى ليتعرف على إيزابل.. ولم نتكلم طوال الطريق إلا عن إيزابل.. شعرت يومها، ولأول مرة بأن عامر قد عاد من غربته إلى عهده الأول.. الصديق الذى طالما إئتمنته على دواخل مشاعرى.. هاهو عامر يسير بجانبى، الآن، كما كنا نجوب معًا شوارع المنيا فى صبانا، أو المنيل فى شبابنا، أحكى له ويفسِّر لى مكنون الحياة وألغازها..

كانت علاقتى بإيزابل قد توطدت خلال الشهور الماضية إلى حد أننى كنت أمضى معها كل وقتى خارج العمل تقريبًا.. وبقيت درجة إعجابى بها عند نفس الحد، وإن كنت أعتقد بأنها كانت ستزداد، بحكم العشرة كما يقال.. ولكننى إكتشفت من خلال عشرتى لإيزابل أن جرحها غائر لأعماق لم أكن أدركها، مما أثار تحفظى فى مدى علاقتى بها.. لم أستطع أن أنتزعها من صميم نفسى، لأنها كانت قد تغلغلت وبعمق، ولكننى على الجانب الآخر لم أجرؤ أن أدعها تقترب من أعماق وجدانى السحيقة، حيث لا رجوع.. ومازالت تتأرجح بين هنا وهناك ، والحقيقة أننى قد شعرت بالراحة لمّا وجدت رأى عامر مؤيدًا.. ما أجمل أن يجد المرء أذنـًا قريبة لهنات القلب!

نظرت إليها، ثم إليه مبتسمًا وقلت لها بلهجة مسرحية مفتعلة: "هذا هو صديقى عامر يا عزيزتى إيزابل!! أخيرًا عثرت عليه بعد طول غياب" .. إبتسمت وهى مادة يدها لتحيته، ودخلنا إلى بيتها..
ـ "آسف أن أحضر هكذا من غير ميعاد" أطرق عامر خجـِلا.. "لكن الذى حدث اليوم يستوجب أيضـًا أن آجئ بنفسى من أجل أن أعتذرلك عن ذلك الذى جرى.. أنا آسف يا ميس إيزابل.. آسف جدًا والله العظيم" كان قد تهدج صوته من فرط تأثره.. فقاطعته هى قائلة بسرعة:
ـ " لماذا تعتذر يا عامر؟ الشر لا ينبع إلا من الأشرار، وهم لن يعتذروا، أما إعتذارك أنت فهو يقطع بأنك لست منهم.. فالإعتذار إذن فى غير محله.. وإلا فهل أعتذر لك أنا أيضـًا؟ لن يجدى الآن الإعتذار على أى حال، فالذى حدث هو شئ فظيع بكل المقاييس، والعالم سوف يتغير بعده بلا رجعة.." .. أخذت بمقعد ودعوتهما للجلوس قائلا:
ـ "فعلا يا إيزابل.. وهل رأيتِ ردود الفعل فى أوروبا، وآسيا، والعالم كله.." وتساءلت فى نفسى عن ردة الفعل فى مصر والشرق الأوسط.. هل سمع الناس بما حدث فى قرية آبا بالمنيا يا ترى؟ وماذا قال الحاج شرقاوى، وأمى، وعائلة المصرى كلها؟ كم كنت أفتقدهم جميعًا.. أحسست ليلتها لأول مرة بالإغتراب.. إفتقدت الناس على المقاهى فى بلدنا يتصايحون، ويدلون كل بدلوه فيما حدث، بين رشفات الشاى، وأنفاس المعسل، وضوء القمر يسبلهم بحكمة الجدود.. وقلت موجهًا كلامى لإيزابل:
ـ "أهنالك أى إحتمال ألا يكونوا جماعة بن لادن هم الذين فعلوها؟"
تجاهلت إيزابل تساؤلى، ثم نظرت إلى ساعتها وقالت:
ـ "سمعت عن مسيرة صامتة حول كنيسة القديس بطرس فى وسط المدينة نحو الثامنة مساء، مارأيكما أن نذهب سويًا؟".. وفعلا إصطحبتنا بسيارتها إلى المكان، وترجلنا فإذا بالمئات يحومون فى صمت حزين حول مبنى الكنيسة، يحمل كل منهم شمعة موقدة، تتألق أضواءها فى أيديهم، فتحيط بكل شمعة هالة من النور الأصفر الباهت، تنعكس فوق وجوههم الحزينة فتضفى، بتعاكسات الضىّ والظلال، على ملامحهم تمازيج من الجدة، والحزن، والخشوع..

إقتربنا من رجل يقف عند منتصف الميدان وأمامه صندوقان، أحدهما مملوء بالشموع الجديدة ، والآخر نصف ملآن بأوراق من فئة الدولار، ثمنـًا لشموع إبتاعتها الجماهير المحتشدة.. وطفنا مع الركب حول جدران الكنيسة الحجرية القابعة بصمت فى ذلك الجانب من الميدان، تتوسطه رقعة خضراء ونافورة مياه صغيرة، تزفر دمعها حزنـًا فى تلك الليلة الداكنة الظلام.. وعند نحو منتصف الليل، نما إلى كبد السماء الحالكة قمرٌ متهالك، محتضر، ظاهر على إستحياء من هول الحدث، ورهبته، يرنو نحونا بضوء كالح، وكأنه لايجسر أن ينازع ضياء الشموع..

حلمت ليلتها بأمى متدثرة برداء أبيض، وكانت جالسة ضاحكة فى غرفتها فوق سريرها، وقد إنكست ملامحها بنضارة الشباب وحيويته، فى حين أحاط بمجلسها مجموعة من النسوة العجائز المتلفحات بالسواد، يصرخن ويولولن من حولها ويلطمن بالخدود بقسوة، فيما تتابعهن هى بعيون ضاحكة..
* * *



#شريف_مليكة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زهور بلاستيك رواية الفصل الخامس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الرابع
- زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث
- .زهور بلاستيك رواية.. الفصل الثاني
- زهور بلاستيك رواية


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل السادس