أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل الرابع















المزيد.....


زهور بلاستيك رواية الفصل الرابع


شريف مليكة

الحوار المتمدن-العدد: 1900 - 2007 / 4 / 29 - 03:06
المحور: الادب والفن
    



البـدايـة

مشوارى بابه بدايه لازم هاجوز فيها
وطريق يجوز منبوذ ويوصلك ليها
وح امشى ميت مشوار وأخوض ميتين خطوه
فين الحقيقه؟ بدوَّر ع اللى يجود بيها

أول ما رأيته عندما إنفتح أمامنا باب الطائرة، هو منظر جبال شاهقة خضراء ، مزدانة عند سفحها ببيوت صغيرة متناثرة هنا وهناك فى مجموعات متلاصقة حينـًا ومتباعدة أحيانـًا.. وتتلاقى السهول بين تلك الجبال لتنغرس فى مياه زرقاء لم أر لمثل زرقة لونها مثيل.. وطبعًا بدَا على عيوننا جميعًا الإنبهار الذى أدى بالمرأة الظابط التى كانت فى إنتظارنا أن تبتسم كل تلك الإبتسامة، فهذا أقل ما كان يمكن أن تفعله إزاء بلاهتنا الواضحة.. حملت حقيبتاى بصعوبة وأنا أدعو فى نفسى بألا يكون برطمان الجبن القريش قد تهشم وغرَّق الدنيا.. دخل التونسى أولا وبقينا أنا والعراقى خارج المبنى الأبيض منتظرين الدور.. وضعت الحقائب مستندة على الحائط، ومددت يدى فى جيبى وأشعلت سيجارة.. فكرت للحظة أن أعزم على الأخ العراقى بواحدة، ولكنى تراجعت حيث لا أعلم ما تخبئه لنا الأيام، ومتى وكيف سأحصل على ثمن علبة سجائر جديدة فيكى يا أمريكا! فإحتفظت بسجائرى وتفكرت فى نفسى كيف سأتمكن من العثور على “عامر” فى وسط هذا العالم! دقائق ودخلت، بعد أن بدأت حرارة الشمس تلسعنى ونحن منتظرين بالخارج..

قابلتنى "إيزابل" كما قدمّت لى نفسها، موظفة الجوازات فيما أعتقد، بإبتسامة مشجعة، ولكن عيناها ! آه من عينيها.. سحرتنى من أول نظرة! بريق لم أعهده، تنظر فتنفذ إلى داخل أعماقى، وشعرت أنها تعرينى بنظراتها، فتحرجت من أن تكشف بداخلى عن صعيديتى القحة التى طويتها بعناية لسنين وخبأتها داخلى، فتجنبتُ عينيها.. ولكنها لم تزل تسألنى وتدوِّن المعلومات على جهاز الكومبيوتر أمامها، وتبتسم.. ياكسوفك يا سامى! لقد عرفتك الخواجاية على حقيقتك.. صعيدى قفل منياوى أبًا عن جد.. طبعًا المعلومات كلها قدامها على شاشة الكومبيوتر، وهى تبتسم، ربما لأنها تلمح الحاج شرقاوى أمامها وترانى أرتعد أمام سطوته، فتبتسم!! يافضيحتك ياسامى، يافضيحتك!!
ـ "خلاص مستر إبراهام، تقدر تتفضل"
ـ "سامى إبراهيم يا ميس، إبراهيم (مش إبراهام) ده كان إسم أبويا ـ الله يرحمه"
رددت بسرعة بإنجليزية جمعت مكوناتها من بقايا التعليم الثانوى بالمنيا، مع كلمات ربما قفزت نحوى من بين حوارات كل الأفلام الأجنبية التى شاهدتها بالقاهرة من قبل، مضغومة بلكنة صعيدية.. قلتها تجنبًا لمشكلة لمحتها على الفور بفطرتى، وأردت بسرعة حلها وقبل فوات الأوان..
ـ "نعم طبعا مستر "سامى إبراهيم"، والآن سوف تذهب إلى غرفتك بالفندق فى السيارة المنتظرة، مؤقتـًا يعنى، لحين نعثر على مكان مناسب تسكن فيه.."
لم أرتح لإنتهاء المقابلة بهذه السرعة، لأننى بسبب لهوجتى لم أسألها بعد عن “عامر سيد شندويلى”، ثم لأننى ـ فى الحقيقة ـ كنت قد وددت أن أواصل كلامى معها عن أى شئ لأستمتع بمجرد النظر إلى تلك العينان، وظهر فيما يبدو ذلك الأسف فوق ملامحى، فسارعت إيزابل تسألنى:
ـ "هل كل شئ على مايرام؟"
ـ "نعم .. يعنى أكيد.. أمَّال إيه؟.. بصراحة أنا شاعر بأنى ولد صغير أخذه أبوه للمدرسة لأول مرة، وتركه وحيدًا عند الباب، ومشِى ، فعليه الآن أن يعرف طريقه بمفرده من الآن فصاعد.. أعنى بدأت فعلا أشعر بالوحدة ، بالخوف من المجهول، وأتمنى أن أجد يدًا أمسك بها تظهر أول السكة أمامى.. أنا أعرف بأنه شغل عيال.. ولكن أنتِ التى سألتِ.."
ـ "ماتخافش مستر إبراهيم، هذا شعور طبيعى يمر به كل مهاجر جديد"
ردت بنبرة أوتوماتيكية أوصدت أمامى الأبواب وكأنها صادرة عن أسطوانة تشبه صوت المرأة التى كانت تعلن لى فى التليفون هناك فى مصر أن (الرقم المطلوب غير متاح حاليا الرجاء إعادة الإتصال فى وقت لاحق).. فأضفتُ بعصبية فضحتنى ـ فيما إعتقدتُ ـ وقلت:
ـ "يا ستـِّى باقول لِك إسمى سامى، مش إبراهيم ولا أبراهام ده.. وبعدين معاكى؟"
ولكن إبتسامة عريضة مطمئنة إلتقتنى فشعرت معها براحة، فتشجعت وقلت لها:
ـ "هو ينفع يعنى؟ يعنى لو ممكن.. لو مافيش ما يمنع .. إن حضرتك يعنى .. لو تقبلى .. إنك تسمحى وتوافقى وتتغدِّى معايا النهاردة.. يعنى تكلمينى شويتين عن بلدكم دى.. ماهو أنا ماعرفش أى حد هنا لحد دلوقت.. وحضرتك بصراحة باين عليكى بنت حلال .. وصبرانة يعنى علىَّ .. لو كان ينفع يعنى.."
لم أستوعب ما أقدمت عليه لتوى، فها أنا أتكلم مع إمرأة لا أعرفها بل وأدعوها للغذاء.. ماذا حدث لخجلى الذى توقعتُ أن يعترينى فى ذلك البلد الغريب؟ هل هو سحر النساء يركبنى من جديد؟ .. يجتاحنى ذلك الشعور الغامض فيتملك بكيانى عند أول كل لقاء بإمرأة، أى إمرأة، فأتحول أنا إلى صياد يحوم حول فريسة لا يرتاح إلا بالحوذ بها، وهو ما لا يتحقق فى الواقع إلا نادرًا، مما يتسبب لى فى معظم الأحوال فى الوقوع بمآزق لا أول لها أو آخر..
ـ "أوكى يا سامى .. سأمر عليك بالفندق فى تمام السادسة .. سألقاك باللوبى.." إبتسامة دافئة فوق وجهها هى آخر ما رأيت منها، ثم إنصرفت وأنا أمنى نفسى بلقائى القادم بها.. وإلتفت ورائى أطمع فى نظرة ثانية، ولكنها كانت قد تركت مكتبها وغابت إلى داخل المبنى..

ومع غبطة الإنتصار بعد أول مواجهة، أخذنى الأتوبيس الصغير الى الفندق، ومعى الزميلان القادمان معى من نيويورك.. تبادلنا نظرات حذرة مكسوة بإبتسامات مفتعلة، ولكنهما إنصرفا عنى كل الى شأنه.. نظرت من خلال النافذة المغلقة الى الطريق أتابع الجمال الأمامى من خلال الزجاج.. خيط من الشجيرات المزهرة تفصل الطريق عن شريط من الرمال الوردية اللون تعانق زرقة البحر اللازوردية، التى تمتد وتجتاحها الزرقة تدريجيًا حتى تلتحم فى النهاية بمبدأ السماء.. وترتفع قبتها بعدها وتعلو حتى قمتها من فوقنا، ثم تسقط نحو الجانب الآخر خلف الجبل الشاهق المكسو بالصخور البركانية، والخضرة الناصعة تنساب عند سفحه، ثم تعود وتمتد من جديد لتعانق الجانب الآخر من الطريق.. وشعرت فجأة بأن ذلك المنظر لابد وأن يكون مصطنع!! فلم أكن أتوقع أنه يمكن أن تجود الطبيعة بمثل هذا الإبداع.. وتساءلت بينى وبين نفسى عمن يقوم بالعناية مثلا بكل تلك الأشجار المزروعة بطول الطريق، أو بتلك الخمائل المزهرة التى تتوسط الحارة الفاصلة بين طريقى الذهاب والإياب؟؟ وإن كانت طبيعية فعلا، فلـِمَ كانت تبدو كلها بهذا البهاء والنضارة..

لابد إذن أنها زهور بلاستيك مرصوصة بعناية بطول الطريق لإبهار الزوار.. تمامًا كما رأيت من خلال الأفلام الأمريكانى، فى التليفزيون أو فى السينما فى أيام الدراسة بالقاهرة، ثم قرأت بعدها فى الجرائد عن كذب تلك الصورة وبُعدها الكلـِّى عن الحياة الأمريكية الحقيقية.. خلتها ديكور أو واجهة وضعت فقط لتجميل الحياة من حولنا.. وتفكرت بأن الوقت كفيل بنزع كل الأقنعة من حولى.. "أنا وراكى ياأمريكا والزمن طويل"..

وفى بهو الفندق إستقبلتنى فتاة لطيفة مبتسمة أيضاً بإبتسامة عريضة، خلف مكتب الإستقبال اللامع وقد ملأ المكان عبيق زهور الياسمين المزروعة بسطح أوانى فخارية ضخمة متناثرة بكل جنبات البهو الفسيح.. "ما بالهم يبتسمون كلهم هكذا؟" سألتنى عن إسمى وراجعت معلوماتى من جواز السفر المفتوح أمامها، بينما إنشغلت عنها متفحصًا المكان من حولى.. وأعادت لى الجواز شاكرة، ومعه كارت بلاستيك قالت لى أنه مفتاح الغرفة وخطاب مقفول قالت لى أنها رسالة تـُركت لأجلى.. وأشارت بيدها الى المصعد وقالت:
ـ "الدور الثالث.. من فضلك"
وتعجبت من إبتسامتها ومن حكاية "من فضلك" هذه، ولم أجبها بشئ حيث أننى لم أكن أعرف أصلا ماذا كان يُنتـَظر منى أن أقول بالضبط.. وبالرغم من رغبتى أن أقول "شكرًا" مثلا أو حتى أسألها عن سبب إبتسامتها، إلا أننى وجدتنى أنحنى صامتــًا لأحمل حقيبتاى وأتجه نحو المصعد، وسرحت بفضول متسائلا عمن يكون قد أرسل لى تلك الرسالة التى وضعتها بعناية فى جيبى..

وبسهولة فتحت باب الغرفة بالمفتاح البلاستيك، حيث كانت طريقة الإستعمال مرسومة فوقه.. وألقيت بجسدى فوق السرير الوحيد بالغرفة، ومددت يدى الى جيبى وسحبت الخطاب وفضضته وقرأت:

"السيد سامى إبراهيم
أهلا بك فى وطنك الجديد
تسعد الإدارة العامة لشئون المهاجرين الجدد أن ترحب بك وتدعوك لتلتحم مع باقى المواطنين فى هذا البلد. قوتنا ورخاؤنا مصنوعة بأيادى مهجارين مثلك جاءوا قبلك من شتى البلاد، ساعين من أجل حياة أفضل ومستقبل يتحقق فيه حلمهم الأمريكى.
الإدارة إذ ترحب بقدومك، تتمنى لك إستقرارًا سريعًا وحياة رغدة تنتظرك، وهى ترجو أن تكون مستعدًا لبدء عملك الجديد فى مصنع تعليب المنتجات الزراعية الموجود بالجزء الجنوبى من البلدة المطل على المحيط، بعد ثلاثة أيام، نرجو أن تستعيد خلالها نشاطك وأن تكون قد تغلبت على فارق التوقيت، وأن تكون قد تعرفت نوعًا ما على بعض معالم المدينة.
ولتسهيل مهمتك لقد عيننا مرافقـًا لك، كما هى عادتنا مع كل المهاجرين الجدد. ونحن إذ رأينا علاقة طيبة قد تولدت بينك وبين الضابط إيزابل، فقد طلبنا منها أن تضطلع بأمر مرافقتك الأولية، وقد وافقت على طلبنا. ولسوف تساعدك إيزابل فى معرفة الأمور الأولية المتعلقة بإقامتك هنا، وبخصوص العمل والمواصلات الخ.. ونتمنى لك فى النهاية فترة إنتقالية سعيدة. إمضاء الإدارة"

تركت الخطاب يسقط فوق صدرى، وحالة من التعجب إعترتنى عند قراءتى للفقرة الأخيرة من الخطاب.. إيزابل؟؟.. وهل عرفوا بهذه السرعة بأمر دعوتى لها للغذاء؟ وهل أخبرتهم هى أم أن شخصًا ثالثـًا راقب الموقف وتولى هو الإبلاغ، فلم نكن وحيدين فى مكتب الجوازات، وإن كنت لم ألتفت لوجود شخص معيَّن أثناء حديثى معها.. ولكن أين لهم بتلك السرعة فى تناول أمر تلك المقابلة فى صلب موضوع الخطاب بهذه السرعة؟ فالرحلة من المطار للفندق لم تستغرق أكثر من خمس وأربعين دقيقة.. شئ محيِّر!!.. لا .. لابد وأن الأمر كله كان مدبر مسبقـًا مع إيزابل .. ولكن كيف ؟ فأنا الذى دعوتها، ولم تبادرنى هى ولو بتلميح.. أيمكن أن تكون قد إستدرجتنى إلى دعوتها بإبتسامتها المطـَمـْئنة ؟ لا أدرى.. وربما لن أتعرف إلى الأبد، على مجريات الأمور فى هذا البلد العجيب.. وإبتسمت متفكرًا أننى وصديق العمر عامر موجودين فى نفس البلد، وإن كنت لا أعرف متى سأراه، ولكنها على أى حال مسألة وقت..

ونظرت حولى أتفقد الغرفة، بسيطة الفرش ولكن أنيقة وآية فى النظافة.. نوع من النظافة يصيبك بالحرج من أن تسير على الأرض بحذائك لئلا تخدش لمعانها، فوجدتنى أخطو فوقها بطرف حذائى، ربما للتقليل من حجم الضرر، فخلعته عنى!.. ومازلت أجول بنظرى متفحصًا المكان من حولى، ورائحة ريحانية منبعثة من شتلة أزهار بجانب النافذة العريضة، تملأ جنبات الغرفة المغلقة بإحكام فلا تسمع إلا حفيف الهواء الصادر من فتحة التكييف فى السقف.. جدران مغطاة بورق مضلع وقد إنخلعت بعض أطرافه وإنثنت قليلا، لتكسر حدة هذا الجمال المثالى من حولى..

ثم إنتفضت واقفـًا، متجها نحو باب، فتحته فتبينت أنه حمام مرفق بالغرفة.. خلعت ملابسى و أنا أنظر فى المرآة الكبيرة بعرض الحائط فى الحوضين اللامعين المحفورين فى صدر قطعة رخامية، أو هكذا ظننتها حتى طرقتها بظهر أصابعى، حين أدركت أنه نوع من البلاستيك يشبه الرخام.. ألقيت فوقها بملابسى، وأنا أتأمل صورة جسدى العارى فى المرآة، وأتمايل يمنة ويسارًا، وعضلاتى المخزية بالكاد تغطى ذراعىَّ وصدرى، والدهون وقد بدأت تزحف وتتراكم عند أسفل البطن فى صورة كرش مدلَّى ، فشددت عضلات البطن ورفعت قبضتاى المضمومتين الى مستوى كتفاى، وقد نفخت عضلات ذراعىَّ، وإبتسمت لبلاهتى.. إنزلقت إلى مياه الدش الدافئة لأغسل عنى تراب السفر كما يقولون..

وفى السادسة تمامًا كنت أغادر المصعد عند بهو الإستقبال عندما رأيت عبر الصالة الفسيحة إيزابل تدفع بيدها الباب الزجاجى قادمة من الخارج.. حينذاك كانت ترتدى قميصًا ورديًا وجونلة بيضاء تقف عند أعلى الركبتين، وقد غطى أحمر الشفاه فمها، فصور إبتسامتها العريضة بأشهى تصوير، وإقتربـَت نحوى وأنا أدنو حذرًا، وبصعوبة أرفع عيناى عن صدرها يتراقص تحت القميص الوردى برقة وكأنه زهرتان تتمايلان بفعل نسمة هواء هبت، فمالتا حينـًا ثم تراجعتا الى وضعهما الأصلى حينـًا.. وهكذا مع كل خطوة تخطوها.. وإقتربت أكثر فإنتزعتنى عيناها ببريقهما الساحر، وأدركت لأول مرة لونهما البفسجى، ونظراتها تحاصرنى وتأسرنى مـِلكـًا لها، فلا أستطيع الفكاك، ولا حتى لكى أراقب زهرتيها الورديتين..

لست أدري لماذا تذكرت أمى المريضة طريحة الفراش ونظراتها المتوسلة ، آخر ما شاهدَته منها عيناى، يوم السفر.. وأنا جالس قبالة إيزابل فى المطعم الصغير المقابل لشاطئ البحر فى إنتظار قدوم الطعام..
كانت قد سألتنى فى بهو الفندق عن أى نوع من الطعام أفـَضِل اليوم، ولم أجد ما أجيب به فدعوتها هى للإختيار، حيث كنت قد إعتدتُ بطول السنين أن آكل الموجود أو المتاح.. وسرنا نحو مائة متر حتى أشارت الى ذلك المطعم، ونصحـَت به لأنه متوسط الأسعار كما أنه يقدم طعامًا أمريكيًا تقليديًا، فتكون فرصة لى للتعرف على الأكل الأمريكى الشعبى كما فهمت أنا، لأنه كان بوسعى بالمدينة هنا ـ كما شرحت إيزابل ـ أن أجد أنواع من المطاعم من جميع أنحاء العالم تقريبًا ولكنها أغلى أحيانـًا من المطاعم الأمريكية.. وكان هذا هو أول درس تعلمته من إيزابل.. كيف أنفق نقودى بحرص.. ونزعت عنى وجه أمى المريض البائس، وإستبدلته بوجه إيزابل الناضر، الدائم الإبتسام..

فوق سطح الأطباق المتناثرة وعلب البيرة الأمريكية، التى أشربها اليوم لأول مرة، حكيت لإيزابل عن أمى وعن الحاج شرقاوى وعن بلدنا، وعن أيام الدراسة بالقاهرة، وعن صديقى عامر، ولا أدرى أكانت سذاجة منى أم كان نوع من المغازلة، حين وجدتنى أحكى عن مغامرتى العاطفية اليتيمة مع أمينة! إبنة البواب فى العمارة التى قطنت سطوحها بحى المنيل بالقاهرة.. وكانت أمينة تعمل نهارًا فى تنظيف الشقق للسكان، وكنا قد إتفقنا معها، عامر وأنا، على أن تأتينا يوم الخميس من كل أسبوع، بحجة تنظيف الشقة، فنتناوب مضاجعتها فى مقابل ثلاثين جنيهًا فى المرة الواحدة، كنا نقطتعها من أجرة المواصلات، فنسير الى الجامعة يومين أو ثلاث فى الأسبوع لكى نفوز بأمينة يوم الخميس!! وعن صراعنا المتجدد أسبوعيًا عمن سيبدأ، بينما يبقى الآخر منتظرًا خارجًا حارسًا لمدخل السلم لئلا يباغتنا مباغت، أو يحملق من فوق سور السطوح على المارة فى الشارع والباعة الجائلين، حتى يسمع تلك الرنة السحرية لمزلاج الباب يفتح، وصاحبه يخرج مهندمًا لملابسه، بينما يدخل الثانى لقضاء حاجته معها، قانعًا بكونه الثانى، وبأن عليه أن يسرع حتى لا تتأخر أمينة فيستعوقها أبوها بواب العمارة، بشومته الغليظة، ونظراته الحادة الصارمة، تطل من بين تلفيحته الصوف الغامقة، شتاءً وصيفـًا على السواء، التى تعلو طاقيته وجبهته القاطبة..

وبالرغم من مقاطعاتها المتكررة، أثناء كلامى معها، بضحكاتها المجلجلة حين، وبدفن وجهها فى كفيها لتخفى حمرة وجنتيها الخجـِلة أحيانـًا، لم تستغرق حكاياتى كلها أكثر من طبق سلاطة وساندويتش فراخ مدهونة بشئ أبيض، عرفته فيما بعد بالمايونيز، وعلبتين بيرة.. شعرت بعدها بدوار سكر، لا أدرى إن كان مفعول البيرة، أو أنه تأثير نظرات إيزابيل السحرية وضحكاتها المتتالية، وكأنها طلقات فى الهواء تطلقها، لتسلبنى أى نزعة فى المقاومة دونما الإستسلام التام.. ومددت يدى إلى جيب القميص وأخرجت علبة السجائر، سارحًا مع إنغماسى فى ذكريات ماض أجوف، ضحل، وتساءلت إذا ما كان إنطباعى عن ماضىَّ كانت فعلا بهذه السطحية، ولكنها عارضت إنسياب أفكارى حين قالت لى:
ـ "هنا ممنوع، لابد أن نخرج للشرفة إن كنت تود التدخين"..
لفحنى هواء البحر ودخان السيجارة وبقايا السكرة بفعل البيرة والجمال، فشعرت بالرغبة الشديدة فى النوم تجتاحنى.. ولكننى سألتها قبل أن نفترق ليلتها إن كانت قادرة على العثور على صديقى "عامر سيد شندويلى" الذى هاجر الى أمريكا من بلدنا، قبلى بثلاثة أشهر..

إرتميت فوق السرير ولم أفق إلا عند شروق اليوم التالى، حيث كانت الستائر مفتوحة، وأشعة الشمس قد ملأت الغرفة ضوءًًا.. أدركت أننى لم أخلع ملابسى بعد، وبين النوم واليقظة قمت من سريرى، وإتجهت نحو النافذة ببطئ و ضممت طرفى الستارة، ثم خلعت قميصى والبنطلون والجوارب، ثم تسللت تحت الغطاء وغصت ثانية فى لجة نوم عميق..
وحلمت ببلدتنا بالصعيد، وبالحاج شرقاوى وكان يضحك ويضحك، وهو فى الوسط يحتضن بأكتاف إبنيه نافع ومهران، وكانوا واقفين بصحن دارهم، يحيط بهم زمرة من أعيان البلد والفرقة الموسيقية، عندما دخلت عليهم أمى دافعة بباب الدار أمامها وقد بدت متعافية، قوية، وكأنها عادت بزمنها عشرين عامًا.. ورأيتها تبتسم بثقة وتقول "والله زمان يا شرقاوى.. وديت فين سامى يا كبير البلد؟.. سامى إبنى.. وديته فين؟".. وفتحت عيناى ثانية وكان ضوءًا باهتـًا يملأ الغرفة وتسللت أشعة الشمس عنوة من خلال قماش الستائر المسدلة..

* * *

داهمنا الوقت، حتى أننى شعرت أن سامى قد بدأ يشعر بالتعب، ووهن صوته وهو يقص لى حكايته بكل هذه التفاصيل.. وكانت عقارب الساعة، أعلى زجاجات الخمور المرصوصة فوق الحائط أمامنا، تشير الى نحو الواحدة صباحًا، وقد بدأت الزمرة المتجمعة فوق مقاعد البار تتفرق تباعًا.. ولم يبق سوانا، سامى.. وأنا.. والبارمان، الذى كان قد جلس بمقعد على الناحية الأخرى، يدخن سيجارة ويتابع بنوع من الإهتمام مباراة كرة سلة فى جهاز التليفزيون المعلق بسقف القاعة.. فقلت لسامى منقذًا إياه من هذا السيل المتدفق من الذكريات ..
ـ "ما رأيك فى أن نتابع حديثنا غدًا؟.. أقصد طبعًا لو كان وقتك يسمح، فأنا باق بنيويورك حتى مساء الغد.."

فأفاق هو من لجة الإستغراق، ومر بأصابع يده بين خصلات شعره المجعد، ومال بجزعه للوراء وكأنه يلملم كيانه ثانية، من بين جنبات رحلته إلى الجزيرة ويعود بروحه إلى الواقع هنا فى فندق الوالدروف بنيويورك..
ـ "هايل.. خلاص أنا بكره ما عنديش مشاريع لأن كل العملاء ح يكونوا أجازة يوم الأحد.. تحب نتقابل إمتى وفين؟"
بادرتنى كلمة "عملاء" تلك بشئ من الفضول، ولكننى آثرت أن أؤجل سؤالى إلى الغد.. وفى الطريق تراءى لى رجال مختفية وجوههم الجادة خلف نظارات سوداء لامعة، يرتدون سترات غامقة، ويسيرون بخطوات حذِرة بإتجاهنا، وإذا بيد زعيمهم ـ أكثرهم غموضـًا ـ تمتد بحقيبة جلدية سوداء نحو سامى، فنظرت بجانبى، وأدركت أن سامى كان قد مضى...



#شريف_مليكة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث
- .زهور بلاستيك رواية.. الفصل الثاني
- زهور بلاستيك رواية


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل الرابع