أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل التاسع















المزيد.....

زهور بلاستيك رواية الفصل التاسع


شريف مليكة

الحوار المتمدن-العدد: 1980 - 2007 / 7 / 18 - 07:39
المحور: الادب والفن
    



الـثـمن

لكل شخص .. ولكل شئ فى الوجود.. تمن
ده بالتراب ينــباع.. وده ديـتــــه دَمَن
دبحوا الوله .. وبإيه نبيع لحم الولاد بُــــكره
لمَّا رحيق الحياه .. بغناه.. راح ينبـدِل عفن

أسابيع وشهور تمر متأنية، ويبقى حالنا فوق الجزيرة ساكنـًا.. جو الشتاء معتدل جدًا فى معظم الأيام، حيث تسطع الشمس مؤثرة بسماء زرقاء، لا يشاركها فيها إلا أسراب الطيور المهاجرة من الشمال قارس البرودة، أوسحابة وليدة هنا أو هناك ضلــَّت طريقها بين سرب السحاب المسافر للساحل الشرقى للولايات المتحدة.. وبدأت أراقب إنتفاخ بطن إيزابل وإزداد معه إلحاحى فى التعجيل بزواجنا، وإن إستمر إصرارها على الإنتظار، ولكنى لاحظت توانى صلابة رأيها بمرور الوقت.. وتسلل الربيع من بين شقوق البرودة المسائية فوق جزيرتنا، فأرسل بعبق زهوره نسائمًا تغلف ليالينا فى حضن الشرفات، وكنا ـ إيزابل وأنا ـ نتجاذب أطراف الحديث الهامس ذات أمسية، حين تساءلت ثانية:
ـ "هل كان الوقت قد حان لنتزوج بعد، وقبل أن تقتحم بطنك الحبلى صور الزفاف التذكارية؟" فضحكت إيزابل قائلة:
ـ "سبب مهم جدًا للزواج!.. لازلت تدهشنى بإستخفافك بجسامة تلك الخطوة.. أنت تعلم بأننى أحبك وأتمنى أن ينتسب طفلنا إلى أسرة وبيت يجمعنا.. ولكنى خائفة من الفشل ياسامى.. أنا.. وأنت يا سامى، لانزال ندفع ثمن فشل علاقات ذوينا"
فنظرتها محبًا وقد لمعت بشرتها الوردية تحت وميض شعاع القمر الفضى البازغ فى قلب السماء، وأضفت:
ـ "ما هو أكبر من الفشل يا حبيبتى، هو أن نخاف حتى من محاولة النجاح.. إن لم نتزوج ونسعى معًا لإنجاح زواجنا هذا بشجاعة، فكيف ترين مصير أسرتنا وطفلنا الذى يستعد الآن لمقابلة هذا العالم المتربص له بعد شهور قليلة؟ لو حاولنا فهناك إحتمال للفشل.. نعم.. ولكن لو لم نحاول مطلقــًا فلن يكون له أى بديل آخر"..
أحنت رأسها متأملة وسافرت للحظات إلى عالمها المتوارى..
ـ "أترى إذن أن هذا أفضل لنا؟"
ـ "بالطبع!.. ولكن حتى إن لم يكن كذلك، فعلينا نحن أن نصيره الأفضل" أضفتُ حاسمًا..
فرفعت عينيها الوامضتين نحوى وقد غلفتهما سحابة من الفرح الهادئ، وبإبتسامة حانية قالت:
ـ "فمتى إذن نتمم زواجنا؟"
ولم أدر إلا وبهجة القمر فى كبد السماء تلبسنى وأنا أعيد فى قلبى رجع كلماتها متفكرًا فيما ينبغى فعله فى الأيام القليلة المقبلة، لم أكن أعرف عن خطوات الزواج شيئــًا، فتحدثت بشأنه مع عامر الذى نصحنى بمفاتحة كاهن الكنيسة بما أننى كنت فى الأصل مسيحى الديانة..

فى صحن الكنيسة القبطية الوحيدة بالجزيرة خطوت ومعى إيزابل عن يسارى، ترفل فى فستان وردى يحف بسجادة حمراء، تفصل بين رتلين من الأرائك الخشبية الشاغرة فيما عدا صفيهما الأولين، المرصوصة على جانبى صحن الكنيسة الخاوية، إلا من الكاهن والشماس الذى ملأ المكان بترانيم عذبة وبرنين دفوفه الفضية المبهجة.. لم أعرف من بين الحضور سوى "سوزان وايت" رئيستى فى العمل وبالطبع عامر صديقى الوحيد، ثم تبينت بعدها أن الشماس لم يكن سوى "عماد حبيب" صديق عامر الذى ساعده عند بداية رحلته مع الجزيرة.. وفى أثناء مراسم الزواج، وتحت ستار من البخور والترانيم، تساءلت فى نفسى إن كان الكاهن أو الدكتور عماد حبيب يدركان بقصة الجزيرة والسفينة اليونانية.. تسابقت الذكريات صورًا متلاحقة فى خيالى بينما كانت سحابات البخور الدائرية تتصاعد تباعًا من المبخرة فى مقدمة ونهاية حركتها البندولية، تتأرجح بيد الكاهن وقد عقد جبينه وهو يقرأ بصعوبة واضحة بكلمات الصلوات بالإنجليزية، إكرامًا لإيزابل، من بين صفحات كتاب يحمله بيسراه.. ولمًا ألبسونا التيجان الذهبية وقرَّبوا ما بين رأسينا، لمحت دمعة تترقرق فى عيون إيزابل لم أدرك إن كانت بفعل البخور، أم مراسم الزواج التى أدت إلى إستعمال ذلك البخور.. وإلتقط عامر صورًا تذكارية لنا ولم تظهر بطن إيزابل منتفخة لمن لم يعرف بأمر حملها..

جاءنى الدكتور عماد بعدها مهنئــًا ومتسائلا عن سبب غيابى المستمر عن الكنيسة، فشرحت له عن حكاية زواج أمى من رجل مسلم، نشأت فى كنفه مما أدى إلى إبتعادى عن الكنيسة وقتها وحتى الآن، وإن كنت لا أزال أتذكر بعض بقايا حكايات و أدعية وأغانى كنت قد حفظتها فى مدارس الأحد بالكنيسة أيام طفولتى وقبل موت أبى.. طلب منى بإلحاح لطيف بأن أواظب على الحضور من أجل اللحاق بما فاتنى، وإن كنت حينذاك مقتنعًا بأنه لم يفتنى الكثير.. ولكننى وعدته بالحضور على أى حال، وخاصة بعد ما عاينت منه من إحتفائه بعامر مرحبًا، بل ومعتذرًا عن طول الإنقطاع والتواصل، بحجة الإنشغال، وقد لمحت نوع من النضج فى تصرفاته ربما كان مبشرًا بعلاقة أكثر سوية فى المستقبل، وخاصة بعد أن علمت منه بأنه تزوج وأنجب وبدأ يمارس عمله كطبيب..

إنتقلت إيزابل بعد زواجنا للعيش فى شقتى لحين نبتاع بيتــًا ننتقل إليه كما هو الحال مع معظم المتزوجين فى أمريكا.. ولم أشأ أنا أن ننتقل إلى شقتها البيضاء المنمقة، فتركتها إكرامًا لى.. وقلت زيارات عامر نوعًا إحترامًا لوجودها بالبيت، وإن كان مايزال يمضى معظم وقته خارج منزله، ولا أعرف كيف أو متى تأتى له أن ينجب طفلين حتى الآن، فما ليقضى وقتــًا يذكر فى بيته.. كان يشكو لى بين الحين والآخر من فتور علاقته بأمينة وكان يُرجع ذلك لتباعد رؤيتهما فى غالبية أمور الحياة، وأن هذا التباين كان يزداد تباعًا مع مرور الزمن.. ومع ذلك فقد كان عامر يعترف بأنه يكن لها كل ود كإنسانة بوجه عام، ولذا فلم يفكر قط فى أن يطلقها، ربما مراعاة لأبنائه أيضـًا.. ومن ناحيتها أيضـًا كما أعلمنى هو، كانت قد تأقلمت مع الوضع الجديد، فإنهمكت فى رعاية أطفالها وبيتها، مكتفية منه بتكفله بمصاريف المعيشة، وبزياراته الليلية التى قد تفوز فى خلال إحداها بمعاشرته، بين الحين والآخر.. وأما من جانبه فقد أبَى عامر منذ تلاقينا بالجزيرة، وحتى بعد زواجى من إيزابل، أن يدعو أمينة إلى أى لقاء قد يجمع بيننا، وفى حقيقة الأمر كنت قد أرجعت ذلك إلى ما كانت العلاقة عليها بيننا قبل زيجتهما، فلم أتجرأ وأبادر أنا بمفاتحته بشأنها على الإطلاق..

ومن ناحيته فقد إضطلع الشيخ غنيم بالجهر فى خطابه بالمسجد وخلال إجتماعاته الدينية، بالدعوة للجهاد لمناصرة الأمة الإسلامية فى معاركها ضد النصارى واليهود.. فى فلسطين وأفغانستان والشيشان أولا، ثم فى العراق منذ أن نشبت الحرب فى مارس 2003 ، وخاصة بعد سقوط بغداد وحكم نظام البعث السنى بها، الذى كان نقطة تحول .. إعتبره الشيخ إنكسارًا إسلاميًا أمام جيوش النصارى، بوازع من اليهود، فإزدادت حدة دعوته الدينية.. وكانت صرخته مدوية بين مريديه، ألهبها بدعوته للجهاد فى سبيل الله، متناسيًا أن سطوة البعث لم تكن إلا حكمًا ديكتاتوريًا باطشـًا، ظاهره مدنيًا و إن كان كنهه قبليًا عشائريًا، ولادخل له بأى حال بالدين.. وقد أثارت دعوة الشيخ أخانا عامر بشدة، وخاصة بعد إنفضاح أمر الجزيرة لدينا، فأدرك خطورة دعاوى الشيخ غنيم على بقية مريديه من المتعاطفين أوالسذج على السواء، وما كان يمكن أن يطولهم من مراقبة السلطات الأمنية لما يدور داخل المسجد ومن حوله.. وكان رد فعل عامر علنيا أيضـًا يكمن فى نصح أصدقائه من المسلمين، عند لقائهم بالمقهى، أو بأماكن تجمعاتهم الإجتماعية الأخرى، بمخالفة دعاوى الشيخ والإنصياع وراءها، ومفنــِّدًا لآراءه بأسباب منطقية تدفعهم للإقتناع بها، مما أدى لإستثارة غضب الشيخ غنيم..

وذات أمسية ربيعية لطيفة، دعانى عامر لقضاء بعض الوقت بقهوة النيل لأنه رغب فى تدخين النارجيلة، ربما لينفث من خلالها عن غضبه مما حدث فى اليوم السابق.. كان ذلك اليوم عطلة لجميع العاملين بسبب العيد القومى لذكرى ضحايا الحروب، وهو يمثل بدء موسم الصيف والإنطلاق بالجزيرة، فيجتمع فيه الأهل والأصدقاء تقليديًا فوق رمال شاطئ أو عند خضرة حديقة، يشربون ويلتفون عادة حول شواءٍ ما فى الهواء الطلق.. وبهذه المناسبة تلقينا دعوة من الدكتور عماد للذهاب إلى حديقة كبيرة مرفقة بشاطئ مشهور بالجزيرة، قيل لنا أن كاهن الكنيسة القبطية قد رتب بها إحتفالا للشواء وتمضية اليوم دعا إليه الجالية العربية كلها، إذ وجه دعوة للشيخ غنيم، ولكاهن الكنيسة المارونية، ليدعوا بدورهما جماعاتهم للمشاركة فى الإحتفال سويًا، بعد أن بدأت البلبلة تسرى، والشك فى مصير بقائهم بالجزيرة يجتاح إستقرارهم وشعورهم بالأمان.. هذا الذى أعقب تفشى سر الجزيرة بينهم، ولاسيما بعد عودة عمال الميناء العرب الثلاثة الذين كانوا قد تسللوا بكوة السفينة اليونانية، وعاينوا بأنفسهم واقع وجود الكيان الجغرافى الأمريكى الرابض كالمارد على الجانب الغربى، والمنعزل تمامًا عن جزيرتنا.. فعادوا لنا بتأكيدهم لزعم بحارتها، ذلك الذى كان قد زرع ببذرة الشك فى قلوبنا، فكانت شهاداتهم بعدها دليلا دامغـًا على صحة رواية البحارة الأولى..

وحدث أن ذهبنا جميعًا، ولكن لم يتأتى لعامر بأن يقنع أمينة بأن تصحبه، وعلم منها بأن الشيخ قد أفتى بعدم جواز إختلاطهم ببقية العرب المسيحيين بالجزيرة، وبالإحتفال معهم!.. وفعلا أطاعه بعضٌ من المتشددين، ومنهم أمينة، وإن حضر الدكتور خطـَّاب وعائلته، كما جاء نوح وبصحبته إمرأة شابة سمراء ضئيلة الحجم عرفت منه أنها زوجته "نور"، وطفلهما "على" الذى لم أذكر بأننى قد رأيت طفلا فى مثل جسارته.. طارد الكلاب المارة بالحديقة ولم يخشَ زمجرتها ، وتعقب الفراشات بين الأحراش ولم يبكِ من أشواكها، وهرع نحو مياه البحر ولم يأبه لأمواجه، ونور ونوح المساكين يتابعاه، ويلهجا خلفه، فينقذا حياته دائمًا فى آخر لحظة!! ولعبنا و ضحكنا وأكلنا، ولكن لم يشغل كل ذلك عامر عن فكرة واحدة تملكت منه، وهى فتوى الشيخ غنيم التى حالت بينه وبين عائلته لتمضية ذلك اليوم سويًا!!.. وفى طريق العودة قال:
ـ "الراجل ده مصمم يودينا ف داهيه!"

جلسنا نحتسى الشاى والقهوة وننفث بدخان النارجيلة فى الهواء، وظهر قمرٌ فى السماء قليلا ثم رحل، وترصعت السماء بلآلئها، وهبت نسمة ربيعية هامسة تحيينا فى مجلسنا بقهوة النيل، وتعاقبت الدقائق والساعات متراكمة، وجالسنا سعدالله قليلا ثم ذهب، وجاء بعده شاب لبنانى من معارف عامر، حدثنا قليلا عن الوحدة العربية، وعن حل مشكلة فلسطين ثم مضى.. وبقينا ندخن وبقى عامر ساهمًا، بالكاد يشاركنى الحديث، وحاولت أنا من جانبى أن أهون عليه مسألة الفتوى تلك، موضحًا مجئ الكثير من أفراد الجالية، مما يعنى ضعف سطوته فوق عقول الكثيرين، وخاصة هؤلاء اللذين ينشغلون بالعمل ولهم متطلبات حياتية تدفعهم لإيثار السلامة والتعايش مع باقى أفراد الجالية، بل وبقية أهل الجزيرة بصفة عامة.. قلت له أنها مسألة وقت حتى يعم ذلك السلوك لأنه ببساطة منطقى، وعقلانى ولذا فمصيره للتعميم.. ولكنى أعترف بأننى لم أفلح فى إنتزاعه من بين همومه..

بعدها بأيام تتابع رنين الهاتف بمنزلى منذرًا.. رنينه المعتاد، لا أدرى لمَ توجست من طلاته الباردة المتتالية فى تلك الليلة، وكانت إيزابل منشغلة بالإستعداد للنوم بالحمام الملحق بحجرة النوم فلم ترد.. رفعت السماعة فجاءنى صوت خشن متمهل عرَّف بنفسه بالضابط فلان، وسأل إن كنت أنا السيد سامى إبراهيم، وإن كنت صديقــًا للسيد عامر شندويلى، فأدركت أن فى الأمر إشكال وقع به عامر، فطلب مساعدتى، وأجبته بنعم.. طلب منى الضابط عمَّا لو إستطعت الحضور لمستشفى سان جوزيف، حيث وقع حادث لعامر وتم نقله للمستشفى.. وخلال دقائق كنت تركت المنزل طائرًا نحو المستشفى.. بطول الطريق لم أكف عن التساؤل عما ألم بعامر ثانية، وكيف يتأتى بأن تتجمع الظروف كلها ضده هكذا، هل هو سوء حظ أم سوء تدابير؟؟ فى حين أشهد أنا بأنه من أنبل من صادفت بطول حياتى..

* * *

سألت سامى إذا ما كان يرغب فى طلب أى شئ آخر، وكنا حتى الآن قد تجرعنا زجاجتين من الـ "هاينكان"، مع قليل من الفول السودانى، ولم أكن أعرف إذا ما كان قد أخذ عشاءه بعد.. وبالفعل وجدته يقول بأنه يتضور جوعًا، إذ لم بأكل منذ نحو الثانية بعد الظهر حين إلتهم بقطعة من فطائر البيتزا بسرعة بين لقائين أتمهما قبل مقابلتى.. إقترح هو أن نذهب سويًا لمطعم ما، حيث يرغب بأن يبتاعنى عشاءً إحتفالا بآخر أمسية نقضيها سويًا، وحتى نلتقى فى رحلته القادمة..

بطول الطريق جلس بجانبى فى السيارة ساكنــًا وكأنه يلملم بخيوط ذكرياته التى بعثرها أمامى هكذا خلال تلك الساعات التى مكثناها معـًا.. إحترمت صمته مشفقــًا عليه من تلك الرحلة المضنية التى خاضها يسترجع خلالها أدق تفاصيل حياته، ويلقى بها أمامى؛ شخص غريب عنه بلا شك، لم تربطه به سابق معرفة، وتعجبت من شجاعته على أى حال.. إتصلت سريعًا بأمى فطمأنتنى عن حال أبى، وإن كنت توقعت إجابتها، حيث لم تحاول الإتصال بى حتى الآن.. ولكنى آثرت أن أهاتفها على أى حال لأطمئن، ولأعلمها بأنى عازم أن أتأخر فى العودة..

وفى المطعم، إتخذ سامى مقعدًا مجاورًا للحائط المطلى بدهان أسود، والمزدان بلوحة لإمرأة تبدو هاربة وإن أدارت بعنقها لتتابع مجموعة من الرجال يلاحقونها.. وسرحت أتأمل فى الصورة بينما تداعبنى نغمات ثنائى على البيانو والكونترباص، يعزفان قطعة من موسيقى الجاز..

إستحضرنى النادل بصوته الحاد يستفسر عن طلبى، وبينما نحن ننتظر، إستعاد سامى سرده من حيث توقف ـ كالعادة ـ بين رشفات من نبيذ بوردو أحمر فرنسى..

* * *

وجدت عامر جسدًا مسجى لاحراك به، مطروحًا فوق سرير بالعناية المركزة، وقد إمتدت خراطيم وأنابيب من كل منطقة تكشفت لى تربطه بأجهزة وزجاجات كبيرة وصغيرة معلقة من حوله وكأن رؤوسها شهود تتطلع إليه فى لهفة، وتنظر راجية أن تحظى محاولاتها المستميتة لإنقاذه بالنجاح.. فى حين تقمط رأسه شاش أبيض يكسوه وقد بدت عيناه السابلة محاطتين بزرقة متورمة شوهت ملامح وجهه المألوفة.. ناديته فلم يستجب لى ، فمددت يدى أهزه برفق حتى يستيقظ إذ حسبته نائمًا، فمنعتنى يد ممرضة جادة الملامح، متوسطة العمر، قوية البنية، أمسكت بذراعى برفق ودعتنى لمغادرة الغرفة موضحة بأنه لايزال تحت تأثير مخدر قوى بعد الإنتهاء من العملية الجراحية التى خاضها بنجاح.. وضحَت لى بأن السبب فى إستدعائى للمستشفى، كان إستجابة لطلب من ضابط التحقيقات الذى إضطلع بالحادث، والذى يرغب فى طرح بعض الأسئلة، حيث ينتظرنى بالغرفة المجاورة..

كان جالسًا بجوار منضدة صغيرة، فى غرفة الإنتظار.. رجل ضخم مفتول العضلات فى زى البوليس الرسمى، وإن بدا مكرمشـًا من طول الإنتظار.. عملاق أبيض، أحمر البشرة، أزرق العينين، ضخم الملامح، حليق الشعر، غليظ الرقبة، كمصارع رومانى خرج لتوه من مشهد سينمائى لفيلم تاريخى.. وعندما لمحنى داخلا، إعتدل فى مجلسه، فإنتفخت عضلات صدره، وأمسك بساعدة وكأنه يحكم وضع السوار الجلدى ذو البروزات المعدنية حول معصمه، وفتح فاه وهم بأن يصرخ فى وجهى لإرهابى إستعدادًا لمنازلتى.. وفى الواقع، كان يعبث بساعة يده حول معصمه، وقد بدت عليه مظاهر التعب فإحمرت عيناه الزرقاوان، وتثاءب معتذرًا، وكأننى بحضورى كنت قد أيقظته من غفوة كان قد لاذ بها.. نهض لتحيتى ثم خاطبنى بلهجة رقيقة لا تتناسب مع هيئته قائلا:
ـ "هالو مستر إبراهيم.. شكرًا لمجيئك فى مثل هذه الساعة المتأخرة.. فى الحقيقة لم نجد فى جيوب السيد (جون دو) أى أوراق تعلمنا عن شخصيته، حين عثر عليه أحد المارة ملقى على جانب الطريق بمنطقة غير مأهولة، سوى هذه الورقة" ..
ووضع بين يدىَّ ورقة مطوية مكتوب بها إسمى وتليفونى بالإنجليزية، وكانت ذات الورقة التى كنت قد تركتها لأمينة يوم زرت منزله مع إيزابل لأول مرة..
ـ "ومن هو (جون دو) هذا؟ "
ـ "أوه! أنا آسف يا سيد سامى، هذا إسم لأى شخص نعثر عليه بدون إثبات شخصية قى مكان عام، ولا تؤهله حالته الذهنية للإفادة عن هويته.. لقد كان من حسن حظ صديقك أن تعرَّف عليه شخص من جاليتكم بينما كان ملقى بالطريق ، فترك إسمه للبوليس ولكنه للأسف إختفى خلال الدقائق القليلة التى إستغرقتنى لأصل لمكان الحادث، ومع ذلك فقد أنقذ هذا الشخص المجهول حياته، لأنه كان حتمًا سينزف حتى الموت لو لم تنقله عربة الإسعاف للمستشفى فى الحال.. ولكن السؤال هو ماذا حدث له؟ لقد وجدنا آثارا لضربات دماغية وعلى الظهر والبطن، مع كسر فى الجمجمة، والذراع الأيسر، بالإضافة لتهتك بالطحال و.."
ـ "كل ذلك!.. يالها من مصيبة.. فعلوها أولاد الـ.."
ـ "هل تتهم أحدًا، ياسيد سامى؟"
ـ "لست أدرى.."
ـ "هل كنت تعلم بأن له أعداء أو أشخاص لهم مصلحة مثلا فى أن يتخلصوا منه، أو يؤذوه؟"
ـ "ألا يمكن أن يكون حادث طريق عادى؟" قاطعته أنا، لأتجنب الإجابة عن سؤاله..

ماذا أقول له؟ أنا لا أملك دليلا واحدًا يؤكد شكوكى، وإن كانت صورة الشيخ غنيم ورجاله تتراقص أمام عينى. فهو الوحيد الذى أعرف ببغضائه لعامر، وقد إنفعل يومًا إلى حد صفعه على الملأ ذات يوم.. نعم، ولكن مجرد طرح إسمه هكذا بدون إثباتات مؤكِدة لظنونى، ربما تفتح أبواب الجحيم علىَّ بلا داع..

إنتهى التحقيق معى.. وفى جلستى بجواره غفوت..

وفى غفوتى تراءى لى عامر كمثل مارد عظيم يخطو بتأن بطول حاجز مرتفع جدًا وإن كان ضيقــًا بعرض قدمه، وكأنه سور قائم فى وسط حقل واسع، وأما هو فلم تفلح ثيابه بأن تغطى جسمه فتبدا لى عاريًا تمامًا، حتى من نظارته السميكة، وتلوِّن جسده المتورم بالكدمات، وقد مد بحذر بذراعيه لأعلى عند جانبيه، لتساعداه على الإحتفاظ بتوازنه لئلا يسقط..



#شريف_مليكة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زهور بلاستيك رواية الفصل الثامن
- زهور بلاستيك رواية الفصل السابع
- زهور بلاستيك رواية الفصل السادس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الخامس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الرابع
- زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث
- .زهور بلاستيك رواية.. الفصل الثاني
- زهور بلاستيك رواية


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل التاسع