أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل الثامن















المزيد.....

زهور بلاستيك رواية الفصل الثامن


شريف مليكة

الحوار المتمدن-العدد: 1938 - 2007 / 6 / 6 - 10:36
المحور: الادب والفن
    



السفينة تغرق!

سفينه بين البحور عايمه على شوقها
لما البحور بتفور يصبح واطيها فوقها
ويوم دراع الموت فوق العباد بيسود
ويوم دراع الحياه فوق المياه يسوقها

وجدت أبى نائمًا، وإن كان قد أفاق لمَّا شعر بوجودى وإبتسم لى بحنان.. طلبت من أمى أن تمضى للبيت لتستريح، وبقيت بجواره حتى الساعات الأولى من الصباح.. سألت عن حاله فرد بنظراته وحركات رأسه يعنى لن تفرق الآن.. وكانت قد بدت على وجهه حيوية غريبة فطلب منى بإيماءة أن أساعده على الجلوس، فتحامل على ساعدى بينما وضعت وسادة خلف ظهره.. سألنى بكلمات مضغومة:
ـ "إيه .. أخبارك.. إنت؟".. ووجدتنى أقص عليه تفاصيل حكايتى مع الجزيرة ، وسامى ، وكان يصغى بإهتمام.. وفى النهاية سألته إن كان يتمنى ـ مثلى ـ أن يزور تلك الجزيرة ويعاين تلك الحياة بنفسه، فأجاب بصعوبة رافعًا بذقنه للأمام، وفاردًا لأصابع يده المضمومة المقلوبة فوق صدره أمامى قائلا: "مش ح تفرق.." وسرحت أنا لوهلة متفكرًا، ولما عدت إليه كان قد غلبه النعاس ثانية، فأحكمت الغطاء فوق صدره وإنصرفت..

فى مساء اليوم التالى إلتقينا عند ذات البار الذى تلاقينا به يوم قابلت سامى لأول مرة فى بهو فندق الوالدروف بنيويورك.. وكانت نحو السابعة والنصف حين حضر سامى معتذرًا لتأخيره بأنه كان عرج لشراء بعض الهدايا لإيزابل و عامر وأمينة، حيث أنه كان قد أتم رحلته بتوقيع عقد المشروع التجارى فى ذلك اليوم ، وأنه قد عزم على السفر فى صبيحة الغد.. شعرت وقتها بتهديد الزمن الماضى دون تمهل أو إلتفاتة، شئت أنا أم لا.. خفت أن يذهب سامى بدون أن أعرف إجابات عن أسئلة كثيرة لا تزال معلقة فى ذهنى.. فسارعت بسؤاله:
ـ "قول لى فى الأول، إنت بتسافر إزاى من هنا للجزيرة؟ يعنى مش معقول يكون فيه شركة طيران بتروح لمكان المفروض إنه يكون سرِّى.." داهمته بأول تساؤلاتى التى أخرجتها تباعًا من جعبتى..
ـ "مظبوط.. مافيش وسيلة للسفر إلا عن طريق شركة تشارتر ـ رحلات يعنى ـ خاصة هنا فى نيويورك، إسمها "تشارتر تورز" ناحية "بروكلين باترى تانل" جنب الـ"وول ستريت" فى منطقة مطار الهليكوبتر، فى العادة بتقوم برحلات سياحية حوالين مانهاتن، ولكنهم متعاقدين معاها لنقل الركاب القليلين المسموح لهم بالسفر، بتصاريح خاصة من الجهة الأمنية المسئولة عن الجزيرة.." أجاب بتلقائية جعلتنى واثق من مصداقيته.. فعالجته بسؤال ثان:
ـ "ومنين يتجيب التصريح ده.. وإشمعنا إنت بالذات؟ يعنى مثلا لو أنا عايز أروح .. ممكن؟" وتعجبت من نفسى لغرابة ذلك الطرح. فهل وصل فضولى إلى ذلك الحد فعلا؟ ويبدو أنه بوغت أيضا بتساؤلى هذا..
ـ "لأ طبعًا .. إلا إذا.. خللينى أحاول لمَّا أرجع أجيب لك الإذن.. ماهو أصل الست المسئولة هناك صاحبة إيزابل، وصاحبتى أنا كمان، وممكن أقنعها يعنى.. بس إنت بجد عايز تيجى؟" أجاب وعلى شفتيه مشروع إبتسامة لم أتبين كنهها..
ـ "طبعًا.." أجبت سريعًا وإن كنت فى داخلى غير مقتنع بصدق إجابتى وقتها، ولكنى قلتها مادًا لأواصر المحاولة فإن لم تفلح، كان بها، ولى شرف السعىِّ، ولكن إذا ما أفلحت، أقرر ساعتها إن كنت فعلا جادًا فى خوض غمار تلك التجربة إلى المنتهى.. وأضفت عندها:
ـ "ولكنك ما قلتش ليه سمحوا لك إنت بالذات تسافر وتروح وتيجى؟".. ساد صمت للحظات، سرح فيها سامى مسترجعًا لذكرياته، ومقلبًا بصفحات مذكراته وكأنه يقلب بأوراق حياته بين يديه، ثم ألقى بظهره للخلف معتدلا فوق كرسيه، وتاهت نظراته ساهمة نحو فراغ ما، يعلو رأسى بقليل، وكعادته أشعل سيجارة ثم بدأ يحكى ثانية..

* * *

وصلت عند إيزابل ليلتها وكنت فعلا منهكـًا من فعل الأحداث المرهقة التى عاينتها فى الجامع، ثم رحلاتى المرتجلة التى قطعتها مع عامر طيلة اليوم، ثم إلى بيت إيزابل، فى ذلك الجو العاصف.. ولمـَّا دخلت إستقبلتنى هى بحضن دافئ وقبلة سريعة، وخلعت عنى معطفى البارد وسألتنى إن كنت أرغب فى قليل من الكونياك لأدفأ، فأومأت وأنا أفرك يداى مستجلبًا للدفـء لحين تأتينى بالكأس.. لاحظت أنها أعدت مشروبًا واحدًا، فجلستُ وإبتلعتُ أول رشفة وسألتها إن كانت ستشاركنى الشراب، فإبتسمت وهزت رأسها بلا.. كانت الفرحة بادية على وجهها النضر، مما أكسبه إشراقة لا تخفى عن عيناى. إعتقدت أول الأمر أنها كانت سعيدة بعودتى سالمًا من رحلة المسجد، أو أنها فرحت لإستجابتى لطلبها فى المجئ بالرغم من تعبى ومن برودة الجو..

وبقيت إيزابل صامتة بجانبى تراقبنى وأنا أرتشف من كأسى وعلى وجهها إرتسمت إمارات البهجة، وكما هى عادتى إنتظرت أنا حتى تأخذ بالمبادرة وتتكلم. لم تكد تمضى لحظات حتى مالت نحوى بجزعها وطبعت قبلة فوق خدى ثم قالت:
ـ "اليوم أنا أسعد إمرأة فوق سطح الأرض! لو تعرف يا سامى ما أعرفه ستعذرنى.." وعادت ثانية إلى صمتها المبتسم، الذى قطعته أنا هذه المرَّة بسؤالى:
ـ "أرى السعادة تقفز من عيونك البنفسجية المشعة، أفصحى عمّا تخبئين".. تطلعت إلىّ حالمة وغابت للحظات فى خضم أفكارها المتلاحقة، ثم حلت إمارات حزن بــدِّدت علامات البهجة فوق وجهها، وتنهدت وقالت هامسة وكأنها تخاطب نفسها:
ـ "هل من الممكن؟.. هل يعقل؟.. ماذا فعلت بى يا أنكل توم؟ ملعون أنت فى هذه الحياة، وإلى يوم أن تحترق بنيران أبدية! أيمكن أن أتخيل يومًا أن أضاجع أنا ذلك الوليد؟".. وأشارت بعفوية إلى بطنها، وقد تسللت دمعة تنساب فوق خدها.. فإعتدلتُ نحوها ثانيًا بساقى فوق الأريكة متسائلا:
ـ "عما تتحدثين؟.. أفصحى يا إيزابل، فقد بدأت أتوجس.. هل أصابك شئ؟ وما معنى هذا الحزن الذى غلب السعادة التى كنت ترفلين بها منذ لحظات؟".. مدت يدها ومسحت عنها دمعتها من فوق صفحة بشرتها وكأنها أزالت غمة كانت قد إعترتها، فعادت البسمة تعلو وجهها، فقبـَّلت باطن يدى وقالت:
ـ "يا حبيبى سامى.. أنت أول من أصارحه بذلك الخبر الذى زلزل كيانى منذ أيام... أنا.. حامل.. أجل حامل وفى غضون شهور سأصير أمًا، ونصبح معًا أسرة جديدة تواجه هذا العالم الشرير بالخير والحب والأمل".. فلم أجدنى إلا وقد إنتفضت واقفـًا لا أدرى موضع ذلك الخبر من نفسى.. لم أستطع أن أحدد ما إن كنت سعيدًا أم لا فى تلك اللحظة بالذات، وتساءلت لو كنت أنا أب ذلك الجنين، وإن كانت تعنينى بـ"الأسرة الجديدة".. ولم أدر ماذا أقول إلا إنى أسرعت بالرد:
ـ "تلك مفاجأة مذهلة!"
ـ "حقـًا؟"
ـ "بالطبع.. ولكن هل تأكدتِ فعلا؟"
ـ "طبعًا ياحبيبى.. ستصبح أبًا يا سامى!".. فوقعت ثانية فوق الأريكة متجمد الملامح، وتطلعت نحو سقف الحجرة ملتمسًا كلمات تهبط على لسانى من أعلى.. ولكنها أبدًا لم تأت لنجدتى.. فإلتفتُ ناحيتها فإذا وجهها المشع بالسعادة يبث بالطمأنينة فى روحى، فشرعت فى إبتسامة، ومددت ذراعى أضمها إلىّ، وطبعت قبلة فوق جبهتها، ووجدتنى أقول:
ـ "إذن فيجب أن نتزوج فى الحال!".. ولكنها إنسحبت برفق من عناقى، ونظرت إلى وأطلقت بنبرة ضاحكة، ثم قالت:
ـ "لا يا حبيبى.. الحب شئ أما الزواج فشئ آخر.. مشروع طويل ومعقد، وغالبًا ما يكون مصيره الفشل لو لم ندرسه جيدًا.. أنا ضحية لفشل العلاقة بين رجل وإمرأة.. وكذلك كنت أنت.. يجب أن نحتفل بفرحتنا بحلول طفلنا فى أحشائى .. نعم .. ولكن الزواج .. ذلك أمر يجب علينا أن نبحثه بتروى سويًا قبل أن نشرع فيه".. ووجدتنى أغوص راجعًا للمنيا والشرف.. والعار.. وستر الفضيحة قبل أن يحل الموت فوق رؤوس الضحايا.. ولم أنبس بكلمة..

إندهشت حين رأيتنى، ومع مرور الأيام أزداد تعلقًا بفكرة الزواج هذه، بل وبغرابة أشد، بإيزابل نفسها التى سمحت لها ولأول مرة بأن تنفذ نحو أعماق القلب وتصبح فجأة حبى الأول الذى طالما إشتقت أن أعرفه.. لم أدر لماذا صار هذا التحول بعد أن كنت قد نجحت فى إبعادها لزمن عن دائرة العاطفة، ولكنها ريح الأبوة قد عصفت رافعة بى إلى مستوى أعلى من الإنسانية فيما أعتقد.. عرفت وقتها أن علاقتنا ستنمو مع الأيام، على عكس ما كنت أتحسب لها، وأننا سوف نخوض سويًا فى دروب الحياة الضبابية، وأننا حتما سنجتازها معًا..

بعد نحو أسبوع جاءنى عامر إلى المنزل بلا سابق ميعاد، وكنت أعد عشائى، فإذا بالباب يطرق بعصبية.. وإندفع عامر للداخل شارد الذهن قلقــًا، فسألته عما به لمَّا لاحظتُ توتره ، فخلع معطفه المبتل وسارعنى بسؤاله وهو يهم بالجلوس:
ـ "عرفت إللى حصل النهارده؟".. وكنت منشغلا بطهى الطعام فلم أرد للحظات، فما كان منه إلا وقام من جلسته وأدركنى فى المطبخ متسائلا:
ـ "يا بنى آدم باقول لك سمعت عن إللى حصل النهارده؟ باقول إيه مافيش عندك قزازة بيره ساقعه؟".. فأشرت إلى البراد ومازلت منهمكًا فى إعداد الطعام.. وقلت:
ـ "إيه بقى إللى حصل؟ وجعت لى دماغى.." وأشرت إلى زجاجة البيرة "إفتح لى واحده معاك".. فتجرع هو نصف زجاجته واقفـًا أمام البراد، ثم عاد إلى مقعده ثانية وإتخذ مجلسه وقال:
ـ "شئ عجيب يا سامى.. حاجه ما تخشش الدماغ.. أنا فعلا مش فاهم حاجة" ورفع زجاجة البيرة فأجهز عليها.. إلتفت بدورى إليه متعجبًا من كلامه الغريب وتساءلت:
ـ "إيه يابنى مالك؟" ..

قام عامر وأتى لنفسه بزجاجة ثانية، وبدأ يروى لى عن الضجة التى إجتاحت الميناء ـ حيث مقر عمله ـ ذلك الصباح لما رأى من زجاج النافذة باخرة متوسطة الحجم تقترب متراقصة ببطئ للميناء، وكأنها تعلم بما تحمله من مفاجأة ستقلب حالنا رأسًا على عقب.. كانت تتهادى تجرها إليها قاطرة مائية تعمل خصيصًا لسحب السفن للميناء فى حالات العطب، وحتى هنا لم يكن المشهد يختلف عن العشرات من أمثاله بحكم تواجد شركته بالميناء. ولكن حدث بعدها أن سرت إشاعة من حوله بأن السفينة التى كانت قد عرجت إلى الميناء بفعل تحطم جزء من جانبها عند إرتطامها بالصخور المحيطة بالجانب الشمالى من الجزيرة، بسبب العاصفة الشديدة التى إجتاحتنا فى الليلة الماضية، كان على متنها بحارة يونانيون حطوا بالميناء بعد نجاتهم من مصير مخيف، إنشغلوا بمجابهته طوال الليل حتى جاءتهم قاطرة الإنقاذ، وإذا بهم يتفرقون فى أنحاء الميناء يحملون معهم بأخبار الجانب الآخر من المحيط. ولما إنتشر هؤلاء البحارة بالمطاعم والحانات المحيطة بالميناء، بدأوا يتحدثون إلى عمال الميناء وبقية الأهالى الموجودين فى ذلك الوقت عن العالم من حولنا وعن الجزيرة، فتسرسبت الكلمات ما بين الأفواه والآذان، حتى وصلت فى صورة علامة إستفهام كبيرة عندما حطت بعامر..

قال أنه لم يستطع إحتواء فضوله، فتذرع بأى سبب للخروج لساعة حتى يتقابل مع أحدهم، وفعلا تلاقى مع رجل خمسينى ذى لحية صغيرة بيضاء إسمه "كابتن قسطنطين" وكان يجلس بمفرده بمنضدة مقابلة للواجهة الزجاجية بالحانة المطلة على مبنى شركة عامر، فكانت بالطبع أول مكان يقصده عند خروجه.. كان يدخن سيجارة ويحتسى كوبًا من البيرة، فقصده عامر على الفور ساحبًا بالمقعد المقابل وقائلا ببضع كلمات يونانية، كان قد تلقنها من إبن صاحب محل للخمور بالمنيل بقيت قائمة من بين أطلال أيام العزوبية، وبإبتسامة عريضة تملأ وجهه:
ـ "كاليميرا.. ياسو.. إليناس؟" (بمعنى صباح الخير، إنت يونانى؟)
ـ "نى" (نعم)
ـ "ميلاتى أنجليكا؟" (أتتحدث بالإنجليزية)
ـ "نعم" .. قالها بإبتسامة مرحبة.. فتشجع عامر معرفـًا بنفسه ومتعللا برغبته بالمساعدة لمًا علم بحادثة السفينة من خلال عمله بمنطقة الميناء..
ـ "هل لى أن أدعوك إلى مشروب؟" سأله كابتن قسطنطين متبسمًا.. فأجابه عامر على الفور وقد إقترب بكرسيه أكثر نحو المائدة:
ـ "عيب يا كابتن قسطنطين.. هذا واجبى فأنت ضيفنا، بل دعنى أتكفل بطلباتنا اليوم.. ممكن؟"

علم عامر من خلال حديثه إلى كابتن قسطنطين بأنه كان يعمل مساعدًا للربان وبأنه المسئول الملاحى بالسفينة.. وعرف منه تعجبه بأن جزيرتنا لم تكن مرصودة على خرائطه الملاحية التى حفظها لطول خبرته بالعمل الملاحى، وبأنه لم يعد يعرف أين عرجت بهم الأمواج فى ذلك اليوم. إلا أنه ، وبالرغم من حيرته ، قد إستكان إلى جهله بهذه الجزيرة المأهولة التى لو لم توجد لصاروا فى عداد الأموات.. كان يدخن بشراهة ويعب من البيرة وكأنها الماء..

وظل يشرب لساعتين وهو يحكى لعامر عن حياته وعن إبنه الذى سافر للحرب فى أفغانستان ثم عاد وقد فقد عينه اليسرى من أثر شظية صغيرة، لم تكن بخطيرة لولا طول المدة التى إنقضت قبل أن يخضع للعلاج المناسب.. وعن زوجته التى ضبطها تضاجع جارهم عند عودته من إحدى أسفاره الممتدة، وعن عفوه عنها بعد توسلها إليه من أجل خاطر الأبناء.. وعن الصراع مع الأمواج فى تلك الليلة العاصفة، الذى ذكره بفقدانه لإبنه الأكبر الذى كان بحارًا أيضـًا ومات غرقـًا على متن إحدى السفن التجارية، والذى إحتسب بأنه كان حتمًا فى طريقه إلى أن يلاقيه عند غرق السفينة ليلة الأمس..

توقف قص عامر ربما ليلتقت أنفاسه، وأنا أتابعه بشغف لمعرفة تفاصيل تلك الأحداث.. إذن فنحن نعيش فوق جزيرة مجهولة الأثر لا يعرف بوجودها ولا حتى كابتن قسطنطين نفسه.. فأين نحن إذن؟ هل يُعقل أن إحدى مدن أمريكا، حتى ولو كانت جزيرة صغيرة، تبقى مجهولة المعالم، حتى أن ملاح محترف لم يجد لها أثرًا فوق خرائطه المعقدة؟ وإجتاحتنى عاصفة من الشك فسألته:
ـ "وإيه رأيك إنت يا عامر؟ يا نهار إسود، إحنا فين؟ وبقالنا سنين مهاجرين لأنهى خرابة؟ يعنى عايشين فى أمريكا ولا فين؟ ما ترد علىّ يا عامر.. " فرد هو منفعلا:
ـ "أمال أنا جايلك ليه؟ ما أنا كمان زيك تمام مش فاهم حاجه أبدًا.. يعنى إذا كنا إحنا مضحوك علينا، طيب والأمريكان إللى حوالينا دول كلهم؟ وإيزابل.. برضه مخدوعه زينا؟؟ أكيد كابتن قسطنطين ده راجل حمار! أو يمكن الخمره لحست عقله.. ماهو لازم يكون فيه تفسير!".. لابد أن هناك تفسيرًا لما يحدث، ولكن وجدتنى عاجزًا عن إستنتاجه فقد تملكنى شعور بالإغتراب يبدو أنه قد شل تفكيرى كلية.. ووجدتنى أجوب بخواطرى أجتر للحظات صور لأمى الحتضرة فوق فراش المرض، والحاج شرقاوى، ويوم سفرى ووصولى للجزيرة على متن الطائرة المروحية، ولقائى بإيزابل، وحتى لقاء الجامع بالشيخ غنيم وأتباعه.. مناظر تتلاحق بلا هوادة، ولم أعد أفهم أى شئ، فتطلعت إلى عامر آملا بأن ينتشلنى بكلمة من وسط تلك الدوامة التى تسحبنى بإصرار نحو القاع.. وفعلا ألقى هو إلىَّ بطوق النجاة قائلا:
ـ "لازم تتصل فورًا بإيزبل، أكيد عندها الإجابة.."

فوجئـَت إيزابل بتساؤلاتى ولكنها لم تبد ترحيبًا لطرح أجوبة بخصوصها.. فما كان منـَّا، عامر وأنا، إلا وذهبنا لملاقاتها فى منزلها.. كانت هى الأمل الوحيد الباقى لنهرب من قبضة الحيرة والجنون.. وبطول الطريق تراءت لى الأشجار المغروسة على جانبى الطريق وهى تتمايل فى صمت وتعاجُب، بفعل بقايا رياح العاصفة التى أتت وولت، وكأنها تسخر من جهلنا بالحقيقة التى شهدت تراكمات أحداثها الواحدة تلو الأخرى.. وإلتزمنا معًا بالصمت ربما خوفـًا من أن تتمخض تساؤلاتنا عن إجابة كنا نخشى مجابهتها، على الأقل دون التأكد من مصدر صحتها، فآثرنا بإتفاق غير معلن أن ننتظر حتى نلتقى بإيزابل.. وكنت غير متأكد من جانبى بأنها تمتلك كل زمام الحقائق ـ ربما للتحايل على شعور بالمرارة إذاء نجاحها فى أن تخفيها عنى ـ ولكننا مضينا نسعى لمعرفة الحقيقة التى كانت موشكة بأن تلطم بجنبات حياتنا عل أى حال..

بدت إيزابل وكأنها فوجئت بقدومنا هكذا سريعًا، وبسبب إلحاحى عليها، وبعد جهد أفضت إلينا بكل أسرار الجزيرة.. حكت لنا عن تجنيدها للعمل بالجزيرة ، وعن مراقبتها لتصرفات الشرق أوسطيين من حولها، وعن تقارير أسبوعية كانت تحررها وترسلها إلكترونيًا إلى عنوان معين عبر الإنترنت.. وبدا لى أن عامر كان أكثر تأثرًا بكلماتها منى، فكان يهز رأسه معقبًا على كلامها وكأنه يستعيد مع تعليقاتها تساؤلات كانت دومًا تؤرقه، ولم يكن ليجد لها إجابات على مدار الأيام..

ولكن وبوجه عام، كان وقع الحقيقة علينا بعدها متأججًا، وإن أبقيناه بسبب توسلات إيزابل سرًا فيما بيننا.. وكما توقعتُ كانت ردة فعل عامر بعدها أشد منى، ولكنه إلتزم بتمالك نفسه بين الناس، وإن أفضى إلى فى جلساتنا الخاصة بإضطرابه الشديد تجاه ما حدث، حتى أنه فاتحنى يوما بعزمه مقاضاة الحكومة الأمريكية بشأن ذلك العذاب النفسى الذى يعانى منه، عندما تستقر بنا الأوضاع من جديد.. ولكن بينت لى الأيام التالية بأن المستور كان قد بدأ يستعلن، وإن لم يجاهر به أحد فى العلن.. وإنما تبدى لى بأن الكل يعلم به، وبالرغم من ذلك بقى الأمر مطويًا تحت كنف السرية والممنوع من التداول، الذى ربما يتناقله الأصدقاء هامسين فيما بينهم، وإن لم يجهروا به صراحة خلال سهراتهم بقهوة النيل مثلا أو فى تجمعاتهم بالمسجد أو بالكنيسة..



#شريف_مليكة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زهور بلاستيك رواية الفصل السابع
- زهور بلاستيك رواية الفصل السادس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الخامس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الرابع
- زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث
- .زهور بلاستيك رواية.. الفصل الثاني
- زهور بلاستيك رواية


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل الثامن