أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل السابع















المزيد.....


زهور بلاستيك رواية الفصل السابع


شريف مليكة

الحوار المتمدن-العدد: 1915 - 2007 / 5 / 14 - 05:56
المحور: الادب والفن
    



أحمد محمد غنيم

فيه ياجدع تعبان بيلف ويحاور
ويدورعلى الغلبان.. ويحوم وبيناور
لما يبان يندفن ف جب ماله أرار
لازمه "رفاعيه" تلبد له وتـــجاور!!

أعادنا رنين التليفون إلى المطعم، والعشاء فى قلب مانهاتن.. وبدا سامى إبراهيم مستغرقـًا فى عالمه، حتى شككت فيما لو كان ميَّز ما كان يأكله.. "آلو .. مين؟.. ليه بس كده؟ طيب أنا حاكون عنده بعد حوالى ساعة".. كان أبى قد إنتابته حمى بعد الظهر، وقد بدا غائبًا عن الوعى لممرضة النوباتجية الليلية، فهاتفت أمى لتعلمها بأنهم سوف ينقلوه إلى مستشفى فورًا، فما كان منها إلا أن إتصلت بى بدورها.. إعتذرت لسامى عن إكمالى للأمسية معه، وتساءلت عن مواعيده فى الغد، فأجاب بأنه مشغول طوال اليوم فى لقاءات ومقابلات مع العملاء حتى السابعة تقريبًا.. فسألته على الفور:
ـ "عملاء إيه؟" فبوغت لسرعة السؤال وحدته، ولكنه أجاب بدون تخابث:
ـ "باحاول أبدأ بيزنيس كده.. إستيراد ورد، يعنى زهور بلاستيك، صناعية يعنى، للجزيرة عندنا.. ده طلع إنه مشروع كبير وعايز إجراءات ورأس مال وعقود لإحتكار السلعة ع الجزيرة، علشان مايجيش واحد تانى ينافسنى بنفس المنتـَج.. يعنى حكاية طويلة كده، نكملها لمّا نتقابل بكره.. إيه رأيك؟"..

وجدت أبى نائمًا فى غرفته بالمستشفى، تقاطيع وجهة هادئة، مستسلمة، وقد إنغرست إبرة بساعده الأيمن، وإمتد من خلالها وريده بأنبوب طويل إلى وعاء معلق فوق سريره، يستمد من خلاله إكسير الحياة؛ محلول الملح والمضاد الحيوى.. جلست أمى بجانبه وقد إحتضنت يده برفق بين كفيها، ومالت برأسها قليلا نحوه، وإنفطرت من عينها دمعة تنساب متأنية فوق وجنتها الذابلة، وقد أسبلت جفونها فلم تبصرنى عندمَّا دخلت، ولكنها شعرت بمقدمى ففتحت عينيها ولاقتنى بشبه إبتسامة.. سألتُ عن حاله فأجابتنى بأنه فتح عينيه مرتين منذ جاءت، وبدا لها أنه عرفها لأنه إبتسم، أو هكذا تهيأ لها أنه فعل.. خرجت إلى الممر بين الغرف وإتصلت بزوجتى، ثم بمديرة مكتبى، لأننى إعتزمت البقاء ليومين أخريين فى نيويورك.. وعدت للغرفة ولم يكن المنظر قد تغير البتة..

وسهرنا حتى الصباح بجانبه، ومع إشراقة أول شعاع، جاء الفرج بإطلالته المرحة من بين غياهب الحمى والإنكسار.. وجاءت إبتساماته تبشر بيوم جديد..

لمّا تلاقينا ثانية فى ذلك المساء، وجدت نفسى أسأل سامى عن الزهور البلاستيك، وِلماذا إختارها هى بالذات سلعة لتجارته، فما كان منه إلا وضحك، ضحكتين متعاقبتين، ولم يزد حرفـًا بعدهما عن ذلك الموضوع وإسترسل فى حكاياته مرجئـًا إجابته ـ كما إعتقدت ـ إلى حين..
* * *

بعد أيام قليلة بدأت متاعب عامر مع أهل الجامع وعلى رأسهم إمامه "الشيخ أحمد محمد غنيم" تطفو للسطح، أولا فى صورة هيـِّنة، متباسطة، وإلى نوع ما مستحية، وإن كان يشكو لى من مضايقاتها إياه.. ثم إلى مواجهات منفعلة، ضارية، كنت شاهدًا على معظمها فيما بعد.. كانت مشاهد الإحتفال والمباركة التى عاينها يوم العدوان على مركز التجارة العالمى بالذات قد تركت فى نفسه أعمق الأثر.. شعر بعدها بالخديعة التى منى بها من قِبل أناس من حوله، كان يقدرهم كالأهل بل وأكثر، إذ كانوا محوَرًا لحياته كلها، وخصوصًا "الشيخ غنيم" ـ كما كان يدعوه المقربين منه..

والشيخ غنيم ليس بشيخٍ إذ أن عمره كان لا يتعدى الأربعين يوم رأيته، وكان رجلا قصيرًا قوى البنية، أسمر الوجه أجرودى الذقن، وإن ترك شعيراتها المتناثرة تنطلق هنا وهناك، يرتدى دائمًا جلبابًا رماديًا يقف عند الركبتين فوق سروال من ذات اللون، قصير لا يكاد يصل لكالحه، وتحف قدماه بصندل بلاستيك رخيص، تبرز من مقدمته أصابع غلاظ لاتتناسب مع حجم جسده.. ولكن كان ما يميزه فعلا نظراته الثاقبة من عينيه الحالكة السواد، الضيقة إلى حد أن تظن أن فتحتيهما قد إنشقتا بوجهه على عجل وربما فى آخر لحظة، ومن قبل أن يولد أعمى..

كان قوى الشخصية قليل الكلام، كثير الملامة والإنتقاد، صارم القسمات، رخيم الصوت، دائم الإكفهار.. وكان إذا ما تحدث بمجلس، يتربع فوق كرسيه أو على الأقل يثنى بإحدى قدميه تحت مقعدته، ثم يمضى بذراعيه يطوحهما أمامه أو يرفعهما بتلقائية فوق رأسه، محبكـًا بحركة لا إرادية طاقيته البيضاء المغروسة فوق رأسه الحليق.. وفى الواقع لم أتفاعل مع كلامه لِما وجدت من سطحية حجته فى معالجة الأمور، ولأنه، فى المرات القلائل التى إجتمعت به وجهًا لوجه، كان يهاجم صديقى عامر أو ينتقد تصرفاته على نحو لم أر فيه إنصافًا أوعدلا ضد موقف لم أكن أرى به ما يشوب..

فى أول الأمر كان قد أرسل لعامر بسعدالله أبوأحمد، الشاب العراقى، يستفسر عن سبب غيابه عن الإجتماع الأسبوعى بالمسجد، وكان لم يزل حينذاك يصلى يوم الجمعة بالجامع فى وقت الغذاء، ويعود مباشرة لعمله.. كان عامر متباسطـًا فى رده، بالرغم من ضيقه من تدخلهم فى شأنه الخاص، فبدَّل الحديث إلى مداعباته المعهودة لسعدالله عن قرب موعد ترحيله.. ثم عقب ذلك طلب زيارته بمنزله الدكتور أحمد خطـَّاب، وهو طبيب جرَّاح مصرى متقاعد له قصة غريبة.. فقد تزوجَت إبنته "راوية" من أحد تلاميذه بكلية الطب بجامعة الزقازيق، بعد ما توعد عنده من مستقبل مشرق فى عالم الطب، يؤهله ليد إبنته الوحيدة، بالرغم من إتضاع حالة ذويه الإجتماعية والمادية..

ولكن تهب رياح الهجرة فتعصف بآماله فيه، ومما يزيد الطين بلة، أنه فشل فى إجتياز عقبة المعادلة الأمريكية مرارًا حتى إستنفذ مرًَات المحاولة، فرضى بأن يعمل مساعدًا لطبيب.. ولكن لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما لعبت يد القدر الساخرة لعبتها، عندما تفتق ذهن راوية، الإبنة المدللة، عن مشروع يعوضها عن فشل زوجها المشين، ويرفع من شأنهما معًا فى الدائرة الإجتماعية المحيطة بهم فى حياتهم الجديدة.. فقد كانت يومًا الأميرة المتألقة فى مجتمعها، إبنة الطبيب الناجح، ولن ترضى بأقل من ذلك شأنـًا..

عرضَت على والدها الطبيب الثرى أن يساعدها فى شراء عقار، ثم ثان، فثالث، على أساس المشاركة فى الثمن عند الشراء، والربح بعد البيع.. ولكن بعدها إكتشف الأب المصعوق بأن إبنته الوحيدة كانت قد خدعته فى المبالغة المفضوحة فى قيمة العقارات، ولم يكن يفكر فى مراجعتها فى أطروحاتها، حتى أنه كان فى النهاية قد دفع بثلثى الثمن الحقيقى.. ثم أنها سجلت العقارات بإسمها وزوجها، متغافلة لأبيها، بحجة أنها مجرد شكليات، وفى النهاية لم يبقَ للأب سوى الذهول من موقفهما منه..

وعلمتُ فيما بعد بأن عامر نفسه كان قد إحتكم بينهم، بناء عن طلب الدكتور أحمد خطـَّاب، ودرءًا لفضيحة تدخل القانون والمحاكم، أعادت السيدة راوية لوالدها جزءًا يسيرًا من أمواله المسلوبة، بمواقفته هذه المرة، وإن كانت تلك الواقعة سببًا فى إختلاف سبلهم حتى اليوم.. وماكان من الأب إلا أن إنخرط بعدها مواظبًا على إرتياد المسجد فى كل وقت متاح، حتى أنه صار ملازمًا بل ومريدًا للشيخ غنيم.. أما عن إبنته "برنسيس راوية" كما كانت تدعوها إيزابل، فقد رأيتها فيما بعد لمرات معدودة كانت تتقرب خلالها من إيزابل بل وتحاول تبشيرها بالإسلام! كنت أراقب ذلك وبالكاد أمنع نفسى من الإنفجار ضاحكـًا من سعيها هذا، كونها لم تعلم بأننى كنت قد قصصت حكايتها على إيزابل..

ولكننى لن أنسى يوم جمعتنى أول جلسة بالشيخ غنيم وصحبه بقاعة المسجد، حين دعا عامر لمحادثته شخصيًا، بعد أن باءت المحاولات السابقة بالفشل.. أصر يومها عامر أن أصطحبه، فأذعنت بالرغم من تحذيرات إيزابل إياى بعدم الذهاب.. ولكن كان فضولى الشخصى أكبر من أن أترك تلك الدعوة تفر من عنان قبضتى.. فلماذا كان كل ذلك الإصرار على مواظبة عامر على الحضور لإجتماعات بات يحسبها عقيمة، وإن كان مايزال ـ حتى وقتها ـ يؤدى صلاته بالجامع بصورة شبه منتظمة؟.. دخلنا إلى البهو الفخيم الملحق بقاعة الصلاة بالجامع، ذات يوم سبت، وأذكر أنه كان فى بداية الخريف، فى خضم إحدى الأعاصير التى تجتاحنا فى تلك الفترة من كل عام، فالجو كان باردًا عاصفـًا يومها مما كان قد أوشك على أن يثنينى عن الحضور.. كانت تلك هى ثانى زيارة لى للمسجد بعد أن قابلت به عامر منذ نحو عام، وقد لاحظت إضافات وتجديدات توحى بالفخامة والأبهة منذ دخلت، وكانت رائحة الطلاء الحديث ماتزال تملأ المكان..

جلس الجميع فى دائرة من المقاعد الوثيرة الملتفة حول منضدة خفيضة تتجمع فوقها أطباق من الحلوى والفاكهة، وبقية من الشاى فى أكواب متفرقة هنا وهناك. قدمنى لهم عامر بصفتى صديقه القديم، ثم تحول إليهم يدعو كل بإسمه وصفته وعمله، ولم أكن قد قابلت سوى سعدالله من بين الموجودين، وإن كنت قد سمعت بالدكتور خطـَّاب، وطبعًا بالشيخ غنيم من قبل.. ولكنى تلاقيت يومها برجل الأعمال السعودى الشيخ "عبد الرحمن بن غيث" وبطبيب باكستانى يفهم بعض العربية، وإن كان لا يتحدثها، ولا أذكر إسمه الآن. ولكن أطرف الموجودين كان شابًا مغربيًا إسمه "نوح" وكان مرحًا جدًا، ولكنه كان كثير الكلام وإن كانت لغته المغربية صعبة الفهم لأول وهلة.. أضفى بروحه الفكاهية بنوع من الود، خففت من قبضة الجلسة الجافة المتشنجة، وإن كانت مداخلاته الكثيرة قد دعت بالشيخ غنيم لأن يزجره أحيانا حتى يصمت، ولكن روحه الخفيفة تقبلت ذلك بسماحة..
ـ "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلا بالأخ العزيز عامر وبالأخ سامى صديقه بيننا. إتنين شاى للأحبة من فضلكم ياجماعة. أهلا أهلا.."
بدأ الشيخ غنيم الجلسة رسميًا بتلك الإفتتاحية..
ـ "أهلا بك يا شيخ غنيم.. أهلا بيكم يا جماعة"
أجاب عنا عامر مبتسمًا..
ـ "بيت الله هو بيتنا جميعًا يا أخ عامر، وطبعًا أنتم دائمًا محل ترحاب به، ومعكم كل الأصدقاء، أهلا وسهلا"
أضاف الشيخ غيث بلكنته السعودية، وهو يعبث بلحيته المدببة السوداء بأصابعه البضة..
ـ "شكرًا يا شيخ غيث.. والله جميل منكم أن تدعونى إلى هنا النهاردة، ولو كنت مش عارف بالضبط إحنا ح نتكلم عن إيه."
ـ "لوكنت ناسى هافكرك"
بسرعة أجاب نوح ضاحكًا ذاكرًا كلمات الأغنية القديمة، فضحك الجميع..
ـ "ناسى إيه بس يانوح؟.. هو إنت ياراجل حد يقدر ينساك؟"..
ـ "زورونى كل سنه مرَّه!.. حرام تنسونى بالمرَّه!!.."
قالها متناغمة هذه المرة بلحن "سيد درويش" المعروف.. وأدرك الشيخ غنيم عندها أن اللحظة الحاسمة قد جاءت لأخذ زمام المبادرة، وإلا ضاعت الجدية المطلوبة لتلك المقابلة، فقال:
ـ "والله يا أخ عامر، إنشغل الجميع لأمر غيابك عن إجتماعاتنا الأسبوعية بالإضافة لعدم مواظبتك المعهودة على الصلوات بالمسجد.. وهذه والله كتبت علينا جميعًا.. هو الأخ سامى صديقك مش مسلم برضه؟"
وأضاف فورًا داعيًا إياى إلى معمعة الحديث بتخابث مكشوف.
ـ "الموضوع هو الإجتماعات؟ ولا الصلاة بالمسجد؟ ولا سامى؟ عايز نكون واضحين والنبى"
رد بسرعة عامر، وإرتحتُ أنا، إذ أعلن أنه سيتحدث عنى وعنه، فأنا لا أستسيغ أبدًا تلك المواجهات الكلامية..
ـ "صلتك بالمسجد وبالأخوة لا تتجزأ يا أخ عامر. أتذكر حالك يوم جئت من مصر، بإذن الله، وكيف إحتضنك الجامع وجماعة المؤمنين هؤلاء؟ هل نسيت حالا ما كان منك أنت بذاتك من دور عظيم بين الأخوة مشددًا إياهم ومؤاذرًا.. لا يا أخ عامر صلتك بالمسجد وبالأخوة لا تتجزأ.." أجاب الشيخ غنيم مشددًا.
ـ "صلتى بالجميع طيبة وموجودة ياشيخ غنيم، ولسه من كام يوم كان عندى فى البيت الأخ سعدالله، والدكتور خطـَّاب، ولا إيه ياجماعة؟"
أجاب عامر معلنـًا عن درايته التامة بمخططه الخفى لإستمالته ثانية إلى حظيرة المؤمنين.
ـ "يا عامر يابنى لازم كلنا نبقى سوا اليومين دول، المهم دلوقتى هو الصالح العام"
أضاف الدكتور خطـَّاب بعد أن ذكر عامر إسمه، فتذكر دوره فى المجلس.
ـ "الصالح العام بتاع مين يادكتور؟" رد عامر على الفور..
ـ "إزاى بتاع مين ياعامر؟ طبعًا الصالح بتاع المسلمين دول كلهم، وغيرهم.. بتاع الأمة الإسلامية كلها، بتاع مين ده إيه؟ إنت هاتـِكفر ياراجل ولا إيه؟ " رد بسرعة الدكتور خطـَّاب وهو يشير بيديه نحو الحاضرين.
ـ "هى جت لحد الكفر كمان!" ..
علق عامر ساخرًا، وإن ظهر الإستنكار فى نبراته وهو يخبط كفـًا بكف..
ـ "أمال إيه يابنى.. إرجع لعقلك أمًّال، إنت ماسمعتش الشيخ أسامة وهو بيقول العالم مقسوم لفسطاطين؛ مؤمنين وكفـَّار؟ تقوم تقول لى الصالح العام بتاع مين؟ ده حتى جورج بوش نفسه قال يا إمَّا معانا يا إمَّا علينا.. إتقى الله ياشيخ!"
أضاف الدكتور خطـَّاب، مؤكدًا لموقفه الأول..
ـ "وإيه رأى فضيلة الشيخ فى موضوع التكفير ده بقى؟"
رد عامر موجهًا كلامه للشيخ غنيم فى هذه المرة، وقد بدا لى أنه بدأ يتحفز لما إنعطف عنده سياق ذلك الحوار!.. تنحنح الشيخ غنيم ومد بيده ليجذب ساقه ويثنيها تحته، ثم ليحكم طاقيته البيضاء فوق رأسه، وقال:
ـ "مات أبى الله يرحمه الشيخ "محمد حسنين غنيم"، الشيخ الأزهرى اليافع، شهيدًا فى سجون عبد الناصر عام 1959 دون أن يرانى أنا أصغر أولاده، وقتها ترك زوجته الحبلى، وأبناءه الثلاثة، قبل مجيئى أنا إلى هذه الدنيا، من أجل المبدأ، وإستشهد بإذن الله من أجل الإسلام. ومن بعده مات أخى الأكبر "محمد محمد غنيم" بأيدى رجالات السادات فى أحداث الفنية العسكرية عام 1976، شهيدًا فى سبيل الإسلام؛ دين الحق! واليوم جاء دورى وإياكم.." فقاطعه عامر:
ـ "لنموت يا شيخ غنيم؟؟"
ـ "بل لنرفع راية الإسلام عالية! ونجاهد سويًا مع إخوتنا المسلمين المجاهدين فى كل أنحاء الدنيا ياسى عامر!"..
أضاف الشيخ غنيم، الذى قوبل رده بإستحسان وإيماءات من الحاضرين..
ـ "أى إسلام وأى مسلمون إللى بتتكلم عنهم يا شيخ غنيم؟ إللى بيفجروا نفسهم فى طيارات علشان يقتلوا ناس بالآلاف رايحين شغلهم؟ أبوك وأخوك ماتوا ـ الله يرحمهم ويرحمنا جميعًا ـ علشان صراع داخلى فى مصر على السُلطة، كانوا عاوزين يوصلوا للحكم فى بلد واحد وحيد، مش موضوع فسطاطين، ومؤمنين وكفرة، وحرب عالمية ضد كل البشر إللى بنسمع عنه النهارده"..
إشتعل الشيخ غنيم غضبًا، ولمعت عيناه الضيقتان، وإعتدل فى مجلسه مثبتـًا لقدميه أمامه، ثم مال بجزعه للأمام، وإنتفخت عروق رقبته وصرخ فيه:
ـ "لأ يا عامر.. أنا لا أسمح لك أن تشكك فى إستشهاد هؤلاء الأبرار فى جهادهم من أجل نصرة الحق ضد الباطل.. من أجل إعلاء شأن الإسلام، والله وإنا له لمسلمون! ولو قلت غير ذلك فما أنت إلا مفرِّق، فقد قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} صدق الله العظيم..
ـ "ومين قال أنا بافرق بين الناس يا شيخ غنيم؟ مش إنت إللى بتقول؟ مش أسامة بن لادن إللى بيفرق بين المسلمين والكفرة؟ وبين المسلمين وبعضهم؟ مش القرآن بيقول {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ولا إيه يا سيدنا؟"
رد عامر بإبتسامة واثقة وهو ينظر ردة فعل كلماته على الشيخ غنيم وبقية الحاضرين.. فما كان من الشيخ إلا أن إعتمد على ذراعيه فوق جانبى المقعد صارخـًا، حتى ملأ صوته بجنبات البهو كله:
ـ "يا كافر! يا طاغوت! عنك قال سبحانه وتعالى {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما انزل من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} صدق الله العظيم.. ألم يحذرنا منك من قبل العالم ببواطن الأمور؟ ألم يدعوك المنذر بقوله { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ياكافر! يامرتد!! ياشيطان!!.. أى والله كافر! لا بل شيطان، ولابد أن يرجم.."

ثم قام من كرسيه، وفى لحظة كان قد عبر المنضدة إلى حيث جلس عامر، ولم ندر إلا وهو يرفع كفه الأيمن ويهوى بكل قوته بصفعة عل خده دوى صوتها بأرجاء القاعة، وطارت نظارة عامر السميكة إلى الأرض.. عم سكون يتخلله صدى صراخ اللطمة للحظة.. ثم هب الجميع نحوه يجذبونه للخلف ويحولون بينه وبين عامر الذى قفز من مقعده هو الآخر مستعدًا للنزال، لولا أن أحطت به أنا، وبجانبى نوح المغربى، حائلين بينه وبين الشيخ غنيم وهو مايزال يصرخ: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.. يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.. يا أيها الذين آمنوا.."..

وتعالت أصوات الحاضرين "لأ مايصحش كده أبدًا".. "ما هو مش معقول كمان يتكلم كده مع سيدنا الشيخ".."والله دى ماهى طريقة بالتفاهم بين البشر".. "لا يجوز أن يصل الأمر للضرب، هذا شئ فوق الإحتمال".. "غلط كبير إللى بيحصل ده".."يا ناس إخزوا الشيطان" وبالقوة إستطعنا إحتواء عامر بيننا، نوح وأنا، ودفعنا به خارجًا، والغضب يجتاحه.. ولكننى شعرت برغم الإهانة الواضحة التى تعرض لها، أنه قد فاز بمعركته الصغيرة وإنتصرت حجته بين جموع الحاضرين، وجرى نحونا أحد الشباب حاملا بنظارته التى كان قد فقدها للحظات..

وبصعوبة أقنعت عامر، بعد أن خرجنا، بأن يعدل عن تقديم شكوى للشرطة ضد الشيخ غنيم بحق إعتداءه عليه..
ـ "تعرف ليه هو قام وضربنى يا سامى؟ علشان كسرت الشفرة.. الـ (كود) يعنى بتاع الإخوة.. كلمة السر إللى ممنوع تتقال كده ع الملأ.. عارف إيه هى الكلمة ياسامى؟.. (الحـُكم).. كلمة الحـُكم هى كلمة السر عند الإخوة إللى مش ممكن تطلع أبدًا.. وده إللى مجنن الشيخ غنيم منى"..
هكذا قال لى عامر وأنا أصطحبه إلى بيته مودعًا إياه بعد تلك الليلة العاصفة..

هاتفتنى إيزابل ليلتها بعد أن ودعتُ عامر وتوجهت إلى بيتى. كان رنين التليفون يملأ المكان حين فتحت الباب، فأسرعت بالرد، فلاقنى صوتها حادًا و مؤنبًا:
ـ "أهكذا تفعل بى ياسامى.. ألم أطلب منك ألا تذهب؟ ولكنك عنيد إلى حد الغباء!" فقاطعتها فورًا:
ـ "وبعدك يا إيزابل؟ حاسبى على كلامِك.." فأضافت:
ـ "أنت لا تفهم! لا تعرف ما أعرف أنا.. وأنا لست بمكان أن أتكلم.. ولكنى مضطرة لأن أبوح بالسر.."
صمتت هى، ولم أعَقب أنا فقالت:
ـ "يا سامى يا حبيبى، أنت تعلم كم أحبك، ولذا أنا خائفة.."
وسكتت ثانية، ولكننى لم أتكلم أيضـًأ، وساد صمت قطعته هى بقولها:
ـ "يا حبيبى.. الظروف الأمنية التى نمر بها يجب أن تدفعنا لأن نكون أكثر حرصًا. أليس كذلك؟" فقلت على الفور:
ـ "ماذا تقصدين؟"
ـ "أنت تعلم ماذا أقصد.. أعندك شك فى أن الجامع وبالذات الشيخ غنيم هذا وأتباعه موضوعين تحت المراقبة فى هذه الأيام؟.. وإذا طلبت منك ألا تذهب مع عامر، ألم تستطع، لأجلى أنا، أن تتركه ليذهب بمفرده؟ ثم لِم خاف هو أن يذهب وحده؟ ثم أقادر أنت أن تحميه منهم؟"
وهكذا توالت الأسئلة كالطلقات، ولجأت أنا لصمتى وسلبيتى المعهودة وأنا أتفكر بما كان يمكن أن يحدث لعامر لولم أرافقه؟ وتفكرت: "يمكن ولا حاجه خالص!".. فلما لم أرد على تساؤلاتها ساد بيننا صمت للحظات، دفعت بها لأن تقول:
ـ "سامى.. أتقدر أن تحضر إلىَّ الآن؟ أرجوك؟"
ـ "ماذا بك يا إيزابل؟ فأنا جد متعب بعد ذلك اليوم العصيب.. فأنت لم تدعينى حتى أن أحكى لك ماجرى"..
ـ "أرجوك.." قالتها بنعومة أذابتنى فوافقت.. أسرعت بأخذ حمام وإرتديت ملابس نظيفة ثم وضعت معطف المطر فوقى وخرجت.. لم أكن أدرى وقتها بأن أحداث ذلك اليوم الساخنة لم تكن قد إنتهت بعد..

بطول الطريق كان الهواء البارد يلفحنى، بعد أن توقف المطر، وإن لم تهدأ ثورة الرياح بعد، مناخ غريب لم أعتده أبدًا طوال أيامى بتلك البقعة من العالم.. كنت أحتمى بمعطفى متشبثــًًا، وقد رفعت ياقته لتحيط بأذنىَّ التى إستشعرت برودتهما من طيلة ما زفر بهما رب الرياح فى تلك الليلة التى بدت وكأنها تابى بعنادٍ أن تنتهى.. أما عقلى فكان يستحضر أحداث الجامع بكل تفاصيلها فيجترها لحظة بلحظة، وأنا أتساءل عن مصير عامر.. ماذا سيفعل به الشيخ غنيم بعد ما حدث؟ "آه.. كم أكره هذا الرجل!" تفكرت فى نفسى. وماذا عن موقف الدكتور خطـَّاب وبقية المريدين؟ ردود أفعالهم الليلة بدت لى محايدة، أو حتى مائلة نحو تأييد لموقف عامر من ذلك النزال.. ولكن هل يجرؤ أحد على مخالفة رأى الشيخ وخاصة بعد أن شهدوا مدى قسوة رد فعله ضد عامر؟؟ ولكن.. مؤكد أن تلك الصفعة التى وجهها له، قد إرتدَّت لوجهه فى نظرهم، بدليل موقفهم الليلة، فإن أحدًا لا يرضى بأن يهان الرجل على الملأ هكذا، مهما كانت منزلة الشيخ غنيم عندهم.. أسئلة كثيرة وكالعادة لم أجد لها إجابة واضحة، وإن إستشعرت أهميتها فى الطريق لإيزابل، والبرد كالمارد يغشانى، فطرحتها بينى وبين نفسى محاولا أن أتسلى عنه بتفنيدها، لعلى أطمس وطأته بإنشغالى بها ..

* * *

طلبت من سامى المعذرة حيث إضطررت أن أتركه لأعاود أبى مرة أخرى بالمستشفى.. كانت الساعة تقترب من العاشرة فى تلك الليلة الجميلة من ليالى الربيع. وقد ودعت سامى على أن نلتقى فى مساء اليوم التالى.. وفى مسيرتى نحو موقف السيارة، كنت ساهمًا فى حكايات سامى عن الجزيرة، التى كان يستحضرها من بين كلمات مذكراته.. وبين العابرين، التى مازالت شوارع نيويورك تعج بهم حتى تلك الساعة المتأخرة نسبيًا من المساء، كنت أتأمل الوجوه وأتساءل عمن تشبه إيزابل أو عامر أو الشيخ غنيم، وكنت قد رسمت لهم صورة فى مخيلتى بطول معايشتى لهم عبر كلمات سامى عنهم..



#شريف_مليكة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زهور بلاستيك رواية الفصل السادس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الخامس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الرابع
- زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث
- .زهور بلاستيك رواية.. الفصل الثاني
- زهور بلاستيك رواية


المزيد.....




- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل السابع