أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة الوردي - ﮔُْوك الله المنتشر من الجنوب الى الشمال















المزيد.....



ﮔُْوك الله المنتشر من الجنوب الى الشمال


سميرة الوردي

الحوار المتمدن-العدد: 1975 - 2007 / 7 / 13 - 05:52
المحور: الادب والفن
    


ورد في الأخبار أن زلزالا سيضرب إيران
وحروبا ستطحن العراق

الإهداء

في داخل كل إنسان قضية .
بوستر كبير، رسمت فيه حمامة، كتب تحتها بخط كبير
Peace يمت الى زمن الطفولة .
ليس من المروءة أن نتغافل عن حرب هزت إنسانيتنا وجرحتها، رغبة الدمار تقاطعها وتنتصر عليها رغبة الحياة . الحرب قبح وعار، والسلام محبة وشرف .
قيل في السياسة ( السياسة كجبل الجليد سبعة أجزاء منها مغمور ) في الوهم، وجزء واحد يتخبط بين الشر والحق، وبالرغم من هذا تبقى الحقيقة مرآة ناصعة، لايلوثها زيف سياسة، أوسفسطة منافق، وكل واع يتحمل مسؤوليته، أما المجانين والطغاة فلا بد من تاريخ يحاسبهم .

آذار / 1993

لملت لمى كتبها، ألقت نظرة حالمة على مدرج الكلية، زميلاتها وقفن عليه يلتقطن بعض الصور التذكارية وينتظرنها، ابتسمت لهن ونغمات لحن يرافقها منذ ليلة أمس، يأبى الرحيل ، كلما رأته قادما ينساب اللحن حزينا يتردد صداه في خافقها، هل ماتشعر به حبا أم محض وهم وخيال، أو رغبة في استيعاب للحياة في زمن مبكر، تمازحن وضحكن بل قد يصل المزاح بينهن الى حد السخريه، لكل واحده منهن قصتها التي تُكمل بها أنوثتها، بينها وبين صويحباتها مواضيع شتى منها ما يخص الدراسة ومنها مايمس شغاف القلب وهمومه، لم يعد ماتعلمته مجردكلمات مقروءة ومسموعة، بل حياة معاشة، أمنتيتها أن تواصل دراستها العليا، وهماً ماسعت اليه لكنه الوهم الجميل، والذي ظل رغبة مبتورة حتى بعد رحيل الشباب، المتسابقون لنيل الدكتوراه كثيرون، أغلبهم مُأهلون بالوساطات، ومنهم من أحتال بطريقة شرعية وسجل في جامعات خارجية ثم انتقل منها، إضافة الى قلة المقاعد وتفضيل الذكور على الأناث .
سارت بخطى مثقلة هذه العثرة الأولى، ذكرى المتقدمين تلاحقها كانوا يتسائلون وتجيبهم عن تساؤلاتهم عندما تجمعوا أمام باب لجنة الأختبار، ثلاثة أيام متتالية ولم يصلها الاختبار لكفاية اللجنة من المتقدمين، ودعت حلمها، تناسته وبقي السؤال
:ـ هل الإنسان ابن ظرفه أم له قدرة على الأختيار ! ؟ .
لم تبحث عن فرصة تغير بها حياتها بل جاءتها صدفة عندما عُرض عليها المشاركة في مسرحية مع إحدى الفرق، عالم جديد لم يكن ضمن مشاريعها، للمسرح مكانة اجتماعية وتأثير في حياة الناس وتأثر بها، المسرح بما فيه من ثقافة وفتنة غيرت رتابة حياتها، بالرغم من رفض أهلها ومعارضتهم إلا أنها انتصرت في النهاية، الأمور لم تستقم طويلا إذ حُشر الفن في أتون السياسة حشرا مباشرا، وضعت له قيود فكرية وسياسية, فقد الفن حريته و بهاءه، انسحبت منه بهدوء كمادخلته .
سنوات مرت مسرعة ما كان أملا جميلا أضحى أياما متشابهة، اصبح المسرح جزءا مخبوءا مخفيا في أعماق الذاكرة، لم يعد له وجود الا في أحلامها .
استغربت من تجمع نسوة الحي أمام أحد البيوت المجاورة لمنطقة الباص التي وقفت فيها يلغطن بعبارة ( دخلوها صباحا )، هناك حدث، رغبت في الأستفسار منهن الا أنها خافت أن يفسر فضولها على غير حقيقته، أجبرتها الظروف السياسية الخانقه الأبتعاد عن الآخرين وتجنب مشاكلهم، عادت الى الدار، فتحت الراديو ليس هناك مايشير الى حصول شيء، البرامج اعتيادية ليس فيها جديد اغلقته ، خرجت ثانية للتسوق .
الهمهمة زادت، شملت الرجال مما يشير الى قيام حرب جديدة أو مايشبهها .
وصلت الى السوق المركزي الذي يبعد كثيرا عن دارها، حاجتها الى حصتها الشهريه من المواد الأساسيه والتي تشمل نصف كيلو شايا وخمسة كم سكر ومثلها رز وقنينة دهن قد تزاد قليلا، أو تقل في الأغلب، تُجبرها على الذهاب .
السوق جزء من مجموعة الأسواق التي شيدت قبل الحرب الأولى للبلاد، من أنشط الأسواق، أما بعد الحرب لم يُبع فيه سوى الضروريات وببطاقة خاصة للموظفين لايستطيعون الحصول عليها الا بشق الأنفس، أكثر المواد تتسلل خفية الى المهيمنين على السوق الخارجي .
حرب دامت سنوات أحرقت الشباب، دمرت العائلات، خلفت مآس لاتحصى، لن يدرك عمق مأساتها الامن عاشها. سنوات ثلاث على إنتهائها وإذا بطبول حرب تُقرع من جديد .
في طريق عودتها عرجت على سوق محلتها الذي ضم بائعي السكراب وقارئات البخت، مرت بواحدة افترشت الأرض بقطعة قماش زاهية الالوان، رصفت فوقها حصى ملونه وفنجانا مملوءا بالقهوة، تحلقن حولها النسوة ينتظرن دورهن، انضمت اليهن بعد أن رمت على القماش ربع دينار سعر معاينة البخت، سخرت من نفسها، وخزة ندم على تصرفها انسحبت من المكان، عالم مجنون الغي فيه العقل لتسكنه الخرافات .
من مقهى قريب تعالى صوت المذياع يعزف أناشيدَ حربيه، يُعلن عن قرب بث بيان هام ، انقبض قلبها، حثت الخطا للوصول الى الدار ففي الحرب السابقة فقدت كثيرا من أقربائها وأعز الناس لها أخاها ولم تتحمل أمها الصدمة فلحقته وما حدث لها حدث لأغلب الناس
خوف هستيري أصاب الناس بين مصدق لما يُعلن ومكذب لا يرغب بمعرفة الواقع، أتعبتهم الحرب السابقة، حرب لاغالب فيها ولا مغلوب، مازلن الأمهات الباقيات مرتديات ثياب الحداد على أولادهن، غمامة سوداء تسد الطرقات الى المدافن في الأعياد تحول دون الوصول الى القبور، مما دفع الموسرين من الناس الى بناء غرف لقبور أبنائهم ليتسنى لأمهاتهم البقاء مدة أطول تحت هجير الشمس الاذعة، بعض القبور ضمت أكثر من جدث أخ، وصل بعضها الى خمسة أخوة وأبوهم الذي مات كمدا .
تزايد لغط الحرب، أنباء وتحليلات في كل الأذاعات، وفود تأتي وأخرى ترحل ولا حل للأزمة، تصاعدت نبرة الحرب النووية مما زاد رعب الناس، إنذار للبلاد .
حُدد يوم لبدء القتال إذا لم تستجب الحكومة للضغوط الدولية وتنسحب من المنطقة التي احتلتها، ما إن اقترب هذا اليوم حتى أخلى الناس بيوتهم وهاجروا الى أماكن أعتقدوها آمنة، اما هي لم يطرأ على ذهنها مكانا تستطيع الذهاب اليه ، لارغبة لديها للرحيل .
برودةٌ مثلجة، ليس في وسائل الأعلام او في الصحافة اي جديد، منذ أن حل المساء والمدينة تغفو بهدوء غريب، هذه الليلة الأخيرة من الأنذار، ليس هناك مايدل على حدوث قتال ، جفا النوم عينيها تجاذبت وزوجها أحاديث كثيرة قتلا للوقت بينما أستغرق الأطفال في نوم عميق، بعد يومين سيحل موعد أمتحانات نصف السنة وهم بالرغم من الوضع السياسي والنفسي المتأزم يستعدون لها، شعور يداهمها بين الحين والحين بأن الليلة لاتشبه مثيلاتها .
أجفلها صوت قصف هز الأرض من تحتهم وأشعل السماء بآلاف الصواريخ نهض الأولاد مذعورين ألتصقوا بها، صرخت الأبنة ذات التسعة أعوام منذ الحرب الأولى والكوابيس ترافقها في نومها، السماء المنارة بالدمار زادتها رعبا، بعد أقل من ثلث ساعة غرقت المدينة في ظلام حالك لا يضيئها سوى وميض المتفجرات، فتحت النوافذ وباب البيت محاولة رفع معنوياتهم وبث الشجاعة في نفوسهم، المحاوله باءت بالفشل ، لغة الموت أقوى منهم، الخوف عم الكبار قبل الصغار، أَغلقتْ النوافذ والباب، عادتْ مسرعة اليهم، الرعب أقوى من الجميع، أختبأوا في فسحة داخلية صغيرة تقع بين الحمام والمطبخ، المكان الوحيد الذي يُشعرهم باطمئنان وهمى، البيت بناؤه بسيط، هزت أركانه الحرب السابقة، أحدثت شروخا فيه أضعفت مقاومته، ما أن تترك الأولاد لتنجز عملا لهم حتى يتصاعد خوفهم وصراخهم مطالبيها بعدم تركهم . جلبت لهم فرشا وطعاما أبوا أن يتناولوا شيئا منه تقرفصوا واضعين رؤوسهم في حضنها، الرعب سيد الموقف، أكبرهم في الثانية عشرة وبعده الأبنة ذات التسعة أعوام والإبن الثالث في الخامسة أما الصغرى ففي أوائل عامها الثاني .
الفجر يلقي ظلاله ببطء، هدأ القصف المتتالي لحظات ثم تواصل ثانية، تقبلت فكرة الرحيل بعد فوات الأوان .
في الشارع سكينة يتخللها مواء قطط مرتعبة ونباح كلاب مذعورة بالرغم من حملات الابادة التي تُشن عليهن بين فترة وأخرى، بقي منها شاهد على قيام الحربين .
نزلت خيوط الشمس على سطوح المنازل، طرقاتٌ لحوحة على الباب، من يأتي في مثل هذا الوقت الحرج ! . إحدى الجارات التي تسكن في شارع خلفي، جاءت باحثة عمن يستطيع نقلهم الى مكان أكثر أمنا، لم تكن معرفتها بها وثيقة، لكن للحاجة أحكامها، كانت تعرفها من خلال أختها التي تعمل مربية في حضانة الحي، الجارة في الثلاثين من عمرها جميلة الملامح لها ثلاثة اولاد أكبرهم في الثامنة والثاني في الخامسة وأختهم لم تتجاوز سنتها الأولى، تعيش معها اختها مربية الاطفال، تصغرها بعدة سنوات، أقل جمالا بل تكاد تكون معدومة الجمال، وامهما عجوز تقارب السبعين، سقطت كل أسنانها ،أما زوجها، أُستدعي للخدمة العسكرية ثانية وأُرسل للقتال بعد أن أنهى خدمته الأولى في الحرب السابقة، ترك سيارته في الدار، لم يكن بينهن من يعرف السياقة وهي تعلم أن لمى وزوجها كانا يقودان سيارتهما قبل بيعها بسبب ظروف الحرب، اتفقتا على السفر والخروج من الحي اسوة بأغلب الجيران، لم تكن وجهتهم مكانا معينا، على الأغلب سيكون الذهاب الى المدن المقدسة لتصورهم إنها ستكون بمنأى عن القصف، أعطت لمى لجارتها عنوان بيت الجد الذي يقع في الجنوب تتركه لزوجها عند عودته في الاجازة كي لايقلق من غيابهم. أعطته لجارهم ، رجل طاعن في السن أبى الرحيل عن داره مع أولاده وأحفاده .
فحص زوجها السيارة لم يكن فيها أي نقص سوى قلة الوقود، جلست الجارة وعائلتها في الحوض الخلفي ومعهم ولدى لمى الكبيرين جلست هي في المقعد الأمامي واجلست ولديها الصغيرين في حضنها، حشرن الجارات فرشا وجوالا مليئا بملابس الأطفال وحقيبة لمى وعائلتها في صندوق السيارة، لم يبق مكان لوضع أي طعام مما أعدته فجرا، أضطرت الى وضعه في الثلاجة رغم انقطاع تيار الكهرباء، آملة بعودته وعودتهم سيعودون بعد مدة وجيزة .
قطعت العربة الشارع الرئيسي للحي، وصلت الى الساحة المؤدية الى الطريق الخارجي الذي يربط الشمال بالجنوب، طوابير السيارات من مختلف الاشكال والالوان والموديلات تتجه شمالا وجنوبا، كثير منها حمُل بأمتعة مختلفة .
بين فرح ابنتها بالهرب والخوف من مواصلة القصف انخرطت السيارة بإتجاه الجنوب .
فزع عم الناس وهلع من قيام حرب نووية لاطاقة لهم بتحملها، مصدر هذه التوقعات ما بُث في أجهزة الأعلام والحزب، نُشر في كراريس وُزعت على الناس، عُقدت الندوات لتثقيف الطلاب والاهالي على كيفية اتقاء الضربات النوويه بغلق النوافذ ولصق أشرطة عليها، ووضع مناشف مبللة على الوجه مما جعل الناس لا تصدق ما تسمع ولاتستجيب لحضور هذه الندوات .
لايمكن رؤية بداية او نهاية لقوافل السيارات، الأبواق تتعالى، بدأ القصف مجددا، أصوات أنفجارات تتباعد كلما ابتعدوا عن العاصمة .
إزدحم الناس على جانبي الطريق لامكان لموقع قدم في محطة الوقود، ما ان رأى عامل المحطة الغريب الأزدحام حتى انسحب غالقا المحطة وقافلا غرفتها الوحيدة عليه، عاد الرجال مستائين، ناداها صوت من بين الزحمة إنه زوج اختها، لم تكن توده بسبب زواجه ثانية، أخبرها انه نقل اختها وبناتها الى الشمال، والآن ينقل زوجه الثانية وأطفالها الى الوسط .
بصعوبة استطاعوا الحصول على غالون وقود من المحطة التالية، ساعدهم في الوصول الى مدينة الجنائن مساءً، الطريق في الأيام العادية لا يستغرق أكثر من ساعتين أما اليوم فقد استغرق النهار كله .
خيم ظلام دامس على المدينة كلها، سبقتهم اليها غارة غير متوقعة استهدفت المنشآت الكهربائية، لم تكن هذه الليلة من الليالي المقمرة لذا بدا الناس المتوافدين اليها أشباحا سوداء، من أصعب المطالب إيجاد غرفة لتمضية الليل فيها، شغل الناس كل الأماكن حتى المدارس ودور العبادة، أحد الصبيان أرشدهم الى فندق في شارع خلفي يتخذه الجنود مكان استراحة لهم، ركنوا السيارة بمحاذاة الرصيف دخلوا في أزقة ضيقة متعثرين بحفر وحجارة ملأت الطريق، كان الشارع يوحي أنه في مرحلة تعبيده لكنه تُرك. يقع الفندق في الطابق العلوي من بناية قديمه ما ان أرتقى الأطفال السلم حتى شعروا خوفا من ضيقه وارتفاع درجاته، أطل السلم على باحة شبه مربعة أُتخذت كصالة استقبال، بالرغم من صغر المساحة حُشرتْ فيها منضدة ومصطبة قديمة فُرشت بمرتبة أقدم منها وغُطي بشرشف أستحال لونه، تربع عليه أربعةُ أشخاص، لم يتبق من غرف الفندق الا غرفتين ـ أبلغهم عامل الفندق ـ أجروها بلهفة مخافة أن يقضوا الليل وأطفالهم في العراء، بصعوبة شقوا طريقهم داخل دهليز مظلم تطل عليه غرف الفندق، مشى العامل أمامهم حاملا شمعة صغيرة يكادنورها ينطفي مع كل حركة يتحركها، فتح مغلاقي البابين، اعطى مفتاحا لكل عائلة، ثم رجع ليعود بشمعدانين لهما .
بالرغم من حلكة المكان أفصحت البناية عن مضمونها، أقرب للقلاع المهجورة منها الى فندق صالح للسكن، سقوفها العالية تذكرمن يراها بذلك السياج القديم الذي تقع تحته خزينة الدولة وأقدم دائرة للجنسية والنفوس ومركز للشرطة، جدران وسقوف بقعتها الرطوبه ظهرت للرائي رغم الظلام، تذكرت بيتها الذي لم تستطع اكماله لصعوبة الحياة بعد الحرب السابقه وها هي تتركه وتهرب منه .
فُتحت البابين فامتلأت أنوفهم برائحة رطوبة متعفنة، دخلوا الى الغرف في كل منها أربعة أسرة ومنضدة قديمة على وشك السقوط وُضع فوقها الشمعدان، فرش باليه غطت الأسرة، نام الأبن الكبير والابنة الكبرى كُلا منهما على سرير ونام الأب والأبن الصغير على سرير وأحتلت لمى وطفلتها السرير الرابع، خلعت جوربها، مدت قدميها تحت الغطاء إلا أنها سحبتها بسرعة من شدة الرطوبة والبرودة، لبست جوربها ثانية، نامت، استغرق الجميع في نوم عميق، كان الطريق مُتعِبا .
أسعد أيامها حينما تسافر الى الشمال أشجار جوز عالية مثمرة لم تستطع أن تقطف أي ثمرة لبعد أغصانها، إمرأة جلست على حافة الطريق احتظنت كيسا عُبء لآخره بالجوز، عيناها عسليتان، شفتاها اصطبغتا بلون (الديرم)، وهواللون الذي يتركه اكل الجوز طازجا على الشفاه، ناولتها حفنة سقطت من يديها في نبع عين قريب منها، انحنت لتلتقطه فإذا بها تنزل في خندق عميق داخل جبل، الناس حولها يتراكضون، أمها معها، سارت بجانبها صامتة
، سألتها لكنها لم تجب تذكرت أن أمها توفيت بعد مقتل أخيها وقبيل انتهاء الحرب السابقة بسنتين، انفجارات، بريق القصف يظهر من كووٍ في الجبل، جنود في ملابس سوداء وقبعات دائرية يطاردونهم من مكان لمكان، صرخت بقوة تبعثر صوتها في فمها، أمسكت بأمها تستنجد بها، لم تمسك قبضتها شيئا، من شدة الرعب اختنقت، فزت من نومها عندما انزلقت قدمها وهي تحاول الهرب من الخندق، لزوجة المندر وبرودته نملت أصابع قدمها، تجرعت قدحا من الماء، وبيت امرئ القيس يسخر منها :
فيالك من ليل كأن نجومه بكل مُغار الفتل شُدت بيذبل
ذكريات شتى قديمة وحديثة اختلطت بحدث لم يزل في ذاكرتها برغم مرور سنوات طويلة، كان ليلا ليس كغيره عندما أصطحب أبوها أخاها الاكبر منها، تجاوز العاشرة بقليل الى حفل وطني شبه سري، قُرأت فيه قصائد وكلمات تطالب فيها السلطة بالأصلاحات وحرية الرأي والفكر، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، عاد أبوها الى البيت، أخوها ليس معه مما أثار هلع وخوف امها صرخت في وجهه
:ـ أين ولدي !
أجابها محاولا التخفيف عنها ،
:ـ في المستشفى، أُصيب بجرح بسيط جراء اصطدام دراجة مسرعة به، تركتُ أحد الأصدقاء معه وجئتُ لأصطحابك، لبست أمها عباءتها مسرعة خرجت، لحقت بها، أبت تركها أخذتها امها معها مجبرة، لم يكن في المستشفى أسرةٌ فارغة أو فرشا إضافية، فرشت امها الارض لها بعباءتها، لفت حذاءها ببرقع كانت تضعه على وجهها عند الخروج من الدار كعادة النساء آنذاك عملته وسادة لها، ليلتها ليلاء لصلابة الحذاء لم تستطع النوم مطلقا بل أصيبت بصداع لن تنساه، مرات كثيرة تَطرقُ مسامعها هواجس الكبار من الناس من حروب قد تُشن.
صداع كالمطرقة في رأسها، لفلفت طفلتها جيدا، نامت الصغيرة بهدوء وكأنها أدركت حالة أمها فآثرت السكينة، شتان بين حلم وحلم ومكان ومكان، بين الوسن واليقظة أطلت بواكير الصباح، أيقظت زوجها وابنها البكر، قاما على عجل ليملآ خزان السيارة قبل ازدحام محطات الوقود بالناس، أيقظت الجارات ليستعدن بعد الأفطار لمواصلة الرحلة، القصف الجوي زحف ليشمل المدينة، غادروا فندق الوردة البيضاء ،كان هذا اسم المكان الذي باتوا فيه .
يوم وليلة الخوف والحذر من بعضهم يسود أحاديثهم ، لايتبادلون سوى بعض العبارات الضرورية التى أشبه ماتكون بالكلمات المتقاطعة، دارت كلها عن الحرب وكوارثه، وصلوا مشارف المدينة المقدسة والصباح في أوله، الشمس دافئة وهم في داخل العربة، أزدحمت كل الطرقات المؤدية للمدينة بالسيارات مما أضطر زوجها الى الأستدارة من طريق ترابي نافذا قبل أن يتورط ويندرج بين العربات، لم يكن أمامهم الا الذهاب الى بيت الجد الذي يقع في أقصى الجنوب، اشتروا تمرا وبرتقالا من الباعة المنتشرين على الطريق .
مودة تسللت بين الأطفال قبل الكبار، أخذوا يتبادلون الأحاديث عن أشيائهم العزيزة، فجأة صرخ إبنها الكبير باكيا وكأنه تذكر شيئا
ـ: ماما( الطيرين ) قالها وهو يشهق بصعوبة ؟
ـ لقد وضع أبوك لهما ماء ًوطعاما يكفيهما إسبوعين بالرغم من أننا سنعود بعد يومين . أجابها ودموعه تتساقط من عينيه
ـ : أخاف عليهما أن يموتا !؟
ـ: كلا لن يموتا ، لم يهتم لجوابها، تعالى بكاؤه .
اصطفت بساتين النخيل بخضرتها الزاهية على جانبي الطريق، عبروا قنطرة ترابية، كم جميلة هذه القنطرة، قالتها مخاطبة إبنها، انظر كم هي جميلة وقديمة، أتستطيع تقدير عمرها حاول إجابتها بعبارات مختنقة، شمس مشرقة وأشجار عالية مظللة الشارع جعلت الجو رائعا، إستدرجته ليحكي لها آخر ما قرأه في كتاب الأساطير الذي يحبه .
الطرقات تكاد تخلو من السيارات، تركز الأزدحام في المدن القريبة من العتبات المقدسة .
دخلوا مدينة الأهوار ليلا وإذا بها غارقة في مياه الأمطار المتساقط عليها، غاصت السيارة في المياة المتجمعة في الشارع انطفأ محركها مما اضطر الأب الى النزول، غطت المياه قدميه واصلة الى منتصف ساقيه، شباب عائدون الى بيوتهم ما أن رأوه حتى بادروا الى تقديم المساعدة، دفعوا السيارة قرب الرصيف، جففوا (الديلكو) استطاعوا تشغيلها، على بعد مسافة قصيرة على طريق طيني لاحت بيوت بسيطة تجمع بين القدم والجدة كان بيت الجد بينهم .
استقبلهم الجد والجدة بحفاوة بالغة، ذُبِحَ لهم الديك الوحيد الذي كان يركض في حديقة المنزل الصغيرة مما أثار احتجاج الصغار دون الكبار، طبخت الجدة الديك، لم يذقه الأطفال، قارب الجد الخامسة والستين نحيفا مُتعبا هادئ القسمات، أما الجدة فأصغر منه قليلا ممتلئة حادة الطبع ساخرة، العم في الخامسة والعشرين تزوج وطلق وله طفل مع مطلقته لم يره، جُند واصيب منذ الحرب السابقة ولم يُسرح، عرّفتهم لمى على جاراتها الثلاث والظروف التي دفعتهم للمجيء، كرر الجد والجدة كلمات الترحيب .
مر اليوم الأول بهدوء، نام الجميع في غرفة واحدة، في اليوم الثاني هيأت الجدة غرفة ابنها المهجورة لهم، تركها في الأيام الأولى للزواج، مازالت رائحة دهان الخشب تنتشر في المكان، بعد ثلاثة أيام من بدء قصف العاصمة قُصفت كل المدن، أول شيء تضرر التيار الكهربائي، أخرجت الجدة فوانيس أحتفظت بها منذ زمن بعيد فقد كانت تُعنى بحاجاتها، أعطت واحدا للضيوف ووضعت الآخر في موقع يضاء به البيت أما الثالث جعلته متحركا يأخذه من يحتاجه في التنقل .
الدار مظلمة ليل نهار السحب المتجمعة لم تنجل الا قليلا وعلى فترات تتساقط زخات مطر، الماء شحيح، لايصل الى الأنابيب إلا بوساطة (مولد كهربائي )، بقي الماء ضعيفا في حنفية الحديقة، مما اضطر لمى الى جمعه وصبه في الخزان الذي نصبه الجد جنب ( المولد )، أصبحت المهمة شاقة تقع مسؤوليتها عليها وحدها، الجارات يهتممن بإنجاز ما يحتاجه صغارهن ويجلسن للمسامرة بينهن، امهن لاهم لها سوى غسل الملابس وتجفيفها ثم حشرها في (الجوال )، والدعاء لله باقامة النذور فور عودة نسيبها (ابو هاني )سالما من المعركة، من هنا بدأت الجدة تتضايق من وجودهن وتلقي لومها على لمى لأصطحابهن .
الجميع يرفض الخروج للتسوق مما يجبرها على الخروج، الجدة تعد الطعام ولمى تتحمل بقية أعباء المنزل، أصيب الاطفال بإسهال حاد لتلوث المياه .
انقطعت سبل الأتصال بين المدن، قصفت الطائرات الشوارع الرئيسة والجسور، إزداد القصف وازداد غضب الجده، كانت ام البنات ثرثارة لاتكل من الحديث، ولاتتوانى عن سكب أي قطرة ماء تجدها في البرميل، وممازاد الطين بلة على الجارات أن العم ما إن رأى الأبنة الصغرى حتى بدأ يخطط للزواج منها مما أثار حفيظة الجدة اكثر، فهي لم تنته بعد من مشاكل زواجه الأول .
انقطع الماء تماما عن الدار في اليوم الثامن من وصولهم، حتى القطرات القليلة النازلة ببطء لم يعد لها وجود، جفت كل الأنابيبب رغم برودة الجو، لم يكن أمامها سوى البحث عن الماء في بيوت الجيران ونقله بخزانات صغيرة ولكن ام البنات العجوز لم تمتنع او تقلل من غسل ملابس احفادها وسكب الماء . هدها التعب وتخدرت مفاصلها، أخلدت الى النوم مبكرة رغم تصاعد القصف واستمراره، استغرقت في حلم جميل، أيقظتها طرقات قوية على الباب انتزعتها من نومها وصوت ينادي
ـ: (بيت أبو سالم )، اسم الابن الاكبر للجد، أجابته والكلمات تتعثر على شفتيها
ـ : نعم . ماذا تريد ؟
ـ: أنا أبو هاني .
ـ أهلا أهلا .. تفضل
فتحت الباب، افسحت له الطريق الى غرفة الجلوس، التي أُتخذت مكانا لنومهم، استيقظ الجميع وأستقبلوا أبا هاني الذي يروه لأول مرة، وصل على العنوان الذي تركوه له، أخذ ابو هاني سيارته ليملأها وقودا، عاد بعد أكثر من أربع ساعات، حصل عليه من السوق السوداء بثمن مرتفع، أعدت لمى الأفطار وهي فرحة، متمنية الرجوع معهم لكن السيارة لاتتسع لهم جميعا، ودعتهم الجارة ام البنتين وهي تعدهم بذبح الخروف المنذور بعد انتهاء الحرب .
تجمعت العائلة مساء ًقرب المدفأة، فُرشت الغرفة ببساط محلي يُصنع باليد فُرش تحته حصير من النايلون لمنع الرطوبة، أتخذه الأطفال مكانا يُخبؤون تحته العابهم الورقية، علقت لوحة لمنظر طبيعي على الجدار المقابل للباب وصورة أخرى لولي من أولياء الله شاعت صوره بين الناس، وضعت قنفات قديمة وبوفيه ملأتها الجدة بأواني جمعتها منذ زواجها قبل أكثر من أربعين عاما وبينما تتجاذب الجدة ولمى الحديث وهن يشربن الشاي دُفعت الباب بقوة، دخلت امرأة في الخمسين نحيفة معتدلة القامه ، عَرّفتها الجدة بأنها جارة قديمة لهم، تعزها كأخت لها، جلست الوافدة بعد أن قبلت الجميع وإذا بها تنتفض واقفة مقلدة شخصا بعد أن سألها الجد عنه، طال الحديث وتشعب كلها انصبت على الحروب وما سببته من ويلات وكوارث، صراخ قاس مزق صمت الشارع قادما من المحلة الثانية خرج الجميع لأستطلاع الأمر فإذا جنازتان محمولتان على الأكتاف أحداهما لابي مخلف الذي استلف نقودا لجلب جثمان ابنه فاصابهما صاروخ في طريق العودة، قتيل يصطحب قتيل، قصص شتى وأحداث أغرب من الخيال وحدتها النهاية .
أم مُخلد أتعبتها المحن فبدت أكبر من عمرها كثيرا، أجبرتها الظروف على أن تُصبح بائعة غير متخصصة بعد وفاة زوجها وأسر ابنها مخلد وإنقطاع أخبار ابنتها المتزوجة من غريب وإنقطاع مساعدتها لها، تارة تبيع سمك الزوري واخرى تصنع لفائف حب تبيعها على أطفال محلتها، إزدادت أعباؤها بتواجد أبنتها الكبرى وأطفالها الأربعة عندهم بعد أسر زوجها، أكثرُ ما نغصها وأساء اليها أشاعة خبر تعاون ابنها الاسير العائد مع الأعداء ضد اخوانه الأسرى إبان أسره مما جعل عائلته موضع نفور من الناس. عرفت ام مخلد بحاجتهم للماء، بادرت وارسلت ماءً حملته ابنتها واطفالها وجارتهم وهي شابة بعمرها، استمر الحال يومين وانقطعن فلم يكن امام لمى سوى الذهاب الى بيت ام مخلد، ترددت في بادئ الأمر، لكنها لم تجد مفرا ، اصطحبت ابنتها الصبية، حملتا الملابس معهما لغسلها، وجدت ابنة ام مخلد في الدار، رحبت بها، اعتذرت منها لعدم استطاعتها نقل الماء بمفردها لان جارتها امتنعت عن مساعدتها بعد أن أسمعها مخلد كلمة غير طيبة، كانا مرتبطين بعلاقة حب حميمة قبل أسره، لكنه بعد عودته تنكر لها ونكث عهده معها، رافضا الزواج منها بالرغم من محاولتها استرجاع مابينهما من ود، لم يدم نقل الماء من بيت ام مخلد طويلا اذ سرعان ما انقطع عنهم .
نسوة الحي تعودن تقديم المساعدة لها لأعتقادهن أن نساء العاصمة أقل مقدرة على تحمل مشاق الحياة لذا وجب عليهن حسن ضيافتها و التخفيف عنها، فكن يتآلفن معها بسرعة لم تألفه في المدينة .
أصبح لحنفية الماء عالما خاصا، كل ما يدور في السر والعلن ينساب من أفواههن مع قطرات الماء ببطء وبوجل، حتى أسرارهن لم تعد خاصة، أما هي فمازال حذر العاصمه يغلف علاقتها، ففي العاصمه ينتشر التجسس وكتابة التقارير ورفعها الى من هم أعلى، ولا تدري إن كانوا في المدن الأخرى على نفس الشاكلة أم أهون، عضت لسانها خوف أن يتسرب منه حرفا او كلمة تثير الشكوك وتقلب ليلها جحيما .
روايات واحاديث تدور في السر عن فشل الجيش وهربه من المعركة، و تلميحات عن أماكن تواجد الماء .
بيت الحجي ( ابو سليمان ) من البيوت المعروفة بترفها، وهو أمر نادر في هذه المدينة ، يفصل بينه وبين بيت الجد شارع فرعي يؤدي الى الشارع الرئيسي تفصلهما فسحة واسعة من الأرض كان من المقرر أن يُقام عليها متنزه، لم ينفذ من المشروع سوى سياج سلكي بائس احيط بها، تُركتْ خالية فأصبحتْ بعد مدة مرمىً للقاذورات .
بُني دار الحجي على أرض مرتفعة عن الشارع، على مسافة غير بعيدة أُقيم سوق حديث ، دكان الحجي فيه، عُبد الشارع الرئيسي قبل ثلاثة سنوات دون تأسيس شبكة لتصريف مياه المجاري، أما الطرق الداخلية فقد أُهمل تبليطها، مما جعل الطرقات تغرق بمياه الأمطار والسيانة المتجمعة من السواقي غير النظامية التي اعتاد الأهالي حفرها أمام بيوتهم لتصريف المياه القذرة .
عدد من النسوة اخترن شاطيء النهر رغم بعده وصعوبة الطريق اليه، فهن وصغارهن مشغولات بهذا الهم ليل نهار، معظم الشباب سيقوا الى جبهات القتال الا من تهرب منهم، الشيوخ انشغلوا بتتبع أنباء الحرب من خلال الأنباء التي تبث في الأذاعات .
أمام قصر الحجي ازدحمن النسوة على الحنفية الوحيدة التي بقي الماء فيها جاريا . من أعماق عتمة الحرب ومآسيه انطلقت زغاريد وموسيقى وأغاني شعبية من أحد بيوت الحي، نُسيتْ منذ وقت طويل، هرعن بعض النسوة وأطفالهن كعادتهن الى هناك، عُدن بنبأ زواج صبيح من ابنةِ عمه التي أحبها منذ الطفولة، حالت الحربين من إتمام الزواج، أصر على إتمامه في إجازته السريعة هذه، ونزولا عند رغبته أُقيم الفرح تحت زخات المطر وأصوات الأنفجارات المدغمة بالهلاهل .
زوجة الحجي شخصية قوية ومؤثرة في حياة الحي، بمساعدة أولادها وبناتها أدارتْ تجارة زوجها بعد وفاته، صداقة خاصة ربطتها ببنات الحجي المتطلعات بشوق الى العاصمة، ساعدنها في ملء وتوصيل الماء، لكن انشغالهن بوفاة خالتهن منعهن من مواصلة المساعدة زودنها بعربة دفع المواد الغذائية لتنقل عليها براميل الماء، تسير بها في شوارع مغمورة بالوحل والسيانة، لم تكن للعربة مساند جانبية لذا كانت تلاقي صعوبة بالغة في المحافظة على توازن العربة وبالتالي المحافظة على الماء، مازالت الغارات الجوية تواصل قصف المدينة غير آبهة بمن تحتها، فرق شاسع بين مدينة تتخذمقرا للحكم وأخرى تغفو في الأهمال والنسيان، كلما اجتمعتْ ببنات الحجي يسألنها عن مدينتها، شوارعها ناسها أسواقها لايتركن شيئا دون سؤالٍ، من شوقهن حرضن فيها حنينا لأيامها الدافئة، أيام لاهم لها سوى الدراسة ولاطموح فيها أقوى من طموح التفوق، مكانها المفضل غرفة امها الجميلة المطلة على اجمل حي، انطلقت احلام صباها هناك، بين رائحة امها وهي تفترش سريرها أمام النافذة ورائحة المطر المتصاعد من الشارع، تنفرد وحدها في تلك الغرفة الواقعة في الطابق الثاني وكتبها بعد أن تستيقظ امها وتنزل الى الطابق الأول، تطل على شارع ممتد امامها مرصوص بالأشجار العالية، في الأيام الممطرة يمتلئ الشارع بالماء المتساقط متلألأ تحت الأضوية، وما أن ينتهي المطر حتى تتسرب المياه الى المجاري تاركة الشارع واشجاره نظيفة زاهية زادها المطر بهاءً وروعة، تركت مدينتها والقصف ينتهك كل الأماكن، سألتها أناهيد وسطى بنات الحجي وأقربهن اليها إن كانت ستعود لزيارتهم بعد إنتهاء الحرب وعودتها الى مدينتها ؟ ودت أن تجيبها بلا ولكن الخجل منعها، أبلغتها أناهيد وقد اصطبغ وجهها باللون الوردي عن رغبتها بالزواج من شاب من العاصمة ضحكن وإذا بصفارة الأنذار تقطع امنيتها، انفجار أفزعهن، تركن خزان الماء ينساب منه الماء بعد أن قضين وقتا طويلا في جمعه، إختبأن في سد جدار الحديقة، لم يكن أمامهن متسع للهرب، في هذا الجو آثرت فوزية البقاء في مكانها أمام حنفية الماء غيرآبهة بالغارات التي تتوالى، أمرأة مكتنزة لطيفة الملامح سمراء حمراء الوجنتين رغم فقرها وسوء التغذية، حادة اللسان أستأسدت مستغلة الظروف للسيطرة على الحنفية مانعة النسوة من الأقتراب ريثما تنتهي من ملء كل أوانيها، رحلن بعض النسوة باحثات عن أماكن اخرى للماء، مشادة كلامية بينها وبين فوزية اضطرت الى انتظارها وقتا طويلا، انطلقت فوزية بعدها تحدثها عن حياتها الخاصة بالرغم من الجفوة بينهما بسبب الماء . فهي تُحب أخويها ولهما مكانة اثيرة في قلبها، اشجع فتيان المدينة وصاحبا نخوة، لايتوانيا عن مد يد العون لمن يحتاجهما، سانداها عندما تركها زوجها بعد أيام قليلة من زواجها حاملة بأبنتها البكر، ولم يعد الا بعد خمس سنوات محملا بهدايا من العاصمة، اشتغل وتزوج ثانية وأنجب طفلين من زوجه الثانية، عاد اليها بعد هذه السنين مصالحا وهذا دليل عندها على حبه لها، منذ ذلك الوقت اى منذ عشر سنوات مضت ترافقه في كل عيد لزيارة ضرتها وهي سعيدة جدا بهذه الزيارة .
ألم حاد في قدمها التشققات البسيطة التي ظهرت تقرحت ولم يعد لبس نعل أوحذاء يمنع تسرب ماء السيانة الى القدم بل احيانا تصل الأوحال الى منتصف الساق .
منذ وصولهم أي مايقرب الشهر لم يتحمموا الأ مرة واحدة فبرودة الجو وجمع الماء وتخزينه وتسخينه لعددكبير صعوبة بالغة لاتقدر عليها .
تباطأت الأيام والصواريخ والطائرات المنطلقة من البحر لا تكف عن ضرب أهدافا استراتيجية، هدمت الجسور ومخازن المؤن، شبت حرائق يُستدل من ألوان الدخان وكثافته على نوع المواد المدمرة فيه، أُبيحت المخازن للسراق والمحرومين، منهم أخوا فوزية اللذان حملا كيسي عدس ورز كبيرين لأهلهما ولاختهما وأطفالها الخمسة .
الجو تغير قليلا فهو دافيء في النهارات المشمسة وبارد جدا في الليل، لايمكن الخروج الى الباحات الخارجية أثناء الغارات ولا يمكن البقاء تحت سقوف الدور لانها مُشيدة من الطابوق والشيلمان، فُرشتأسطحها بطبقة ترابية خفيفة تكفي لمنع تسرب ماء المطر، ولم يطرأ في ذهن مشيديها أنها ستقع بين فكي حربين ضروسين تطحن الناس والحجر، مر صاروخ انطلق من البحر ليعبر الجنوب والوسط وصولا الى العاصمة، الأطفال في عز نومهم أهتزت الدار واصطفقت الأبواب، انتهك الصوت سكون الليل، مالت الأشجار الموجودة في الحديقة بقوة باتجاه مساره، تقرفص الأطفال تحت أغطيتهم لاصقين وجوههم في الارض . أكثرمن شهر مر على إندلاع الحرب، لم يتمكنوا من العودة لدارهم، انقطعت كل وسائل الإتصال بين المدن، غلا الوقود غلاء ًفاحشا، أدركت لمى انها مجبرة على البقاء، ذهبت كعادتها الى بيت الحجي لتجلب الماء وجدت كل بنات الحجي متحلقات في طارمة الدارحول أختهن المتزوجة، جاءت توا لزيارتهم، زوج أخيهن الكبير تغسل الخضار المُملحة، تخرجها من برميلها، تضعها في برميل ثان جُدد ماؤه وملحه، تصنيع الطرشي جزء من تجارتهم. وقفت أمانى وسط أخواتها تتسامر معهن واضعة مذياعا صغيرا على أذنها تنساب منه اغنية لعبد الحليم .
حُكم أكبر بنات الحجي في الثلاثين من العمر، مازالت ترتدي ثياب الحداد على إبن عمها الذي خُطبت له دون ارادتها وإرضاءً لأبيها، تتحدث عنه ونبرة الحزن والندم تُشف بين الكلمات، لم تشعر بحبها له إلابعد موته مسحوقا بشاحنة كان يُصلحها فانقلبت عليه وقتلته، حينها أحست بفراغ رهيب في حياتها ومنذ ذلك الوقت وهي لا تطيق التفكير بغيره .
أناهيد ونعمت شابتان متقاربتان في العمر الأولى في السابعة عشرة سمراء ذات شعر طويل طموحة في دراستها ونعمت شقراء اكبر من اختها بسنتين ذات شعر جعد قصير، كسولة، استطاعت أختها اللحاق بها في الدراسة فأصبحتا في فصل واحد، أختهن كواكب أصغر منهن صبية تقارب الرابعة عشرة عاما، أصابها تخلف عقلي منذ الحرب السابقة لم تُعرف أسبابه بل قسم من الأطباء عزوه الى الرعب الذي أحسته . أما أماني فلم تتجاوز الثالثة والعشرين طويلة ممتلئه قليلا بارعة الجمال، كان أبنها في الثانيه ، فرشن خالاته له بساطا في مقدمة الطرمه، وضعن له لعبا يتسلى بها، بين الحين والآخر يتعالى صوته فرحا، كان الحديث لحُكم التي انصب اهتمامها على ماتسمعه من نُبوءات حول الحرب والسياسة، توقعات تعبر عن أمنيات الناس بالخلاص، تتفق أحيانا مع الواقع والمنطق وفي أغلب الأحيان تغايره، في هذا الجو المشحون بالحديث حول المعقول واللامعقول الممكن والمحتمل والحقيقة والتمني وإذا بصبي في العاشرة يأتي راكضا، يصرخ في وجه أماني السارحة مع كل نبرة من نبرات أغنية موعود
ـ : (جابوه)* ، الجميع سألنه معا من ؟
ـ:(صقر ، صقر ) ، أجابهن وعاد راكضا من حيث أتى .
سقط المذياع من يد اماني، هرعت حافية، مسلوبة النظرات، لاطمة وجهها، وكأنها تطير في فراغ، غابت في منعطف الطريق المؤدي الى بيت اهل زوجها، أخواتها تراكضن خلفها وهن يلبسن عباءاتهن تاركات الدار للجارات المتحلقات حول الحنفية . صُعقن النسوة من الخبر فما زالت قصة حب أماني وصقر ومولد ابنهما تتردد في الحي، خاصة حفلة زفافهما التي أثارت الغبطة والأعجاب بالرغم من مرور سنوات عليها .
لم يأت صقر في إجازته المعتاده مما أقلقها، أخذت أماني تقتل قلقها بالأستماع للأغاني أو زيارة أهلها، عشرون يوماً مرت منذ أن حلت إجازته، وها قد عاد اليها جثة هامدة، بعد أن بقي في الأرض الحرام مدة .
مصائب تتالت على بيت الحجي، تجسدت كل مآسي الحرب فيهم بعد يومين أصيب ابن خالهم بشظايا متناثرة وهو يغلق باب سيارته في ممر داره فجرت سيارته وقتلته وزوجه وطفله في الحال، بعد أيام قليلة أصيبت دار ابن عم لهم فقُتلت زوجه وطفلها الذي كان يرضع منها، ملأت المرارة أفواه بيت الحجي والناس المحيطين بهم، اقيم العزاء في أكثر من بيت، انشغلن بنات الحجي بإقامة الموائد للمعزين الذين يتوافدون على الدار ليل نهار، لم تطق أماني غياب صقر، غافلت الجميع تاركة ابنها مع خالاته، متناسية امومتها،كان الوقت ليلا، أخذت فانوسا تنير به دربها الى الحمام فسكبت بتروله على جسدها واضرمت النار فيها، نُقلت الى المسستشفى، زارها الجميع ومنهم زوج لى وابنها، وهالهم ماحل بها . بقين أخواتها يترددن عليها ويتنقلن بينها وبين الفواتح المقامة . منعن لمى من زيارتها خوف أن ُتصدم بما حل بها وكي لا تفقد صورتها الجميلة من ذاكرتها .
مازال القصف مستمرا، بل أحيانا يزداد ضراوة، من عادة الجد وزوج لمى والذي هو الإبن الأوسط له الخروج كل يوم من الدار واصطحاب حفيده معهم لمشاهدة آثار القصف، عادوا من جولتهم التفقدية التقليديه كما كانت تسميها الجدة في وضع نفسي بائس صادفوا بيكبا واقفا لنفاذ وقوده، حُمّل بجثث عائلة كاملة لم يبق منهم سوى الأب الذي كان خارجا لجلب الافطار لهم، سقط عليهم صاروخ قتلهم في الحال . وهو شبه مخبول، يصر على دفنهم في مكان مقدس رغم القصف المتواصل، زوده الناس بالوقود وانطلق مواصلا مسيرته.
في الشارع همس مسموع عن انهزام الجيش من المعركة ووصول أعداد كبيرة منهم مشيا على أقدامهم والتجائهم للمدارس والجوامع التي تُركت بسبب الحرب ، قدّم الأهالي لهم كل ما يستطعونه من طعام وفرش رغم كراهيتهم للحرب وللعسكريين، الأحاديث تتناقل من فيه لفيه أثناء تسوق النسوة من سوق البلدة الرئيسي الجديد، الذي يُتعذر الوصول اليه في الأيام الممطرة لمنزلقاته الكثيرة، لم ينفع معه رصف صفوف الطابوق فيه، تصاعدت أسعار المواد الغذائية بوتائر عاليه فبدت الأسعار غير معقولة وغير مقدور عليها لأغلب الناس، اختفت أصناف كثيرة من السوق وباتت تباع بشكل سري مما رفع أسعارها أكثر .
لم يكن في بيت الجد سوى مذياع كبير تعطل بفعل إنقطاع التيار الكهربائي، مما اضطر العم الى إستعارة مذياع صغير مكسور من صديقه في العسكرية عبد الله، صلّحه الأبن الأوسط والجد بصعوبة بالغة، كان حطام مذياع، ربطوه على خشبة مستطيله بسلك قوى كي لايتحرك فيخرب ثانية فتفوتهم أخبارمستجدات الحرب، ثم أوصلوه ببطارية .
الليل رغم البرودة وضراوة القصف مأوى الجميع، يتحلقون حول النار والمذياع يتسقطون الأخبار من هنا وهناك . مازال المطر ينهمر بشدة منذ العصر، قامت لمى والجدة لتحضير العشاء، طرقات شديدة على الباب، خرج الحفيد لفتحه وإذا به يعود ومعه رجل عرّفه للجميع إنه الأستاذ عادل صديق أبيه منذ الصبا، تعرف عليه صباحا للشبه الكبير بينه وبين أبيه، فجاء ليلتقي بهم .
أُستقبل الضيف بحفاوة، انسحبت لمى والجدة من الغرفة الى باحة وسطية وضعت الجدة فيها موقدأ صغيرأً بعد أن نفذ الغاز من الطباخ واصبح الحصول عليه مستحيلا .
أعددن شايا وطعاما للأستاذ عادل، تجاوزت الساعه الواحدة ومازال الأستاذ مستغرقا في ذكرياته الأدبيه لم ينس من قرأ عنهم في شبابه من ادباء الغرب تناولت أحاديثه كل شيء الا الوضع الراهن والذي يحياه الناس غير آملين بغد، عارضايأسه من الألتقاء بفتاة أحلامه، تجاوز الأربعين ولم يجد من تليق به بعد أن أُحبط بحبيبته التي تركته وتزوجت بآخر، لم تنته أحاديث الأستاذ الا في الساعة االثانية من صباح اليوم التالي بعد أن أغلقت كل وكالات الأنباء إذاعاتها وتعليقاتها التي اعتاد الجميع متابعتها، خرج زائر الليل متأبطا أبطاله تحت جنح الظلام المنار بقذائـف المـوت المبللة بوابل المطر، ناقلا قدميه بصعوبة فـوق الطريق الزلق .
حرب برية أنسحب الجيش على أثرها علنا، طوابير الجيش المنسحب مع سلاحه الخفيف وصل المدينه مشيا على الأقدام، يُشاهد علنا في الطرقات والأسواق، كثير منهم سقط في أرض المعركه وآخرون سقطوا في الطريق من الأعياء والتعب والجوع ولا هناك من ينجدهم .
انقطع المطر عن المدينه أنتهى شهر شباط وحل آذار، السماء تصحو تدريجيا، مازالت رائحة البارود والدخان المتصاعد من حرائق المخازن يُشم في الجو .
الوقت عصرا طرق أربعة جنود الباب، أثاروا فزعاً، مد الجميع رؤوسهم، خرجت الجدة لهم وإذا بها تقبلهم واحدا واحدا مما أشاع الأطمئنان، كان أبن أختها وزملاء له في الوحدة، هم آخر من تبقى من مجموعته بعد ان قُصف موقعهم نجوا من الموت بأعجوبة، إنسحبوا هاربين عن طريق الأهوار التي هجرها سكانها لشدة القصف عليها، مشاق في طريق عودتهم إذكان معهم زميل آخر جريح إستُشهد في الطريق، لم يستطيعوا نقله تحت القصف، دفنوه في أرض غريبة غير مطروقة، تحدثوا بمرارة عما شاهدوه، الجثث ملقاة تنهش بها الكلاب السائبة وغربان الموت، قضوا أربعة أيام بين الموت ووحشة الطريق، الذي احاطهم من كل جانب وبين رغبة الحياة التي ساعدتهم على تخطي المصاعب، غسلوا ايديهم ووجوههم، ارتاحوا بين كلمات ترحيب الجدة ودعائها لهم بالسلامة، قُدم لهم العشاء والشاي، اخذوا قسطا من الراحة، ضمدوا جراحهم، حملوا بنادقهم التي ركنوها على جدار الغرفة عند دخولهم، ودعوا الجميع، انطلقوا مواصلين طريقهم .
تغير أسلوب تقديم الأخبار، الأغاني تحولت من الحماسية الى العاطفية، لم تستمر الحالة طويلا إذ أُعلن عن انسحاب الجيش رسميا، توقف القصف، انطلق الرصاص من كل حدب وصوب من مقرات الحكومة وأجهزتها ومن بعض بيوت الحزبيين تعبيرا عن بهجة إنتهاء الحرب، الجميع يتمنون عودة أبنائهم سالمين .
الدمار والفقر والمرض اصبح واضحا على أهل المدينة حتى شمل الموسرين منها اكتظت المستشفيات بالمرضى، أما لمى وعائلتها أصيبوا بأسهال وأنفلونز لم ينج أحد منهم ولكن أكثرهم مرضا أبنها الصغير شحب لونه وازدادت معاناته، يهذي بكلمات تُخيفها، وكلما تعرضه على طبيب المستشفى ينصحها بالعوده الى مدينتها لان ماء هذه المدينة ملوث وعندما تحاول الأستزادة من المعلومات يصمت ولا يجيب، إبنتها الكبرى عادت اليها نوبات الفزع والصراخ التي تنتابها في النوم أصابتها الحالة في الحرب السابقة .
رغم كل المآسي وتنوعها وشمولها عم فرح لايوصف أغلب الناس، تخلصوا من كابوس الحرب الذي لايرحم والذي لايمكن لأي إنسان أن يواصل التفكير معه بغد أوبعده .
لم تنقض سوى بضعة أيام من آذار، كان الليل في بدئه عندما طرقت مجاميع من الشباب من مختلف الأعمار ومعهم أمهاتهم الأبواب ينشدون ويرددون أشعارا ويحرضون الناس على الثورة والأنتفاضة ضد من ساهم في اشعال هاتين الحربين التي لم تخلف غير البؤس والدمار والمهانة، عبد الله صاحب المذياع الصغير المكسور بين المتظاهرين، خرج الناس من بيوتهم أغلبهم مؤيدا وقلة من المسؤولين المتنفذين هربوا من المدينة خوفا من إنتقام الثوار، لم يبق مركزا حكوميا الا أُستولي عليه ،كل دائرة أصبحت مباحة لهم، لم يحل صباح اليوم التالي حتى فرغت مخازن المؤن الحكومية من موادها، وزعت على الناس بوساطة السيارات العسكرية والمدنية المستولى عليها، امتدت الأنتفاضة الى مدن أخرى، أخبار يتناقلها الناس عن قرب وصول إمدادات تعين الثوار على مواصلة معركتهم التي فازت في الجولة الأولى، مسؤول رسمي قُتل إنتقاما منه، عُرف بعدائه السافر للناس من أهل مدينته وتسلطه عليهم وعدم احترامه لشعائرهم الدينية، روى شاهد عيان أنه صادف في احدى جولاته التفقديه للمنطقة بعض الناس يعدون طعاما عاما اعتادوا على طبخه في مناسبات وتوزيعه على الناس والمحتاجين واذا به يخلع نعله ويرميه في أحد القدور، استاء الحضور ولم يستطيعوا الرد عليه ساعتها لقوة سلطته وبطشه فحفظوها له وما أن حدثت الثوره حتى بادر أحد أقربائه وكان حاضرا الحادثه الى قتله وتقطيعه . واما رفاقه استطاعوا الهرب تحت جنح الظلام الى العاصمة . كُسرت أبواب السجون وأُخرج السجناء وهم في حالة يرثى لها، طالت شعورهم ولحاهم وأظافرهم ورثت ثيابهم ولم يدركوا في أي زمان أو مكان هم، روي حينها أن أحد السجون لم يُستدل على بابه رغم البحث الدقيق عنه .
إستولى الثوارعلى كل شيء . أيام ثلاث مضت استطاعوا السيطرة على مقرات الشرطة والجيش، ولكن الأمدادات التي كانوا يأملون وصولها لإسنادهم لم تصل .
ما إن حل منتصف الاسبوع الثاني حتى استطاعت قوة من الجيش استرجاع مداخل المدينه واتخاذ سطوح المنازل الخارجية أبراجا للمراقبة والسيطرة، طُوقت المدينة بأرتال الدبابات والراجمات، انفتحت الحمم على المدينة، فُتحت أبواب الجحيم على مصراعيها، تغلغل الجنود الى عمق المدينة بالرغم من مقاومة الثوار لهم، قصف مستمر ومقاومة مستميتة، تحول نصرهم الى هزيمة، البطش شديد، ما سقط على المدينة من قذائف خلال اليومين يعدل ما أُسقط عليها خلال شهر، لم يقتصر القصف على منطقة دون أخرى، إحتار الناس الى أين يلجؤون، أين يختبؤون، بيوتهم الواهية أتعبتها القصوف، اشيع بين الناس ان منطقة البساتين الواقعة على ضفاف النهر سوف لن تتعرض للقصف، ستكون آمنة، لاأحدَ يدري من أين تسللت تلك المعلومه، تراكضوا اليها تحت وابل الرصاص المنهمر، ساروا جنب الاسيجة متخذين جدران البيوت دروعا لهم .
حملت الجدة ماتيسر من بقايا الطعام، منذ دخول الجيش للمدينة والمدينة في صمت كصمت القبور، الشوارع مقفرة، الدكاكين مغلقة، ولايُرى الناس فيها الا عند الأختباء من القصف او الرجوع منه، حملت الجدة بقايا زبيب و خبز متيبس في قدر صغير، سارت لمى خلفها حاملة طفلتها بيد وبالأخرى تسحب إبنها الصغير الذي رفض أن يمسكه أبوه او جده أو أحد من إخوته، لم تكن منطقة البساتين بعيدة، الخوف من الرصاص المتساقط، والطريق الزلق الذي مازال يحمل رطوبة الأمطار جعل الوصول اليها شبه مستحيل، إستغرقت المسافة سبع ساعات بعد أن كان الطريق لايستغرق أكثر من ساعة مشياً على الأقدام .
حل الظلام، سبقوهم آلاف الناس، أعداد هائلة تجمعت في المدخل غير مصدقين وصولهم سالمين، لحظات وبدأ القصف على المنطقة تراكض الجميع متوغلين الى أعماق البساتين، اعمار شتى لايدرون ما يفعلون، سكن الجميع الا همهمات الأطفال المرعوبة وبكاؤهم، (أكاف)* أول كلمة تنطقها أبنتها الصغيرة بوضوح وهي تخبأ وجهها في صدرها مع كل إنفجار تسمعه، ابتعد القصف تدريجيا وانتشر على أطراف البساتين ثم انتقل الى الجهة المقابلة للمنطقه تركز على أطراف المدينة ثم هدأ .
منذالصباح الباكر والجميع لم يذوقوا أي طعام، ماإن استقر الوضع قليلا حتى بدأت العوائل تأكل ما يتوفر لها، وزعت الجدة الزبيب والخبز على الاطفال، لم يتبق شيء يذكر للكبار سوى نبات بري اقتلعته الجدة من أرض البستان وهي سائرة، عندما قدمته لهم طلبت منهم أن يمضغوه جيدا فهو نبات بري يطلق عليه (ﮔوك الله ) مفيد للمعدة كفائدة النعناع وأكثر، مضغوه على مضض نزولا عند رغبتها، لم يكن مغسولا وغير مستساغٍ على معدة فارغة، تذكرت لمى امها وهي تردعها عندما كانت صغيره تضع في فمها طعاما غير مغسول تمنت لو كانت امها معها في تلك اللحظة، انكفأت رغبتها المستحيلة لداخلها مافائدة الحياة والدمار يحيطها، ولا مفر من تحملها ومعايشتها، كلماتها تتردد في ذاكرتها تأبى الرحيل كلما كانت تزورها تشتكي لها صعوبة تحملها لاستشهاد أخيها وتقول لها
ـ: لاأستطيع نسيانه،حينما أتذكره يخفق قلبي حتى اشعر أنه سيتوقف من شدة سرعته .. ـ: هاك ماما
مد ابنها الكبير يديه اليها بحفنتي شعير وحذت حذوه اخته، عثرا على كنز لايقدر بثمن في إعتقادهما، أخرجاها من مرارة التذكر، تناولته منهما، مضغت جزءا منه متضاحكة والقول الشهير يتراقص في فمها مع حبات الشعير ( شر البلية ما يضحك ) .
انتصف الليل، مازال الهدوء سائدا ماعدا صوت إطلاقات تُسمع من مكان بعيد جدا . تجمع البرد والجوع في أحشائهم، إقترح الجد العودة الى الدار وافقه الجميع دون تردد، حملت طفلتها أمسكت يد الصغير المتجمدة من البرد والخوف والمرض ما أن رأوهم الناس حتى بدأ الجميع بالرحيل، ساروا تحت جنح الظلام جنب الأسوار بصمت وحذر، شىءٌ واحد يربطهم الخروج من المحنة أحياء .
وصلوا الى البيت فجرا، تعطلت ساعة الحائط الوحيدة لم يجدوا وقتا لأصلاحها، المدينة تنعم بهدوءٍ نسبي، الأذان لم يُسمع فيها منذ بدء الحرب ، نام الجميع حال وصولهم .
صوت إنفجار مدوي أفزعهم من نومهم، كان الفجر في أوله، المدينة تُدك بقسوة وضراوة وكأن قصف الأمس لم يفِ بالغرض، هرب الناس ثانية من بيوتهم على غير هدى، الفزع في عيونهم وبخطوات متعثرة إتجهوا الى منطقة خارج المدينة قيل أنها خارج نطاق القصف، لم يبقوا في دارهم أكثر من ساعتين اضطروا للخروج ثانية حملوا بعض ما تبقى من طعام عبارة عن كميات قليلة من الطحين والشاي والسكر وبصلة واحدة وبطاطس احتارت الجدة ماذا تصنع منها، لم تنس الجدة ( الموقد ) وعدة الشاي وفُرْشاً خفيفه حُمّلت على دراجه هوائية قديمة، للحرب السابقة تأثيرها السيكولوجي في نفوس النسوة اذ أصبح تخزين المواد الغذائية جزءا من واجبهن وبالرغم من كل التدابير شحت هذه المواد . سار الأولاد خلف جدهم محتمين به وبأبيهم ماعدا الصغير الذي لم يدع يد امه لحظة واحدة، مصراً على حمل فانوس بيده الثانية .
ناس الأمس اتجهوا صوب الطريق الخارجي الذي لم يكن بأفضل من طريق البساتين، إنكسرت الدراجة تركوها في الطريق، حملوا الفُرْش على ظهورهم ورؤوسهم، انتهوا الى شارع خارجي للمدينة، غدا الناس يدخلون ملعباً كونكريتياً شاهق البناء لايتناسب وفقر المدينة أُنشئ قبل قيام الحرب الأولى ليستقطب الشباب الا أن انشغالهم بالحروب والسعي وراء لقمة العيش أبعدهم عن التفكير بالرياضة .
النسوة تجمهرن عند المدخل حول حنفية الماء وسط نافورة في مقدمة الملعب، سرعان ما نضب وأُفرغت الخزانات التي كانت تزوده .
إمتلأ الملعب بالناس من كل الأعمار ليس للتفرج على لعب كرة قدم. الناس ليسوا على عادتهم، لايتبادلون سوى سلام المجاملة العابرة المقتضب، الخوف والريبة والتوجس سيد الموقف . شُغِلَتْ كل غرف الملعب العديدة المطلة أبوابها على ممر مسقف يشرف على ساحة الملعب الدائريه، علاه مدرج المتفرجين، المبنى متين جدا وحديث قد يصمد أكثر من أي مكان آخر أمام الهجمات .
لم يبق سوى غرفة واحدة مغلقة بإحكام،كسرها جار لهم، أعطى مكنسة للمى لتنظفها أدى كل ماعليه دون أن يبادلها السلام . الغبار المتكدس والعلب الفارغة ومخلفات البشر والحمام الميت أوحت لها بأن المكان كان مقرا للمهربين والقتلة.
منذ الفجر والقصف متواصل على المدينة، اعتاد الأطفال على الجوع حتى لم يعودوا يطالبون بشيء، للموت المحلق فوق الرؤوس اثره في إلغاء كل الرغبات، بعد أن هيأت الغرفة استفرغت مافي جوفها، ليس من ماء تشربة أوتغسل به فمها سوى ماء مطر متجمع في برك آسنة حول المبنى، اضطر الجميع الى استخدامه . حل المساء فحل هدوء نسبي ، صنعت الجدة شورباء وشايا لاصوت يسمع سوى صوت السكون وطقطقة الأواني الحذر، استغرق الجميع في النوم، همهمات حميمة بين الجد والجدة أيقظتها من النوم، امتدت أصابع زوجها تداعب شعرها، أزالت الحرب جفوة نشأت بينهما الا أن نوم الأطفال معهما جعل التواصل صعبا، الجميع اخلدوا للنوم، ظلت متيقظة بين الرغبة والحنين وبين خوفها على اولادها وخاصة الصغير فلم تستسلم للنوم بسهولة .
صوت هائل هز الملعب، يقتلعه إقتلاعا، ضُربت المدينة بصواريخ أرض أرض، ألوان تتراقص وتندمج تتماوج لتتفكك، تراها من النافذة، من المستحيل التصديق أنها الوان موت ودمار، ومن المستحيل التصديق أنها ليست ليلتهم الأخيره، وعدٌ بالموت، ساعات رهيبة لاتنسى الى آخر لحظة في العمر .
حل الصباح فحل هدوء نسبي تشوبه إطلاقات متفرقه، صباح مُؤَرق،
:ـ صباح الخير ،
جلس الجميع كل واحد يتلمس جسده بيده غير مصدق من بقائه حيا، قامت الجده بتثاقل، أعدت شايا، أفطرت الأولاد بما تبقى من خبز وحليب، أتعبها الأطفال بتحججهم وعدم رغبتهم في الأكل، أصبحت متوترة سريعة الغضب، الجميع في وضع نفسي سيء.
عدد كبير من الناس يجهلون مصائر أولادهم، لم يعودوا من جبهة القتال وآخرون انضموا الى الثوار الذين قاوموا الجيش في المدينة، ما إن حلت الظهيرة حتى سكت اطلاق النار تماما، ارتفعت طائرات مروحية في الجو تُعلن عن سيطرة الجيش على المدينة، ودعوة موظفيها للألتحاق فورا بوظائفهم، من لم يلتزم يعرض نفسه لتهمة الخيانة العظمى .
رجع الأهالي الى بيوتهم منكسرين خائفين مما هو مقبل، خلا الملعب منهم . لم يعد بقاء لمى وعائلتها في المدينة آمنا، الجيش يُمشط المدينة بحثا عن الثوار والسلاح والغرباء الذين يُتهمون بتأجيج الفتن . لم تدري إن نامت أو حلمت، قضت ليلتها مُسهدة تأمل بالرحيل حينا، تخاف من مغبة الطريق حينا آخر .
قامت مبكرة صباح اليوم التالي، ماإن نهضت حتى نهض صغارها جميعهم كلهم أمل ولهفة للعودة الى مدينتهم، رفضوا تناول أي إفطار، رغبة الرجوع لاتساويها عندهم أية رغبة أخرى .
وسائل النقل داخل المدينه منقطعة تماما، اضطروا الى السير الى موقف سيارات المدينة الخارجي، أملهم أن يعثروا على سيارة تقلهم، أصر الجد والجدة على توصيلهم، حاولت الجدة إرجاعهم في منتصف الطريق، لكن حب العودة الى دارهم كان الأقوى، عادت الجدة بعد أن ودعتهم ، بقي الجد معهم .
المدينة مقفرة تماما، لايُسمع فيها غير وقع أقدامهم وهمسات عابرة بين الجد وأبنه بالرغم من تجاوز الساعة السابعة صباحا، البرودة شديدة فدفء آذار لم يُزح برودة شباط بعد، ضباب كثيف يعيق الرؤية عن بُعد، من عمق السكون شق الفضاء صوت نادبة قادمة من أحد الأزقة تصرخ باسمٍ ويتبعنها مجموعة من النسوة ناثرات شعورهن ممزقات ثيابهن لاطمات على صدورهن ووجوههن، لا وقت للبكاء ولامجال للتعبير عن الحزن والمشاركة كفكفوا دمعهم ساروا مطأطئي الرؤوس، وصلوا الجسر الرئيسي للمدينه، ناله قصف أحدث فيه شرخا هائلا يجعل العبور عليه صعبا، أحتمال السقوط والغرق في النهر وارد، عبر الجد أولا مستندا الى سياج الجسر الذي ظل قويا رغم الخراب، وقف على الجانب الآخر يساعد الأولاد وأبيهم على العبور .
على طول الطريق المؤدي الى الكراج انتشر جنود مدججين بالسلاح، غبر الوجوه ،شعث الشعور . امتلأت جدران البيوت وواجهات المحلات بشعارات كتبها الثوار أزيل قسم منها واستُعصى القسم الأكبر منها . ربضت على ساحة موقف السيارات الواسع ثلاث حافلات حديثة أُعلن عن عدم تسيرها لأنها تحت إمرة الجيش، مجموعة من الناس تتلهف على إيجاد واسطة نقل دون جدوى، الجميع تركوا الموقف مواصلين السير على أقدامهم .
انشغلت لمى برفع إبنتها الصغرى وتعديلها، أصبحت ثقيلة عليها، تعثرت بإبنتها الكبرى التي وقفت أمامها فجأة ناظرة بعينين مرعوبتين وكلمة متيبسة في فمها
ـ: (إ..ن...ظ...ر..ي. ما..ما .)
ألقت نظرها فر الدم من جسمها، فقدت القدرة على تحمل نفسها وثقلها، جثة ملقاة على حافة الرصيف واخرى فوقها مقطوعة الرأس واخريين في سيارة (لاندكروز) خُط عليها شعار الثوار إحترق جزء منها، شاب وشابة مدنيين صفر الوجوه يتناقشون مع الجنود بأمر ما، شعر زوجها بوضعها حمل عنها الصغيرة، لكز ابنته بكوعه حاثا إياها على الأسراع واجتياز المكان، على بعد خطوات اصطفت (بيك أب) جنبهم أشرلهم سائقها بالصعود، صعدوا مودعين الجد دون أن يسألوا سائقها الى أين وجهته أو يسألهم .
ابتعدوا بضعة كيلوا مترات خارج المدينه، أرتال الدبابات اصطفت بخطين متوازين طوقت المدينه، وصلوا بعيدا عن مواقع الجيش المحاصِر، توقف (البيك أب) أبلغهم السائق بأسلوب مؤدب أنه لايستطيع توصيلهم الى مكانهم، وأنه سيعود بعد أن أبعدهم عن الخطر الى بيته، شكروه ثم ساروا باتجاه العاصمة التى تبعد مئات الكيلومترات، لا أمل لهم حتى في الرجوع الى بيت الجد . في الطريق تفاجأوا بوجود أُناس غيرهم مدنيين وعسكريين من بقايا الجيش المنسحب من الجبهة، لا علاقة له بالجيش الُمطوِق للمدينة .
الشارع شبه منقطع، قليلا ماتمر سيارة، يوقفها الناس ويصعد فيها من يجد مكانا، لم يبق من المدنيين سواهم بين الجنود، حاول أحدهم مساعدتهم وحمل ابنها الصغير الا إنه أبى أخذ آخر الحقيبة من يد زوجها، لم ترتح له، في الحقيبة كل وثائقهم الرسمية قد يكون من ضعاف النفوس فيسرقها معتقدا فيها نقوداً، الوحدة في هذا الطريق المنقطع الموحش ارحم من صحبة محفوفة بالمخاوف . (المكتوب على الجبين لازم تراه العين ) كما يقول المثل الشعبي، محاورة غير مجدية انتابتها تهرب بها مما هي فيه، قد تكون نظرات الجندي غير الودية هي التي ذكرتها بوجود الحظ أو عدمه، هل ما حدث لهم وما يحدث محض صدفة يخلقها ظرف ما ؟ أسكتت مونولوجها الداخلي بغضب، لا وقت للتفلسف، حملت إبنتها الصغيرة بقوة، طلبت من زوجها أن يأخذ حقيبته ويتباطأ عن المجموعة لينسحبوا عنهم .
نقطة التفتيش خلت من مراقبيها, خلف هذه النقطة امتد الشارع، على جانبيه وبمد البصر انتشرت مخلفات الجيش المعسكر فيها أبان الحرب، انسحب تاركا بساطيل،خوذ ا، علبا ،قناني فارغة وبقايا ملابس تتلاعب بها الريح . لاتمر سوى عربات قليلة أغلبها لحمل المواشي وأُخر عسكرية كلما تمرق سيارة يمدون أيديهم لها، حذا الأطفال حذوهم، رافعة عسكرية وقفت لهم، شُغلت مقدمتها برجل وامرأة والسائق، ثمانية جنود اعتلوا سطحها، التفت اليها زوجها متسائلا إن كانت تستطيع الصعود، الواحدة ظهرا، نهار الشتاء قصير وليله مثلج ماذا سيفعلون إن حل المساء ولم يجدوا عربة تقلهم، لم تنتظر الرد أو تناقش الأمر مخافة أن يتركوهم صَعّدت أولادها مد الجنود أياديهم للصغار، أخذوا ابنتها منها ثم ساعدوها وزوجها على تسلق السلم الى السطح الذي لم يتبق فيه مكان فارغ سوى زاوية صغيرة جنب سلم الرافعة، الذي يطل مباشرة على الشارع دون حاجز، أحتضن الجنود الصغار، دفوهم بقماصلهم العسكرية، اما هي وجدت حديدة ناتئة تصلح أن تكون نصف مقعد، افترشته، أحتضنت طفلتها بيد وبالأخرى مسكت عتلة جنبها تتثبت بها جلس أمامها زوجها جاعلا من ساقه سدا بينها وبين الحافة خوفا على صغيرته من السقوط التي أعادها الجنود لها متمسكا بسلم الرافعة، لم يكن المكان آمنا قط ولكن حب البقاء أقوى من كل شيء، لا بد من تحمل المخاطرة، سارت الرافعة بهدوء قاطعة الشوارع التي قُطّعت أسلاكها بأشعة الليزر المستخدمة أثناء الحرب، تنملت أصابعها، امتد الخدر الى يدها، طال الزمان وتباطأ بل أصبح ثقيلا، قدم الجنود تمرا وخبزا لهم أكل الأطفال أما هي فلم تستطع حراكا، وصلوا نقطة تفتيش المدينة التالية توقفت الرافعة، نزل سائقها طالبا من الزوج التمشي وملاقاته خارج حدود نقطة التفتيش لان التعليمات العسكرية تمنع نقل المدنيين بها، اما هي فأبقاها، سيجد تبريرا معقولا لوجودها يُرضي به مفتش النقطة، أُنزل الجنود جميعهم، أوصلهم الى مكان آمن يستطيعون تدبير أمرهم، انتقلت الى مكان الجنود لم يكن الجلوس تحت السلم مريحا لكنه أكثر أمنا ، كان الأطفال مستدفئين بقماصل الجنود اضطرت الى خلع معطفها، أعطته للصغار، جاءها ضابط مستفسرا بلهجة غير ودية عن سبب وجودها تشاغلت عنه بالأعتناء بطفلتها، رجع مكانه ثم عاد اليها راميا بيضتين مسلوقتين ورغيفين قائلا لها بلهجة آمرة أعطيها للأطفال ثم انصرف متباطئا، امرأتان تدفعان بصعوبة عربة بناء صغيرة حُمّلت بقنينتي غاز توقفن جنبها معتقدات أنها اسيرة سألنها بصوت منخفض عن أخبار المدينة التي جاءت منها لم تقدر على الأجابة، خنقها الخوف والدموع، انصرفن متلفتات اليها بين الحين والحين متجنبات المرور أمام العسكر . أنهى السائق استراحته، انطلق ثانية، على مبعدة من عيون الرقباء كان زوجها ينتظر، اشترى لهم طعاما من الباعة المنتشرين في مدخل المدينة .
وصلوا مدينتهم بعد منتصف الليل، ودّعوا السائق وشكروه على موقفه الأنساني، اعتذر لعدم مقدرته على توصيلهم للدار، الطريق أمامه طويل الى الشمال .
تغفو المدينة في ظلام دامس ينير مداخلها ضوء سيارات الأجرة، استأجروا واحدة ، تضاعفت الأجرة عشرات المرات عن السابق، بعض الشوارع المهمة أُضيئت بمولدات كهربائية، في الطريق حدثهم السائق عن أحداث رهيبة حصلت، أكثرها قسوة ومرارة عليه مقتل ابني أخته اللذين كانا يَحضران حفل زفاف في الملجأ الرئيسي للعاصمة، قُصف بوحشية، لم ينج أحد منه .
وصلوا دارهم غير مصدقين نجاتهم، شعور من الراحة والأمل وكأنهم أعيدوا الى الحياة ثانية، فتح الأب باب الحديقة، انطلقت لمى داخل الطرمة المظللة بالأشجار، علاها الغبار، سارت الى القفص بوجل لم تجد الطيرين ولا أوانيهما ، فتحت باب المطبخ، ثم باب الثلاجة وجدت العفن طغى وخرج من قدور الطبخ والكيكة التي صنعتها صباح يوم مغادرتهم وامتد داخل الثلاجة، أشعلت المدفأة، غسلت الثلاجة، نظفت المطبخ، هيأت غرفة الجلوس والنوم، حممت الأطفال بالرغم من شحة الماء، فتحت دولاب الملابس مدت يدها لتُخرج ملابسَ نظيفةًَ لها، إلفةٌ حميميةٌ مع ملابسها لم تشعرها من قبل .
تعالى صوت بنت الجيران مناديا عليهم، شعرت بحركتهم في البيت، أطلت عبر السياج ، تسالمتا وهنأتها على سلامة العودة، أبلغتها انهم رحلوا الى الريف لكنهم عادوا بعد اسبوعين، وان أختها تحضر كل يوم أمام باب الدار آملة بعودتهم، أما الطيرين فواحد مات والآخر أعطاه ابن أخيها الى صديقه اللبناني الذي عاد الى بلده هربا من القصف .
نام الأطفال باستقرار، غفت معهم، يغمرها شوق لرؤية أهلها وصديقاتها .
تغيرت الحياة تغيرا جوهريا بعد الحرب أصبح الغذاء غاليا ومقننا تصاعدت الأسعار بوتائر متسارعة، اختفت اغلب المواد الأساسية، لم تعد الرواتب تفي بأبسط الأحتياجات وبالرغم من كل ذلك اتسعت الأسواق وامتدت ليبيع فيها الناس ما يملكون سدا للضروريات .
إنقطعت أخبار المدينة المنكوبة مدينة الأهوار، مُنع الخروج منها والدخول اليها، رغبة ملحة لمعرفة ماحل في المدينة ولكن الخوف من مغبة الذهاب يمنعهم . بعد مدة رُفع الحصار عنها، زارهم قريب لهم فأخبرها بما حل للمدينة بعد رحيلهم، ظلت محاصرة مايقرب السنتين، اُعتقل العديد من شبابها وأُعدم آخرون منهم عبد الله صاحب المذياع المكسور، واما أماني فاتنة الحي فقد ماتت بعد ستة أيام من رحيلهم متأثرة بحروقها تاركة ابنها لقدره المجهول، وابنة أم مخلد المتزوجة من غريب، استطاعت الإتصال بامها ومساعدتها ثانية .
مرت سنتان ازداد حنين لمى وشوقها للجدة ولبنات الحجي ولفوزية ولوشوشة نساء الحي حول حنفية الماء ولصدقهن ومودتهن . العطلة الربيعية ستحل بعد شهر، سيصادف معها عيد رمضان، قرروا زيارة بيت الجد غسلا لما تركته الأحداث قي نفوسهم من الم وكدر .
امنيتهم لم تتحقق فقبيل أيام قليلة من حلول العطلة اصيبت الجدة بارتفاع حاد في ضغط الدم لم يمهلها، ماتت تاركة في نفوسهم حسرة لاتمحى .

****





#سميرة_الوردي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحن والحرية
- عن أي شيءٍ أكتب
- أنا والغروب
- الكتاب والأنترنيت
- اليأس مرض عضال
- هل من الممكن أن نرى الخطأ ونسكت عنه ؟ !
- المرأة والديمقراطية والعلمانية
- دعوة لعقد مؤتمر وطني للمثقفين العراقيين
- يا أُمة أخجلت من جهلها الأُمم
- ُنريد أن نحيا / مع رسالة من بغداد
- قراءة في ديوان طلائع الفجر ( 5 ) للشاعر/ علي جليل الوردي
- قراءة في ديوان طلائع الفجر ( 4 )
- الى سلام الناصر
- قراءة في ديوان طلائع الفجر 3
- قراءة في ديوان طلائع الفجر ( 2)
- قراءة في ديوان طلائع الفجر
- رسالة أم
- گوگ الله المنتسر من الجنوب الى الشمال
- هل سنحرق البترول أم سيحرقنا
- الخيمة


المزيد.....




- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة الوردي - ﮔُْوك الله المنتشر من الجنوب الى الشمال