أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فؤاد النمري - الحق- ليس إلا مفهوماً بورجوازياً باطلاً -















المزيد.....


الحق- ليس إلا مفهوماً بورجوازياً باطلاً -


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 1959 - 2007 / 6 / 27 - 12:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



بــدأت فـترة الجزر الثوري التي استغرقت كل النصف الثاني من القرن العشرين وما تزال بسبب عنف انفجار الثورة المضادة في ألمانيا النازية 1933ـ1945 . وكانت قد بدأت بتسلل التعفن إلى رؤوس قادة الثورة العالمية بدءاًً بسوسلوف وخروتشوف ليفسد أول ما يفسد نقاء فكرة الثورة ويسمح تبعا لذلك بأن تجري على ألسنة المرتدين والثوريين البورجوازيين تعابير رجعية أكثر مما هي جوفاء من مثل " دولة الحق والقانون "
قبل الشـروع بفضح الخـلل والخـداع اللذين ينطـوي عليهما تعـبير " دولة الحق والقانون " سيكون مفيدا بل جوهريا تحليل مدلول " الحق " تحليلا دقيقا وهو التحليل الذي يمس مسا عريضا ومباشرا سائر المفاهيم المركزية لدى المشتغلين بالسياسة والعلوم الاجتماعية ومنها المفهوم العام للدولة ووظائفها ولفحوى القانون ومشروعيته .
يـلزم التأكيد بداية على أن " الحق " لا يعـرف إلا إذا عرف نقيضـه " اللاحق " بوجوهه المتعددة المعروفة ـ الباطل ، الجور ، الظلم ، العسف ، القمع ...ألخ وحين يتعذر معرفة أحد النقيضين تنتفي في الحال معرفة الآخر ، وبانتفاء أحدهما ينتفي الآخر . ففي الحياة الوحشية ينتفي " الحق " و " اللاحق " على الإطلاق إذ لا يمكن وصف افتراس الذئب للحمل بالعمل التعسفي أو بالطغيان طالما أن مثل هذا الافتراس هو الوسيلة الوحيدة لإحقاق حق الذئب غير المشكوك فيه بالحياة وبالبقاء وعدم الإنقراض . أما الحق القائل بحدود " لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم " فهو حق غير ثابت على محور الحق/اللاحق إلا إذا دلت على حدوده دالة خارجة عن هذا المحور ولا تنطلق من أي من طرفية ، حق الذئب من طرف وحق الحمل من طرف آخر ، بل من طرف ثالث غريب عن كل من الذئـاب ومن الخراف . وبغياب تلك الدالة وهي تعسفية بكل المقاييس طالما أنها تغيب تغييبا تاما ونهائيا حقوق الذئاب كما حقوق الخراف فمن العبث الحديث عن أية حقوق . لهذا تدجّن الخروف ليلغي حق الذئب بافتراسه ويلغي بذات الوقت حقه هو بالعيش في القفار حيث تعيش الذئاب وبذلك انفك الرباط الحقوقي بين الذئاب والأغنام انفكاكا تاما .
إن مفهوم الحق/اللاحق لم يظهر في المجتمعات البشرية إلا في مراحل متطورة ، مجـتمعات توحدها شبكة تامة من عـلاقات الإنـتاج ، شـبكة سـداتها " حق الملكية " . روبنسون كروزو مثلا الذي شكل مجتمع الفرد الواحد في جزيرته النائية لم يكن بحاجة لفهم الحق واللاحق ولم يرد في قاموسه حق التملك بالرغم من كل انهماكه الإبداعي في حقل الإنتاج وقد بلغ تقسيم العمل فيه حد الكمال .
الصورة المثيولوجية الناطقة التي رسمتها الأديان السماوية للحياة الدنيا والحياة الآخرة استوعبت جميع أبعاد التناقض الحق/اللاحق أو الحق/الباطل . ففيها الحياة الدنيا حياة باطلة ، فانية وعابرة وذلك لأن هذه الحياة قامت أصلا على وحدة النقيضين .. الحق/ الباطل الحسنة/السيئة الصالح/الشرير والصراع بينهما . ولأن هذا الصراع باطل بنقيضيه ، الحق باطل واللاحق باطل كذلك ، وصفت الحياة الدنيا بالبطلان . كما أن الحياة الآخرة الأبدية غير الباطلة لا تبدأ إلا حال انفكاك النقيضين عن بعضهما انفكاكا لحظيا كيما يوضع كل واحد منهما في كفة ليتثاقلا على ذراع واحدة فلا يوزن أحدهما إلا بالآخر ثم يستحيلان بذات اللحظة إلى العدم ، العدم المطلق ، فتدخل الأنفس دار النعيم أو دار الجحيم حيث تتحرر هناك من كل معايير الدار الفانية إن بجهة الخير أم بجهة الشر إذ ليس في دار النعيم أو في دار الجحيم أي أثر للحق أو اللاحق طالما قد يتواجد في دار النعيم بعض الأنفس التي كانت قد حملت في الحياة الدنيا ثقلا من الخطايا يفوق عما حملته بعض الأنفس في دار الجحيم ، والعكس صحيح . في هذا التصوير الحي لوحدة التناقض صورة موازية لبطلانه .
الطبيعة البورجوازية الباطلة للحق تعكسها أيضا لائحة حقوق الإنسان التي توصف عادة بالعادلة وتقف العدالة عند حدود معانيها . فالحق بالقول يغدو شرعيا فقط بعد التسليم بشرعية الحق ( او اللاحق ) بمصادرة حق القول وبكم الأفواه . ثم إن اللائحة لم تحدد مدى امتداد هذا الحق ولا وسائل تحقيقه معترفة بذلك بشرعية حق القول عبر الإذاعة مثلا للسلطة المعادية لحق القول ومكتفية بشرعنة حق القول في زاوية مهجورة للمواطن المقموع . وما يقال عن حق القول يمكن أن يقال عن سائر الحقوق الأخرى الواردة في اللائحة . إن إعلان لائحة حقوق الإنسان موجه بصورة رئيسية إلى السلطات المعادية لهذه الحقوق وإلاّ لما كانت قد صدرت .
الحق بالإطلاق ظهر في المجتمعات البشرية مع ظهور حق التملك فيها فكان هذا الحق ـ البشع في وجوه عديدة ـ هو الأب الشرعي لكافة الحقوق الأخرى . قام ( حق ) فرد ما أو طائفة ما بامتلاك ممتلكات معينة وذلك فقط ليحرم أفرادا آخرين أو طوائف أخرى من امتلاك هذه الممتلكات أو أي منها . هذا هو بالضبط الحق البورجوازي الذي يلغي مباشرة ( الحق ) الإنساني . واندرج امتلاك قوة العمل التي هي أخص خصائص الإنسان بالكم وبالكيف في رأس قائمة الحقوق البورجوازية ليعود على المالك بالأجر المناسب . لكن الطبيعة البورجوازية لامتلاك قوة العمل لم تستطع قط اختراق جدار الأسرة فظل أفراد الأسرة يقتسمون الأجر حسب حاجة كل منهم ودون تحديد أية حقوق .
تشريع الحق البورجوازي انطلاقا من حق التملك ومنه امتلاك قوة العمل والانتفاع بها أحدث أول شرخ في المجتمعاات البشرية من خلال أول تقسيم للعمل ظهر في التاريخ وهو تقسيم العمل بين الرجـل والمرأة . وقام هذا التقسيم بالدور الأسـاس في رحـلة عبوديـة المرأة . فالمرأة وبحكم تكويناتها الفسيولوجية والسيكولوجية غير قادرة على القيام بدور إنتاجي بالقدر الذي يقوم به الرجل . وبناء على هذه الحقيقة عمل الحق البورجوازي على تخفيض مرتبة المرأة عن مرتبة الرجل . ومن الجدير أن يشار في هذا المقام إلى الإشكالية الصماء التي تقع فيها عامة المنظمات النسوية المدافعة عما تسميه ( حقوق المرأة ) . إن طرح قضية المرأة على هذا المستوى ، مستوى الحقوق ، ما هو إلا تعبير عن جهل تام بجوهر القضية ونقص في الشجاعة الكافية للطعن في شرعية " الحق البورجوازي " . أما تحقيق حقوق المرأة في ظل شرعية " الحق البورجوازي " فلن يجديها فتيلا . لقد رأينا بلدانا كثيرة تشرع نفس الحقوق والواجبات لكل من الجنسين ومع ذلك ظلت المرأة فيها موضع استغلال بشع يقوم به الرجل من جهة عامة والطبقة المستغلة من جهة خاصة ، مثل تدني الأجور والاتجار بجسد المرأة . إن إختزال قضية المرأة لتغدو مسألة حقوق مهدورة عمل معاد للمرأة نفسها حيث أنه يتضمن ولو بصورة غير مباشرة التأكيد على حـقوق الرجل والاعتراف بها ، وهذا أقصى ما يبتغيه الرجل ليدفع بالمرأة إلى ما دونه . لذلك فإن المنظمات النسوية التي ترغب فعلا في تحرير المرأة تحريرا إنسانيا عليها أن تتقدم بجرأة إلى المطالبة بإلغاء كل الحقوق جملة وتفصيلا ومنها بالطبع حق الرجل بامتلاك المرأة . على هذه المنظمات أن تكف عن إدعائها الباطل بمساواة المرأة بالرجل ، المساواة التي لا تستدعي إلا احتسساب الحقوق غير المتساوية بفعل طبيعتها البورجوازية . القاعدة الأساس التي يبنى عليها وحدها تحرير المرأة هي أن الإنسانية تتكون من جنسين لا تناقض بينهما سوى تناقض الذكر/الأنثى اللاإنساني في الأساس والذي لا يحتمل المقارتة أو القياس بين طرفيه ، لذلك يجب أن يكون وجود كل من الجنسين وجودا حرا . كان حرا في الحياة الحيوانية فيما قبل التاريخ وكذلك يجب أن يكون حرا في الحياة الإنسانية الراقية فيما بعد التاريخ ، تاريخ التناقضات الإجتماعية .
الشرخ الخطير الثاني الذي أحدثه تشريع الحق البورجوازي وما نجم عنه من تقسيم للعمل الاجتماعي هو قسمة المجتمع إلى طبقتين متصارعتين ـ طبقة صغيرة تملك وطبقة كبيرة لا تملك . ومن أجل الحفاظ على موقعها الفوقي في المجتمع اتجهت الطبقة الصغيرة المالكة إلى استغلال الطبقة الكبيرة غير المالكة وحتم هذا إهدار كافة الحقوق البورجوازية للطبقة الكادحة ، ذات الحقوق التي مكنت الطبقة المستغلة ( بكسر الغين ) من امتلاك ما تملك من وسائل استغلال وغيرها . فالحق البورجوازي ذاته يقضي بأن ينال الأجير كامل أجره أو مردود عمله لكن المستأجر المالك ـ للعبيد ، للأرض ، للمصنع ـ استطاع ويستطيع دائما أن ينقل المواجهة بينه وبين الأجير إلى السوق الخلفية الموازية المحمية من قبل السلطة حيث يتم انتهاك الحق البورجوازي للأجير فيتخلى عن جزء صغير أو كبير من مردود عمله لمصلحة السيد المالك . ففي السوق الرأسمالية الحرة مثلا يسود مبدأ الاحترام التام لحقوق الرأسماليين البورجوازية وتعرض منتوجاتهم باحترام متكافىْ لتعود عليهم بأثمانها الحقيقية ( Production Value ) . لـكن هذه السوق (المحترمة) محرمة على العمال فهم لا يستطيعون عرض قوة عملهم فيها وهي سلعتهم الوحيدة . السوق الوحيدة المتاحة لهم هي السوق الموازية الخلفية الجائرة التي تشرعها وتحرسها الدولة بالقوانين والأنظمة . في هذه السوق اللاإنسانية لا يجد العمال مهربا من التنافس في عرض قوة عملهم فيتبارون في التنازل عن حقهم البورجوازي في الأجور لدرجة أن بعض الدول البراقة المظهر عملت على تشريع حـد أدنى للأجـور .
في هذه الصورة الواقعية الدامية والوحشية تبرز بصورة حادة فضاضة تعبير " دولة الحق والقانون " .. حتى الحق البورجوازي اللاإنساني يداس وينتهك بقوة قانون الدولة وبحمايتها في السوق الخلفية الموازية ، سوق العمل . بل ما هو أنكى من هذا هو أن الاحترام التام الذي يتوفر لحقوق الرأسماليين البورجوازية في السوق الحرة لم يتأت إلا من انتهاك حقوق العمال البورجوازية في السوق الخلفية الموازية غير الحرة . إنه الوجه الآخر له .
السياسيون والمفكرون الاجتماعيون البورجوازيون لديهم شيء يدافعون عنه دون هوادة وباستمرار اسمه " دولة االحق والقانون " . إنهم يصرون على النظر إلى النصف الظاهر من هذا الشيء رافضين الكشف عن النصف الآخر المستور ليتبين الناس حقيقة هذا الشيء بكليته وهو الذي لعب وما زال يلعب دورا خطيرا وحاسما في حياة البشرية ورقيها الاجتماعي . لخيبة ظن هؤلاء المفكرين البورجوازيين فإن النصف الآخر المستور يبين بشكل محسوس أصول وجذور هذا الشيء المسمى زورا ب " دولة الحق والقانون " . الأصول والجذور تتغذى تماما في تربة " اللاحق " و " اللاقانون " . فالدولة وبغض النظر عن طبيعتها هي الهيئة الموكول إليها تطبيق القانون على جميع رعاياها والحفاظ دائما وأبدا على سيادة القانون . تبعا لذلك فإن منتوج الدولة الرئيسي يجب أن يكون القمع . فالقمع هو الوسيلة الوحيدة لمعاقبة المخالفين للقانون ولإعادة الخارجين على القانون إلى مظلة القانون . وبافتراض أن قمع الخـارجين على القانـون والمخالـفين له هو القمـع " الحق " فإن هذا القمع الحق لا يتم أصلا إلا من خلال تنازل أفراد المجتمع جميعهم عن جزء من حــقوقهم كالضرائب مثـلا . وهذا بحـد ذاته هـو عـين " اللاحق " . فالدولة ، أية دولة ، هي قبل كل شيء ، وبعده أيضا ، جسم طفيلي يعتاش على حقوق الأخرين الذين هم خارج هيئة أو هيئات الدولة . أما القول بأن ثمة قمعا " حقا " فهو قول لا يستقيم إلا بالتسليم بصحة الافتراض القائل أن القانون ، أي قانون ، هو قانون الدولة كما هو قانون الشعب بجميع أفراده دون استثناء ، وهذا افتراض ليس مخالفا للنهج الديموقراطي في صياغة وتشريع القوانين فقط بل ومرفوضا حتى من فقهاء القانون أنفسهم الذيـن يرون في القانون تجسيدا لمصالح ( عامة ) وإلغاءً لمصالح ( خاصة ) . أما الدالة التي تحدد النقطة الفاصلة بين العام والخاص فإن الطرف الذي يسن القانون والذي يعلن عن نفسه طرفا خارجيا مستقلا تماما عن طرفي القانون ، العام والخاص ، هو الذي يرسم الدالة ويحدد بالتالي النقطة الفاصلة . بناء على هذه النظرة العلمية في فقه القانون لا يكون القمع حقا إلا إذا كان بمقدار أو بآخر " لاحقاً " .
ما قيل عن الحق يمكن أن يقال عن القانون ويزيد . فدائما ما يحدد القانون سلسلة طويلة من المفاهيم المتصلة به تحديدا دقيقا . إنه بذلك يرفض مفاهيم كثيرة أخرى منها ما هو مجاور للمفاهيم المندرجة فيه ومنها ما هو أقل تجاورا ومنها ما هو بعيد . وقد يحدث أحيانا كثيرة أن المفاهيم والشروط التي لم يأخذ بها القانون وظلت خارجـه تستجـيب لمصالح القسم الأعرض من المجـتمع ومع ذلك تبقى هذه المفاهيم والـشروط هي " اللاقانون " . فالدولة وهي تفرض القانون هي بذات الوقت تفرض " اللاقانون " بالاتجاه السسلبي .
تعبير " دولة الحق والقانون " هو التجسيد الأبرز للتشويه والتزييف الذي لحق بمفهوم الدولة . في هذا السياق تلح علينا ملاحظة لينين حين لاحظ .. " ليس من مفهوم جرى تشويهه أو تزييفه بصورة مقصودة أو غير مقصودة مثل مفهوم الدولة " . حكومات الدول المتخلفة تحب أن تصف نفسها بأنها دولة الحق والقانون وأنها فوق الطبقات . من المضحك حقا أن تكون هذه الحكومات على تعاستها هي أصدق الحكومات في مثل هذا الإدعاء ! فالمجتمعات في الدول المتخلفة لم تنم نموا طبقيا كافيا وذلك بسبب فقر وسائل الإنتاج لديها . ومن هنا فإن هذه الحكومات لا تنتمي إلى أي من طبقات مجتمعاتها . إنها دائرة مغلقة ( Closed Circle ) ؛ أما أنها تعبر عن القانون الحق فذلـك ليس صحيحا طالما أن هـذه المجموعة من الرجال لم تنزل من السماء بل قفزت فجأة دون سابق إنذار من إحدى الدوائر المعتمة في المجتمع وبوسائل غالباً ما تكون غير نظيفة وغير شرعية حتى بالشرع البورجوازي .
لا يجب أن نبالغ في السخرية من إدعاءات دول الدوائر المغلقة كونها من دول الحق والقانون سيما وأن مثل هذه الإدعاءات المكشوفة إنما أطلقت من قبيل الدفاع عن النفس . أما المثقفون ( الانتلجنسيا ) فإن دعواهم في البحث عن " دولة الحق والقانون " يجب ألا تثير فينا الاستنكار فقط بل والسخط أيضا . الانتلجنسيا وبحكم دورها الاجتماعي المأجور باستمرار لا تتورع من أن تشوه الحقائق وتلوي رقابها كيما تسند طموحاتها الدونكيشوتية . التجريد اللغوي ـ والعربية من أخصب اللغات في التجريد ـ تساعد متثاقفينا بل تغريهم في الولوج في سفسطائيات جوفاء لا يخرجـون منها قبل أن يفقدوا رؤوسـهم . فالحـق في عالمهـم السفسطائي يقابلـه " الحق المجرد " والقانون يقابله " القانون المجرد " وبذات التوازي يقابل الدولة " الدولة المجردة " !! هكذا هو خلق البورجوازي الوضيع فهو لا يخجل بعد تجريده من كل ما يستر عورته أن يخط على قفاه " بورجوازي مجرد " . إلا أن جميع الدلائل حوله لا تقطع بصحة ذلك . فأي حق ذلك الذي لا يشير إلى أية حقـوق ؟! وأي قانون ذلك الذي لا يتحدث عن أية محظورات وأية مسموحات ؟! وأي دولة تلك التي لا تردع أحدا لتحمي الآخر ؟! .. حتى إلى هنا يقودنا سقم السفسطائيين .
قام الحق بقيام الملكية االفردية ويختفي باختفائها . والانسان المجرد من الملكية ليس له أو عليه أية حقوق أو واجبات . حينذاك سيموت الحق ويدفن نهائيا ولا يـبقى على وجـه الأرض ما يـذكر به حتى ولا ذلك التمثال الأصم الذي نحته المثقفون وسموه " الحق المجرد " . الحق مثله مثل الضوء فكما لا يوجد في الوجود ضوء مطلق كذلك لا يوجد في االحياة حق مطلق أو حق مجرد . كما أن العتمة ليست هي الصفر الضوئي بل هي قيمة موجبة على مقياس الضوء . الصفر الضوئي هو الظلام الكلي المطلق أي انعدام الضوء بصورة مطلقة وغيابه فيزيائيا .
مع بداية خمود شعلة الثورة العالمية في منتصف القرن العشرين بدأ سقف ثورية المثقفين التقليدية في الانخفاض حتى بتنا نسمع منهم كلاما لا يقوله إلا الرأسماليون وأنصارهم من مثل أن الدولة هي المؤسسة العامة التي يفوضها أفراد المجتمع لحماية ملكياتهم والعلاقات الناظمة لها والمعبر عنها بقوانين . أي أن الشغيلة الذين لا يملكون إلا قوة العمل في أبدانهم يفوضون الدولة لحماية مبادلة قوة عملهم بأرذل سبل العيش ، بل إن العمال العاطلين عن العمل يفوضون الدولة بحماية عطلهم ، أي استمراره والذي هو من ضرورات النظام الرأسمالي !! مثل هذا الهذيان ليس قمينا إلا بالازدراء . فمنذ أن حدد ماركس طبيعة الدولة وجوهرها مبينا أنها منظمة قمعية تستبد بها الطبقة الحاكمة على الطبقات المحكومة ، منذ ذلك الحين لم يستطع أحد أن ينقض أو يضيف إلى هذا المفهوم .
البورجوازية الوطنية عامة ومنها البورجوازيات العربية على وجه الخصوص أفلست تماما سياسيا واقتصاديا حتى أنها باعت مشروعها الثوري إلى البنك الدولي والدول الإمبريالية الدائنة حين تأكد لها الانطفاء الوشيك لشعلة الثورة الاشتراكية العالمية . تحولت البورجوازية العربية الكبيرة إلى كومبرادور وضيع مطواع أما البورجوازية الوضيعة ، والمثقفون طليعتها ، فقد انسدت أمامها سبل التطور وأعيتها كل حيلة سوى النفـخ في قربة هي تعلم قبل غيرها أنها قربة مقطوعة منذ أمد بعيد . هذه القربة هي " دولة االحق والقانون " . هذا الجزء الرث من البورجوازية والذي أعجزه فقره عن الانضمام إلى شريحة الكومبرادور العملاء ما انفك يحلم أنه عسى وبضربة حظ أن يقنع الدوائر المغلقة الحاكمة بدعواه ، دعوى دولة الحق والقانون ، فتفتح الباب ولو مواربا أمامه لتسنح له الفرصة للانقضاض على السلطة أو حتى للاشتراك فيها ـ حبذا لو يقعد هؤلاء المتثاقفون صامتين لئلا يسيئوا إلى أنفسهم وإلى غيرهم بل إلى البشرية جمعاء من خـلال ترويج دعـاوى باطلة من أساسها .. هب أن طبائع الأمور قد انقلبت تماما فقامت في العالم " دولة الحق والقانون " أفلا يعني ذلـك سكون الحياة المطلق ونهايتها . من سيسقط دولة الحق والقانون ؟ .. لا أحد بالطبع . إذا ستكون هذه الدولة آخر دولة تعرفها البشرية . ستكون السجن الأبدي للإنسانية . سـتكون الكارثـة .
في حين يقبل مثقفـونا بالدولة البورجوازيـة لا بل يأخذهـم الحماس لتجـميلها بكل المساحـيق التي يعرفون من مثل " الحـق " و " القانـون " و " العدالـة " و " الديموقراطية " وغيرها ، في حين يفعلون كل هذا فإنهم يملأون الفضاء بالزعيق رافضين دولـة الطبقـة العاملـة ويشنعون عليها بوصفـها ب " التوتاليتاريـة " و " الدكتاتورية " . يغضون النظر عن دكتاتورية الدولة البورجوازية مع أنهم أولى الناس بتأكيدها إذ طالما عانت شعوب الدول المستعمرة والتابعة من اعتداءات الدول الرأسمالية الموصوفة بالديموقراطية التي انتهكت سيادتها وداست على استقلالها . كل ذلك لا يقطع بدكتاتورية الدولة الرأسمالية لدى مثقفينا فيزعمون أن دولة الرأسمالية المتقدمة تبقى ديموقراطية داخل حدودها حيث لا غبار على سيادة القانون ـ مثقفونا بالطبع لا يعلمون أن أعضاء الأحزاب الشيوعية محرومون من الوظائف العامة في كبرى الديموقراطيات الغربية مثل بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة . بل إن نقابات العمال في هذه الدول حتى تلك الموالية للسلطة منها تعاني كثيرا من مضايقات السلطة بما فيها تبديل اللوائح والأنظمة . ولعلنا لا ننسى في هذا السياق تركيع عمال المناجم في بريطانيا والذين يشكلون أقوى النقابات على الإطلاق على يدي المرأة غير الناعمة الليدي ثاتشر .
أما التوتاليتارية أو الشمولية فهي قاسم مشترك بين سائر أجناس الدولة . الفرق بين توتاليتارية دولة العمال وتوتاليتارية دولة البورجوازية هو أن الأولى تحدد لمواطنيها كيف يعيشون وكيف يلبسون ، أين يسكنون وكيف يعتنون بصحتهم ثم ماذا يتعلمون ! أما الثانية فإنها تحدد لمواطنيها كيف يعيشون وكيف يموتون أيضا ، كيف يجوعون ويعرون ويتشردون بلا عناية صحية وبلا تعليم ! الدولة البورجوازية تدعي أنها توفر لمواطنيها تبعا لطبيعتها ( الديموقراطية ) كل الخيارات الحرة ، تلك الخيارات التي تندرج في قائمتين متناظرتين : قائمة كيف تعيش مقابل قائمة كيف تموت . لئن كان مثقفونا الرافضون لدكتاتورية البروليتاريا على جانب من الفطنة لدرجة اسقاط قائمة " كيف تموت " من الخيارات الحرة فإن الفطنة تخونهم وهم يعتبرون قائمة " كيف تعيش " هي فعلا من الخيارات الحرة . لئن كان هذا صحيحا فإن سواد الناس في كبرى ما يسمى بالديموقراطيات الغربية يخـتارون بإرادتهم الحرة ألا يعيشوا حياة عائلية مكتملة ، وأن الشباب فيها يختارون قطع تعليمهم والانصراف للعمل ، وأن الكثير من النسوة يخترن الاتجار بأجسادهن !! أما حرية الرأي التي يقدسها المثقفون فإنها تظل مقبولة على الدولة البورجوازية طالما بقي الرأي الآخر محروما من وسائل النشر . إن أي دراسة معمقة لنشاطات الدولة البورجوازية ولفعالياتها الظاهرة والخفية سوف تبين بكل وضوح أن شمولية الدولة البورجوازية هي أشمل بكثير من شمولية دولة العمال . إنها تتسع حتى تشمل الفوضى ذاتها حيث أن فوضى الإنتاج هي خصيصة لازمة للنظام الرأسمالي . كما أن دكتاتورية الدولة البورجوازية هي أكثر سطوة وعنفا من دكتاتورية العمال . فالعنف الذي مارسه الحزب الشيوعي السوفياتي في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي من أجل توطيد دعائم الدولة لا يساوي نقطة من محيط من العنف الذي مارسته الدولة البريطانية ضد مواطنيها حيث وصلت عقوبة الطفل الذي يخطف رغيفا يسد به رمقه في القرن السابع عشر حد الإعدام أو في أفضل الحالات النفي النهائي إلى القارة الأميركية .
يحذو مثقفونا حذو الإعلام الغربي فيسبوا دكتاتورية البروليتاريا واصفينها بالدولة الستالينية . تزييف هذه الشتيمة يتخفى بحقيقتين هامتين : أولاهما أن الدولة السوفياتية بقيادة ستالين 1922ـ1953 كانت فعلا دولة دكتاتورية البروليتاريا . وثانيهما أن أداء الدولة السوفياتية خلال النصف الثاني من عمرها 1954ـ1990 كان أسوأ إداء حتى انتهى بها إلى الإنهيار الكامل . لكن ثمة حقيقتين هامتين بالمقابل تكشفان زيف هذه الشتيمة ومدى التضليل المقصود بها . أولاهما أن النجاحات التي حققتها الدولة السوفياتية بقيادة ستالين ما زالت مثار دهشة الأعداء قبل الأصدقاء ولم يكن سحق ألمانيا النازية أدعاها للدهشة . وثانيهما أن الدولة السوفياتية فيما بعد ستالين لم تعد دولة البروليتاريا بل " دولة الشعب كله " كما أعلنت عصابة خروتشوف ـ بريجينيف بملء فيها .
ربَّ من يعتقد أن مفاهيم الدولة والحق والقانون ليست ذات صلة وثيقة بحياتنا السياسية . على هؤلاء أن ينتبهوا إلى أن سوء فهم هذه المحاور الأساسية في بناء المجتمعات من شأنه أن يؤدي إلى أخـطاء ذات تداعـيات مصيرية . القوميون مثلا ومثلهم الإسلاميون ما فتئوا يناضلون من أجل بناء دولة ذات مواصفات مطابقة تماما لما يعتقدون ، وما فتىء الإسلاميون يمهدون االسبل ولو بقوة السلاح من أجل مبايعة المسلمين جميعا لخليفة لا يضاهيه صدقا وعدلا وأمانة وتقوى إلا أبو بكر وعمر بن الخطاب أو عمر بن عبدالعزيز . هؤلاء واولئك لم يدركوا بعد أن الدولة لا تتشكل وفق معتقدات معينة حتى ولو حمل مثل هذه المعتقدات كل الشعب . فالدولة لا تنزل من السماء وفقا لوصفات مسبقة إنها تنبت من الأرض ونسيجها من عناصر تربة تلك الأرض . المصالح الحقيقية العظمى لهذا المجتمع أو ذاك ، وليس أي شيء آخر ، هي التي تشكل الدولة ، تشكل الحـق وتشكل القانون .



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإشتراكية ليست نظاماً اجتماعياً
- المفهوم الغائب للفكر
- المرتدون على ماركس
- الإشتراكية العربية !!
- قراءة مختلفة في تاريخ الثورة العربية
- من ينقض ماركس ؟! 2
- من ينقض ماركس ؟! 1
- الإتحاد السوفياتي لم يعبر الإشتراكية
- رسالة خاصة حول راهنية العمل الشيوعي ومشروعيته التاريخية
- ما أحوجنا اليوم إلى معرفة ستالين على حقيقته
- المنحرف خروشتشوف والمرتد كاوتسكي يكتبان للحزب الشيوعي العراق ...
- دكتاتورية البروليتاريا
- لا علمانية ولا إكليركية، الدولة هي الدولة
- إنهيار الرأسمالية
- حقيقة قضية المرأة
- ماركسيون يلقون براياتهم في الوحول
- أكذوبة إقتصاد المعرفة
- القطيعة مع الوحدة العربية وقد خرجت من التاريخ
- الجاهل عدو نفسه / رد على السيدة سعاد خيري
- العولمة .. إنزلاق عن مسار التاريخ


المزيد.....




- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة
- سيناريو هوليودي.. سرقة 60 ألف دولار ومصوغات ذهبية بسطو مسلح ...
- مصر.. تفاصيل جديدة في واقعة اتهام قاصر لرجل أعمال باستغلالها ...
- بعد نفي حصولها على جواز دبلوماسي.. القضاء العراقي يحكم بسجن ...
- قلق أمريكي من تكرار هجوم -كروكوس- الإرهابي في الولايات المتح ...
- البنتاغون: بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة سيبدأ قريبا جدا
- البنتاغون يؤكد عدم وجود مؤشرات على اجتياح رفح


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فؤاد النمري - الحق- ليس إلا مفهوماً بورجوازياً باطلاً -