أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فؤاد النمري - قراءة مختلفة في تاريخ الثورة العربية















المزيد.....


قراءة مختلفة في تاريخ الثورة العربية


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 1952 - 2007 / 6 / 20 - 11:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


درج العامة على القول بأن " السياسة هي فن الممكن "، والحقيقة أن هذا القول لا يرقى لمستوى التعريف طالما أن التعريف لا بد وأن يحيط بالمعرّف تحت كل الشروط والأحوال، لكن قول العامة هذا يستثني السياسات التي تتعاطى بغير الممكن وما أكثرها عبر التاريخ! " السياسة فن الممكن " يندرج في باب النصيحة إذ ينصح السياسيين بأن لا يتعاطوا بغير الممكن. وأن يتعاطى السياسي بالممكن فقط يترتب عليه أن يقرأ التاريخ قراءة صحيحة كسبيل وحيد لتبني أهدافاً تقع على مسار التاريخ وليس خارجه.
عامة السياسيين العرب بمن فيهم من يصنفون أنفسهم في طبقة الخبراء الإستراتيجيين يفصلون فصلاً تاماً بين السياسة والتاريخ وتراهم لذلك يتبنون غالباً غير الممكن. من الأفضل حقيقة للأمة ألاّ يتعاطى هؤلاء المتسيسون بالسياسة كي يريحوا ويستريحوا لكنهم رغم كل شيء سياسيون. مرّوا بدروس صعبة خلال قرن طويل وفشلوا مع ذلك في إدراك أم الحقائق وهي الإرتباط العضوي بين الثورة الوطنية والثورة العالمية. أي أن النظام الرأسمالي الإمبريالي نظام عالمي لا يتفكك جزؤه ما لم يتفكك كلّه، وما لم تنجح الثورة العالمية في تفكيك النظام الرأسمالي على الصعيد العالمي لا يمكن أن تنجح ثورة التحرر الوطني في تحقيق أي من أهدافها.
بدأت علائم الإنهيار على الثورة العالمية بعد صعود نكيتا خروتشوف إلى قمة السلطة في الإتحاد السوفياتي مباشرة وهو الذي تبنى سياسة الفصل بين الثورة الإشتراكية والثورة الوطنية التي أعلنها بغير مواربة في المؤتمر العام الإستثنائي للحزب الشيوعي عام 1959 خلافاً للعقيدة اللينينية القائلة بالوحدة العضوية للثورتين والتي كرسها المؤتمر العاشر للحزب عام 1921. سياسة الفصل والعزل هذه شجعت قوى الثورة المضادة في العالم للقيام بثورات مضادة أخذت شكل إنقلابات عسكرية في العديد من البلدان المستقلة في مجموعة العالم الثالث في ستينيات القرن الماضي ـ كوامي نكروما، أحمد سوكارنو، باتريس لومومبا، عبد الكريم قاسم. وأهم هذه الإنتكاسات كانت نكسة حزيران 1967 التي شكلت تقريباً ضربة قاضية للثورة العربية بقيادة جمال عبد الناصر. عصابة خروتشوف ومخابراتها كانت مسؤولة بقدر أو بآخر عن تلك الإنتكاسة المأساوية. فهي التي نبّهت إلى وجود تحشدات إسرائيلية على الحدود السورية وقدّرتها بثلاثة عشر لواء مدرعاً مما دفع بعبد الناصر إلى الطلب إلى الأمم المتحدة بسحب مراقبيها الدوليين من سيناء وتحشيد قواته المدرعة في شمال سيناء ثم إغلاق مضائق تيران قبل أن يستطلع أحد جنرالاته ( محمود فوزي ) الحدود السورية دون أن يجد فيها أية حشود غير عادية كما أعلن فيما بعد. وهي التي لم تفِ بضماناتها التي قدمتها لعبد الناصر قبل العدوان بيوم واحد فقط لقاء عدم المبادرة بالضربة الأولى بعد أن قدمت الولايات المتحدة ضمانات مماثلة لإسرائيل. وهي التي لم تنبه مصر إلى ضربة جوية محتملة من الشرق بعد أن عبرت القاذفات الإسرائيلية البحر من فوق الأساطيل السوفياتية.
هذه حقائق تاريخية لا سبيل إلى إنكارها ومع ذلك هناك الكثيرون الذين يكرهون أية تخمينات تآمرية قد تشي بها مثل هذه الحقائق (ولعلي أنا أحدهم). إلا أن الإنقلاب النوعي الذي قام به خروتشوف في دوائر صناعة القرار السوفياتي وأولها دائرة المخابرات (KGB) فيما بين 1959و1964 لا يعزز مثل هذا الشعور للأسف الشديد. فخلال تلك السنوات الخمس البائسة لخص خروتشوف سياساته الدولية في شعار مشبوه ما زال جيل الستينيات يذكره جيداً وهو " إطفاء بؤر التوتر " من أجل ملاقاة الإمبريالية في منتصف الطريق. ليس من معنى لشعار خروتشوف " إطفاء بؤر التوتر " سوى تخريب ثورات قوى التحرر الوطني التي سرت في العالم سريان النار في الهشيم تبعاً لنتائج الحرب العالمية الثانية، وإطفاء أوارها كيلا تلسع جلد الإمبريالية الرقيق وتثير غضبها بالتالي، أو على الأقل الإبتعاد عن الثورات وتركها طعماً سهلاً لفيالق الإمبريالية.
لعل أول بؤرة توتر حاول خروتشوف ومخابراته إطفاءها كانت كوبا. ليس ثمة معلومات كثيرة حول ما جرى في أزمة الصواريخ في أكتوبر 1962 وفيما بعدها لكن رمز الثورة تشي غيفارا ما كان ليرفع صوته عالياً مستنكراً سياسة خروتشوف ومتهما إياه بالوقوف في صف الإمبريالية بدون مبررات ملموسة. ولم يكن الجفاء بين سرايا غيفارا المسلحة في بوليفيا والحزب الشيوعي فيها بعيداً عن أصابع مخابرات خروتشوف؛ وثمة من يقول أن إلقاء القبض على غيفارا قد تم بمساهمة من ذلك الحزب " الشيوعي ".
أكبر الإطفاءات كان من نصيب الثورة العربية ربما بسبب قربها من الحدود السوفياتية الجنوبية. ومن المفيد أن نتذكر مع ذكر الحدود الجنوبية السوفياتية ذلك الإنذار الحازم الذي وجهه الإتحاد السوفياتي، قبل إرساء سياسة خروتشوف الإنهزامية، لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا إثر ثورة 14 تموز 1958 في العراق وإنزال المارينز في بيروت وقوات المظليين الإنجليز في عمان، طالباً إليهما سحب قواتهما من لبنان والأردن خلال 48 ساعة وإلاّ فإنه سيتخذ الإجراءات الكفيلة بحماية حدوده الجنوبية. وقدر المراقبون لتحركات الجيش الأحمر آنذاك بأن تلك الإجراءات تضمنت إحتلال كل من إيران وتركيا. وما كان من تينك الإمبراطوريتين الإمبرياليتين سوى الإذعان وسحب قواتهما إنما خلال شهرين بعد توسط جـمال عبد الناصر في الإمهال. نذكر هذا ونذكر أيضاً الإنذار السوفياتي الذي وصف بالرهيب في 6 نوفمبر 1956 وأرغم دول العدوان الثلاثي بوقف عدوانها على مصر وسحب قواتها، من أجل أن يدرك العامة المغزى الجوهري لكل من مبدأ لينين الأممي الثوري وسياسة خروتشوف القومية الإنهزامية.
بدأ خروتشوف نفسه بإطفاء ثورة 14 تموز في العراق، فحين استولى الخوف على الزعيم عبد الكريم من الشيوعيين الذين شكلوا القوة الأولى والوحيدة في الساحة العراقية (300 ألف عضو و 700 ألف نصير) أخذ يلعب لعبة توازن القوى المعروفة لحماية وحدانيته في الزعامة فأعاد معظم العسكريين القوميين والبعثيين الذين كانوا قد تآمروا عليه إلى سابق وظائفهم في القوات المسلحة. وبدل أن ينهض الشيوعيون لاستلام السلطة دفاعاً عن الثورة سبقهم إليها شرذمة من عساكر البعث والقوميين واغتالوا قاسم ورفاقه وأعملوا تقتيلاً بآلاف الشيوعيين في إنقلاب شباط 1963. كان قد ترتب على الشيوعيين وفقاً للإستراتيجية والتاكتيك اللينيني أن يتسلموا السلطة في العام 1959 إلاّ أن خروتشوف تدخل شخصياً وحال دون ذلك وأعلن هذا الأمر دون خجل على الراديو من موسكو. أرسل سلام عادل من موسكو مع تعليمات مشددة بعدم الإنقلاب على السلطة ودعمه ليعيّن أميناً عاماً للحزب، كما أرسل خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري مرتين إلى بغداد لذات الغرض. فكانت النتيجة دخول العراق في عصر مظلم، عصر الحروب والدمار والمقابر والإجرام والتقتيل وما زال سائداً حتى اليوم. ما لا بدّ أن يثير الشبهات هو أن شرذمة الإنقلابيين (حزب البعث كان 700عضو وفق تقرير عفلق) كانت مجرد واجهة لمؤامرة حاكتها المخابرات في كل من بريطانيا والولايات المتحدة ومن المستبعد تماماً أن يتم كل ذلك دون أن تستشعر المخابرات السوفياتية بالأمر.
دماء الشيوعيين التي صبغت مياه دجلة باللون الأحمر لم تثنِ مخابرات خروتشوف عن إطفاء ثورة أخرى في الجناح الغربي للثورة العربية؛ إنثنت إلى الجزائر حيث كانت قيادة جبهة التحرير الجزائرية قد اختارت بالإجماع أحمد بن بللا رئيساً للجزائر. كان الشعب الجزائري حينذاك في سويّة ثورية عالية وكان على قيادته الثورية أن تباشر في بناء مشروعها الوطني الذي يستجيب لتطلعات الشعب وطموحاته. في ربيع 1965 أعلن الرئيس بن بللا أن القيادة قد قررت إنتهاج طريق الإشتراكية العلمية (الماركسية) في تطوير الجزائر. بعد ذلك ببضعة أسابيع، وتحديداً في 19 حزيران 1965 قام الصديق الأقرب لبن بللا وزير الدفاع ورئيس الأركان الجنرال الهواري بومدين بإنقلاب عسكري أطاح ببن بللا وأودعه السجن الإنفرادي الصحراوي طيلة حياة بومدين بدون محاكمة. ما يثير الإشتباه في هذه الحالة هو أن الجنرال بومدين الذي حال دون إنتهاج الإشتراكية العلمية في الجزائر تمتع طيلة حياته بحظوة لا مثيل لها لدى القيادة السوفياتية فكان لا يُرد له طلب.
ذات السيناريو جرى في سوريا فقد قام وزير الدفاع حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني 1970 بإنقلاب أطاح برفاقه وأصدقائه أيضاً في القيادة وأودعهم السجن طيلة حياتهم بدون محاكمة وكان السبب كما أعلنه نائبه عبد الحليم خدام أن أعضاء القيادة، نور الدين الأتاسي رئيس الجمهورية وصلاح جديد رئيس هيئة الأركان والرجل الأول في النظام ويوسف زعيّن رئيس الوزراء ورفاقهم، إتجهوا إلى تطبيق الإشتراكية (العلمية) بالنمط السائد في أوروبا الشرقية. أصابع المخابرات السوفياتية في هذا الإنقلاب كانت أكثر وضوحا منها في إنقلاب بومدين. فقبل الإنقلاب ببضعة أسابيع حضر السفير السوفياتي إلى مكتب المسؤول عن العلاقات الدولية لحزب البعث وعبر عن إستيائه من السياسة التي تنتهجها القيادة السورية وطلب من ذلك المسؤول نقل إستياء القيادة السوفياتية من تلك السياسة إلى قيادة الحزب والدولة. تجاهلت القيادة السورية تلك الرسالة الشفوية إلاّ أن القيادة السوفياتية لم تنتظر أكثر من بضعة أيام قبل أن ترسل رسالة خطية هذه المرة محذرة من سياسة المغامرة التي تنتهجها القيادة السورية، تلك السياسة التي تطرح مسؤوليات جسام على الإتحاد السوفياتي لن يتحملها بعدئذٍ. ما يتوجب الإشارة إليه هنا هو أن الحكومة السورية كانت قد تدخلت بقوة في المواجهة العسكرية بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية في أيلول 1970 وعبر لواء دبابات سوري إلى شمال الأردن لحماية المنظمة وهو ما استنفر الولايات المتحدة فما كان من القيادة السوفياتية إلاّ أن طلبت من الحكومة السورية سحب قواتها في الحال من الأردن. ما يستدعي التوقف إزاءه طويلاً هو أن حافظ الأسد وكان قائداً لسلاح الطيران تمرد على الأمر العسكري ومنع إقلاع أي من طائراته لحماية الدبابات السورية التي كانت تتعرض لقصف جوي وهو ما يشكل بالعرف العسكري خيانة وطنية. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو .. هل كان حافظ الأسد في تلك الحالة ينفذ أوامر موسكو ويضرب بأوامر دمشق عرض الحائط ؟!!
ما يشد الإنتباه هنا هو أن الإنقلاب في الجزائر والإنقلاب في سوريا هما من نفس الطينة ونفس الإخراج والأدوات ولهما نفس الغايات والأهداف وتتمثل في ـ
1. كلاهما استهدفا الحؤول دون إنتهاج طريق الإشتراكية العلمية (الماركسية) في التطور.
2. كلا الجنرالين بومدين والأسد تمتعا بحظوة مميزة لدى القيادة السوفياتية. لم يخجل الأسد من التفاخر أمام مبعوث كمال جنبلاط، محسن ذلّول، " بصداقته " الوثيقة مع يوري أندروبوف، رئيس الكي جي بي آنذاك الذي يأتمنه على أمن سوريا!! وللجنرالين علاقات وثيقة مع الملك فيصل الذي كان قد توعد القيادة السورية إثر قطعها أنبوب التابلاين عام 1966.
3. لم يكن لدى أي من الجنرالين برنامج إقتصادي واجتماعي يدافع عنه ويخطط لتطبيقه وكان شغلهما الشاغل رفض الإشتراكية العلمية وبدون بديل لها.
4. كان لكل من الجنرالين علاقات صداقة حميمة مع القادة المطاح بهم، بومدين مع بن بللا والأسد مع الأتاسي وجديد وزعيّن !!
5. كان مصير القادة المطاح بهم في الجزائر كما في سوريا ذات المصير وهو الحبس مدى الحياة دون محاكمة ودون توجيه أي تهمة لهم.
6. حكم الجنرالان بلديهما بواسطة الأجهزة الأمنية والمخابراتية، وخنقا كل قوى الثورة في بلديهما وكتما كل نفس ديموقراطي وهو ما يتساوق مع شعار خروتشوف الأثير القائل بإطفاء بؤر التوتر.

كيف يمكن حل مثل هذه المعادلة الصعبة التي لا تستقيم بحال من الأحوال باستثناء حالة واحدة لا غير وهي أن القيادة السوفياتية والمخابرات في مقدمتها كانت قد غدت العدو الأول للإشتراكية. بل إن هذا لم يعد إفتراضاً بل حقيقة لا غبار عليها. فبعد أن إنفرط عقد الإتحاد السوفياتي وبرز منه ست عشرة جمهورية مستقلة حكوماتها معادية للشيوعية جهاراً نهاراً لم يكن رؤساء هذه الحكومات سوى أعضاء المكتب السياسي للحزب " الشيوعي " السوفييتي أنفسهم من يلتسن في روسيا إلى شفرنادزه في جيورجيا إلى نور سلطانوف في كازاخستان إلى علييف في أذربيجان إلى كريموف في أوزبكستان..الخ بل إن جميع التحولات " الديموقراطية " التي وقعت في أوروبا الشرقية وأنهت حكم الشيوعيين وأخذت شكل الإنتفاضات الشعبية كانت من تدبير المخابرات السوفياتية، ولا عجب في ذلك، أليست هي ذاتها من أزاح الحزب الشيوعي السوفييتي من السلطة ودون إنتقاضة شعبية بل وحرّمت عليه ممارسة نشاطاته باعتباره حزباً غير شرعي. كانت الكي جي بي قد راكمت خبرات غنية في صناعة الإنقلابات بدءاً بالجزائر وسوريا.

مثل هذه القراءة المختلفة تؤكد حقيقتين هامتين جداً يتحتم على جميع المفكرين والسياسيين والدارسين في الإستراتيجيا أخذهما جدياً بعين الإعتبار، بل إعتبارهما نقطة البداية لأي دراسة يقومون بها ـ

الحقيقة الأولى وهي أن الفكرة الشائعة بين أوساط المفكرين السياسيين ومنهم الدكتور سمير أمين من مصر والتي تزعم بأن البورجوازية العربية قد خانت الثورة وأنها لم ترغب أصلاً في الإنفكاك من التبعية لمراكز الرأسمالية هي فكرة خاطئة ولم تتأسس على حقائق ملموسة. فالخيانة الأبرز للثورة والتي يمكن تسجيلها على البورجوازية العربية هي " خيانة " أنور السادات للثورة الناصرية. لم يقفز السادات من قيادة هيئة أركان حركة التحرر الوطني العالمية إلى حضن الإمبريالية الأميركية إلاّ بعد أن تحقق عملياً وبصورة ملموسة من أن الجبهة الإشتراكية بقيادة الإتحاد السوفياتي لم تعد قادرة أو حتى راغبة في مواجهة الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة؛ وأن علائم الخوَر والإنهيار بدت واضحة عليها ولذلك لا يمكن الإعتماد عليها في تحقيق أي تقدم للثورة العربية. لو لم يقفز السادات إلى حضن الإمبريالية الأميركية لكان حال مصر اليوم كحال سوريا في مواجهة إسرائيل.

الحقيقة الثانية وهي التي تعتبرها، للأسف الشديد، سائر الفرق السياسية والأحزاب عيباً تأبى الإعتراف به حتى وهي تمارسه. هذه الحقيقة هي الوحدة العضوية للثورة العالمية بوجهيها الإشتراكي والوطني. هذه الفِرق والأحزاب إنما تسيء إلى نفسها بإنكارها هذه الحقيقة الثابتة ثبوت الجغرافيا. فممارستها للعمل الثوري في بلادها إنما هي تمارسه في جزء معلوم من العالم وهو ما يرتب عليها إحتساب ما يجري حولها في العالم فيما إذا كان يتساوق مع مندرجات ثورتها ومراميها. كان لينين أول من نبّه إلى هذه الحقيقة الجوهرية حين خاطب زعماء حركات التحرر الوطني في الشرق المؤتمرين في باكو ـ أذربيجان 1921 محذراً من أن تحررهم لن يلقى النجاح إلا بالإعتماد على الثورة الإشتراكية والتعاون معها. فحوى التحرر الوطني هي الإنفكاك من شبكة العلاقات الرأسمالية الإمبريالية، والثورة الإشتراكية هي القوى الطليعية في تفكيك هذه الشبكة والتخلص منها نهائياً؛ وعليه فإن حركات التحرر في البلدان المستعمرة والتابعة لن تنجز إستقلالها وتقيم إقتصادها الوطني إلا بالإصطفاف مع الثورة الإشتراكية والإعتماد عليها. تجسدت هذه الحقيقة جامدة صلبة تغشى كل الأبصار إلاّ أن الفرق والأحزاب العربية ظلت ترفضها ولا تعترف بها. حتى الشيوعيون باتوا لا يعترفون بها بعد إنهيار المشروع اللينيني بالرغم من أنها كانت تشكل الشرعية الوحيدة لوجودهم في الدول المتخلفة غير الصناعية. لم تنجح أي من حركات التحرر الوطني في العالم كله قبل بروز الإتحاد السوفياتي كأقوى قوة في الأرض لدى نهاية الحرب العالمية الثانية. ثم بدأت هذه الحركات بالإنهيار لدى ظهور أولى علائم الوهن والتفكك فيه. وكلنا رأى قادة الدول وزعماء حركات التحرر العربية تهرع مستنجدة بالإتحاد السوفياتي كلما سخنت مواجهتها مع الإمبريالية. واليوم يشكو الجميع من غياب المعادل الوحيد في ميزان القوى الدولية للولايات المتحدة الأميركية وهو الإتحاد السوفياتي.

يتشاغل اليوم القوميون واليساريون بسجالات النقد والنقد الذاتي. فبالإضافة إلى أن هذا التشاغل أو الإنشغال هو دلالة قاطعة على إفلاسهم التام في العمل الثوري والوطني، فهو يشير أيضاً إلى إستمرارهم في تجاهل وإنكار الوحدة العضوية للثورة العالمية التي إنتهت إلى الفشل قبل نهاية القرن الماضي. ما كانت إسرائيل لتقوم بعدوان حزيران 1967 إلاّ بأمر الإدارة الأمريكية بعد أن قرأت بوضوح تام علائم الإنهيار على بنيان الثورة الإشتراكية في مركزها موسكو. ولو أن الثورة ظلت تتقدم بخطى جريئة وثابتة كما كانت قبل منتصف الخمسينيات ولم ينبذ خروتشوف السياسة اللينينية القائلة بالوحدة العضوية للثورة العالمية لما كانت الثورة المضادة في العراق عام 1963 ولما تجرأ العسكر على إختطاف الثورة في كل من سوريا والجزائر والعراق. أخطأ من أخطأ وأخطأ مهما أخطأ إي من فصائل الثورة الوطنية فإن الثورة كانت ستنجح وستصل إلى غاياتها لو أن الثورة الإشتراكية في موسكو حافظت على تصاعدها المرسوم في المبادئ اللينينية.
أعظم خيانة إقترفها خروتشوف وعصابته كانت إصراره على الفصل التعسفي ما بين الثورة الإشتراكية والثورة الوطنية. كما أن القيادات الوطنية العربية كانت قد سبقت خروتشوف في خيانة الثورة العربية وذلك من خلال حرصها على الإحتفاظ بمسافة فاصلة ملحوظة بين الثورتين ـ لا شرقية ولا غربية؛ وليس من شك في أن هذا قد إرتدّ سلباً على الثورة الإشتراكية وسهل لخروتشوف القيام بخيانته.
ربّ من يقول أن تلك الخيانة قد أصبحت من تاريخ مضى وانقضى، لكن هذا ليس صحيحاً تماماً فما زال المتسيسون والمتفكرون العرب منشغلين في صياغة مشروع قومي نهضوي! مثل هذا الإنشغال لا يستحق حقاً إلاّ السخرية. عالم التناقضات القديمة مضى وانقضى وزال بإنقضائه عالم الثورات المعهودة، ثم بغياب ثورة إشتراكية لا يمكن أن تقوم ثورة وطنية. عالم اليوم هو عالم جديد مختلف وبتناقضات جديدة مختلفة وبذلك لا بدّ أن تكون مشاريعه جديدة ومختلفة أيضاً، مشاريع لا تشبه مشاريع القرن العشرين بحال من الأحوال. تغيب عن الفضاء العربي اليوم في مطلع القرن الحادي والعشرين كل مشاريع التنمية الوطنية باستثناء مشروعين هما المشروع الإسلامي والمشروع الليبرالي، والمدهش حقاً في هذين المشروعين هو أن مشروعيتهما، كما للعجب يتفاخر أصحابهما، هي تحديداً لامشروعية المشاريع الوطنية الفاشلة السابقة !!!





#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من ينقض ماركس ؟! 2
- من ينقض ماركس ؟! 1
- الإتحاد السوفياتي لم يعبر الإشتراكية
- رسالة خاصة حول راهنية العمل الشيوعي ومشروعيته التاريخية
- ما أحوجنا اليوم إلى معرفة ستالين على حقيقته
- المنحرف خروشتشوف والمرتد كاوتسكي يكتبان للحزب الشيوعي العراق ...
- دكتاتورية البروليتاريا
- لا علمانية ولا إكليركية، الدولة هي الدولة
- إنهيار الرأسمالية
- حقيقة قضية المرأة
- ماركسيون يلقون براياتهم في الوحول
- أكذوبة إقتصاد المعرفة
- القطيعة مع الوحدة العربية وقد خرجت من التاريخ
- الجاهل عدو نفسه / رد على السيدة سعاد خيري
- العولمة .. إنزلاق عن مسار التاريخ
- نمورٌ أم جراءٌ أسيوية?
- التاريخ.. يتصل وينفصل
- من الفوضى الخلاقة إلى الشرق الأوسط الجديد
- العولمة.. رحلة خارج التاريخ
- إعلان رامبوييه .. أخطر إنقلاب في التاريخ وهو أساس النظام الد ...


المزيد.....




- مشتبه به في إطلاق نار يهرب من موقع الحادث.. ونظام جديد ساهم ...
- الصين تستضيف محادثات بين فتح وحماس...لماذا؟
- بشار الأسد يستقبل وزير خارجية البحرين لبحث تحضيرات القمة الع ...
- ماكرون يدعو إلى إنشاء دفاع أوروبي موثوق يشمل النووي الفرنسي ...
- بعد 7 أشهر من الحرب على غزة.. عباس من الرياض: من حق إسرائيل ...
- المطبخ المركزي العالمي يعلن استئناف عملياته في غزة بعد نحو ش ...
- أوكرانيا تحذر من تدهور الجبهة وروسيا تحذر من المساس بأصولها ...
- ضباط وجنود من لواء المظليين الإسرائيلي يرفضون أوامر الاستعدا ...
- مصر.. الداخلية تكشف ملابسات مقطع فيديو أثار غضبا كبيرا في ال ...
- مصر.. الداخلية تكشف حقيقة فيديو -الطفل يوسف العائد من الموت- ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فؤاد النمري - قراءة مختلفة في تاريخ الثورة العربية