أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - سليلة الملائكة














المزيد.....

سليلة الملائكة


هاشم تايه

الحوار المتمدن-العدد: 1955 - 2007 / 6 / 23 - 06:31
المحور: الادب والفن
    


حين أنهيت سنتي الدراسيّة الأولى في الجامعة، شرعتُ أهيّئ نفسي لإتمام السنوات الثلاث المتبقيات من عمري الدراسيّ في قسم اللغة الإنجليزيّة؛ كانت إنجليزيتي تبدو لي مُرْضية، تؤهلني لدخول هذا القسم وتبرّر وجودي فيه. لكنّ موجة أصدقاء طيبين حملتني بعيداً عنه.. قال لي محرّر تلك الموجة ودافعها، وهو قرين ذكيّ وموهوب: إلى أين أنت ماضٍ ؟! تعال معنا ستدّرسنا نازك الملائكة عروض الشعر !
وكان هذا الإغراء كافياً لركوب الموجة التي أقلّتني إلى قسم اللغة العربيّة بجامعة البصرة.
دخلت علينا نازك الملائكة بسمت الأكاديميّات الجادّات... مظهر تدريسيّة حريصة على الدرس حرصاً دفع بروح الشاعرة المبدعة بعيداً.. شعر ملموم وراء الرأس، ووجه كما براه الله ، إلاّ من أحمر خفيف على الشفتين، وثوب بسيط ، لكنه عصريّ، وحذاء ممسوح من دون كعب ، رفيق بالأرض التي يمشي عليها ، وكأنّه مصنوع خصيصاً لمن تعمل في وسط يتطلّب الهدوء...
أكثرنا لم يكن يعرف عن الملائكة نازك سوى (النهر العاشق) قصيدتها التي كتبتها في فيضان دجلة، وكانت ضمن مفردات منهج كتاب الأدب والنصوص للصف الثالث المتوسّط.
ومنذ اللحظة التي اعتلت فيها منصّة الدرس ، وحتى نهاية العام الدراسي، كافحت الأستاذة نازك الملائكة من أجل أن يستوعب تلامذتها عروض الشعر، هذه المادة التي كانت جديدة، كلّ الجدّة، على معظمنا، فقطّعت عشرات الأبيات في هواء الصفّ، وعلى السّبورة، واستعانت براحة يدها، فأوقعتها بقوّة على سطح طاولتها وأخرجت أصواتاً موقّعة تساوي (مستفعلن ، ومتفاعلن، وفاعلاتن....)، وصدح لسانها بـ (تُمْ َتَمْ تِتُمْ) مُسْتَفْعِلُنْ ! وحين يخلط أحدنا بين هذه وتلك من التفعيلات تصرخ الملائكة: (أُذُني تُوجعني )! لا للتقريع، ولكن من أجل التنبيه على ضرورة الاستعانة بالأذن، وتنمية ملكتها على التقاط الأصوات والتمييز بينها، ومن ثمّ الاعتماد عليها للتوصّل إلى تفعيلات البيت الشعريّ ونسبته إلى بحره الخاصّ بسرعة، بدلاً من الاعتماد على تقطيعه باستخدام القلم والورقة. وخلال عامنا الدّراسي ذاك أوقفتنا الملائكة على بحور شعرنا العريق كلّها مستوفيةً أحوالها، وما يعرض لها من علل، في درس نظري وتطبيقي لم يفتر... ولم يكن بين مئات الأبيات الشعريّة التي استعانت بها في درسها بيت واحد من شعرها، ولم أسمعها في الصفّ تشير من بعيد أو من قريب، إلى شعرها، أو إلى ريادتها كمبدعة، كانت معنية بدرسها تنجزه على أكمل وجه مثل نحلة مثابرة... وكنّا نجد في أوراقنا الامتحانية التي تعيدها إلينا مصححة، ما يلفت أنظارنا إلى أغلاطنا في اللغة، حتّى لو كانت قليلة الشأن في نظرنا، فكنّا نرى دائرة بخط أحمر تحيط بكلمة تنتهي بتاء مربوطة بلا نقطتين، وأحياناً كانت تغضب إذا جمع أحدنا بين (سوف) و(لن) وتقول بنبرة مستنكرة: من الخطأ، كلّ الخطأ الجمع بين (سوف) و (لن). ولم يكن عدم تساهلها مع أخطائنا إلاّ من قبيل الحرص على تكامل عُدّتنا... وإذا كنّا، أحياناً، نجد ما نعتبره ثغرة في علم هذا الأستاذ، أو ذاك، من أساتذتنا، فلم يكن هذا بمتاح لنا مع الأستاذة نازك التي سمعتها، مرّة تقول، إنّها، في أحد أعوامها، حفظت عن ظهر قلب، مواد باب كامل من أحد قواميس اللغة.
وفي الحالات النادرة التي خرجت فيها على درسها، أتذكّر أنها، وصفت مصائف بلادنا بأنها أجمل المصائف التي زارتها في أكثر من بلد. وفي مرّة أخرى تحدّثت عن فيروز والرّحابنة...
كانت روح نازك تنطوي على ترفّع ينسجم مع قوّة شخصيتها، وعمق ثقافتها، وأعتقد، أو لأقُل إنني، إلى الآن أحسبُ أنّ عالماً يودّ أن يقترب من الملائكة لا بدّ أن يتمتّع بقدر كبير من النظافة والاكتمال..
هل يعبّر هذا البيت الذي ورد في إحدى قصائدها عن ذلك:
" حتّى حبُّكَ، حتّى آفاقُكَ تؤذيني " !
وأظنّها كانت تدافع عن كيانها الذي يبدو من الخارج صلداً بقولها في قصيدة أخرى:
" ونفوسٍ تُحسُّ أعمقَ إحساسٍ
وتبدو كأنّها لا تُحسُّ
وشفاهٍ تموتُ ظمأى
ولا تسألُ أين الرّحيقُ ،
أين الكأس... ".
بقيت نازك الملائكة، في التفكير، والرّؤية الفنيّة، والسلوك، أمينة، إلى حدّ بعيد، على الجمع العضويّ بين ما هو عصريّ وما هو خصوصي.
وعلى الرغم من أنّني كبرتُ كثيراً إلاّ أنني، تلميذ نازك الملائكة التي نزلت من سرير الشيخوخة وذهبت إلى النهاية، ما زلت أراها أمّي التي سيوحشني كثيراً رحيلها.



#هاشم_تايه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عصفور آب
- معرض أطفال العراق في حفل زواج
- الشعراء العراقيّون يغزون أمريكا
- كيسُ القُبَل
- نُزهة قاتلة
- على مفرق الحجر
- سياحة عمياء
- بعيداً عن الوحل خذني
- حوار مع الفنان العراقي هاشم تايه
- ميثولوجيا عراقية
- مصالحة في الهواء الطلق
- ذُعْر لا يقوى على حمله الهاتف
- كلاسيك
- المربد ... الصوت والصدى
- ضيف الحجر
- أجراس
- من أجل أمّي
- مَنْ يحلب القيثارة السومريّة في لندن ؟
- كولاج الألم
- لا أذودُ الطّيرَ عن شَجَرٍ


المزيد.....




- فيلم -العار- يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان موسكو السينمائي ...
- محكمة استئناف تؤيد أمرا للكشف عن نفقات مشاهدة الأفلام وتناول ...
- مصر.. الفنانة دينا الشربيني تحسم الجدل حول ارتباطها بالإعلام ...
- -مرّوكِية حارة-لهشام العسري في القاعات السينمائية المغربية ب ...
- أحزان أكبر مدينة عربية.. سردية تحولات -القاهرة المتنازع عليه ...
- سلطنة عمان تستضيف الدورة الـ15 لمهرجان المسرح العربي
- “لولو بتعيط الحرامي سرقها” .. تردد قناة وناسة الجديد لمشاهدة ...
- معرض -بث حي-.. لوحات فنية تجسد -كل أنواع الموت- في حرب إسرائ ...
- فرقة بريطانية تجعل المسرح منبرا للاجئين يتيح لهم التعبير عن ...
- أول حكم على ترامب في قضية -الممثلة الإباحية-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - سليلة الملائكة