رومانيا.. القضاء في قفص الاتهام واحتجاجات ضد تسييسه


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 10:57
المحور: الفساد الإداري والمالي     

في الدول الفاشلة وغير المستقرة، عادة ما يكون القضاء جزءا من مراكز السلطة المتصارعة، او يكون ضعيفا إلى حد عدم القدرة على الدفاع عن حياديته، وبالتالي تفقد الأكثرية المتضررة في هذه البلدان جدار الحماية والصد الأخير، فيسود الفساد عموديا وافقيا، وتمتلك المافيات السياسية حرية قضم حقوق المواطنة والحريات العامة والشخصية والمثل الأحدث يعكسه ما يجري في رومانيا. تعيش عواصم ومدن بلدان أوربا والعديد من بلدان العالم هذه الايام، أجواء الاحتفالات التمهيدية لأعياد الميلاد، والعام الجديد. وتعيش العاصمة الرومانية بوخارست هذه الأجواء أيضا، حيث، تتلألأ ساحة النصر في بوخارست بأضواء عيد الميلاد. إلا أنه منذ عدة أيام، بدأت تظهر لافتات مكتوبة بخط اليد، أقل بهجة، كُتب عليها: "قضاة مستقلون، لكنهم خاضعون!"، "نريد العدالة لا الحصانة". وفي غضون ساعات قليلة، يتجمع الطلاب والمتقاعدون والعمال والعائلات أمام مقر الحكومة. لقد تظاهر الآلاف بهذه الطريقة ضد القضاء في أنحاء رومانيا خلال الأيام الماضية. وقد أشعل فتيل الاحتجاجات عرض فيلم وثائقي بعنوان "العدالة المختطفة"، بثته قناة "ريكوردر" العامة في الأسبوع الفائت.

أعاد الفيلم الاستقصائي الذي استمر ساعتين تسليط الضوء على تجاوزات القضاء: يُظهر الفيلم الوثائقي كيف تأثر التعامل مع ملفات الفساد الكبرى، بسبب مصالح الساسة الفاسدين بعوامل منها، تأخر اختيار وتعيين القضاة. لقد تجاوزت مشاهدات الفيلم، بعد نشره على اليوتيوب، خلال يومين ونصف اليوم 3.2 مليون مشاهدة. وعندما عُرض الفيلم الوثائقي في وقت الذروة على قناة للتلفزيون الرسمي (تي في ار 1) وصل عدد مشاهديه إلى 382 ألف مشاهد، وهو أحد أفضل النتائج لهذا العام، ولم تتجاوزه سوى المناظرة التلفزيونية حول الانتخابات الرئاسية في نيسان.

قضاة يكشفون المستور
وكشف تحقيق أجرته صحيفة "ريكوردر" نقلا عن ثلاث جهات فاعلة رئيسية في هذه الممارسات: المديرية الوطنية لمكافحة الفساد، ومحكمة استئناف بوخارست، والمجلس الأعلى للقضاة. وقدّم مسؤولون قضائيون رفيعو المستوى روايات مفصلة عن كيفية سيطرة النفوذ السياسي على مؤسساتهم. ومن أبرز هذه القضايا محاكمة ماريان فانغيلي، رئيس بلدية بوخارست السابق عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي، بتهمة الفساد. فقد اتُهم بتلقي رشاوي بقيمة 30 مليون يورو بين عامي 2007 و2014. وأسقطت عنه عدة تهم في عام 2017، وأخرى في عام 2024. وعندما أغلقت أختُتمت القضية أخيرًا في أذار الفائت، أي بعد عشر سنوات بسبب التغييرات المتكرر للقضاة المعنين، بحكم المتهم بدفع غرامات مالية فقط.

وآخرون متورطون
يذكر الفيلم الوثائقي اسمًا واحدًا مرارًا وتكرارًا: ليا سافونيا. شغلت منصب رئيسة المحكمة العليا، وهي عضو في المجلس الأعلى للقضاة، ويُقال إنها تتمتع بعلاقات وثيقة مع الأحزاب الحاكمة. ويُعتقد أنها تلعب دورًا محوريًا في تعيين القضاة في القضايا الحساسة. ويرفع العديد من المتظاهرين صورتها على اللافتات. مع ذلك، فهي ليست الهدف الوحيد للاحتجاجات. فرادُو مارينسكو، المحامي الذي دافع عن مسؤولين محليين في قضايا فساد سابقًا، وكاتالين بريدويو، الذي شغل منصب وزير العدل لعدة دورات، ويشغل حاليًا منصب وزير الداخلية، هما أيضًا محور دعوات الاستقالة. وقد وقّع مئات القضاة والمدعين العامين رسالة مفتوحة يطالبون فيها بتعزيز النظام القضائي الروماني ضد التدخل السياسي، وحماية المبلغين عن المخالفات.

احتجاجات مؤثرة
أثارت الاحتجاجات ردود فعل من السياسيين والقضاء. وتحدث المجلس الأعلى للقضاة عن حملة لنزع الشرعية عن القضاء، لكنه أعلن أنه سيُشرك مفتشية القضاء في التحقيق. وعقدت محكمة الاستئناف في بوخارست مؤتمراً صحفياً استثنائياً يوم الخميس الماضي، في محاولة لدحض الادعاءات. إلا أنه خلال المؤتمر، أدلت قاضية بتصريح، مؤكدةً صحة عدة فقرات وردت في الفيلم الوثائقي، واصفةً المناخ بأنه "سام"، حيث يتعرض القضاة للترهيب. أعلن الرئيس الروماني نيكوشور دان عن مشاورات مع السلطة القضائية لجمع الأدلة وإعداد تقرير حول مواطن الضعف في النظام القضائي. كما وعدت الحكومة، برئاسة رئيس الوزراء إيلي بولوجان من الحزب الوطني الليبرالي، بإجراء تحقيق. لعل ما حدث في بوخارست يكرر درسا ثمينا بأن إرادة الناس، على الرغم من قساوة الواقع السائد قادرة على ملاحقة الفاسدين وحماتهم.