مقاربات منهجية لمعالجة التحول في البنية الطبقية للمجتمع الفلسطيني


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 00:50
المحور: القضية الفلسطينية     

مقاربات منهجية لمعالجة التحول في البنية الطبقية للمجتمع الفلسطيني:
( من كتابي التحولات الاجتماعية والطبقية في الضفة الغربية وقطاع غزة - الطبعة الأولى -تشرين أول / أكتوبر 2009 )....

يمكن اعتبار هذه الدراسة مدخلا سياسيا/اجتماعيا/اقتصاديا لمزيد من البحث والتطوير للتحولات الاجتماعية والطبقية في المجتمع الفلسطيني آخذين في الاعتبار, الاسترشاد بمقاربات منهجية فرعية متفاعلة ومتداخلة للتعامل مع التاريخ والواقع الفلسطيني المعاصر ، بتبايناته وتناقض أبعاده، وفي هذا السياق يمكن التمييز من بين هذه المقاربات ما يلي :
أ. المقاربة التاريخية التي تدرك أن أوضاع الطبقات وعلاقاتها، ووعيها في الحاضر هي نتاج تفاعلات وتراكمات وعلاقات لها جذورها التاريخية التي مرت عبر تراكمات كمية وتحولات كيفية، وأن استشراف مستقبل أوضاع الطبقات وعلاقاتها ووعيها وفاعليتها يرتبط في جانب مهم منه بقرارات وأفعال قائمة الآن، فالحاضر حاضنة للمستقبل، ما لم تحدث قطيعة عميقة في تفاعلها معه .
‌ب. التفكيك الذي يُمَكِّن من وصف وتحليل الأوضاع والعلاقات العيانية ، خاصة تفكيك النشاطات الاقتصادية: الزراعية والصناعية والخدمات، وأنماط العلاقات الاجتماعية التي تصاغ من خلالها النشاطات والمشروعات: حكومية، قطاع خاص محلي ، قطاع خاص أجنبي، وإعداد المشتغلين وأنماط إدارتهم : علاقات الهيمنة والخضوع والاستغلال، وأنماط التكنولوجيا المستخدمة في ممارسة النشاط ، وشكل العوائد من ممارسة النشاط، ريع ، ربح ، أجر .. الخ وذلك لوصف وتحليل التجانس او التباين النسبيين في العلاقات الاجتماعية للإنتاج، وفي المصالح والوعي ، وموضوعات الصراع وأطرافه وأنماط إدارته وآليات حله.
‌ج. إعادة بناء أو إعادة تركيب وحدات التحليل على مستوى الجماعة الطبقية، وعلى مستوى الشريحة الطبقية داخل كل موقع طبقي، وعلى مستوى العلاقات بين المواقع الطبقية، وبين البنية الطبقية ككل ومستويات البنية الاجتماعية الأخرى، الاقتصادية والسياسية والثقافية.
‌د. التحليل المابعدي لنتائج التعدادات والمسوح والدراسات والبحوث ذات الصلة ، إلى جانب البيانات الامبريقية (التجريبية) التي ترتكز إلى مصدرين أساسيين هما –حسب د.عبد الباسط عبد المعطي- الأول: ميدان استطلاعي ، لن نلجأ إليه في هذه الدراسة –بسبب عدم توفر الإمكانيات. والثاني: أصحاب الخبرة في التاريخ الشفهي حول المواقع الطبقية ، مع توفير أمثلة من الواقع المعاش عبر المواقع الطبقية المتباينة (طبقة رأسمالية /طبقة وسطى/ عمال / فلاحين ..الخ) مع توضيح التباين داخل كل موقع في ضوء نشاطاته وعلاقات الانتاج المنضوي تحتها ، وكذلك في ضوء المتغيرات في المدينة او الريف او المخيم في مجتمعنا الفلسطيني ، وإعادة تركيبها بما يخدم أهداف الدراسة وتساؤلاتها ، استنادا الى النظرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي في تحليله وتطبيقاته عبر الممارسة على الواقع الاجتماعي الفلسطيني ، باعتباره في المنظور العام او الاستراتيجي ، حلقة من حلقات الواقع الاجتماعي العربي ، ولكن – لنفس السبب المشار إليه أعلاه- سنكتفي بتناول الحالات أو الأمثلة الطبقية – بصورة عامة - ضمن المواقع أو الأطر التالية:
1 - حالات المواقع الرأسمالية العليا (انتاجية، اقتصادية وبيروقراطية): رجال الأعمال من أصحاب رأس المال التجاري، أو الصناعي أو الزراعي أو العقاري والمصرفي أو أصحاب مستشفيات ورؤساء بنوك وشركات كبرى ووزراء ووكلاء وزارات في السلطة وضباط من رتبة عميد إلى لواء ، مع الإشارة إلى ضعف نمو العلاقات الرأسمالية في معظم الأنشطة أو القطاعات الاقتصادية عموما وفي القطاعين الصناعي و الزراعي خصوصا، إلى جانب الشرائح العاملة في مجال التجارة الخارجية خاصة الوكلاء التجاريين او الكومبرادور وأصحاب مكاتب الاستيراد والتصدير إلى جانب الشرائح العليا من المقاولين وتجار العقارات وأصحاب المصارف والفنادق والمصانع ، لكن شريحة الكومبرادور تمثل اخطر وأقوى شريحة من الشرائح الرأسمالية عبر دورها في اطار التحالف البيروقراطي في السلطة وأجهزتها أو دورها المهيمن في الظروف العادية على السوق المحلي، وكذلك الأمر في الظروف غير العادية حيث تفرض وجودها عبر المشاركة مع مافيات التهريب عبر الأنفاق وغيرها ، وهنا لابد من الإشارة إلى أن البنية الطبقية لقيادة حركة حماس وحكومتها في غزة تعود في أصولها إلى البورجوازية الصغيرة التي تحولت عبر السلطة الجديدة إلى قوة بيروقراطية تدير التحالف مع الكومبرادور وغيره من الشرائح الرأسمالية العليا في المقاولات والخدمات المالية والمصارف والسياحة والفنادق والتجارة ...الخ بالإضافة إلى إدارتها للعلاقة مع مصادر التمويل الخارجية سواء من أو عبر حركة الإخوان المسلمين الدولية أو أصدقائها ومموليها في الخارج .
عند الحديث عن رأسمالية الكومبرادور ، فإن من الضروري الإشارة إلى توسع هذه الطبقة وانتشارها في القطاعات الاقتصادية الأخرى، في الصناعة، والعقارات والخدمات السياسية والرموز الثقافية التي تسوق منظورات الممول الأجنبي ... إلخ إلى جانب دورها الرئيسي في التجارة الخارجية (وفي هذا الجانب فإننا نشير إلى نسبة مساهمة قطاع التجارة في الناتج القومي الإجمالي بما لا يتجاوز 10% – كما في عام 2007 - ، في مقابل ارتفاع غير طبيعي في حجم الواردات السلعية التي بلغت عام 2007 (3615) مليون -$- في حين لم تتجاوز الصادرات (366) مليون -$- مما يمكن أي باحث جاد من استخراج الدلالات الاجتماعية/الطبقية لهذه الصورة) .
أما الشرائح العاملة في التجارة الداخلية فهي تتوزع بين الشركات المساهمة والعادية وبين القطاع العائلي (عبر شركات عادية أو فردية ) أو التداخل بينهما ، وهذه كلها مرتبطة مصلحيا إما بالكومبرادور في قطاع غزة أو رديفه في الضفة الغربية .
2- حالات المواقع الوسطى : مدير عام / مدير تنفيذي / أساتذة جامعات / مهنيين : مهندسين/محامين/أطباء/ محاسبين ... الخ). أصحاب ورش / فنيين متخصصين في المنشآت الميكانيكية والسيارات والألمنيوم والزجاج والتمديدات الصحية والكهربائية والنجارة والطرق ...الخ ، ضباط من رتبة مقدم إلى عقيد وموظفين من درجة مدير الى مدير عام ، ملاكين لأراضي أو مشاريع زراعية (بما لا يزيد عن 30 دونم) أصحاب محلات تجارية متنوعة (ملابس/ أجهزة منزلية /أجهزة وأدوات كهربائية/مكتبات/محلات خضار وفاكهة ... الخ).
3- حالات المواقع العمالية (الشّغيلة) : العمال في الأنشطة الاقتصادية (زراعة / صناعة/ خدمات / تجارة / مقاولات / سياحة / محلات تجارية / مطابع .. الخ) صغار الموظفين في القطاعين العام والخاص .
4- حالات المواقع الريفية (الفلاحين ) : وتشمل أغنياء الفلاحين والرأسمالية الزراعية ، والشرائح الوسطى ممن يملكون أقل من 50 دونم ، ثم صغار المزارعين (أقل من 20 دونم) وأخيراً الأغلبية الساحقة في الريف من فقراء الفلاحين (ممن يملكون أقل من 10 دونمات) والعمال الأجراء الذين لا يملكون سوى بيع قوة عملهم .
إننا إذ نسترشد في تحليل متغيرات الواقع وقراءة العملية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من منظور المادية التاريخية ، إلا أن هذا لا يعني أن مجتمعنا الفلسطيني محكوما في تحولاته بالضرورة بمسار المجتمعات الغربية أو أي مسار آخر ، ذلك لأن الواقع الاجتماعي الاقتصادي الفلسطيني –دونما انفصام عن الواقع الاجتماعي العربي- هو نقطة البداية في التحليل والتشخيص والوعي بتفاصيل مكوناته ، ومن هنا تكتسب مفاهيم ومصطلحات مثل "الإقطاع" و"الرأسمالية" و"البرجوازية" والطبقة العاملة أو "البروليتاريا" مضامين مرتبطة بالتطور التاريخي في أوروبا ، وهي مضامين لا تتوافق أو تتناسب إلى –حد كبير- مع تحليلنا لواقعنا ، بحكم اختلاف شكل ومضمون التطور التاريخي في بلادنا ، اختلافا جذريا ، دفع العديد من المفكرين والكتاب والمثقفين الماركسيين العرب، إلى استخدام مفاهيم حَمَلَ كل منها مضمونا توافق مع واقعنا بصورة جزئية دون استقرار وثبات لهذه المضامين بصورة نهائية كما حصل في المفاهيم ومضامينها المطبقة على التجربة الأوروبية ، مثل "الإقطاع الآسيوي" "المجتمع شبه الإقطاعي شبه القبلي" "الإقطاع القبلي" أو "الإقطاع العشائري" ، "الإقطاع الأبوي" "مجتمع ما قبل رأسمالي" "مجتمع شبه رأسمالي قبلي شبه إقطاعي" ، وكذلك الأمر بالنسبة للبرجوازية ، كطبقة غير متبلورة ، اتخذت في بلادنا سياقا أو إطارا –بحكم تبعيتها- مغايرا للبرجوازية الأوروبية .
لقد ساهمت العوامل الخارجية في تشكل "البرجوازية " في بلادنا وتحديد مظهرها ومهامها، فهي بورجوازية شكلية، تابعة ومتخلفة، ضمن علاقات رأسمالية غير متكافئة, سادت في بلادنا لخدمة مصالح النظام الرأسمالي العالمي وتكريس واقع الفوات التاريخي(ياسين الحافظ)، الذي ساهم في تحديد طبيعتها ودورها، بعد أن تم تدمير أو إضعاف القطاع الصناعي واحتجاز تطوره في مقابل تشجيع نمو الرأسمالية الكومبرادورية ، السمسارة ، طفيلية، الزراعية الريفية ، المتخلفة ، التي ولدت –كما غيرها من الطبقات "الحديثة"-، في أحضان الأنماط والعلاقات ما قبل الرأسمالية ، فالمعروف أن نواة البرجوازية في بلادنا –قبل نكبة عام 48- لم تتشكل في سياق عملية تطور البنية الاجتماعية ، وبالتالي لم تحمل مشروعاً وطنياً مستقلاً أو مشروعا نهضويا أو تنويريا ، كما لم تكن نقيضا للطبقة السائدة (شبه الإقطاعية) بل كانت امتدادا "عصريا" لها، وتابعا مخلصا للسوق الرأسمالي العالمي –وقابلا للاحتواء والخضوع- عبر تطورها إلى برجوازية كمبرادورية كما هي سماتها الرئيسة وممارساتها –في فلسطين وكافة الأقطار العربية- في المرحلة الراهنة .
وكذلك الأمر بالنسبة للطبقة العاملة ، التي لم تتبلور بعد في بلادنا ، كطبقة تعبر عن نفسها بصورة مستقلة ،وبقيت طبقة في ذاتها ولم تتحول إلى طبقة لذاتها بمعنى وعيها لشرط وجودها التاريخي ومصالحها الطبقية(كارل ماركس), حيث نلاحظ اليوم ، التفاوت الواسع لشرائح هذه الطبقة، من حيث وعي أفرادها ، وتكوينها ، ودورها ، وعلاقاتها الاجتماعية.
مثالنا على ذلك ، التفاصيل اليومية للواقع المعاش لعمالنا و معاناتهم في الضفة والقطاع، فالعاملين من أبناء الضفة في المستوطنات أو السوق الإسرائيلي، وبسبب فقرهم وحاجتهم، فإنهم يستجدون بيع قوة عملهم واستغلالهم من صاحب العمل الإسرائيلي ، حيث يتعرضون لكل أشكال الاضطهاد –الوطني والطبقي- منذ فجر يوم العمل لكل منهم ، على الحواجز والتفتيش والإذلال النفسي والمادي ، إلى جانب معاناتهم لدى صاحب العمل وتحملهم للأعمال الشاقة والقذرة ، ثم عودتهم بعد هبوط الليل ، إلى عائلاتهم ومجتمعاتهم الصغيرة، التي يعيش معظمهم في داخلها، بموجب تقاليد وقوانين العائلة والقرية والمجتمع في الضفة الغربية، وهي نفس السمات والظروف التي عاشها عمال قطاع غزة قبل الحصار والإغلاق.
إنها المفارقة التي تميز هذا القطاع الواسع من عمالنا المشدودين بصورة معنوية وعفوية إلى عاداتهم الاجتماعية التقليدية في الأسرة أو الحامولة ، أو تجمع القرية أو المخيم، يمارسون فيها وعبرها دورهم الاجتماعي حسب الوضع الاجتماعي المتوارث لكل منهم كجزء من الذاكرة التاريخية لواقعهم ما قبل نكبة 1948، وهذه السمات تنطبق أيضاً على العاملين في السوق الفلسطيني (الضفة والقطاع) بمختلف قطاعاته، في الصناعة أو الزراعة والخدمات بأنواعها، حيث نلاحظ ، حالة التفاوت بين هذه الشرائح العمالية من جهة ، وبين العلاقات الإنتاجية التي يمارسون أعمالهم من خلالها ، وهي وإن كانت تبدو ظاهريا علاقات رأسمالية (عبر علاقة الأجرة)، إلا أنها ليست كذلك بحكم تخلف القطاع الإنتاجي نفسه (الزراعي أو الصناعي أو الخدمات) ، أو بحكم استمرار هيمنة ثقافة الأنماط القديمة، المثالية والغيبية القدرية على عقل ومكونات هذه الشرائح العمالية .
وبالتالي فلا غرابة من ضعف وعي العمال و الفلاحين الفقراء وكل الكادحين في بلادنا عموماً بالظلم الطبقي بصورة مباشرة ، ذلك لأن إطار العلاقات الرأسمالية الظاهرية ، هو في حقيقته –كما أشرنا من قبل- إطارا شبه رأسمالي يحمل في ثناياه العديد من العلاقات الاجتماعية التقليدية القديمة، بما يعيق عملية الفرز الطبقي المحدد داخل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الفلسطينية القائمة، التي ما زالت عملية غير مكتملة بل ومشوهه، على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية ، نظرا لهذا التداخل أو التشابك في العلاقات الاجتماعية الاقتصادية، وفي العديد من الطبقات والفئات الاجتماعية ، ونظرا لأن فئات واسعة من السكان في مجتمعنا ، لا تزال تعيش أوضاع انتقالية بحيث لم يتحدد انتماؤها الطبقي تحديدا مستقرا ونهائيا ، خاصة وأن طبيعة المرحلة الراهنة ، بعد خمسة عشر عاماً من قيام السلطة الفلسطينية في ظل الاحتلال وعدوانه وحصاره، وصولاً إلى الصراع بين فتح وحماس وانفصال الضفة عن القطاع، مليئة بالمفارقات والمفاجئات ، حيث نلاحظ أن معظم الأثرياء الجدد (أفرادا وجماعات) يعيشون نوعاً من الازدواجية أو الارباك بين انتماءاتهم الطبقية-الاجتماعية البورجوازية الصغيرة والفقيرة عموماً في سياق تجربتهم الوطنية السابقة ، وبين أوضاعهم الراهنة ، الثرية المحدثة –عبر مظاهر وأشكال الفساد والحراك الاجتماعي الشاذ-، لا يشعرون باستقرارهم ، كما لا يشعرون بعمق انتماءهم الجديد ، ذلك ان تكريس أو رسوخ استقرارهم الطبقي مرهون بمدى تفاعلهم أو استجابتهم للمتغيرات السياسية المتسارعة هبوطاً في مجتمعنا، فهي التي ستحدد دورهم المستقبلي بالمعنى الاجتماعي و الاقتصادي والسياسي ، في ضوء حجم استجابتهم للرؤية الأمريكية-الإسرائيلية وبالتوافق معها.
الأمر الهام الآخر الواجب الإشارة إليه ، عبر محاولتنا لتحليل واقع مجتمعنا الفلسطيني بدرجات متفاوتة، منذ ما بعد نكبة 48 إلى يومنا هذا، يتمثل في تلك الآثار والنتائج الاجتماعية الناجمة عن استمرار مظاهر عصبية الدم، والولاء العشائري أو عمق الرابطة الاجتماعية الضيقة التي تكرس الولاء لرموز التخلف، المرتبطة مصلحيا بمظاهر وأوضاع الخلل والفساد والفوضى في هذه المرحلة أو أي مرحلة سابقة، وذلك تحت غطاء العادات والأعراف والتقاليد والتراث .
إننا إذ ندرك أن عمق الرابطة الاجتماعية قبل النكبة 1948 كان له تأثيراً ايجابياً في استنهاض حالة المقاومة في أوساط الفلاحين والعمال رغم رخاوة أو مهادنة القيادات الاقطاعية آنذاك ، والتي كانت أحد أهم أسباب هزيمة الثورة الفلسطينية ومن ثم تشريد شعبنا.
لكن الإشكالية أو المفارقة، تتجلى في استمرار دور هذه الولاءات العشائرية الضيقة وتكريس دور هذه الرموز والعلاقات الاجتماعية القديمة، في إطار تلك الرابطة بعد مرور أكثر من ستة عقود على النكبة، بإسم العادات والتقاليد والأعراف القديمة، ما يعني بوضوح، اننا نعيش ما يمكن تسميته بتجديد التخلف أو إعادة انتاجه ، ما يؤكد على صحة تحليلنا للمواقف الطبقية والسياسية للقيادة المتنفذة في إطار م.ت.ف أو السلطة فيما بعد، وما راكمته من ممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية، اسهمت في اعادة إنتاج وتشجيع الولاءات القديمة لحساب سلطة الفساد واجهزتها وزعرانها الذين نشروا مظاهر الفوضى والفلتان الأمني والقلق والاحباط السياسي والاجتماعي الداخلي، عبر تراكمات متزايدة وصلت ذروتها في تفجر الصراع الدموي يوم 14/ حزيران / 2007 ومن ثم بداية مرحلة جديدة من الانقسام السياسي والاجتماعي والقانوني، سيتراكم دور وتأثير الجوانب السلبية الضارة الناجمة عنها، لتطال معظم مكونات المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، وتخلق مزيدا من الانقسامات فيه لن تتوقف عند الانقسام السياسي – الاقتصادي العام الراهن، بل قد تتسع لتصيب بالضرر -ان لم تكن اصابت بالفعل- مكونات الوعي الوطني والمجتمعي الداخلي على مستوى المدينة ، والقرية ، والمخيم، بما يفاقم مظاهر الخلل والانحراف والفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الضفة والقطاع ، ويشق مزيدا من العمق في مجرى الهبوط بالعملية السياسية الجارية، إلى قيعان أشد اظلاماً واستسلاماً مما سبقها، ومن ثم الهبوط بالوحدة الوطنية، وبعملية البناء المجتمعي الديمقراطي الداخلي معا، الأمر الذي سيزيد ويوسع الفجوة التي تفصل بين حلم التحرر والتغيير الذي يطمح إليه شعبنا وما زال ، وبين واقعه المنقسم والمحاصر لحساب عوامل التخلف والتبعية والسلفية الجامدة والاستبداد، في موازاة الهبوط السياسي المريع الذي تتعرض له قضيتنا الوطنية راهنا.
إذن ، فالتطور الاجتماعي ، في الضفة والقطاع ، منذ عام 1994 إلى اليوم ، لم يكن تطورا إيجابيا في محصلته أو نتائجه العامة ، حيث تعرض لمتغيرات وتحولات ساهمت في انحراف العديد من جوانبه ، بصورة كلية أو جزئية ، عن سياق التطور الوطني والاجتماعي العام الذي شقته الحركة الوطنية الفلسطينية في التاريخ المعاصر ، بحيث قادت هذه المتغيرات إلى تحولات ومظاهر سلبية أدت إلى تفكيك وانقسام البنية السياسية المجتمعية والبنية القيمية والأخلاقية لمجتمعنا الفلسطيني ، الذي يعيش في حالة قريبة من اليأس والاستسلام، تعود في قسم كبير منها إلى أسباب وعوامل داخلية، غير قادرة على وقف الصراعات أو لجمها، بل على العكس، يبدو مضطراً او مكرها – في معظمه – التعاطي مع احد قطبيها (فتح وحماس) في الضفة أو قطاع غزة، دون أي افق يؤشر – في المدى المنظور – على الخروج من هذا المأزق المسدود سواء على صعيد التحرر الوطني أو على الصعيد الاجتماعي. حيث أصبح مجتمعنا الفلسطيني محكوماً لما يسمى بمظاهر "مأسسة الفساد والتخلف" بدل مأسسة النظام العصري الديمقراطي القائم على المشاركة الشعبية والوحدة الوطنية والتعددية السياسية.
بهذا التشخيص و التحليل ، نكون قد مهدنا للحديث عن الركيزتين الفرعيتين الأساسيتين المرتبطتين بالأوضاع و التحولات الاجتماعية، و نقصد بهما أولا: التوزيع السكاني، ثانياً: التركيب الاجتماعي أو الطبقي لمجتمع الضفة والقطاع في هذه المرحلة، آخذين بعين الاعتبار أن الحديث عن تنوع و تداخل مكونات الخارطة الطبقية الفلسطينية هو أمر قابل للمراجعة دوما ،في ضوء هذه المتغيرات الداخلية و الخارجية التي نعيشها اليوم و في المستقبل .