يهودية الدولة ومستقبل الصراع العربي الصهيوني


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 20:27
المحور: القضية الفلسطينية     

... في تقويم التاريخ العربي ، تغدو رياضيات الحساب الرقمي للمسح الإحصائي في تحليل جينات وتجمعات الشعوب زمن الانكسار والهزيمة دون قيمـة ، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال "فقه السكان المقارن" الذي يشير إلى ارتفاع عدد سكان "الوطن العربي" نهاية عام 2024 إلى حوالي (460) مليون عربـي ، وبلوغ تعداد سكان "إسرائيل" اليهود إلى حوالي 7.8 مليون نسمـة يستوطنون أرض فلسطين التاريخية..!
هنا قد لا يكون الحديث عن "دولة اليهود" من قبيل حديث الأساطير فحسب، خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار دور النظام الرأسمالي العالمي في دعم الحركة الصهيونية وتخليق "دولة إسرائيل" ، دون أن نتجاوز ما قامت وتقوم به الحركة الصهيونية في بلورة ما يسمى بـ "الذاكرة الجماعية الصهيونية" ودورها في عمليات تغيير ، وتحوير وقائع التاريخ لصالح اختراع وصناعة "دولـة "..!
بعد 128 عام على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول كرر رئيس وزراء "إسرائيل" بنيامين نتنياهو فكرته الجوهرية بقوله "دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي ، وهي ستظل هكذا " .
السؤال الفلسطيني الكبير هنا ، هل ما زال في الأفق متسع من خيال لنحلم بالدولة الفلسطينية الديمقراطية على كامل التراب الوطني ..؟ . وهل ما زال متسع من خيال لنحلم بالعودة ..؟ . أم أننا سنصبح يهود التاريخ ونعوي في الصحراء بلا مأوى ..؟ .
فمنذ برنامج بازل الصهيوني الذي أقر جوهر الصهيونية في إقامة دولة لليهود هي في الوقت ذاته دولة يهودية ، استخدمت تعبيرات دينية معلمنة كعناصر مكونة للب البرنامج السياسي للحركة الجديدة، مثلاً : " إقامة بيت قومي لشعب إسرائيل في أرض إسرائيل، "شعب إسرائيل"، "أرض إسرائيل"، وهذان الأخيران هما تعبيران دينيان توراتيان، وبالتالي فإن الصهيونية ، لا المواطنة، هي وعاء الديمقراطية الإسرائيلية .
أما قانون العودة الإسرائيلي فقد أكد على أن إسرائيل، غاية ومنطلقاً ، هي دولة الشعب اليهودي ، وهذا ما يؤكده قانون العودة عملياً وينطلق منه، ويطبق في الواقع. وكذلك حال وثيقة الاستقلال من قبله ..
لكن شعار "الدولة اليهودية" بدأ في التبلور منذ خطاب أريئيل شارون في العقبة الذي طالب فيه بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، تحولت هذه الفكرة بفعل التكرار من تعريف ذاتي صهيوني إلى مفهوم معروض على الساحة الدولية .
وقد جاء في كلمة الرئيس الأميركي بوش في مؤتمر العقبة في 4/6/2003 ما يلي : " اليوم، أميركا ملتزمة بقوة أمن إسرائيل كدولة يهودية مفعمة بالحيوية". وهكذا أصبحت يهودية إسرائيل مسألة دولية ..
أما بالنسبة لمطالبة حكومة دولة العدو الإسرائيلي الاعتراف بـ"يهودية إسرائيل"، فإن هذا المطلب، أو الشرط الإسرائيلي ، ورد "كشرط تفاوضي لأول مرة في سياق النقاش في الحكومة الإسرائيلية بشأن ما يسمى "خريطة الطريق" في 25/5/2003، وجاء في الشرط السادس من هذه الشروط الأربعة عشر: "المطالبة بتنازل فلسطيني عن كل ادعاء بحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل."
ويطلب من الفلسطينيين "أن يعلنوا أن إسرائيل دولة يهودية في إطار التصريحات الافتتاحية المطلوبة من الزعماء في بداية خريطة الطريق " . هذا هو حرفياً نص قرار حكومة "الدولة الصهوينية ".
لكن الأمر الأعمق هو طموح "إسرائيل" إلى أن يتحول الاعتراف بها إلى اعتراف بالصهيونية، وهو أمر ممكن – من معظم الدول العربية - في ظل الانحطاط العربي الراهن ، وبالتالي يتحول الاعتراف العربي من اعتراف تسووي "واقعي" إلى اعتراف مبدئي بشرعيتها التاريخية ، وهذا يعني أنها كانت تاريخياً على حق، والعرب على خطأ.
إن مثل هذا الاعتراف، إذا حدث، هو إنجاز سياسي معنوي ثقافي للحركة الصهيونية - يعادل إقامة "دولة إسرائيل" لا في الواقع الملموس فحسب، بل في الثقافة والفكر والخطاب السياسي أيضاً.
أما عن العلاقة المميزة بين الدين والدولة في "إسرائيل" فإن هذه العلاقة تعود إلى التطابق الكامل بين الدين والقومية كما عرفتها الصهيونية ، على عكس القومية العربية التي نشأت في خضم الصراع مع مفهومي الأمة الدينية والطائفة .
في هذا السياق ، ندرك أن حديثنا عن "يهودية الدولة" يعني حديثاً عن جولات الفشل والخذلان العربي منذ العام 1948 ، كما يعني حديثاً عن تواطؤ النظام الرسمي العربي، ووهن حتى إشعار آخر ، وفشل التجربة الفلسطينية عبر أدواتها السياسية عموما وبسبب الانقسام أو الانقلاب في حزيران 2007 الذي عزز الفشل في إنشاء الكيانية الوطنية الفلسطينية المستقلة رغم التضحيات والآلام العظيمة التي قدمها شعبنا .
فالعنصرية الصهيونية – كما يقول البروفيسور اليهودي الامريكي نورمان فينكل ستاين ( وهو من ابرز المناهضين للحركة الصهيونية) " ان الفلسفة العنصرية الصهيونية قد غرست في اعماق العقل الباطن الاسرائيلي العنصري كراهية لا ترويها الدماء ، فلا فرق لدى العنصري ان كانت الدماء المسفوكة لأطفال او لنساء حوامل او كبارا في السن" ، وهذه الفلسفة العنصرية تجلت عبر توحشها النازي في حربها المتواصلة ضد قطاع غزة منذ 22 شهر وأدت الى استشهاد وفقد وجرح ما يزيد عن ربع مليون مواطن من ابناء شعبنا في مختلف مناطق قطاع غزة .
في ضوء ذلك يصبح الحديث عن السلام مع هذه الدولة العنصرية نوعا من الوهم او نوعا من الخضوع والاستسلام.
لذلك فإن المهمة العاجلة أمام حركات وفصائل اليسار العربي عموما والفلسطينية خصوصا ، أن تعيد النظر في الرؤية الإستراتيجية التحررية الديمقراطية ، الوطنية/القومية ببعديها السياسي والمجتمعي ، انطلاقاً من إعادة إحياء وتجدد الوعي بطبيعة الدولة الصهيونية، ودورها ووظيفتها كمشروع إمبريالي لا يستهدف فلسطين فحسب، بل يستهدف –بنفس الدرجة- ضمان السيطرة الإمبريالية على مقدرات الوطن العربي واحتجاز تطوره . وبالتالي يجب أن تتأسس الرؤية لدى كافة قوى اليسار القومي العربية، وفي المقدمة اليسار الثوري الفلسطيني، انطلاقاً من ذلك وليس من خارجه، فالدولة الصهيونية هي مركز ثقل الوجود الامبريالي في الوطن العربي، ووجودها حاسم لاستمرار السيطرة الامبريالية، وضمان استمرار التجزئة والتخلف العربيين. لهذا كان ضرورياً أن يعاد طرح الرؤية الوطنية من قلب الرؤية التقدمية القومية الديمقراطية الأشمل، التي تنطلق من فهم عميق للمشروع الامبريالي الصهيوني وأدواته البيروقراطية والكومبرادورية والرجعية، من أجل أن يعاد تأسيس نضالنا الوطني التحرري والديمقراطي على ضوء هذه الرؤية. ولا شك في أن هذه المهمة هي أولاً مهمة الماركسيين في فلسطين والوطن العربي، وفي طليعتهم اليسار الثوري الفلسطيني المناضل من اجل استرداد الحقوق التاريخية على ارض فلسطين ….
وهنا لا بد من الإشارة الى أن دولة العدو الصهيوني نشأت وتأسست وفق مشروع رأسمالي امبريالي توسعي حدد لها وظيفتها منذ البدايات الأولى للفكرة الصهيونية التي تلفحت او تذرعت – كما تذرع النظام الرأسمالي أيضاً- بالفكرة الدينية او "التوراتية" لتضم في إطارها فسيفساء واسعة من أجناس بشرية، من أصول غربية وشرقية، من أوروبا وأمريكا وروسيا واسيا وإفريقيا، لا وجود لأي رابط اجتماعي او تاريخي بينهم، ويستحيل انصهارهم في مجتمع متجانس او قومية واحدة، لكنهم التقوا جميعاً بدوافع ومنطلقات وأهداف تعددت فيها الدرجات والوسائل والغايات، لخدمة المشروع الرأسمالي العالمي الذي حدد هدفه الاستراتيجي من إقامة هذه الدولة: "إسرائيل" تحقيقاً لوظيفة استهدفت وما زالت، اغتصاب بلادنا فلسطين أولاً، ثم الإسهام في إبقاء تطور شعوبنا العربية محتجزاً في اطار من التبعية والتخلف والخضوع كما هو حالنا اليوم، حفاظاً على المصالح الامبريالية في وطننا العربي بما يضمن استمرار الهيمنة على مقدراتنا وثروات شعوبنا ويحول دون تطورها او استنهاضها، ذلك هو الدور الوظيفي لدولة العدو الإسرائيلي التي تحولت اليوم الى دولة امبريالية صغرى تغذيها وتدعمها الامبريالية الأم ... الولايات المتحدة الأمريكية ... ذلك هو هدف عملية التطهير العرقي الذي مارسته الحركة الصهيونية على أبناء شعبنا الفلسطيني عشية 15/ايار/1948 او النكبة الأولى، التي تؤكد مقدماتها ونتائجها ان الصراع منذ اللحظة الأولى كان صراعاً عربياً صهيونياً...ما يعني بوضوح مراكمة كل اشكال النضال في اوساط الحركات والقوى الوطنية والقومية واليسارية الديمقراطية الثورية العربية وفي الطليعة منها القوى الفلسطينية لمجابهة وتجاوز واقع التخلف والتبعية والرجعية الراهن وتحقيق اسس ودولة الثورة الشعبية الديمقراطية بافاقها الاشتراكية كشرط رئيسي لمجابهة وانهاء الدولة الصهيونية واقامة دولة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها.
وبالتالي رفاقنا اصدقائنا...لا مفر من ان نؤكد معاً أن مشاعل الحرية والعودة التي أضاءها شهداء شعبنا ومناضليه من أبناء الفقراء والكادحين لن تنطفئ ولن تتوقف فلا خيار أمامنا سوى استمرار النضال الوطني التحرري المقاوم والديمقراطي... ففلسطين ليست يهودية ... ولن تكون إلا وطناً حراً مستقلاً، في مجتمع عربي حر وديمقراطي موحد.