الفُلك- قصة قصيرة


كمال غبريال
الحوار المتمدن - العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 21:48
المحور: الادب والفن     

"حدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض، في ست مائة من حياة نوح، في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر، في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء. وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل. . . . . إلى الفُلك"

هي فاتن الحلوة كالفليا وأوراق الورد المنداة، بأنوار فجر يداعب مخيلة ملَّت من طول انتظاره. . ناعمة هي وساحرة كملاك لم يجرب جناحيه بعد، للتحليق في فضاءات السماوات المسكونة بالنور. . فقط عباراتها، تلك الأسيرة تراث طويل من التحجر، والموات على أعتاب مبادئ أكلها العث، وقضبان زنازين تفترش كل الامتداد، وإلى مرمى النظر الكليل بطبعه. . لتبدو هكذا فاتنتي ملائكية التكوين، كما لو أنثى لاذعة كجفاف الحلق، في ظهيرة صيف مرصع بالمسامير، كما لو على خصر سنجاب يتلفت في ضجر غير مبرر، وما أنا إلا حصاة، تتهالك بين ثدييها، المنتصبين في اعتداد تصحر، ينشب مخالبه في كل المدى. اللامدى.
هل امتقع ثدياها الرائعان كقنبلة موقوته، بيياض جيري، مشوب بتوهج حلمتين تصران على الصمت إلى أجل غير مسمى؟!

"وتعالت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً"

كم من الخطوات علي أن أحجلها بجناحي اللذين أنهكهما الزمن، في غياب قمر، مازال مشبوحاً على جدار، في مهب ريح تقطر بالغربة والحنين الممض؟
لا مساحة هنا للنوستالجيا. . فقط يتدلى لساني بافتضاح آلامي الدفينة الحميمة والخرساء. . عرق الليل المطهم بلهاث أعمى، ومَرَدَة الأحلام الموصومة بالعُهر. متدثرة بخطيئة تدنيس جهامة الدوائر المقدسة. . دوامات حلزونية حتى اللانهاية، ملائمة تماماً للنحيب إلى حد القهقهة، ونواح واهن يندلق من فوهات سراديب مكمورة الرائحة، تجوس في نخاع عظيماتي، المشرفة على التكوم كعصوات هامدة حول صرة انكفائي.
وكأن فاتن قد صارت دون تمهيد مسبق، ولا حتى تسلسل منطقي أو زماني، قطب تواجدي غير محدد المعالم. . وكأنها روافد أساطير من طيبة وأثينا ومستنقعات سومر، مروراً بالرفض العظيم لهربرت ماركيوز، حتى متطلبات اللياقة وتقليم الأظافر في النظام العالمي الجديد، مع حتمية غسيل اليدين والقدمين قبل الأكل وبعده. . هكذا صارت فاتنتي بالفعل، أنثى رائعة إلى حد النقمة، فاجعة الحضور كيباب يمتد إلى ما بعد خط السماء.

"وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء. فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً"

"وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر"

بل أحب حبي يا فاتن، قلت قاصداً أن أوجعها، أهرس صورتها المحفورة بالنار على جدران جهازي العصبي. . أعب أيضاً من طوفان الأشواق المتفجر من جسدها، أاسرها بين ذراعي، وفخذي المطبقين بغل كما هي العادة في أمسيات اللوعة والأشواق المهدرة. . كانت أطراف أناملها مثلَّجة. . هي اعتادت كل هذا أيضاً، هذا ما أفترضه دون ما اكتراث بتحري صدق هلوساتي الشبقية.  لكنها تنكر على أية حال. . تدعي وقوفها إلى الأبد، على مسافة من كل ما من حقي وحدي أن أذهب إليه. . أن أحبها، ولو إلى حد العبادة. . أن أُسَبِّح ليلاً ونهاراً بروعة أنوثتها، التي مازالت حتى الآن مع وقف التنفيذ. . حتى يمكنني إن شئت أن أتخذ منها مصدراً أساسياً، أو حتى وحيداً لإلهامي. . كل هذا متاح، هل هو أيضاً مطلوب؟ . . على أن تضع هي يديها في خصرها، وترقبني بسعادة، وربما أيضاً في إشفاق. . هي لا تجحدني وحدي ربما. . تجحد أيضاً آلهة عمياء ومشوهة الأطراف، تعرف المنع وتعجز عن المنح، وهي ذاتها من قامت بحشر تلك الفاتن متصنعة الحماقة، في امتدادات دروبي، وحتى سماء متهافتة حد التقزز. . كم بروق خرساء، رؤى مضببة بالملح. . قطعان الكيميرا والجريفين تحركها عصا التيتان الرهيبة نحو الجهات الأربع. . تلويحات أكف مبتورة الأصابع؟
كم من نهايات مفترضة، لعاشق لا يتقن الحبو على جسد اللغة، وفاتنته لا تجيد غير الحملقة في أذناب القدر، وهي تبعثر أشلاء العشاق. . تجعل منهم أضحوكة لكل الكواكب السيارة، لمجرد أنهم لا ينصاعون لصوت السماء المبحوح، ولا ينخدعون بوعود لم ولن يتيسر التيقن منها. . هل كانت فاتن توشك أن تنصرف، حين هَمَسْتُ كأنما أحادث نفسي: أبقى أحبك كي لا أكف عن التواجد. . أطارد رائحة النعناع بين حاجبيك وشفير سرتك، كي أملأ صدري بهواء يتيح تأجيل نهايتي ولو لبعض الوقت؟

"وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحاً شرقية حارة، فضربت رأس يونان فذبل، فطلب لنفسه الموت، وقال موتي خير من حياتي"

يتراقص اسمك يا فاتن، في الصهد الطافح من غابة أشجار عتيقة لها نفس ملامحي. . تطاردك أينما ذهبت. أنى ذهبت. . أما أنا، فليس أمامي إلا أن أتمرغ في خيالات جسدك، المعمورة بلفح سياط تستحثني على الانتحار، أو على تناول كوباً مثلجاً من عصير الغياب.
قالت: في بداياتي أدمنت المرايا والأحلام. . أحببتني بالأولى، وكرهتني بالثانية. رهبتني. . كنت أخرى أعرف جيداً أنها مني، بعض من بعضي. . ربما هي أناي الأصيلة والعارية من كل الرتوش، التي تتوارى خلفها حقيقة أخشى أن تواجهني وأواجهها.
قالت: أرى في نظرة عينيك بريقاً يفضح كلتيهما، لذا إن أحببتك مرة، فلابد وأن أبغضك مرات. . هل فهمت الآن؟
قلت: أحب الاثنتين.
قلت: أعرف كيف أصنع منك أنثى لا تهرب من أنوثتها، ولا تسارع دوماً بردمها بالتراب ونافلة المواعظ. . ألم تجربي ولو في خيالات أحلامك، كيف أستطيع أن أضرم النار في تضاريسك. . أيضاً جحيم أن ينشب النمر مخالبه، صعوداً إلى نهديك، فأزرع فيهما الجنون. . أبللهما بالسائل المقدس، يلتاعان، يستشيطان ضراوة. . وهبوطاً من ذات الطريق الملوكي غير الممهد ، إلى هوة اللاقرار الهانئة في غابتها السوداء، والمترقبة لكل لمسة وهمسة ؟
قالت: أنت . . . .
قلت: أنا من يستطيع أن يفتح مدنك المنسية، ويخضب الدروب بأنينك، أوهتافك الهستيري بالنصر المبين.

"فأعد الرب الإله يقطينة فارتفعت. . . .لتكون ظلاً على رأسه، لكي يخلصه من غمه، ففرح. . . من أجل اليقطينة فرحاً عظيماً، ثم أعد الله دودة عند طلوع الفجر في الغد، فضربت اليقطينة فيبست"

"في ذلك اليوم عينه دخل. . . . . إلى الفُلك"