المسيرة من الطوطمية إلى التوحيد
كمال غبريال
الحوار المتمدن
-
العدد: 8558 - 2025 / 12 / 16 - 09:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مرّ تصور البشر للآلهة بمراحل متعدّدة
من الرموز المبهمة المرتبطة بالطبيعة والجماعة.
إلى فكرة الإله الواحد المتعال.
مع بقاء بقايا من كل مرحلة في الثقافات المعاصرة.
فيما يلي عرض مبسّط لأهم المراحل كما يصفها علماء تاريخ الأديان والأنثروبولوجيا.
مع التنبيه أن هذه رؤية علمية تفسيرية لا دينية معيارية.
الطوطمية والأنيميزم (الأرواحية)
• الطوطمية من أقدم صور التدين؛ فيها تعتقد العشيرة أنها من أصل واحد مع حيوان أو نبات أو ظاهرة (الطوطم) يُوقَّر، وتُفرض حوله محرمات صارمة، ويُرى كـ“أبٍ حامٍ”.
• في الأنيميزم تُنسَب الأرواح والقوى الخفية إلى الكائنات والجبال والأنهار والريح، فيُعامل العالم ككائن حي مليء بالأرواح التي يجب استرضاؤها بطقوس ونذور.
تعدد الآلهة المرتبط بالطبيعة والمجتمع:
• مع الزراعة والاستقرار وظهور القرى والمدن، انتقل الإنسان من روح مبهمة للطبيعة إلى “آلهة” متخصصة:
إله للخصب،
وآخر للحرب،
وآخر للمطر،
مع أساطير عائلية عن نسبهم وصراعاتهم.
• في حضارات كبرى مثل سومر ومصر وبلاد الشام واليونان ظهر “مجمع آلهة” (بانثيون) يعبِّر عن تقسيم العمل في المجتمع،
حيث يوازي كل إله وظيفة أو طبقة أو قوة كونية.
من تعدد الآلهة إلى الثنوية والتجريد:
• تطور الفكر الديني في بعض البيئات من تعدد واسع إلى ثنوية:
إله للخير وإله للشر.
كما في الزرادشتية (أهورامزدا وأهريمان) التي تُعد مرحلة وسطى بين الشرك الصريح والتوحيد المجرّد.
• بالتوازي بدأ “تجريد” الإله.
لم يعد مجرد تجسيد طبيعي (شمس، نهر، ثور).
بل كائن أعلى أكثر تجريداً وسمواً فوق الطبيعة.
وإن ظلّت حوله آلهة أو أرواح أدنى.
بروز التوحيد التاريخي:
• الأديان الإبراهيمية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) تمثّل ترسيخاً لفكرة الإله الواحد المتعالي الذي لا شبيه له.
مع نفي ألوهية غيره:
- في اليهودية تطور مفهوم الإله الواحد عبر مسار طويل.
- وفي المسيحية إله مثلث الأقانيم أي الذوات.
- وفي الإسلام صيغة التوحيد “لا إله إلا الله” تبدأ بنفي كثرة الآلهة ثم إثبات الواحد.
• حتى داخل المجتمعات التي عرفت التوحيد ظهرت صراعات فكرية حول صفات الإله وعلاقته بالعالم.
مثل الجدل بين التوحيد البسيط والفهم الفلسفي أو الصوفي (وحدة الوجود).
وكلها محاولات لتجريد العلاقة بين الإله والكون والإنسان.
العصر الحديث:
شخصيّة الإله وتنوع التصورات
• الحداثة أفرزت تصورات جديدة:
من التديّن الإبراهيمي التقليدي، إلى الروحانيات الفردية، إلى المواقف اللادينية والإلحادية، مع استمرار حضور صورة “إله شخصي” متعال في وعي أغلب المتدينين المعاصرين.
• في الفكر الديني والفلسفي الحديث تُناقش اليوم قضايا مثل: إله الفلسفة (العلة الأولى، المطلق)، والإله الأخلاقي العادل، والإله في التجربة الصوفية، ما يعكس انتقال التصور من آلهة الطبيعة إلى إله يرتبط بالمعنى والضمير والعدل الكوني.
كيف انتقل الاعتقاد من الطوطمية إلى تعدد الآلهة:
الانتقال من الطوطمية إلى تعدد الآلهة لم يكن قفزة واحدة، بل مسار طويل ارتبط بتغيّر شكل المجتمع والاقتصاد والسلطة وطريقة فهم الإنسان للطبيعة. يمكن تلخيصه في تحوّل الرمز الجماعي (الطوطم) إلى آلهة متخصصة ثم إلى مجمع آلهة تخدم دولة أو مدينة.
ما هي الطوطمية أصلاً؟
• في الطوطمية يكون هناك كائن (حيوان، نبات، ظاهرة) يمثل رمز العشيرة وهويتها ويحظى بالتقديس والحماية، مع محرمات حول قتله أو أكله أو الإساءة إليه.
• هذا الرمز لا يكون بعد “إلهاً مشخصاً” بقدر ما هو علامة قرابة وقداسة للجماعة، ولذلك يراه كثير من الباحثين نسقاً اجتماعياً-رمزياً أكثر من كونه ديناً منظماً بالمعنى المتأخر.
العوامل التي دفعت إلى تجاوز الطوطمية:
• مع تطور التنظيم الاجتماعي من عشائر متنقلة إلى مجتمعات زراعية مستقرة ظهرت طبقات اجتماعية ومؤسسات سلطة وكهنوت، فاحتاج الناس إلى رموز أوسع من طوطم قبيلة صغيرة.
• ازدياد تعقيد الحياة (زراعة، ري، حرب، تجارة) جعل الإنسان يبحث عن قوى غيبية “متخصصة” تفسّر المطر والفيضان والحرب والخصب، وهو ما لا يكفي فيه طوطم واحد للعشيرة.
من الطوطم إلى أرواح وآلهة متخصصة:
• تطورت الطوطمية مع الأرواحية (الأنيميزم): العالم امتلأ بالأرواح والقوى اللامرئية، فصارت لكل ظاهرة أو مجال روح أو قوة مميزة يمكن استرضاؤها بطقوس خاصة.
• مع الزمن بدأ بعض هذه الأرواح والقوى يُعطى أسماء وصفات وشخصيات وقصص، فصار أقرب إلى “إله” له وظيفة معينة (إله المطر، إله الحرب، إله الخصوبة)، وهذه هي النواة الأولى لتعدد الآلهة.
نشوء مجمع الآلهة في الحضارات الزراعية
• في حضارات مثل سومر وبابل ومصر القديمة صار لكل مدينة أو إقليم إلهه الحامي، ثم جرى جمع هذه الآلهة في “مجمع” واحد يترأسه إله أعلى، كجزء من توحيد سياسي-ديني للمدن تحت سلطة مركزية.
• هكذا أصبح الطوطم/إله المدينة جزءاً من “بانثيون” واسع. ولم يعد الرمز محصوراً في رابطة الدم والقرابة، بل صار جزءاً من دين دولة يبرّر السلطة وينظم العلاقة بين الإنسان والكون والملك.
خلاصة الفكرة العلمية للمسار
• من منظور الأنثروبولوجيا:
الطوطم يعبّر عن الجماعة نفسها، ثم مع تعقد المجتمع تنفصل صورة “القوة المقدسة” عن رمز القرابة لتأخذ شكل آلهة ذات اختصاصات وشخصيات.
• لذلك يُفهم انتقال الاعتقاد كتحول من “قداسة الجماعة ورمزها” إلى “نظام كوني تسيّره آلهة متعددة”، وهو مسار ثقافي-اجتماعي طويل لا يمكن حصره بزمن أو مكان واحد.