كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي
تاج السر عثمان
الحوار المتمدن
-
العدد: 8375 - 2025 / 6 / 16 - 01:13
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تاريخ النوبة الاقتصادي الاجتماعي
( 500 -1500م)
تأليف
تاج السر عثمان الحاج
الطبعة الثانية : الخرطوم – يونيو 2025
الكتاب: تاريخ النوبة الاجتماعي
المؤلف: تاج السر عثمان الحاج
رقم الإيداع: 16749/2003 865/1996 السودان
تاريخ النشر: الطبعة الثانية - يوليو 2022م
حقوق الطبع والنشر والاقتباس محفوظة ولا يسمح بإعادة
نشر هذا العمل كاملاً أو أي قسم من أقسامه، بأي شكل من أشكال
النشر إلا بإذن كتابي.
الناشر:
الإدارة:
تلفون:
التوزيع:
السودان الخرطوم
بريد إلكتروني:
الإهــــداء
إلي والدتي المرحومة
التومة البشير تكة
أول من أعطتني دروساً في التاريخ
كانت حافظة لتاريخ بلدتي أمبكول
ومتابعة للأحداث....
لها الرحمة والمغفرة
مقدمة الطبعة الثانية
صدرت الطبعة الأولي من هذا الكتاب عن دار عزة للنشر، فبراير 2003م ، الذي كان الهدف منه تكثيف الدراسة حول التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لفترة ممالك النوبة المسيحية في العصور الوسطي التي شكلت حلقة مهمة في سلسلة تطور تاريخ السودان.
منذ صدور الطبعة الأولي جرت مياه كثيرة تحت الجسر ، وبهذه المناسبة أشكر كل الباحثين والمؤرخين والمهتمين بتاريخ النوبة والقراء الذين ابدوا ملاحظات قيمة بما فيها الأخطاء المطبعية التى كانت مفيدة بالنسبة لي وأخذتها في الاعتبار مثل: المرحوم الصديق د. اسامة عبد الرحمن النور الذي أشاد بالجهد الذي بُذل ، وأمدني مشكورا بمستجدات في تاريخ النوبة المسيحية بعد الأبحاث التي تمت إثناء حملة لأنقاذ آثار النوبة بعد قيام السد العالي في الستنيات من القرن الماضي.
فما زالت فترة النوبة المسيحية وخصوصيتها ميدانا خصبا للدراسة ، وتشد انظار الباحثين والمؤرخين والمهتمين و تحتاج للمزيد من سبر غورها ، علي سبيل المثال: اشار وليم آدمز مؤلف كتاب " النوبة رواق افريقيا" في مقال له عن الأمم النوبية الي الآتي :
"وثمة تقدم آخر أحرزته الأمم النوبية في القرون الوسطي ابعد من القبائلية والأمبريالية علي حد سواء ، فقد حققت اقصي حد من الفصل بين الكنيسة والدولة بقدر لم يتوفر لأي أمة قبل العصر الحديث ، فقد كان أمر تعيين الموظفين المدنيين ، وتحديد مسؤولياتهم من اختصاص الملوك القائمين ، علي حين كان الهرم الكنسي بمجمله معينا من قبل بابا الأقباط بالاسكندرية وخاضعا لمساءلته، واذا سلمنا بصدق الوثائق العديدة التي تم الكشف عنها في قصر أبريم ، نوقن بأنه لم يكن هناك تداخل علي الاطلاق بين البناءين البروقراطيين ، وقد حدث هذا في زمن كانت البلاد الإسلامية المجاورة تخضع لحكم الخلفاء ثيوقراطيين، مع وجود تشابك وتداخل شديدين بين سلطات الكتيسة والدولة في كل الامبراطورية البيزنطية ، وعلي الرغم من الفصل التام الذي كان قائما بين هذه السلطات في اوربا الغربية ، حيث الرومان الكاثوليك ، فان مهام تعيين رجال الدين من اساقفة وقساوسة كانت في ايدي الملوك وليس البابا".
كما واصلت اطلاعي وتابعت المستجدات والأبحاث التي جرت في تاريخ النوبة المسيحية، علي سبيل المثال لا الحصر : اطلعت علي مؤلف د. أحمد المعتصم الشيخ " مملكة الأبواب المسيحية وزمن العنج" الصادر عن مركز الدراسات السودانية ، القاهرة 2002م، الذي سلط الضوء علي مملكة الأبواب المسيحية ، وأسباب ازدهارها، والطرق التجارية ، كما تحدث عن زمن العنج ومكانهم وبداية زمنهم ، وعلاقة العنج بمملكة الأبواب ونظام الحكم عند العنج ، والمؤسسة الدينية والعنج ، ونهاية زمنهم.
كما رجح أن الأبواب تقع في المنطقة بين الشلالين الرابع والخامس ، وتابع تطورها ( الهوّية السياسية) وأشار الي أنها : كانت موضعا في زمن اليعقوبي (ت 897م) ، ثم ولاية تابعة لعلوة في زمن ابن سليم (ت 996م)، وتطورت هذه الولاية الي مملكة ذاتية شبه مستقلة في أواخر العهد المسيحي ، وبحكم طبيعتها الأمنية وحمايتها الطبيعية برزت كملجأ لأعداد كبيرة من اللاجئين المسيحيين من منطقة دنقلا في تلك الفترة المضطربة التي احدثها الغزو المتكرر للمماليك ، كما حلت مملكة الأبواب محل مملكة دنقلا في التجارة الخارجية ، كما شهدت الازدهار في آواخر الفترة المسيحية وعلي حساب مدينة دنقلا.
ومن ناحية أخرى نجد دلائل تشير الي أن مملكة الأبواب استمرت لفترة ما بعد اسلام دنقلا ، وحافظت علي مسيحيتها حتى ظهور عنصر جديد عُرف في التراث المحلي باسم العنج ( ص38).
وهو كتاب مفيد سلط الضوء علي جانب مهم في تاريخ النوبة المسيحية وهو الأبواب المسيحية التي ورد ذكرها كثيرا في مؤلفات الرحالة العرب في العصور الوسطي ، وكتاباتهم عن ممالك النوبة المسيحية.
كما ظهرت مؤلفات سلطت الضوء علي الفترة الغامضة بعد زوال مملكة مروي ( 350 م – 550م) التي اطلق عليها علماء الآثار فترة المجموعة الثقافية (*) ، وهي فترة غير واضحة المعالم فيما يتعلق بملكية الأرض ، لكن اتضح من الآثار أن سكان تلك الفترة، مارسوا الزراعة والرعي بوصفهما حرفة رئيسية ، كما أنهم استطاعوا أن يدخلوا تعديلات في تقنية الساقية لتناسب ظروف وأوضاع السودان، وكان للساقية أثر في زيادة محصولات الموسم الصيفي ( ذروة ، دخن، )، كما دخلت زراعة القطن وتصديره مصنوعا الي مصر ، هذا اضافة لصناعة قواديس السواقي، واصل سكان تلك المجموعة صناعة الحديد ، وصنعوا منه كما في الآثار أدوات الإنتاج الزراعي (طورية، منجل، نجامة. الخ)
فقد بدأت الابحاث والمؤلفات في سبر غور تلك الفترة مثل: مؤلف د. محمد مهدي ادريس بعنوان " شذرات من تاريخ المجتمع والثقافة في بلاد النوبة في الفترة ما بعد المروية ( 350 م- 550م)، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة 2018، والذي أهداني نسخة منه مشكور، وهو جهد مقدر في فك طلاسم تلك الفترة .
تابع المؤلف في فصول الكتاب: بنية بلاد النوبة ومصادر تاريخها ، نهاية مملكة مروي وسيطرة النوبة، اضواء علي المجتمعات الحضرية والريفية البدوية ، الدين واللغة أسا الثقافة، عادات الدفن صدى للمجتمع وثقافته، ضروب من الثقافة المادية.
لكن مايهمنا ماجاء في الكتاب : أن النوبة في تلك الفترة واصلوا في انشطتهم الاقتصادية باعتمادهم بصفة رئيسية علي الزراعة وتربية الحيوان ، ولعبت التجارة الخارجية – خاصة مع مصر- دورا مهما في تشكيل بنية مجتمع النوبة السفلي (ص 136)
أما عن ملكية الأرض وعلاقات الإنتاج، فقد أشار المؤلف الي: وثيقة الجبلين المودعة في المتحف المصري تحت الرقم (10.760) التي تفيد بأن الملك البليمي" خاراخن " منح أبنائه الثلاثة "خاراخن" و"خاراباتخر" و"خاراهيت" جزيرة "تاناري" لينتفعوا من ريعها ، وأن ماورد في تلك الوثيقة بشأن ملكية الجزيرة والاستفادة منها ربما يشير إلي اتصاف مجتمع النوبة السفلي ببعض خصائص المجتمع الاقطاعي، فالأرض في هذا النموذج مملوكة للملك الذي كان يمنحها للأمراء والأعيان ، ويُفهم ضمنا أن من يسكنها يقوم بزراعتها وحصادها لصالح ملاكها الجدد ، نظير الانتفاع ببعض ريعها" (ص 140) .
وفي نهاية تلك الفترة نسمع عن ظهور ممالك ثلاث قامت هي : مملكة نوباديا ( نوباطيا)، المقرة وعلوة ، تلك الممالك التي اصبحت مسيحية فيما بعد ، والتي يبدأ منها تاريخ السودا ن الوسيط.
واصلت تلك الممالك في نشاطها الاقتصادي الاعتماد علي الزراعة وواصلوا في استخدام الساقية، وعرفوا ثلاث دورات زراعية بعد استخدام السماد ، اضافة لتربية الحيوانات والتجارة الخارجية مع مصر وغيرها ، والصناعات الحرفية ، وعرفوا المدن التجارية والصناعية والثقافية مثل: (فرس، دنقلا، سوبا، ابريم ، وداي العلاقي. الخ) كنتاج لتطور الزراعة وتربية الحيوانات والتجارة والصناعة الحرفية.
وأخيرا، لا شك أن تلك الفترة المهمة من تاريخ السودان في العصور الوسطي ، ما زالت تحتاج للمزيد من تسليط الضوء عليها ، باعتبار أن حضارة النوبة المسيحية، ما زال لها بصماتها في عادات وتقاليد السودانيين ، مما يؤكد استمرارارية الثقافة السودانية بشقيها المادي والفكري ، مما يتطلب الانتقال من العام الي الخاص في دراسة تلك الفترة واجلاء غوامضها من كل الجوانب.
تاج السر عثمان
الخرطوم : 7 يوليو 2022
تقديم:
1- الهدف من هذا البحث في تاريخ النوبة الاجتماعي هو محاولة لإلقاء المزيد من الأضواء الكاشفة علي تاريخ النوبة الاجتماعي، فقد كُتب الكثير عن التاريخ السياسي مثل كتاب د. مصطفي محمد مسعد: الإسلام والنوبة في العصور الوسطى (1960). وكتاب د. ج فانتينيِّ تاريخ المسيحية في ممالك النوبة القديمة (1978)، ومؤلف د. يوسف فضل العرب والسودان (1973).
وكاتب هذه السطور لا يقلل من أهمية التاريخ السياسي العام، ولكنه يرى أن التاريخ السياسي العام أو تاريخ الملوك والبلاطات الحاكمة، لا يمكن أن نفهمه بشكل أفضل بمعزل عن الإنسان النوبي العادي في نشاطه اليومي، وصراعه من أجل الحياة، وما يتضمن ذلك من تقسيم للعمل: الزراعة، الرعي ، التجارة، الصناعة الحرفية. إلخ. إضافة إلي متابعة نشاطه الروحي والاجتماعي وأنظمته السياسية والإدارية وعاداته في الأفراح والأتراح وشكل العائلة والزواج وحكمه وأمثاله وعصارة تجربته في الحياة.
بمعني آخر إننا نود متابعة حضارة الإنسان النوبي ونحاول أن ننتقل إلي ما هو أبعد من ذلك لندرس العلائق الاجتماعية وخصوصية الإقطاع النوبي، وخصوصية نظام الرق والتركيب الطبقي للمجتمع النوبي، أي دراسة التركيب الاجتماعي للمجتمع النوبي. وباختصار، يمكن القول إننا نحاول دراسة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية لممالك النوبة المسيحية في العصور الوسطى.
2- المشكلة أو السؤال الذي نحاول الإجابة عليه في هذا البحث هو: ما هي خصوصية ومميزات الحضارة النوبية؟
ونحاول الإجابة لا بفرض رؤية من الخارج علي المجتمع النوبي، بل إستناداً إلي تطوره الباطني، وبالتالي نحاول أن نخرج باستنتاجات وتعميمات مستمدة من الواقع ومن طبيعة تطور المجتمع نفسه.
فعلي سبيل المثال عندما ندرس الإقطاع النوبي نحاول أن نحدد خصوصياته ونحدد النقاط التي يتمايز فيها عن الإقطاع الأوربي أو الشرقي، وغير ذلك من خصوصيات المجتمع وتفرّده علي امتداد نشاطه في الجانبين المادي والروحي. وبالتالي يمكن أن نخرج باستنتاجات وتعميمات حول خصوصية الثقافة والحضارة النوبية.
ولا شك إن هذه الاستنتاجات الموضوعية غير المتحيزة تساعدنا علي فهم واستيعاب حاضرنا بشكل أفضل، وبهدف رسم معالم واضحة لتطورنا في المستقبل استناداً إلى فهم سليم وأفضل للماضي والحاضر.
3- المنطلقات الأساسية التي يستند إليه الكاتب في هذا البحث هي أن المجتمع النوبي شهد خلال الفترة موضوع الدراسة حضارة عرفت الازدهار والاضمحلال والزوال، كما عرف المجتمع النوبي التباين في قوى وعلائق الإنتاج، أي عرف تعدد الأنماط الإنتاجية وبالتالي تعدد البني الفوقية.
كما عرف المجتمع النوبي تقسيم العمل: الزراعة ، الحرفة ، التجارة ، وعرف التفاوت الطبقي، وعرف نظام الرق والإقطاع بخصوصيات معينة تتمايز عن أنظمة الإقطاع والرق في أوربا والبلدان الشرقية الأخرى.
كما تفاعلت الثقافة النوبية المحلية مع الثقافات الوافدة، وكانت الحصيلة هي ثقافة وحضارة نوبية متميّزة ومتفردة، تشكل مكوناً هاماً من مكونات الثقافة السودانية. والبحث يسعى إلي إثبات وتفصيل تلك المنطلقات.
4- مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية هي مجموعة الظواهر والعمليات الاجتماعية والاقتصادية، والأيدلوجية، والمعيشية والعائلية. إلخ. والتي تكمن في أساسها نوع العلائق الاقتصادية والإنتاجية بين الناس، وهي من المفاهيم المهمة التي صاغها ماركس في مفهومه المادي للتاريخ.
كما صاغ ماركس أيضاً مفهوم نمط الإنتاج أو أسلوب الإنتاج والذي يتكون من القوى المنتجة وعلائق الإنتاج والبناء الفوقي للمجتمع.
وتُعرّف القوى المنتجة بأنها حاصل مجموع مواضيع العمل وأدوات الإنتاج وعمل الناس، كما تُعرّف علائق الإنتاج بأنها العلائق والروابط التي تنشأ بين الناس في العمل، وأساس علائق الإنتاج هو أشكال الملكية، أي علائق الناس بوسائل الإنتاج، وبأشكال الملكية يتحدد وضع مختلف الجماعات الاجتماعية في الإنتاج وعلائق الإنتاج تتكون بشكل موضوعي مستقل عن إرادة ورغبة الناس.
كما يُعرّف البناء التحتي بأنه مجموع قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج، ويُعرّف البناء الفوقي بأنه آراء المجتمع السياسية والحقوقية والفلسفية والأخلاقية والفنية والدينية والمؤسسات والتنظيمات التي تناسبها.
كما أشار ماركس إلي تطور التاريخ الأوربي باعتباره يمثل تبدلاً قانونياً لإحدى التشكيلات الاقتصادية بأخرى، أكثر تكاملاً: فمن التشكيلة المشاعية البدائية نحو تشكيلة الرق والإقطاع والرأسمالية وأخيراً الاشتراكية.1-
التطورات العاصفة التي نشهدها اليوم في العلوم الاجتماعية تؤدي إلي رفض التبسيط باختزال تطور المجتمع البشري كله في سلم خماسي من تشكيلات اجتماعية أوفى تطور خطي علي أساس تقني أو اقتصادي، كما لاحظ ماركس نفسه أن اللوحة الخماسية الخاصة بالتاريخ الأوربي لا تنطبق بشكل دقيق علي بلدان الشرق مثل: الهند ، مصر ، الصين.. ولذلك إقترح نمطاً سادساً أطلق عليه نمط الإنتاج الآسيوي. فماركس كان يعارض تحويل كل ما كتبه كملامح عامة لنشأة الرأسمالية في أوربا إلي نظرية تاريخية فلسفية، تصلح لكل البلدان.
الجانب الأخر هو أنه عند دراسة تشكيلات ما قبل الرأسمالية، فإن الصورة العامة لها تكون تشكيلات متعددة الأنماط الإنتاجية مع تحديد نمط الإنتاج السائد، فالصورة العامة للتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية – إذا جاز التعبير الرياضي – يمكن اعتبارها دالة متعددة المتغيرات من الأنماط الإنتاجية.
والتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية هي مفهوم واسع يحقق الشروط التالية:
(1) الصورة العامة لها، مع تحديد نمط الإنتاج السائد، أنها متعددة الأنماط الإنتاجية، وبالتالي تكون متعددة البني التحتية والفوقية.
(2) في حالة سيادة أو هيمنة نمط إنتاج واحد علي بقية الأنماط الأخرى، في هذه الحالة تؤول التشكيلة إلي تشكيلة ذات نمط إنتاجي واحد. وهذه حالة خاصة من الحالة العامة.
مثال: سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي في المجتمعات الغربية الرأسمالية المتطورة، وبالتالي آلت إلي تشكيلة ذات نمط واحد والتي نطلق عليها التشكيلة الرأسمالية.
(3) المجموع الكلي للبني التحتية ( قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج) داخل التشكيلة المعينة تسمى: البنية الإنتاجية – الطبقية.
(4) المجموع الكلي للبني الفوقية داخل التشكيلة المعينة يسمى البنية الثقافية – الفكرية.
(5) البنية الثقافية – الفكرية تكمل البنية الإنتاجية – الطبقية وتتفاعل معها وتؤثر فيها وتتأثر بها بشكل متبادل.
(6) وحدة البنية الإنتاجية – الطبقية والبنية الثقافية – الفكرية ، هي ما نطلق عليه التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية بالمعني الواسع والشامل.
كما نشير إلي مساهمات وجهود سابقة قام بها ماركسيون محدثون في تطوير مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية بما يتمشى وتطور العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية ( أنظر علي سبيل المثال د. سمير أمين التراكم علي الصعيد العالمي – دار ابن خلدون 1978).
كما أشارت المعطيات الجديدة في علم الاجتماع إلي استحالة الفصل بين القاعدة الاقتصادية والبنية الفوقية للمجتمع، وإنما توجد في حالة تفاعل وانعكاس متبادل. بحيث من المستحيل الحديث عن أدني وأعلي أو انبثاق البنية الفوقية بشكل ميكانيكي عن الوقائع المادية.
الدراسة الملموسة لكل تشكيلة اقتصادية – اجتماعية في بلد معين تأخذ في الاعتبار خصوصية هذه التشكيلة وتفردها أو ما يميزها عن التشكيلات الأخرى، أي دراسة تطورها الباطني بدون فرض نموذج نظري مسبق من الخارج علي المجتمع المعين.
وبالتالي، فإن دراستنا للمجتمع النوبي تدور بذهن مفتوح وبموضوعية ودون تحيز مسبق لمعرفة خصوصياته، وخصوصية التطور الباطني للتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية.
5- محتويات البحث:
يتكون البحث من الأبواب والفصول التالية:
الباب الأول: البنية الإنتاجية – الطبقية ويتكون من ثلاثة فصول.
الفصل الأول: الأوضاع الاقتصادية ويشمل: ملكية الأرض، الزراعة ، الرعي – التجارة – الصناعة الحرفية.
الفصل الثاني: الأوضاع الاجتماعية ويشمل: التركيب الطبقي، الإقطاع النوبي، نظام الرق ، المدن والمعمار والحياة الاجتماعية ، المرأة.
الفصل الثالث: اتفاقية البقط – النهب والسلب – الجزية.
الباب الثاني: البنية الثقافية - الفكرية ويتكون من:-
الفصل الرابع: المسيحية السودانية.
الفصل الخامس: الثقافة النوبية ويشمل الفن النوبي – اللغة النوبية، الفلسفة والحكمة والعلوم، البنية الفوقية لمجتمع الساقية وتحولات في البنية الثقافية – الفكرية بعد انتشار الإسلام.
خاتمة بأهم النتائج:
كما قدمنا في نهاية البحث قائمة بالمصادر الأولية والثانوية التي اعتمدنا عليها للراغبين في مواصلة هذا الموضوع.
وأخيراً لا يفوتني أن أشكر د. محمد سعيد القدال الذي ساعد في توفير بعض المراجع، وأسرة دار الوثائق المركزية علي الاهتمام وتوفير الوثائق اللازمة، والشكر بصفة خاصة لـ د. علي صالح كرار الذي اطلع على مسودة البحث وأبدى ملاحظات ساعدت في تحسينه، والشكر أيضاً لـ د. أمين محمد أحمد الذي ساعد في تنسيق البحث. والشكر أيضاً لـ د. فتحي حسن المصري الذي اطلع علي مسودة البحث في مراحله الأولية، وأبدى ملاحظات ساعدت في تماسكه.
والشكر لكل الأصدقاء والزملاء الذي ساعدوا بأفكارهم وبالطباعة علي جهاز الكمبيوتر والذين ساعدوا ليرى هذا العمل النور.
وأخيراً، يتحمل الكاتب وحده مسئولية البحث واستنتاجاته.
تاج السر عثمان
الخرطوم 1/2/2003
مقدمة:
كانت ممالك النوبة المسيحية حلقة مهمة في العقد الفريد الذي انتظم حلقات ممالك سودان وادي النيل. فهي الحلقة التي انتهى عندها تاريخ السودان القديم، وأبتدأ منها تاريخ السودان في العصور الوسطى.
ومعلوم أن السودان القديم، شأنه في ذلك شأن البلاد الأخرى. مر بعصور ما قبل التاريخ ( العصور الحجرية) بمراحلها الثلاث: العصر الحجري القديم والوسيط والحديث. كما أوضحت الاكتشافات الأثرية للعصر الحجري الحديث في الخرطوم وحلفا والشهيناب.
وبعد نهاية العصر الحجري الحديث شهد السودان القديم حضارات عرفت الزراعة والرعي والصناعة الحرفية والسلالات الحاكمة واللغة المكتوبة والتجارة.. وقد حدد علماء الآثار تلك الحضارات حسب التسلسل التاريخي الآتي:
1- حضارة المجموعة (أ): التي انتشرت في النوبة بين الشلال الأول وعبري.
2- حضارة المجموعة (جـ): وتنتشر مواقعها في النوبة السفلى بين الشلال الأول والثاني.
3- مملكة كرمة ( كوش ) التي غطت الفترة ( 2400ق.م – 1450ق.م) واستمرت حتى زالت علي يد الاحتلال المصري، في زمن الدولة الحديثة، لبلاد النوبة بين الشلال الأول والرابع، والذي استمر حتى نهاية المملكة الحديثة للفترة (1570ق.م – 1085ق.م) واستمر الاحتلال المصري قرابة الخمسمائة عام. وفي هذه الفترة صارت بلاد النوبة حتى الشلال الرابع تتبع إدارياً للإقليم المصري الجنوبي حتى خرج المصريون من السودان في نهاية الأسرة العشرين2-
4- مملكة نبتة ( 850ق.م – 3000ق.م) التي اتسعت وضمت المملكة المصرية في عهد الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر في الفترة (729-656ق.م) ومعلوم أن نبتة اسم أطلقه مصريو الدولة الحديثة علي المنطقة حول البركل وقد تميزت هذه الفترة بتكدس المواقع الأثرية في الكرو( جبانة) نوري ( جبانة)، البركل ( معابد وجبانتان)، مروي وصنم أبو دوم ( جبانة معبد ومباني عامة). وتميزت الفترة بعد بعانخي (749- 716ق.م) بصبغة مصرية قوية تتضح في عادات الدفن وألقاب الملوك وطريقة لبسهم واللغة الرسمية التي كتبوا بها مخطوطاتهم.
5- مملكة مروي ( 300ق.م- 350ق.م): وجاءت بعد مملكة نبتة الفترة المروية المشهورة في تاريخ سودان وادي النيل، والتي عرفت باختراع الكتابة المروية وظهور آلهة محلية جديدة ( أبادماك، أرسنوفس…)، وصناعة الحديد، واستمرت حضارة مروي حتى زالت في حوالي 350م. وبعد سقوط مروي مرت ببلاد النوبة فترة غامضة أطلق عليها المؤرخون وعلماء الآثار إسم المجموعة ( س) والتي تغطي الفترة (350م – 550م) والمعلومات التي بين أيدينا عن هذه الفترة قليلة جداً، ويبدو من نص الملك عيزانا ملك أكسوم. أن القرن الرابع الميلادي شهد هجرات وتحركا كبيرة وسط القبائل الرعوية وبعض هذه القبائل كقبيلة النوبة ( النوباديين) والبلميين ( البجة) وصلت إلي النيل في شمال المملكة، وتمكنت من فرض سيطرتها عي أجزاء منه، وأقامت ممالك صغيرة في فركة، جمي، بلانة ، القسيطل وقصر إبريم. وفي الفترة ما بين (452م – 540م) ، تمكن النوباديون من إقصاء البلميين وفرضوا سيطرتهم علي كل النوبة السفلى ( ما بين الشلال الأول والثاني)، ويتضح ذلك من رواية يوحنا الأفسس عن نشاط المبشرين في السودان، وفي الرواية نفسها يحدثنا يوحنا عن مملكتين أخريين، الأولي: مملكة المغرة إلي الجنوب من مملكة النوباديين، والثانية مملكة علوة جنوب مملكة المغرة وقد دخل ملوك هذه الممالك الثلاث في الدين المسيحي. وبهذا انطوت آخر صفحة من صفحات تاريخ السودان القديم.
كما ظهر أيضاً إسم ممالك نوباديا والمقرة وعلوة في كتابات المؤرخين والكتاب العرب في العصور الوسطي(2) وبذلك ندخل في الفترة موضوع بحثنا (500م – 1500م) والتي شكلت بداية تاريخ السودان الوسيط، وعرفت ممالك النوبة المسيحية الثلاث.. نوباديا، المغرة ، علوة.
موقع ممالك النوبة:
المقصود: ببلاد النوبة هي الجزء من وادي النيل الواقع ما بين أسوان شمالاً وملتقى النيلين جنوباً. وفي هذا الجزء قامت الممالك النوبية الثلاث والتي أصبحت مسيحية في العصور الوسطي. وهذه الممالك النوبية من الشمال إلي الجنوب هي:
أ- مملكة نوباديا ( نوباطيا): الواقعة ما بين الشلال الأول بأسوان حتى الشلال الثاني أو المعروفة ببطن الحجر، وهي المملكة التي أطلق عليها الكتاب والمؤرخون العرب في العصور الوسطي اسم المريس(3)
ب- مملكة المغرة: الواقعة ما بين الشلال الثاني والخامس بالقرب من مدينة بربر.
ج- مملكة علوة: الواقعة ما بين الشلال الخامس إلي ملتقى النيلين وجزء من الجزيرة ( أنظر الخريطة المرفقة).
وهناك تسمية أخرى لهذه الممالك عند الكتاب العرب وهي النوبة السفلى ( ما بين الشلال الأول والثاني)، والنوبة العليا ( ما بين الشلال الثالث والخرطوم)، والنوبة والسفلي هي عبارة عن مملكة نوباديا والنوبة العليا تضم مملكتي المغرة وعلوة.
وكانت قبيلة القرعان والزغاوة وغيرهما من القبائل في دارفور وكردفان تحت سيطرة ملك المقرة، كما كانت القبائل في جنوب الجزيرة والواقعة علي حدود إثيوبيا تحت سيطرة ملك علوة في القرن العاشر.(4)
ومعني هذا أن بلاد النوبة في العصور الوسطي هي سودان وادي النيل الذي عرفه التاريخ علي حين أن الإقليم المشهور باسم جنوب السودان لم يكن معروفاً عنه شئ قبل القرن التاسع الميلادي (5) أما بخصوص الأوطان الحالية النوبيين فهي تمثل تلك الأراضي الملاصقة لنهر النيل من شمال أسوان إلي بلدة الدبة وكورتي وهم يستقلون أحياناً بهذه الجهات النوبية لا يشاركهم فيها أحد ويجاورهم أحياناً جماعات عربية(6) هذا قبل هجرة جزء منهم إلي خشم القربة في بداية الستينيات من القرن الماضي.
هذا التحديد ينصب علي الأوطان الحالية النوبيين ، وهي تمثل نصف المساحة التي كانوا يحتلونها من قبل، فامتدت كما سبق أن أوضحنا إلي الجنوب من التقاء النيلين الأبيض والأزرق، بل امتد نفوذها أحياناً إلي بعض جهات الجزيرة، ولكنها انكمشت إلي الحدود الحالية علي أثر ضغط القبائل العربية التي احتلت أخصب بقاعها إلي الجنوب من الدبة..
وينقسم النوبة إلي أربع مجموعات رئيسية هي:
- الكنوز في الجزء الشمالي الممتد من كرسكو إلي أسوان.
- المحس والسكوت في إقليم الجنادل القديمة ما بين حلفا وكرسكو.
- الدناقلة في الجنوب ما بين الدبة وأبو فاطمة.
ومن ناحية اللهجات يقسم د. محمد إبراهيم أبو سليم النوبة إلي ثلاثة فروع.
- الكنوز في الشمال بين أسوان وكرسكو ولهم لهجة خاصة تسمى المنكية أو الكنزية.
- ثم القديمة وسكان أرض الحجر والسكوت المحس وهم يتكلمون بلهجة خاصة وهي التي نشير إليها باللهجة الوسطى.
- وفي الجنوب الدناقلة الذين يتكلمون بلهجة خاصة ولكن قريبة إلي لهجة الكنوز.(7)
أصل وموطن النوبة:
هناك آراء مختلفة حول موطن وأصل النوبة، نذكر منها:
1- يقول البعض إن أهالي النوبة في وادي النيل هاجروا تدريجياً من جبال كردفان الجنوبية إلي وادي النيل علي مدى القرون، وأهم إثبات لهذا التشابه والاتصال بين لغة النوبيين من دار المحس ودنقلا ولهجات مختلفة عند أهالي جبال النوبة وبعض مناطق دارفور ( الميدوب).
2- ويرى البعض الآخر. إن النوبيين هاجروا إلي وادي النيل قادمين من ليبيا عبر الصحراء الكبرى(8)
ويرى د. مصطفي محمد مسعد: إن النوبيين – كما وصفتهم حاميو الأصل من سلالة قدماء المصريين نفسها. وتأثروا علي مدى العصور بمؤثرات زنجية ظهرت بوضوح في المجموعة الثقافية. وبالتالي يغلب علي اللغة النوبية أنها ذات أصل حامي تأثرت ببعض المؤثرات الزنجية أما عن وجود شبه بين إحدى اللغات الثلاث الموجودة في جبال كردفان الجنوبية وبين اللغة النوبية، فإن هذا لا يقدم دليلاً علي اشتراك هاتين السلالتين في أصل واحد، فهو لا يستند علي حقائق علمية والاختلاف واضح بينهما والأرجح أن بعض الموجات الجنوبية سواء كان هذا قبل سقوط دنقلا أو بعدها هاجرت إلي بعض جهات كردفان وفرضت اسمها ولغتها علي سكان الجبال دون غيرهم وهذه كانت واحدة من اللغات الثلاث الموجودة بهذه الجبال.
وما لبس أن أطلق العرب اسم نوبا علي سكان الجبال جميعاً، وربما كان هذا راجعاً إلي أن هؤلاء النوبيين المهاجرين، كانوا عنصراً بارزاً مما جعلهم يطلقون علي أنفسهم اسم ( نوبا) ولكل سكان الجبال(9).
ومهما يكن من شئ حول أصل النوبة، فما يهمنا في هذا البحث ليس التنقيب في أصل النوبة أو أصل اللغة النوبية، ولكن يهمنا تحديد المصطلح والمدلول الدقيق لممالك النوبة المسيحية موضوع دراستنا. وكما يقول بروفيسور أحمد محمد علي حاكم فإن لفظ نوبي له أكثر من مدلول، فهناك المدلول العرقي واللغوي والجغرافي والحضاري فهذه المدلولات ليست بالضرورة متلازمة(10)
ملامح من النظام السياسي:
يبدو أن ممالك النوبة التي جاءت بعد المملكة المروية وحضارة المجموعة (س)، قد ورثت نظام الحكم الإقطاعي المركزي عن مملكة مروي القديمة مع الاختلاف في الظروف التاريخية، كما ورثوا تقاليد الملكة الأم. أو دور الأم في تسيير شئون المملكة المروية القديمة.
وكان ملوك النوبة يتمتعون بسلطة سياسية ودينية في آن واحد، أي كانوا يجمعون بين السلطة الزمنية والروحية، أما عن حكام الأقاليم، وكان عددهم ثلاثة عشرة حاكماً إقليمياً أطلق عليهم جميعاً لقب الملاك الخاضعين للملك الكبير بدنقلا(11).
وكان من أهم هؤلاء الحكام هو وحاكم مريس الذي كان يسمى صاحب الجبل، وخادم الملك، آمين خاص الملك.. إلخ من أول القصر الملكي.
أما مملكة علوة فقد قسمت إلي عدة ولايات، عرف كل واحدة منها بالمملكة وعلي راس كل منها ملك، وكان ملك الأبواب الواقع في شمال المملكة أعظم أولئك الملوك الإقليميين قدراً وأعلاهم مقاماً(12).
وأورد المؤرخون العرب أسماء هذه الممالك وهي: بارة، التاكا، كدرو، دنقو، أري ، بقال ، الأنج ، كرسة.
ويبدو من وصف ابن سليم الأسواني لملك علوة السلطات المطلقة لملك علوة الذي كان له سلطة أن يسترق من يشاء من رعاياه بجرم وبغير جرم، هذا إضافة لما أورده المؤرخون.. العرب عن ملك المغرة الذي كان صاحب الأرض والشعب كله عبيده لا يخالفون له أمراً ولا يعصونه.
ومعلوم أيضاً أنه تم اندماج مملكتي نوباطيا والمقرة في مملكة واحدة كانت عاصمتها دنقلا العجوز، وهذه المملكة المعروفة بمملكة النوبة أو ودنقلا، هي التي وردت في كتابات المؤرخين العرب.
أما مدينة فرص وهي عاصمة مملكة نوباطيا السابقة، فأقام بها الوالي الأبرخص(13)، وكان هذا اللقب خاصاً بوالي نوباطيا وكان منصب الأبرخص أهم الولايات في المملكة لقرب منطقته من البلاد الإسلامية وهو مسئول عن أمن الحدود المشتركة مع مصر، ومما يختص به أنه يلبس خوذة طاقية ذات قرنين(14)، كما يبدو من الصورة التي اكتشفت في بعض الكنائس النوبية.
تأثر النظام السياسي في ممالك النوبة المسيحية في ازدهاره وذبوله بعوامل خارجية، مثل حروب العرب الأولي مع النوبة والتي نتج عنها اتفاقية البغط التي كانت عبارة عن اتفاق تجاري سياسي.
وتميز عهد الدولة الفاطمية في مصر (696م - 1172م) بعلاقات سلمية طيبة وتعاون تام بين ملوك مصر والنوبة، وفي تلك الفترة زار ابن سليم الأسواني وابن حوقل ( وكلاهما من الدعاة الفاطميين) بلاد النوبة، وقد قدموا لنا الوصف الذي اعتمدنا عليه في استخلاص ملامح من تاريخ النوبة في العصور الوسطى.
ولم يذكر أي من المؤرخين حرباً ولا اشتباكاً بين النوبة ومصر في هذه الحقبة، كما تشير المصادر التاريخية إلي أن الفاطميين، كانوا يثقون بالجنود النوبيين أكثر من الطوائف الأخرى، وقد وصل بعض النوبة إلي مواقع إدارية وقيادية في شئون القصر بمصر (المؤتمن والزعيم).
ولكن في عهد الدولة الأيوبية التي تلت الدولة الفاطمية توترت العلاقات بين النوبة ومصر، ونتج عن هذا التوتر غزو توران شاه النوبة عام 1173م وانهزم النوبة أمام الجيش الكردي في قلعة أبريم، وبعد ذلك تم صلح ولم تهتم الدولة ا لأيوبية بفتح أرض النوبة نسبة لانشغالها بحروب الصليبيين في الجبهة الشمالية.
ويشير د. ح. فانتيني(15) إلي أن الصليبيين حاولوا التحالف مع النوبة المسيحية لمحاصرة مصر من الجنوب، وذكر أن الوثائق التاريخية تشير إلي أن الصليبيين كانوا يسعون للاتصال والتنسيق بينهم وبين حركاتهم وتوقيتها لمحاربة سلطان مصر. لذلك فرض سلطان مصر رقابة شديدة لمنع كل اتصال بين النوبة والصليبيين، وهناك تحفة أثرية محفوظة في المتحف القومي تثبت وجود اتفاقيات بين بعض الدول الغربية والنوبة، وهو تمثال خشبي صغير لأحد الصليبيين الغربيين، وهو يلبس عدة الحرب بكاملها (حفريات أثيري) إضافة إلي كتاب الراهب هيطون الذي يشير إلي اتصالات سرية بين الصليبيين والنوبة.
وفي عام 1260م حدث انقلاب المماليك في مصر بقيادة ركن الدين بيبرس الملك الظاهر الذي استولي علي عرش مصر وأعلن نفسه سلطاناً، وفي عهده (1260 – 1278) ساءت العلاقات بين مصر والنوبة. ولم يعد ملوك النوبة يدفعون البغط، وغزا الملك النوبي بعض أراضي الإسلام مما أدى إلي سلسلة من المعارك والحروب، وانهزمت فيها النوبة هزيمة كاملة، وكانت نهايتها سقوط عرش دنقلا في أيدي ملوك المسلمين.
وانطلقت شرارة الحرب بين النوبة وسلاطين المماليك في سنة 1275م. بعد غزو داؤد الأول ملك النوبة بغزوتين الأولي علي ميناء عيذاب علي البحر الأحمر التي كانت من أهم المواني في ذلك العصر، واستولي علي كل الأموال الواردة من الهند وسائر بلاد الشرق والغزوة الثانية علي مدينة أسوان التي كانت كثيرة الأسواق والمخازن.
ويقول الأب – ج. فانتيني أن سلطان مصر قد شعر بالأمر وخطط للقضاء علي قوات العدو قبل أن تتجمع حول مصر وتحاصرها، ويظهر أن هناك اتفاقا سرياً بين الغربيين وملك النوبة كان من شروطه أن يقوم ملك النوبة بفتح جبهة جنوبية لمحاربة مصر بينما تتحرك القوات الغربية، ولم تتم الحملة الصليبية حسب القرار إلا أن التتر هجموا من سوريا وتحرك الملك النوبي من الجنوب إلي عيذاب ليقطع اتصالات مصر بالبحر الأحمر وأسوان، وباب النفوذ إلي إفريقيا، وبعد ذلك دار القتال بين المماليك وهزم الملك داؤد الثاني.
ونصب المماليك شكندة ملكاً علي النوبة وفق شروطهم.
ومن ثم انفتح المجال أمام التدخل الأجنبي في شئون النوبة، أي تدخل سلاطين المماليك في شئون المملكة النوبية ، مما أدى لاحقاً ضمن عوامل كثيرة إلي انهيار مملكة دنقلا ما بين 1279 – 1312م.
وكما ذكرنا سابقاً أنه بهزيمة الملك داؤد الثاني، واستبداله بملك آخر مفروض من الخارج، وفرض الجزية علي سكان مملكة المغرة، فإنه ابتدأ من ذلك التاريخ بدأ عدد كبير من النوبيين يعتنقون الإسلام ليتخلصوا من الجزية، وذكر المؤرخ ابن خلدون أن كثيراً من النوبيين قد دخلوا في الإسلام منذ عصر الملك شكندة، إلا أن الملك عبد الله برشمبو، وهو أول ملك نوبي مسلم قد أقام مسجداً في قصر الملك بدنقلا وقد كان افتتاح هذا المسجد في 29 مايو 1317م(16)
ويرى د. يوسف فضل أن المماليك تركوا النوبة وشأنها تحت قيادة بني كنز مما أدى إلي انقراض ملك النوبة نهائياً(17)
وكنز الدولة أول ملك للنوبة من أصل عربي، وبارتقاء كنز الدولة وبنيه علي عرش دنقلا وإسقاط الملك كودنيس منه أضمحل ملوك النوبة المسيحيين، كما تضاءلت أعداد المسيحيين من أبناء النوبة في القرى، كما اضمحلت سيطرة الرؤساء منهم علي سياسة البلاد، وتدفقت القبائل العربية، وارتفع شأنها.
وصف ابن خلدون في كتابه ( العبر) هذه الحالة بقوله:
ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة في بلادهم ( النوبة) ، واستوطنوها وملكوها وملؤها عبثاً وفساداً، وذهب ملوك النوبة إلي مدافعتهم، فعجزوا ثم ساروا إلي مصافحتهم بالصهر، فافترق ملكهم وصار بعض أبناء جهينة من أمهاتهم علي عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت، فتمزق ملكهم واستولي أعراب جهينة علي بلادهم وليس في طريقته شئ من السياسة المملوكية للآفة التي تمنع انقياد بعضهم إلي بعض فصاروا شيعاً لهذا العهد ولم يبق لبلادهم رسم للملك وإنما هم رحالة بادية يتبعون مواقع القطر شأن بوادي الأعراب، ولم يبق في بلادهم رسم للملك لما أحالته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة والالتحام(18)
وهكذا انتشر العرب والإسلام في مملكة المقرة المسيحية بعد اضمحلالها.
أما مملكة علوة فقد تعرضت أيضاً لتفكك وسقوطها نتيجة لعوامل خارجية منها.
- أن مملكة علوة تعرضت لإغارات مملكة الزغاوة منذ القرن الثاني عشر الميلادي علي طرق القوافل ما بين بحيرة تشاد غرباً إلي النيل شرقاً.
- طمع جيران مملكة علوة في الحصول علي الرقيق منها، أدى إلي نزاع مستمر بين ملوك علوة، وأولئك الجيران في الشمال أو الغرب، فالمعروف أن ملوك المغرة لجأوا إلي شن الإغارات علي جيرانهم للحصول علي الرقيق لدفع البغط، إذا لم يتوفر لديهم عدد كافي فضلاً عن الاتجار فيه.(19)
- أما في الغرب فإن أعراب جزام وغيرهم من المهاجرين من مصر جنوباً أجتاحوا مملكة الزغاوة حتى سيطروا علي منطقة دارفور.
- تدهورت الحياة الدينية نتيجة لقطع العلاقات الدينية بين الكنيسة المصرية وكنائس علوة النوبية وأدى ذلك إلي إهمال الطقوس الدينية وهجرت الكنائس النوبية وخرب معظمها(20).
وقد حفظ قسيس برتغالي يدعى الغارز الذي زار الحبشة صورة عن أحوال النوبيين ( أهل علوة) الدينية أولئك فى القرن السادس عشر الميلادي بقوله:
إن أولئك النوبيين يجهلون دينهم، فلا هم بالمسيحيين، ولا هم بالمسلمين أو اليهود، ويقال أنهم كانوا علي النصرانية، غير أنهم فقدوا دينهم ولم تبق لهم عقيدة، ويأملون أن يكونوا مسيحيين.
ويظهر من قول الفارز أن النوبيين فشلوا في الحصول علي قساوسة من كنيسة الإسكندرية، فبعثوا إلي نجاشي الحبشة سنة 1522م ليرسل إليهم من يرشدهم في دينهم غير أن النجاشي اعتذر عن تلبية هذه الرغبة إذا أنه يعتمد علي البطريرك في بلاد المسلمين في إرسال ( أبونا ) فكيف يعطيهم من يتفضل بهم عليه غيرهم؟!21)
ومما زاد في العزلة سقوط مغرة في الشمال، واعتناق أهلها الإسلام وذكر الفارز نقلاً عن بعض الأحباش، أنه منذ وفاة أسقف النوبة (علوة) منذ أمد بعيد لم يخلفه غيره بسبب الحروب بين القبائل العربية في بلاد النوبة الشمالية.
فتركت كنائس دون رعاية رجال الدين، فنسوا كل شئ عن المسيحية وثمة دليل علي هجر النوبيين كنائسهم وتخريب معظمها ما ذكره الفارز كذلك نقلاً عن حنا السوري الذي زار علوة قبل ذلك بقليل حيث يقول أنه كان بها 150 كنسية قديمة تحمل جدرانها صورة السيد المسيح والعذراء، وهذا عدد قليل بالقياس إلي ما عرف عن عدد كنائس علوة حوالي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي والتي بلغ عددها علي قول أبي صالح الأرمني حوالي 400 كنيسة.
وهكذا تفككت وتحللت مملكة علوة المسيحية حتى سقطت نهائياً علي يد تحالف القبائل العربية بقيادة عبد الله جماع، وبعد ذلك قامت مملكة الفونج الإسلامية علي يد تحالف الفونج مع العبدلاب عام 1504م.
الباب الأول
البنية الإنتاجية – الطبقية
الفصل الأول: الأوضاع الاقتصادية.
أولاً: ملكية الأرض – الزراعة – الرعي.
ثانياً: التجارة.
ثالثاً: الصناعة الحرفية.
الفصل الثاني: الأوضاع الاجتماعية.
أولاً: التركيب الطبقي – الإقطاع – الرق.
ثانياً: المدينة والمعمار والحياة الاجتماعية.
ثالثاً: المرأة.
الفصل الثالث: اتفاقية البغط – النهب والسلب – الجزية.
الفصل الأول
الأوضاع الاقتصادية
أولاً: ملكية الأرض – الزراعة – الرعي
1- ملكية الأرض:
لم توضح لنا المصادر التاريخية شيئاً كثيراً عن ملكية الأرض أو علائق الملكية، ولكن المسعودي في كتابه: مروج الذهب أورد ما يلي حول هذا الموضوع. ( ولمن بأسوان من المسلمين ضياع كثيره داخله بأرض النوبة يؤدون خراجها إلي ملك النوبة وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدر الزمان في دولة بني أمية وبني العباس.
وقد كان ملك النوبة استعدي المأمون حسين داخل مصر علي هؤلاء القوم بوفد أوفدهم إلي الفسطاط، ذكروا أن ناساً من أهل مملكته وعبيده باعوا ضياعاً من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان، وأنها ضياعه والقوم عبيده ولا أملاك لهم وإنما تملكهم علي هذه الضياع تملك العبيد العاملين فيها.
فرد المأمون أمرهم إلي الحاكم بمدينة أسوان ومن بها من أهل العلم والشيوخ وعلم من ابتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها ستنزع من أيديهم فاحتالوا علي ملك النوبة بأن تقدموا إلي من ابتاع منهم من أهل النوبة أنهم إذا حضروا حضرة الحاكم ألا يقروا لملكهم بالعبودية وأن يقولوا سبيلنا معاشر المسلمين سبيلكم من ملككم تجب علينا طاعته وترك مخالفته فإن كنتم أنتم عبيداً لملككم وأموالكم له فنحن كذلك.. فلما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك أتوا بهذا الكلام للحاكم أو نحوه معا؟ً وقعوا عليه من هذا المعني.. فمضى البيع بعدم إقرارهم بالرق لملكهم إلي هذا الوقت وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوبة من بلاد المريس وصار النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين، نوع ممن وصفنا أحرار غير عبيد، والنوع الآخر من أهل مملكته عبيد وهم من سكن النوبة في غير هذه البلاد المجاورة لأسوان..(1) من هذه الرواية التي قدمها المسعودي يمكن استنتاج بعض الملاحظات حول ملكية الأرض وعلاقة ملك النوبة برعاياه..
1- من الناحية النظرية كان ملك النوبة يعتبر الأرض ملكه، ولا حق لرعاياه في ملكية خاصة لها أو التصرف فيها بالبيع أو الشراء أو غير ذلك..
2- كل رعايا ملك النوبة الذي يعملون في ضياع معينة يعتبرون عبيداً لملك النوبة. وأن تملكهم لهذه الضياع تملك العاملين فيها.. وهذا وضع يختلف عن علاقة حاكم المسلمين في مصر مع رعاياه، بمعني أن رعاياه لم يكونوا عبيداً له وأموالهم ليست له.. ومن خلال وصف المسعودي نرى أنه صار النوبة من أهل مملكة هذا الملك نوعين.
- نوع ممن وصفنا أحراراً غير عبيد.
- والنوع الثاني من أهل مملكته عبيد وهم من سكن النوبة في غير هذه البلاد المجاروة لأسوان وهي بلاد مريس (نوباطيا)، ونستخلص من ذلك أن مواطني مملكة النوبة كانوا عبيداً لملك النوبة وأن الأرض الزرع والضرع كانت تعتبر من أملاك ملوك النوبة وأن شكل النظام الاجتماعي الذي كان سائداً في بلاد النوبة لم يكن يكفل للرعايا حقوقهم.
جانب آخر نلاحظه، هو أن الإسلام كان مدخلاً لرعايا النوبة للتخلص من عبودية ملك النوبة كما حدث لمواطني النوبة المسلمين في أسوان أي أن الإسلام لعب دوراً تحرراً تقدمياً واجتماعياً في تخطي عبودية الرعايا لملك النوبة، وكان هذا واحد من عوامل انتشار الإسلام بين النوبة في مصر وفي بلاد النوبة فيما بعد..
3- هناك خراج كان يدفعه الفلاحون أو الرعاة من إنتاجهم الفائض بعد خصم ما يكفي معيشتهم، أي بعد خصم الناتج الضروري، ولم تحدد لنا المصادر التاريخية نسبة هذا الخراج، ولكن من قرائن الأحوال طالما كانت الأرض هي من أملاك ملوك النوبة مع العاملين فيها فإن الفائض كان يذهب لملوك النوبة.. والفلاحون كانوا يعملون وفقاً لعلاقات الإنتاج العبودية أو نظام السخرة، مقابل معيشتهم وأولادهم .. وربما كانت هنالك نسبة يأخذها ملك النوبة كما كان يأخذ الفرعون في مصر القديمة(1)
4- يمكن أن نستنتج أيضاً أن الفلاحين كانوا يملكون حق الانتفاع بالأرض وفي هذا الإطار يتم تقييد الملكية الخاصة، ويمكن أن يورثوها لأبنائهم (كانت الوراثة عند النوبة تتم من جهة الأم).. ولكن نفهم مما ورد في كتاب المسعودي أن الفلاحين ليس لهم حق بيع هذه الأراضي، وكان هذا هو نزاع ملك النوبة مع رعاياه في أسوان، إذ أنه أعتبر المواطنين النوبيين عبيداً له، وإن الأراضي هي أملاكه ولا يجوز لهم بيعها أو التصرف فيها، وأن عملهم فيها هو عمل العبيد..
وهذا يلقي بعض الضوء علي ملكية الأراضي في سودان وادي النيل في العصور الوسطى في ممالك النوبة، وإن كان هذا الموضوع يحتاج إلي استجلاء من مختلف الجوانب وهذا ما لا نملكه الآن لشح المصادر.
2- الزراعة – الرعي – الصيد:
عرفت القبائل القاطنة حول النيل الاستقرار ومهنتها الرئيسية كانت الزراعة، أما القبائل القاطنة في الصحراء فهي غالباً من الرحل ومهنتها الكبرى هي تربية المواشي.
(أ) الزراعة:
كانت مهنة متطورة في تلك الفترة، وكانوا يسقون بالسواقي أراضيهم كل عام لأكثر من مرتين وقد كانت الزراعة أكبر مصدر رزق لهم والمعروف أن تربة شاطئ النيل كانت خصبة للغاية وذكر المسعودي أنهم يزرعون النخيل والكروم والذرة والموز والحنطة والشعير وأنواع الفول.
(ب) الرعي:
أما في الجهات الصحراوية الشمالية حيث تقل الأمطار، فكانت ثروة سكانها من الإبل والغنم.. وفي الجهات الجنوبية الكثيرة الأمطار، والمراعي فلاشك أن أهم ثرواتها هي المواشي كما يبدو من الآثار في المصورات الصفراء التي اكتشفت حديثاً وتعود إلي عهد ما قبل المسيح..
ولقد اكتشفت حديثاً في المصورات الصفراء والجهات المجاورة لها حفائر كثيرة وأكبرها يزيد طوله علي خمسمائة متر مما يستنتج منه أن عدد مواشيهم كان كبيراً للغاية لأن المخزون من المياه كان كبيراً جداً من أجل أن يسد حاجتهم(2)
(ج) الصيد:
من المصادر الأخرى للنوبة صيد السمك من النيل وصيد بعض الحيوانات المتوحشة مثل الأسود والزراف والقرود والفهود والسلاحف لتصديرها إلي البلاد المجاورة.
أساليب الإنتاج الزراعي:
في وصف ابن سليم الأسواني لمملكة دنقلا، ترك الأسواني وصفاً دقيقاً للجنادل أي الشلال وما أعلاه وذكر أن جماعة من المسلمين قاطنون لا يفصح أحدهم بالعربية وهي ناحية ضيقة شظفة كثيرة الجبال. وما تخرج عن النيل وقراها منتشرة علي شاطئيه وشجرها النخيل والمقل وأعلاها أوسع من أدناها وفي أعلاها الكروم والنيل لا يروي مزارعها لارتفاع أرضها وزرعها الفدان والفدانان علي أعناق البقر بالدواليب والقمح عندهم قليل والشعير أكثر والسلت ويعتقبون الأرض لضيقها، فيزر عونها في الصيف – بعد تطريتها بالزبل والتراب، الدخن والذرة والجاروس والسمسم واللوبيا.
(5) ويواصل الأسواني وصفه ويصف دار المحس التي اسمها ( سقلودا) باللغة النوبية.. وقال:
أنها تشبه بأرض الإسلام في مزارعها وذكر من بين نباتاتها الكروم وشجر البقل والنخل وفيها شئ من القطن ويعمل منه ثياب خشنة وفيها شجرة الزيتون، وذكر أن ضفاف النيل في تلك الجهات من أجمل الأراضي والمناظر في وادي النيل.
وعن مملكة علوة يحدثنا ابن حوقل الذي زار بلاد النوبة مع الأسواني في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، أي ما بين سنة 950م –970م.. يقول ابن حوقل ومن أعمر بلاد النوبة نواحي علوة وهي ناحية لها قرى متصلة وعمارات مشتبكة حتى السائر ليجتاز في المرحلة الواحدة بعدة قرى غير متقطعة الحدود ذوات مياه متصلة بسواقي علي النيل(1).
وأجمع كل من ابن حوقل والأسواني علي أن ملك علوة أكثر ثروة من ملك المغرة وأن أرض علوة كثيرة المحاصيل ولهم خيل في نتاج جيد ومواشي أكثر من أهالي دنقلا ولهم نوع من الذرة أبيض اللون يصنعون منه ( البوظة) ولكن عندهم قليل من النخيل والدوم.. ويؤكد ذلك الوصف أن المغرة تقل فيها الأمطار وبها جبال وحجار ولذلك فهي شظفة عكس علوة التي تزيد فيها الأمطار كلما اتجهنا جنوباً وبالتالي إنعكاس ذلك علي تطور وازدهار الزراعة والرعي.
ويقول الأسواني وعاصمة علوة مدينة سوبا الواقعة علي الضفة الشرقية للنيل الأزرق قرب ملتقى النيلين وفي هذه المدينة مبانٍ حسان ومنازل واسعة كثيرة الذهب والبساتين وتتكون المدينة من أحياء مختلفة وبها حي للمسلمين.. والمسلمون يأتون إلي هذه المدينة ليستعلموا عن فيضان النيل السنوي.. ويصف رحالة عربي آخر: الإدريس أيضاً سكان علوة ويضيف أنهم يزرعون الشعير والذرة وسائر بقولهم من السلجم والبصل والفجل والغثاء (العجور) والبطيخ.(2)
ومما سبق يمكن أن نستنتج الآتي حول النشاط الزراعي:
(أ) أنهم كانوا يزرعون محاصيل مختلفة: قمح ، شعير ، دخن ، ذرة ، نخيل ، كروم ، سمسم، لوبيا، جاوروس ، القطن ، السلجم ، البصل ، الفجل ، الغثاء والبطيخ …إلخ
(ب) كانوا يستخدمون الساقية أو الدولاب كوسيلة للري الدائم والتي تساق بالبقر
(ت) في دنقلا كانوا يعتقبون الأرض ( زراعتها مرتين في السنة) لضيقها وكانوا يستخدمون روث البهائم ( الزبل) كسماد للتربة.
(ث) كانوا يصنعون ثيابهم من القطن، ويصنعون خمورهم من الذرة (البوظة).
(ج) زراعتهم بالساقية الواحدة حوالي فدان أو فدانين.
(ح) منطقة علوة كانت أكثر ثراءً من ناحية المحاصيل والماشية من منطقة المغرة.
الساقية:(1)
معلوم أن الرومان هم الذين أدخلوا الساقية في مصر ومن مصر صعدت الساقية جنوباً إلي بلاد النوبة.(2)
ويرى تريقر أن تعمير النوبة السفلي في القرن الثاني والثالث والرابع ربما يكون راجعاً لظهور الساقية وفي كتابه حضارة مروي يرى بروفيسور شيني أن الساقية ظهرت في السودان في العهد المروي وطبيعي ونتيجة لاختلاف الأوضاع والظروف ومنسوب النيل كان لابد من تطويع الساقية لتناسب ظروف وبيئة بلاد النوبة وفي ذلك يقول د. أبو سليم ربما تمكن النوبيون بعد العهد المروي من الإنفكاك من الحجم المصري للساقية وتوصلوا إلي ساقيتهم التي تتميز بضخامة الحجم وكفاءة أعلي في السحب(3) ومعروف أنه قبل دخول تقنية الساقية إلي بلاد النوبة كان تأرجح منسوب النيل يؤثر علي حياة سكان وادي النيل سواء كان ذلك في ارتفاع يؤدي إلي دمار وخراب أو انخفاض يؤدي إلي الهجرة وهذا ما وقع في النوبة السفلي في القرن العشرين قبل الميلاد(1)
وبدخول الساقية قبل دخول الإسلام أرض النوبة كانت تسمى الكفري والبئر الكفرية أضيّق من البئر البلدي ومنسوبة دائماً أعلي من منسوب النيل يقول د. أبو سليم قالوا أن سكان النوبة قديماً كانوا أكثر مما هم إلا بدرجة بعيدة وفي ذلك يقولون أيضاً أن السواقي علي طرف النهر كانت متصلة بكثرتها حتى أمكن لسائق هذه الساقية أن يتناول من ساقي الساقية المجاورة شيئاً وكل منهما علي مقعده من الساقية، وإذا ما نظرنا إلي توالي الآبار القديمة المعروفة فإن مثل هذا القول قد لا يكون من المبالغة وهم يظنون أنهم كانوا أضخم بنية وأقوى قوة، وكانت العادة إذا حفرت بئر أن يحضر كل رجل حجراً فيكفي ما يحضرونه طئ البئر إلي منتهاها(2)
ويقولون أن النوبيين القدماء خربوا آبارهم وأنهم فعلوا ذلك عندما جاء المسلمون وتغلبوا عليهم وقيل أن أغلب النوبة تركوا ديارهم وهاجروا غرباً وربما كان ذلك يؤكد خبر النوبة الذي قيل أنهم هاجروا من أرضهم وضربوا في بلاد النوبا والميدوب. ومثل ذلك يقال أيضاً عن سدود النيل التي كانت ترسب الطمي للزراعة.. فإنهم خربوا أغلبها وضاع علي من جاء بعدهم طين كثير أخذه النيل وهذه السدود مخربة إلي الآن، وإذا ما بقيت سدود النوبة إلي الآن، وإذا كانت صناعة النوبي القديم في طي الآبار وترتبيها وفي بناء السدود وضبط إتجاه تيار النيل، إضبط وأقوم من صناعة النوبي الحديث، فإننا نستطيع أن نقول أن قدراً كبيراً من خبرة النوبيين في الهندسة قد ضاع بسبب الهجرة والخراب علي أعقاب دخول المسلمين وأن المسلمين والنوبة الذي أسلموا لم يبلغوا ما بلغه النوبي القديم من الإتقان في هذا المجال.(3)
هندسة النوبة في ضبط النيل:
إن المشكلة الكبرى التي واجهت الإنسان النوبي هي قلة الأرض – وخاصة في مملكة المغرة – التي وفرتها له الطبيعة ليعيش عليها فبلاده محصورة بالجبال والرمال من الشرق والغرب ولا يبقى إلا شريط ضيق علي طرف النيل.
وتعلم الإنسان النوبي من الطبيعة كيف يتقي شرورها أو كيف يأخذ منها بالحيلة ما لا تعطيه طوعاً فهو لاحظ أن الحواجز تخفف من سرعة الرياح وتقيه شر الرمال، ولذلك وفي زراعته بالحواجز التي يصنعها من جريد النخيل أو سيقان بعض الأشجار وهو قد لاحظ أن الأحجار في طرف النهر تهدي من سرعة التيار وتقي الأرض المجاورة من التآكل المائي كذلك لاحظ أن الحجارة الموضوعة في مجرى الماء تحد من قوة التيار وترسب الطمي الذي يحمله النيل.
ولقد استخرج هذا الإنسان دروساً بليغة من هذه الملاحظات البسيطة وجعلها عصب خبرة هندسة نافعة تمكن بواسطتها من ا لتعامل مع تيار الماء ووقي بها الأرض من تغول الهدام ووسع من مساحتها ليزرع أكثر وأكثر.
فإذا اكتشف أرضاً مرتفعة في جوف النيل ألقى عليه الحجارة أو زرع فيها بعض النباتات النيلية حتى يترسب الطين ( الطمي) وترتفع الأرض وتصير جزيرة(1)
كما استخدم النوبيون السدود والقنالات لزيادة البقعة الزراعية كما حفروا خزانات تمتلئ أثناء الفيضان لتأخذ منها السواقي بعد انحسار الماء.
كما استخدموا سماد الأبقار والحمير والغنم والدجاج والجمال والحمام والوطواط والاحتفاظ بخصوبة التربة.
وكانت أدوات الإنتاج الزراعي التي استخدمها المزارع النوبي منذ آلاف السنين هي الأربل، الواسوق ، الطورية ، المنجل ، وبعض المواعين من سعف الدوم والنخيل.. ومن وصف أبي سليم الأسواني نرى أن وحدة قياس الأرض هي الفدان ( الفدان يساوي 4200م2) وكغيرها من الشعوب الأخرى اهتم النوبة بضبط مواعيد الزراعة وفي ذلك استخدموا الشهور القبطية نظراً لاتساق مواعيدها مع تقلب فصول السنة خاصة وفصولهم تناسب فصول صعيد مصر إلي حد بعيد، وربما كان أخذهم لهذا التقويم الضيق – كما لاحظ د. أبو سليم راجعاً إلي تاريخ بعيد.
ومن وصف أبي سليم الأسواني نرى أنه كان لهم دورتان زراعيتان، الدورة الشتوية ويزرع فيها القمح والشعير والبقوليات.
وفي موسم الصيف يزرعون الدخن والذرة والسمسم واللوبيا والجاروس.
وعن يوم العمل في الساقية يقول د. أبو سليم يقسم يوم العمل في الساقية إلي قسمين، قسم صباحي يسمى شييق (shayeg) قسم مسائي يسمي دين (diben) وكل قسم 12 ساعة وهذا القسم يسمى علقة وتأتي التسمية من تعليق الدوالي علي الساقية إلي ربطها مع البئر، والعلقة الصباحية تبدأ نصف الليل وهم يضبطون ذلك بالنجم، أما العلقة المسائية فتبدأ عند منتصف النهار وكل علقة مكونة من قسمين وهذا القسم يسمى تد (todi) وهو يعرب إلي تدق(1) وكل تدق يستخدم فيه أربعة بقرات.
وفي المكتبة يرد أن كنز الدولة قد أجاز رجلاً علي قصيدة بألف دينار وبساقية تساوي ألف دينار مما نستنتج منه أن قيمة الساقية كانت مرتفعة وتساوي ألف دينار..
زراعة بعض القبائل التابعة إلي علوة:
ودون الأسواني في كتابة بعض أقوال الأمير سيمون في الجزيرة بين النيلين قائلاً: إن من عادات بعض القبائل التابعة لعلوة أنهم إذا حان موعد الزرع ينظفون التربة حتى تكون صالحة للزرع ثم يأتون بالذرة للزرع ويرمون القليل منها ويتركون الباقي في وسط المزرعة ويضعون معه آنية مملوءة بالمزرواي شراب مثل المريسة ثم ينصرفون إلي منازلهم ويأتون في الصباح فيجدون كل الأرض قد زرعت والمريسة قد شربت فيعتقدون أنهم يسيطرون علي الجن وأن هؤلاء يساعدونهم في أعمال الزراعة(1)
ويرى فانتيني أنه ربما يعود هذا الظن إلي نوع من الخرافة لدى أولئك الأهالي وبديهي أنه فيه مبالغة أو شئ من الخيال ومن المعلوم أن القرود في تلك البلاد حينذاك كانت تحب الشراب وتقلد الإنسان ولا شك ما قيل في هذه القبائل من فعل القرود.(2)
ولكن في اعتقادي أن ذلك ربما يرجع إلي العمل التعاوني ( النفير) وهو شئ متعارف عليه في مختلف أنحاء السودان إلا أن تنظيمه ونوع وعدد المشتركين فيه حسب عادات وتقاليد المناطق المختلفة… كما أن ما يقدم فيه من مأكل ومشرب يتقيد بجانب العادات والتقاليد والمفاهيم الدينية بما تسمح الطبيعة بإنتاجه وربما إعتاد الناس علي استهلاكه مثل العصيدة أو البليلة أو المريسة.(3) كما هو الحال في الكرمك والإنقسنا، ويبدو أن هاتين المنطقتين كانتا تابعتين لمملكة علوة. فإن وصف الأسواني ربما ينطبق مع عادة النفير وربما كانت سرعة الإنجاز في العمل الجماعي والناس سكارى يجعل المواطنين يعتقدون أن الجن يساعدهم في هذه العملية، خاصة وأن الزراعة هناك مطرية وبالتالي لابد من العمل الجماعي السريع في بداية الزراعة والحصاد.
وربما كانت المبالغة التي أوردها الأسواني في تلك الرواية تعبر عن هذا الواقع، واقع العمل الجماعي والنفير. أكثر من تفسير فعل القرود التي من المستبعد أن تعمل عملاً هادفاً مثل الزراعة والتي يتميز بها الإنسان بعقله وتدبيره عن القرود.
وفي وصف ابن حوقل أيضاً نرى مناطق زراعية أخرى في منطقة القاش يقول ابن حوقل وكأن هذا الجبل أخذ بأوديته من نواحي البحر المالح (البحر الأحمر) إلي دكن ( القاش) وهي أرض مزارع ( أحواف) يجري إليها مياه النيل ويزرع عليها الذرة والدخن أهل النوبة ( أهل مملكة علوة) ومن يحضر معهم من البجة (1) ويواصل ابن حوقل وصفه ويقول: وفي شق بركة قبائل كثيرة تعرف ببازين وبارية(2) وهم أمم كثيرة قتالهم بالقسي والسهام المسمومة والحراب بغير درق، ومن رسم بارية قلع ثناياها وبجر آذانها ويسكنون في جبال وأودية ويقتنون البقر والشاة ويزرعون ومن العرض السابق يمكن أن نستخلص أساليب الإنتاج الزراعي علي النحو التالي:
1- الزراعة المروية بالري الدائم ( السواقي – الشادوف) علي ضفاف النيل في المقرة وعلوة.
2- الزراعة المطرية في مناطق علوة البعيدة من النيل.
3- الزراعة بري الفيضان في منطقة القاش وبركة كما ورد في وصف ابن حوقل والتطور في الإنتاج الزراعي أدى إلي قيام تقسيم العمل، أي تطور الإنتاج الحرفي والتجارة وتطورت المدن.
4- وفي الجزء القادم سوف نتحدث عن التجارة.
ثانياً: التجارة
ورد في المصادر التاريخية أن بلاد السودان في العصور الوسطى كانت لها تجارة مزدهرة مع مصر، بلاد الحجاز، بلاد فارس، بلاد المغرب ، ومعلوم أن أول من أطلق كلمة " السودان " علي الشعوب التي تعيش جنوب الصحراء الكبرى هم العرب، وبديهي أن التسمية جاءت من سواد بشرة السكان.. وقسيم الكتاب والمؤرخون العرب بلاد السودان إلي ثلاث أقسام:
(أ) السودان الشرقي: ويشمل مناطق النيل وروافده جنوب بلاد النوبة.
(ب) السودان الأوسط: ويشمل المناطق المحيطة ببحيرة تشاد.
(ت) السودان الغربي: ويشمل حوض السنغال الآن وغامبيا وفولتا العليا والنيجر الأوسط.
ما يهمنا هنا أنه في بلاد السودان ( أو منطقة إفريقيا جنوب الصحراء) قامت ممالك في السودان الغربي في العصور الوسطى مثل ممالك غانا وسنغال ومالي ومملكة الكانم وبرنو شرقي تشاد وأمارات هوس وداجمبا.
وفي السودان الشرقي قامت ممالك النوبة التي أصبحت مسيحية فيما بعد.. وأن التجارة كانت رائجة مع بلاد المسلمين وغيرها وكانت هناك طرق القوافل ومراكز تجارة معروفة.
ويصف ابن خلدون في تاريخه أن القوافل كانت تمر في أيامه (أواخر القرن الرابع عشر الميلاد، يبلغ عدد جمالها أثني عشر ألف جمل في أحيان كثيرة) ومن أهم البضائع التي كانت تتداول في الأسواق هي: مصنوعات الحديد والزجاج، وأواني النحاس، والعطور بمختلف أنواعها والتمور والتين والمنسوجات القطنية والحريرية والقمح والملح والتوابل وريش النعام والكتب والأصبغة والحلي والجلود المدبوغة والذهب(1)
وكان هناك نوع من التبادل التجاري يسمى التبادل الصامت ( أو التجارة الصامتة) عل حد قول المسعودي.
التعامل والمساومة والمبايعة بين أقوام لا يعرف أحدهم لغة الأخر أو يحرص أحدهم علي الاحتفاظ بسر منابع ثروته خوفاً من النهب.
والتجارة الصامتة تتم بين قبائل بينها علاقات عدائية ولكنها تحتاج إلي بعضها البعض(1) وقد عرفتها شعوب آسيوية أخرى كما ذكر الرحالة ابن بطوطة، وتتم عملية التبادل الصامت حيث يضرب التجار طبولهم إعلاناً بوصول البضائع ثم يضعون سلعهم في أكوام أو مقادير معينة علي شاطئ النهر ويختفون وحينئذ يخرج الزنوج العراة ويعضون بجوار كل كومة من السلع ما يرون نظيراً لها من الذهب ثم يختفون فيظهر التجار وإذا اقتنعوا بقيمة الذهب حملوه وانصرفوا وإذا لم يقتنعوا يتركوه ويختفون مرة أخرى فيخرج الزنوج ويزيدون من كميات الذهب وهكذا حتى يتم الرضا والاقتناع من الجانبين(2)
وكان النوبة يصدرون كميات من ريش النعام وسن الفيل والأبنوس والصندل وغيرها من الأخشاب والتبر الذي يستخرج منه الذهب من رمال الأنهار ومن جبال كردفان وبعض المعادن في صحراء العتمور وهناك دلائل كثيرة تشير بوضوح إلي وجود التجارة بين النوبة ومصر في كل العصور منذ فجر التاريخ، وقد كان أهل النوبة يستخرجون الحديد ويصنعونه وكانت عاصمتهم مروي الواقعة بالقرب من كبوشية أكبر مركز لصناعة أدوات الحديد وكانت تصدره إلي كل الجهات في القارة الإفريقية غرباً وشرقاً وجنوباً.(3)
ويقول شقير أن القبائل المجاورة لمصر ( النوبة والبجة) كانت تجلب المواشي، خشب السنط، الفحم والصمغ، الصيد، جلود الحيوانات، الحجارة الكريمة، كانت تجلبها إلي مصر ويقايضون المصريين بالأقوات والأنسجة.(1)
ويقول المسعودي والنوبة متصلة بتجارتها وقوافلها بمدينة أسوان وأهل أسوان مختلطون بالنوبة(2)
كما كانت للنوبة تجارة مع المناطق الاستوائية قال عنها شمس الدين عبد الله المقدس المتوفي سنة 386هـ/ 996م.
إن النوبة يذهبون وحدهم ولا غيرهم إلي الشعوب القاطنة علي خط الاستواء ويتاجرون معهم ويحملون الملح وقطعاً من المنسوجات وبعض الحديد.
وقدم ابن سعيد الأندلس (ت 685هـ / 1286م) تفسيراً لاحتكار تجارة النوبة في تلك الجهات أنهم يحتملون شدة الحر ونوع الجو الذي يكون في الأقاليم الاستوائية لأن أرضها متاخمة لها(3)
وكانت التبادلات التجارية صامتة ( التبادل الصامت) كما شرحناه سابقاً… وفي هذا التبادل الصامت يتم مقايضة الملح والحديد والنسيج بالبخور أو الذهب أو غيره.
ومن الصفقات التجارية بين النوبة والشعوب الإفريقية كما ذكر الكتاب العرب: سن الفيل والأسود والزرافات والفهود والطيور النادرة وبعض السموم القوية.
ووصف الزهري ( ت 514 هـ/ 1120م) صيد الزمردة وهي صنف من القرود يستخرج منه سم قوي وقال أن النوبة يذهبون إلي جبل يعرف بجبل (أردكان) أو (جبل أزدكان) – غير معروف موقعه – وهناك يجدون نوعاً من الحجر كانت تصنع من الآنية الصالحة للحفاظ علي السموم، وذكر أن الذهب كان موجوداً بين الرمال بقرب جبل توتا ( أونوبا) وقال أيضاً أن في جنوب علوة بعض البلاد الكثيرة الذهب والحديد ونظن أنها تقع في جبال النوبا بكردفان.(1)
وكان للنوبة أيضاً تجارة مع بلاد المسلمين، وفي معرض وصف أبي سليم الأسواني لمملكة دنقلا يرد بالآتي:
وبهذه الناحية وإلي من قبل عظيم النوبة يعرف بصاحب الجبل من أجل ولائهم لقربه من أرض الإسلام ومن يخرج إلي بلد النوبة من المسلمين فمعاملته معه في تجارة أو هدية أو إلي موالاة يقبل الجميع ويكافئ عليه بالرقيق ولا يطلق لأحد الصعود إلى مولاه ( أي ملك دنقلا) لا لمسلم ولا لغيره، ويواصل الأسواني حول صاحب الجبل أمير نوباطيا فيقول: وهي من أرض مريس وصاحب الجبل وإليهم والمسلحة بالمقسي الأعلي صاحبها من قبل كبيرهم شديد الضبط لها حتى أن عظيمهم إذا جاز بها وقف به المسلمون وأوهم أنه يفتش عليه حتى يجد الطريق إلي ولده ووزيره فمن دونهما ولا يجوزها دينار ولا درهم إذ كانوا لا يتبايعون الأدون النادل مع المسلمين.
فما فوق ذلك فلا بيع بينهم ولا شراء وإنما هي معاوضة بالرقيق أو المواشي والجمال والحديد والحبوب.(2)
ومن المدن التجارية الهامة هي وادي العلاقي التي وصفها اليعقوبي في كتابه البلدان قائلاً.
ووادي العلاقي كالمدينة العظيمة به خلق من الناس وأخلاط من العرب والعجم أصحاب المطالب وبها أسواق وتجارات وشربهم من آبار تحفر في وادي العلاقي.
ووادي العلاقي وما حواليه معادن للتبر وكل ما قرب منه يعتمل فيه الناس، لكل قوم من التجار وغير التجار عبيد سودان يعملون في الحفر ثم يخرجون التبر كالزرنيخ الأخضر ثم يسبل.
ومن المواني البحرية الهامة لبلاد النوبة كانت ميناء عيذاب التي وصفها اليعقوبي بقوله: ( وعيذاب ساحل البحر المالح يركب الناس منه إلي مكة واليمن ويأتيه التجار فيحملون التبر، والعاج وغير ذلك في المراكب).(1)
ويقول ناصر خسرو علوي ( ت481هـ / 1088م) : وولاية النوبة جنوبي أسوان ولها ملك خالص، وسكانها سود البشرة ودينهم النصرانية ويذهب إليها التجار ويبيعون الخرز والأمشاط والمرجان ويجلبون الرقيق والرقيق في مصر أما نوب وأما روم.(2)
وعن تجارة العرب مع النوبة يقول د. يوسف فضل كانت تجارة العرب مع مملكتي المغرة وعلوة تتمثل في أن العرب كانوا يجلبون الحبوب والخرز والأمشاط مقابل ريش النعام والعاج والمواشي وكانت تجارة الرقيق تمثل مركز الثقل في هذا النشاط.(3)
ويشكل النشاط التجاري أحد العوامل التي أدت إلي عروبة السودان والتي تمثلت في نزوح العرب إلي السودان بغرض التجارة ( تجارة الرقيق) والبحث عن الذهب إضافة للبحث عن الكلأ والماء وغير ذلك.
تجارة الرقيق:
كان الرقيق يصدر من بلاد النوبة إلي مصر وبلاد الحجاز وغيرهما.. هذا إضافة للبغط الذي كان مقرراً علي النوبة (400 رأس سنوياً مقابل طعام وملابس وخمر)..
ويقول الإدريسى أن ثمن الجارية النوبية في مصر كان ثلاثمائة دينار وأقل من ذلك بيسير.(1)
وكان أبناء النوبة والسودان يستخدمون في الجيش والجاريات يستخدمن في تربية أبناء الملك وكان الرقيق يجلب أثناء الغزوات علي القبائل التي كانت تقع جنوب المغرة أو علوة… ومن الأقطار المجاورة وأورد المقريزي أن أحمد بن طولون استخدم أربعين ألف من النوبيين في جيشه أسكنهم في حي يعرف باسمهم، وحصل عليهم بطريق الشراء من تجار الرقيق.
ويرى د. شبيكة أنهم لم يكونوا كلهم من سكان بلاد النوبة بل يحتمل أن جلب بعضهم من الأراضي التي تقع من أواسط السودان كرقيق بواسطة تجار الرقيق(2)
واستمرت دولة الإخشيديين في استخدامهم وخاصة في عهد كافور ودولة الفاطميين التي زادت في عددهم بتشجيع من أم المنتصر وهي سودانية الأصل وحسب الروايات أنهم بلغوا في ذلك العهد خمسين ألفاً وكانوا وهم بهذه القوة عنصراً هاماً في إخماد الثورات وهي التكتلات داخل الهيئة الحاكمة.
ما يهمنا هنا إذا صحت الأرقام (40 ألف ، 50 ألف) يمكن أن نأخذ لمحة عامة عن حجم تجارة الرقيق، وهذه الأرقام خاصة بمصر وحدها غير البلاد الأخرى، مما يشير إلي أن حجم تجارة الرقيق كان كبيراً هذا إضافة للأسرى في الحملات مثل الحملة المملوكية الأولي علي ملك دنقلا واليت وصفها المؤرخ النويري والذي أحضر منها من الرقيق إلي مصر سبعمائة رأس حتى بيع كل رأس رقيق بثلاثة دراهم والذي بقي من القتل والبيع جاء عددهم ألف نفر.(3)
أي أن حجم القوى البشرية التي كانت تستنزف من بلاد النوبة كان كبيراً.
العملة:
نستنتج مما أورده الأسواني أن النوبة في ارض المريس في تعاملهم مع المسلمين كانوا يتعاملون معهم بالدينار والدرهم ومع المسلمين دون الجنادل كانت هناك مقايضة بالرقيق أو المواشي والجمال والحديد والحبوب.
كما عرف النوبة المقايضة مع الشعوب الإفريقية حيث كانوا يقايضون الحديد والنسيج والملح بالذهب وسن الفيل والفهود " والزراف والبخور " … إلخ، ويرد الدينار أيضاً فيما أورده النويري أنه بعد هزيمة الملك داؤد الثاني في المعركة التي تمت في عام 1276م وتنصيب ابن أخته شكندة ملكاً أنه تقرر الجزية التي كان مقدارها دينار عن كل نفر عاقل بالغ وتدفع عيناً كل سنة.
هذا إضافة للنهب الذي تعرضت له بلاد النوبة من جراء هذه الهزيمة التي وصفها النويري لما وجد في الكنيسة أيسوس من الصلبان والذهب أربعة آلاف وستمائة وأربعون دينار ونصف والتي فضيات ثمانية آلاف وستمائة وستين ديناراً وسبعمائة رأس من الرقيق(1)
مما يشير إلي أن كنيسة أيسوس كان تمتلك ثروة كبيرة ..(2)
كما أشرنا في موقع سابق أن كنز الدولة أجاز أحد الشعراء بألف دينار وساقية قيمتها ألف دينار مما يشير إلي أن ملوك النوبة كانوا أصحاب ثروات كبيرة ، ما يهمنا هنا حتى لا نخرج عن موضوعنا هو التعامل بالدينار.
الدينار:
معلوم أن الدينار كلمة لاتينية (Denarius) وكان يعادل قبل الإسلام وبعده 20 أو 25 درهماً تقريباً، والدرهم (Drachma) كلمة يونانية الأصل وكان يساوي اثنين ونصف عشر من الدينار الروماني(1) ومعروف أن العرب في القرن الأول لم يكن لهم عملة رسمية ولذلك استخدموا الدينار البيزنطي والعملة الفارسية، ولكن منذ عهد عبد الملك بن مروان أصبح الإسلامية عملة خاصة بها، وهذه النقود يكتب عليها اسم الخليفة أو اسم الوالي والسنة التي سُكت فيها والمدينة التي صنعت بها.(2)
ومعروف أيضاً أنه في البداية تم اتفاق بين الروم والمسلمين علي سك العملة الذهبية وتداولها في بلاد المسلمين ولكن الروم نقضوا ذلك الاتفاق ، وأضطر عبد الملك بن مروان سنة 63هـ إلي صك الدينار الإسلامي الخالص، وأصبح هذا الدينار له وزن خاص خالياً من الصور الآدمية وبه بعض الآيات القرآنية مع اسم الخليفة والمدينة التي صك بها والسنة التي صنع فيها وهذه العملة الجديدة عممت وأصبح للعالم الإسلامية كله عملة موحدة.(3)
وكانت العملة الشائعة في البلاد الإسلامية التي كانت تحت الحكم البيزنطي من قبله هي الدينار الذهبي البيزنطي.
وفي بداية الدولة الإسلامية، صك عمر بن الخطاب (18هـ) دراهم علي النقش الفارسي مضيفاً لها الحمد لله، ومحمد رسول الله أو لا إله إلا الله، ثم جاء عثمان بن عفان وصك دراهم عليها الله أكبر.(4)
وبعد ذلك صك معاوية بن أبي سفيان دراهم ودنانير كما صك مصعب بن الزبير في مكة والعراق دراهم مستديرة أبطلها الحجاج بن يوسف، وكانت هذه النقود مختلفة الأوزان والأحجام، واحتفظ العرب بالتعامل بالنقود الأجنبية ( بيزنطية وفارسية) حتى زمن عبد الملك بن مروان الذي صنع عملة موحدة سنة 67هـ.
والواقع أن الاهتمام الأموي الخاص بالناحية المالية الاقتصادية الذي أدى إلي صنع الدينار العربي كان بمثابة إنقاذ الدولة من أزمتها الاقتصادية ومحاولة لضبط الجزية والخراج، لأن الأمويين كانوا في حاجة إلي كل درهم من أوجه الإيرادات والمصروفات بسبب الفتوح في المغرب والأندلس فضلاً عن نشاطهم في البحر المتوسط الذي تطلب الكثير من الجهد والمال.(1)
إذاً يمكن القول أن النوبة في تعاملهم مع الدولة البيزنطية قبل الإسلام تعاملوا معها بالدينار البيزنطي كما تعاملوا مع المسلمين بالدينار والدرهم الإسلامي، ولم يكن للنوبة عملة خاصة بهم.
العمل في الخارج:
إضافة للنشاط التجاري عرف أهل النوبة العمل في الخارج، فقد اعتادوا للذهاب إلي الخارج ( إلي مصر أو غيرها) للعمل هناك ويعودون بعد ذلك إلي بلادهم بعد أن جمعوا الأموال التي كانوا يحتاجونها، أي أن أهل النوبة عرفوا الاغتراب منذ عهود غابرة في التاريخ.
وكان من أسباب ذلك هو فقر المنطقة ( بلاد المغرة) والتي كانت تتأثر بمنسوب النيل وأثره علي الزراعة، كما أن أهم محصول للنوبة كان يتأثر بالأهوية والأمطار.
فالسفر إلي الخارج كانت تحتمه قوانين المجتمع والأسرة والتي كانت تتطلب السفر إلي الخارج لكسب المال الذي يساعد في بناء البيت الخاص والتحضير للزواج وغيره ذلك.(1)
وصفوة القول، يمكن أن نخرج بالملاحظات الآتية حول التجارة:-
تطور الإنتاج الحرفي من الإنتاج الاستهلاكي الشخصي إلي الإنتاج من أجل التبادل، ويتضح ذلك من مقايضة النوبة للمنسوجات والحديد بالذهب والبخور وغير ذلك مع القبائل الاستوائية.
- عرف النوبة التجارة الصامتة، شأنهم شأن الشعوب الآسيوية الأخرى، مع القبائل الإفريقية الاستوائية:
- كانت التجارة من العوامل التي أسهمت في عروبة السودان وانتشار الإسلام في بلاد النوبة.
- أما عن العملة: فقد كان التعامل بالدينار في بلاد المريس. وفيما عدا ذلك كانت هناك المقايضة، ولم توضح لنا المصادر أن ملوك النوبة كانت لهم عملة خاصة بهم.
- مع تطور الإنتاج الزراعي والإنتاج الحرفي ازدهرت التجارة وازدهرت المدن التجارية والثقافية، كما عرف النوبة العمل في الخارج.
ثالثاً الصناعة الحرفية:-
نتيجة لتطور الإنتاج الزراعي تطورت الصناعة الحرفية.. كان أهل النوبة يستخرجون الحديد ويصنعونه، وكان من أهم صناعاتهم أدوات القتال التي كانت تتكون من الدرق الذي صنع من جلد فرس البحر والنشاب والقوس، وكانوا مهرة جداً في استعمال القوس والرمي بالنشاب ويبدو من كتب المؤرخين العرب أن استعمال القوس كان مصدر قوة ترهب الأعداء كما يبدو من صدهم الحملات الأولي في القرن العاشر الميلادي ويقول المسعودي ورميهم بالنبل عن قسي غريبة وعنه أخذ الرمي أهل الحجاز واليمن وغيرهم من الشعوب وهم الذين يسميهم العرب رماة الحدق ومنهم يستعمل الخيل العتاق ومن ركوب عوامهم البراذين(1)
ويقول الأب فانتيني وتشهد علي مهارتهم الفائقة أقواس كبيرة جداً تعود إلي العهد المروي وتظهر في المنقوشات والآثار المروية في أهرام البجراوية وغيرها من الآثار التي ترجع إلي ذلك العصر نفسه، ولهذا نظن أن أهل النوبة في العصور الوسطى ورثوا تقاليدهم عن أجدادهم في استعمال الأقواس والمهارة في رمي النبال ومما يلفت النظر أن طول هذه الأقواس يبلغ حوالي مترين(2)
ويقول شقير: إنهم كانوا يصنعون الأقواس من جرائد النخيل(3).
وإذا تأملنا أنواع الأشجار التي تنبت علي شريط النيل من أسوان وحتى إلتقاء النيلين الأبيض والأزرق نجد أنها تشمل: النخيل الدوم، الحراز، السيال، السنط الطرفا والصفصاف والعشر والسلم وخشب هذه الأشجار يدخل في صناعات حرفية كثيرة مارسها الإنسان النوبي مثل صناعة السواقي، صناعة ا لمراكب، وصناعة الأدوات الزراعية، وصناعة العناقريب وصناعة التوابيت والأدوات الجنائزية وأبواب وشبابيك المنازل، كما يدخل سعف النخيل والدوم في صناعة الحبال والأطباق والأسلاك والبروش، ومن جزوع النخيل والدوم وجريد النخل والبروش عملوا سقوف منازلهم إضافة لنبات الحلفا.. ويمكن تصنيف الإنتاج الحرفي كالآتي:
1- صناعة الفخار:
وتشمل الأزيار ومواعين الطعام، وقواديس الساقية، وصناعة السويبة ( القسيبة بلغة الشايقية) لحفظ المحاصيل، وبيت الفراخ والأفران البلدية.. وإنتاج الفخار يتم بالقرين المخلوط بروث البهائم.. وغالباً ما كانت النساء تقوم بعمل صناعة الفخار ويدل الفخار الذي تم العثور عليه ضمن آثار النوبة علي التقدم والرقي في صناعة الأدوات الفخارية.
2- صناعة الأطباق:
وهي صناعة قديمة ومن الحرف النسائية وتصنع الأطباق والأبراش من سعف النخيل، أما القفف فإنها تصنع من سعف الدوم بعد تنقيعه في الماء لأيام(1)
3- صناعة الحبال:
ويقوم الرجال بإعداد الحبال وهي أنواع ودرجات ويتعلمها المزارع وهو صغير وأقوى حبال النوبة من ليف النخيل وأجود ذلك من البركاوي والقنديلة والبرمودة.
4- الحدادة:
ومن الحرف أيضاً مهنة الحدادة ويقوم الحدادون بصناعة الأدوات الزراعية مثل الطورية، المنجل ، الفأس ، القدوم، وأدوات القتال، وسهام وقسيي.. إلخ. وصناعة أدوات الصيد من سنارة وغيرها.(2)
5- النجارة:
وهي من الحرف القديمة ويدخل فيها صناعة السواقي وصناعة المراكب والأبواب والشبابيك وصناعة التوابيت والأدوات الجنائزية وسيقان السهام والحراب وأدوات الإنتاج الزراعي وصناعة العناقريب والكراسي وصناعة الآلات الزراعية التي تعمل من الخشب مثل الواسوق والأربل والمحراث.
6- البناء:
ومن الحرف أيضاً البناء ويدخل فيها بناء المنازل من الطين التي تسقف بالدوم وجريد النخل والبروش ونبات الحلفا وتطلي خارجياً بالزبالة وكذلك أيضاً بناء المنازل من الحجر وهناك من يتخصصون في رص الأحجار لإقامة السدود وطي الآبار وبناء المنازل في المناطق الجبلية ويتطلب ذلك كسر الحجر وتطويعه ثم رصه للغرض المطلوب وتدل آثار الكنائس تطور المعمار في النوبة المسيحية وان في كل قرية كنيسة وكانت أقدم الكنائس مبنية بالحجارة والطوب الأحمر. هذا إضافة للبناء بالطوب الأخضر.
7- الغزل والنسيج:
من وصف أبي سليم الأسواني لدار المحس ورد فيها شئ من القطن ويعمل منه الثياب… نلاحظ زراعة القطن الذي كان يصنعون منه ثيابهم ولكن من خلال اتفاقية البغط الذي كان فيها يتم تبادل الرقيق مقابل الطعام (قمح – شعير – عدس) ومنسوجات وخمر وخيل، يمكن أن نستنتج أن منسوجات القطن وغيرها لم تكن كافية أو جيدة عندهم.. بالإضافة لملابسهم المصنوعة محلياً أو المستوردة من مصر يحدثنا المسعودي أن هؤلاء القوم أصحاب جلود النمور الحمر وهي لباسهم ومن أرضهم تحمل إلي بلاد الإسلام، وهي أكبر من جلود النمور وأحسنها السروج..(1)
ونستنتج من ذلك أن لباسهم أيضاً كان من جلود النمور وكما ذكرنا في موضع سابق أنهم كانوا يصطادون النمور والفهود والزرافات.. والنساء كن يقمن بعملية الغزل والنسيج في بلاد النوبة.
8- صناعة الخمور
صناعة الخمور ترجع إلي عهود موغلة في التاريخ، يقول كراوفوت " إعداد الشراب ( الدكاي)" تلك الممارسات التي عثر الآثاريون علي شواهد مؤكدة علي تواجدها في أزمان تاريخية شديدة القدم(2) ومن وصف الأسواني وابن حوقل أيضاً نستنتج أن النوبة كانوا يصنعون الخمور، في بلاد علوة كانوا يصنعون البوظة والمزر من الذرة الأبيض.. هذا إضافة لخمورهم بأنواعها المختلفة المصنوعة من البلح والتي ترجع إلي عهود قديمة، وخاصة في مملكة المغرة، وكانت خمور النوبة التقليدية من البلح التي توارثوها منذ عهود بعيدة هي الدكاي والمريسة والنبيت وهي خمور مسكرة وكانت النساء هن اللائي يقمن بصنع الخمور.(2)
9- صناعة التعدين:
كما ذكرنا سابقاً أن النوبة عرفوا صناعة تعدين الحديد في مروي قرب كبوشية يقول ابن حوقل وبين علوة وبين الأمة المعروفة بالجبالين مفازة ذات رمال إلي بلد أمقل .. وهي ناحية ذات قرى لا تحصى وأمم مختلفة ولغات كثيرة متباينة لا يحاط بها يعرفون بأحدين وفيهم معادن الذهب والتبر الخالص والحديد متصلين بالمغرب، كما عرف النوبة الذهب وكانوا يستخلصونه من المواقع التالية:
- من مكان إسمه شنكة قرب شنقير أي قرب أبي حمد يقول الأسواني في وصف بعض المواقع في وادي النيل أعلي دنقلا وهي الناحية الواقعة ما بين الدبة وأبي حمد ويذكر وجود الذهب في موضع ( شنكة ) قرب شنقير أي قرب أبي حمد. ومن هناك تتشعب بعض الطرق إلي سواكن وباضع ( أي مصوع) وجزائر دهلك في البحر الأحمر.
- من مناطق البجة في البحر الأحمر.
- من مناطق جبال كردفان.
- كما يستخرج الزمرد من جبال البحر الأحمر.
10- صناعة الطعام:
من وصف الإدريسي لسكان دنقلا يرد أنهم يشربون من مياه النيل وطعامهم الشعير والذرة والتمر وشرابهم المِزِر المتخذ من الذرة واللحوم التي يستعملونها هي لحوم الإبل طرية ومقددة ومطحونة ويطبخونها بالبان النوق ، وأما السمك فكثير عندهم.(1)
ومن وصف ابن حوقل للبجة يرد أن طعامهم اللحم واللبن والصيد مثل الغزال والنعام والحمار وصناعة الخبز أو الكسرة في بلاد النوبة كانت ممتدة من أيام مروي، وزعم الدكتور هنزا الألماني عالم الآثار في بعض حديثه لجمعية الخرطوم الفلسفية سنة 1963م أن السودانيين القدماء في دولتهم التي تسمى مروي في القرون السابقة للميلاد كانوا يصنعون الكسرة ولديهم آنيتها من خمارة ومرحاكة ودوكة عواسة، " الدوكة كنُّور أفطح من الفخار، والآن قد يستخدم الصاج مكانه والعواسة صنع الكسرة، يقال عاس يعوس(1)
إذا صح ذلك تكون صناعة الكسرة أو الخبز عند النوبة في العصور الوسطى ممتدة من عهد مروي وإن اختلفت أشكال صناعة الخبز.
الخلاصة:
وفي خلاصة هذا الفصل نلاحظ أن كل الصناعات والحرف ارتبطت بمواد خام كانت موجودة في البيئة المحلية سواء كان ذلك في صناعة أدوات الإنتاج الزراعي أو الأدوات الحربية أو في بناء المنازل والكنائس، أو الصناعات الخشبية. أي أن الإنسان النوبي العظيم طوّع المواد المحلية لصناعة أدوات الإنتاج، كما ظهرت فئات وشرائح من الحرفيين تخصصت في تلك الصناعات، أي حدث تطور في تقسيم العمل: زراعة ، رعي ، صناعة حرفية ، تجارة.
الفصل الثاني
الأوضاع الاجتماعية
أولاً: الإقطاع – الرق – التركيب الطبقي:
سوف نتناول في هذا الفصل خصوصية الإقطاع النوبي وخصوصية نظام الرق والتركيب الطبقي، ومن ثم استخلاص خصوصية التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية لممالك النوبة في العصور الوسطي.
معلوم أن النظم الإقطاعية التي سادت في أوربا وغيرها من البلدان كانت متباينة وكل منها تميز بسمات معينة فمثلاً الإقطاع الأوربي تميز بالسمات الآتية؟
- مستوى متدن من الفنون الإنتاجية، حيث تكون أدوات الإنتاج بسيطة وغير مكلفة علي العموم، وعملية الإنتاج ذات طابع فردي ومستوى تطور درجة تقسيم العمل كان بدائياً.
- كان الإنتاج موجهاً لإشباع الحاجات المباشرة للجماعة الفردية أو العائلة للأسواق الأكثر اتساعا.
- كانت الزراعة مستندة إلي الضياع، أي زراعة ضيعة السيد غالباً بالاعتماد الواسع النطاق علي خدمات العمل القسرية.
- اللامركزية السياسية.
- احتفاظ السادة بالأرض علي أساس نوع من الخدمة الإجبارية والتأجير إلي المزارعين.
- امتلاك السيد لسلطات قانونية أو شبه قانونية تجاه السكان التابعين(1)
- ويكمن جوهر نمط الإنتاج الإقطاعي في العلاقة الاستغلالية بين ملاك الأرض والمزارعين الخاضعين لهم حيث يتحول الفائض الذي يتجاوز مستوى كفاف الطبقة الأخيرة إلي الأولي. عبر قواعد قسرية سواء كان هذا التحول يتخذ شكل عمل مباشر ربعاً عينياً أو نقدياً.
- كما كان السيد الإقطاعي يعمل علي إشراك مزارعيه من خلال جعلهم يشعرون بأنه السيد الخاص بهم، وحسب القانون الإقطاعي كان يحمى كافة سكان مقاطعته من القوى الخارجية، ومن حيث الدعم، كان الملك علي الغالب هو حامل الأيتام والأرامل. كما أن كل من الملك والكنيسة كانا يديران نظاماً للصدقات(1)
ويرى سمير أمين أن نمط الإنتاج هذا لا ينشأ بشكل طبيعي عن تفكك نمط الإنتاج العبودي كما تؤكد التأويلات التبسيطية للماركسية بل علي العكس فهو قد يكون مخرجاً طبيعيا مباشراً وشائعاً لنمو أنماط الإنتاج البدائية..(2)
ويحدد باحث آخر – أحمد صادق سعد – سمات للإقطاع البيزنطي تختلف عن الإقطاع الأوربي في ثلاث نقاط هامة لعبت دوراً في خصوصية تكوين الإقطاع العثماني.
1- وجود ملكية الدولة جنباً إلى جنب الملكية الخاصة إضافة لأعمال السخرة التي يستفيد منها السيد كان للإدارة المركزية أن تفرض علي الأقنان سخرة لصالحها مثل القيام بنقل المنتجات الزراعية واستضافة الموظفين العموميين ورجال الجيش وتمهيد الطرق وإقامة الكباري والحصون.
2- بقاء المدن الكبرى لمراكز الصناعة الحرفية والتجارة في حين أن العديد من المدن القديمة في أوربا الغربية قد قضى عليها بسبب موجات الغزو البربرية.
3- السمة الثالثة للإقطاع البيزنطي أنه لم يكن معزولاً عن السوق الداخلي والخارجي، بل علي نقيضه كان منظماً بهدف بيع منتجاته وعملت النبالة البيزنطية علي تجهز المنتجات في هذا السبيل فتستولي علي ريع الحرفيين مستفيدة في الوقت نفسه من الإعفاءات الضريبية الممنوحة لها كطبقة سائدة وبهذا كان الإقطاع علي علاقة دائمة بالمدينة كما أن العديد من العوائد المفروضة علي الأفنان والفلاحين الأحرار كانت تسدد نقداً للسادة للدولة المركزية وكانت الدولة تحتكر تجارة الحرير وتتميز بهيكل بيروقراطي ضخم.(1)
كما يحدد الباحث نفسه سمات الإقطاع العثماني التي تتلخص في:
1- يمنح السلطان الإقطاع (أو المدنية) وبتوفير عدد من الجنود أو البحارة يتناسب مع إيراد الإقطاع، إضافة لذلك كان أغلب الموظفين الإداريين الكبار كانوا يمنحون القطاعات مشابهة مقابل خدماتهم أو حق جباية بعض الرسوم المحددة من المناطق من مناطق معينة. وكانت النبالة العثمانية ( السباهية) تكون قوة الفرسان وهي الوحيدة التي تتمتع بحقوق وراثية علي إقطاعياتها ( تيماراتها) وكانت تستحوذ علي أقل من نصف الأراضي المقطعة وكان السباهي تابعاً مباشراً للسلطان.
2- كان لصاحب الأرض ( التيماري) يقيم في أراضيه فيتمتع بامتيازات قانونية إزاء الرعية ويمثل سلطة في إقطاعه وله علاقات أبوية مباشرة مع رعاياه.
3- كان للفلاح حق الانتفاع بالأرض ويستطيع توريث حقه عليها إلي ابنه – مثل التيماري – ولكنه لا يحق له بيعه أو التنازل عنه أو إيقافه..(2)
نمط الإنتاج الآسيوي:
معلوم أن مفهوم نمط الإنتاج الأسيوي ورد في كتابات ماركس وإنجلز كتعبير علي أن اللوحة الخماسية كما درسها ماركس في أوربا لا تنطبق علي الشرق ( الهند، الصين ، مصر) وسمات نمط الإنتاج الآسيوي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
• غياب الملكية الفردية للأرض أو دور الدولة المركزية في تنفيذ المشروعات الكبرى للري خاصة بما يمنح رأس الدولة الحق النظري أو الشرعي في ملكية الأرض وبذلك يستولي جهاز الدولة علي فائض العمل لتصبح الدولة بموظفيها هي الطبقة الرئيسية والحاكمة بأمرها ( الطاغية في الوقت نفسه).
• الفلاحون أعضاء المشتركات الفردية القائمة بالإنتاج.. عبيد الدولة صاحب الأرض لا عبيد فرد ما.
• يقترن الاقتصاد الطبيعي لهذه لمشتركات المكتفية ذاتياً باحتلال الحرف المنزلية والعمليات الصناعية المكانة الثانوية بالنسبة للزراعة، ويحول الإنتاج المشترك دون تطور التجارة والتبادل بين القرى بحيث يمنعه عن أن يصبح عنصراً حيوياً وتحريكاً اقتصادياً لتحيا المشتركات القروية حياة بنائية راكدة..(1)
ويحاول أحمد صادق سعد أن يعمم نمط الإنتاج كتكوين مستقر في الصين والهند وبلاد ما بين النهرين والمكسيك وكوريا وممالك إفريقيا الغربية قبل الغزو الاستعماري.. ولكن في تقديري أن هذا التعميم خاطئ ولا يجوز حشر كل هذه البلدان في نمط واحد ( نمط الإنتاج الآسيوي) هذا فضلاً عن أن هذا التعميم يتعارض مع التطور الداخلي الباطني لكل تشكيلة معينة بمحاولة فرض نموذج من الخارج مسبق عليها.. كما أن هذا التعميم خاطئ ويتجاهل خصوصيات كل بلد، هذا فضلاً عن عدم تطابق المفهوم مع المصطلح يضم بلاد آسيوية والمفهوم أوسع من البلاد الآسيوية..(2)
وينتقد سمير أمين مصطلح نمط الإنتاج الآسيوي ويرى أن التنوع الذي لا نهاية له لهذه التشكيلات الآسيوية والإفريقية (نمط إنتاج بدائي، نمط إنتاج عبودي ، نمط الإنتاج الإقطاعي ، نمط إنتاج سلعي) قد رد بأسره وبشكل قسيرى مفتعل إلي نمط الإنتاج الآسيوي ويفضل الحديث عن تشكيلات شرقية وإفريقية تتصف بالآتي:
1- هيمنة إنتاج جماعي أو أتاوي ( متفاوت في تطوره نحو نمط الإنتاج الإقطاعي).
2- وجود علاقات سلعية في مناطق محدودة.
3- وجود علاقات تجارية بعيدة عندما يكون نمط الإنتاج الإقطاعي مفقوداً جنينياً جداً، وعندما تكون العلاقات السلعية الداخلية البسيطة مفقودة كذلك فإن التشكيلة المقتصرة علي مجرد اندماج نمط إنتاج جماعي أو أتاوي قليل التطور بعلاقات تجارة بعيدة تكون من الطراز الإفريقي.(1)
استنادا إلى المعلومات النظرية حول الإقطاع والخصوصيات في كل منطقة أو الحالات الخاصة من الحالات العامة، والدراسات السابقة التي قدمت حول نمط الإنتاج الآسيوي والتشكيلات الإفريقية الآسيوية نحاول استخلاص ما هو خاص بتشكيلة النوبة ونحدد خصوصيات الإقطاع فيها بذهني مفتوح ودون إقحام مفاهيم مسبقة حول نمط معين، واستخلاص الخصوصيات حسب ما تيسر لنا من المعطيات التاريخية الحقيقية.
خصوصيات الإقطاع النوبي:
سردنا في الفصل الأول ما أورده المسعودي حول نظام ملكية الأرض عند النوبة وخلصنا إلي أنه من الناحية النظرية كان ملك النوبة يعتبر كل الأرض ملكه وهذه واحدة من سمات النظام الإقطاعي، ولا حق لرعاياه في ملكية فردية لها وكل رعايا ملك النوبة الذين يعملون في ضياع معينة يعتبرون عبيداً لملك النوبة وأن تملكهم لهذه الضياع تملك العبيد، وبالتالي فإن ملك النوبة أو جهاز الدولة الحاكم ( ملك ، موظفين، كنيسة)(1). وكان يستحوذ علي كل فائض عمل الفلاحين مقابل معيشتهم، وبالتالي فإن علاقات الإنتاج كانت تقوم علي السخرة أو العبودية.
وهذا يختلف عن الإقطاع الأوربي الذي كان فيه الفلاح يعمل ثلاثة أيام في أرضه وثلاثة أيام بدون مقابل في أرض الإقطاع أو الكنيسة.. وللتحرر من عبودية ملك النوبة اضطر بعض المواطنين النوبيين أن يخرجوا من مملكة المغرة ويدخلوا أرض مريس التي كانت مجاورة لأسوان.. ويلخص د. مصطفي مسعد ذلك بقوله.. ولم يعترف لملك النوبة بالعبودية سوى أهل مغرة الأصليين وهم يسكنون إلي ما وراء الجندل الثانية جنوباً وهي المناطق التي يحرم علي العرب الدخول فيها إلا للتجارة وصارت النوبة أهل مملكة هذا الملك في نوعين: نوع ممن وصفنا أحرار غير عبيد، والنوع الآخر من أهل مملكته عبيد وهم ممن سكن النوبة في غير هذه البلاد المجاورة لأسوان.
ومعني هذا أن حوالي نصف سكان مملكة مغرة وهم المريسيون لم تعد تربطهم بملكهم تلك الرابطة القديمة القائمة علي أساس العبودية والطاعة العمياء له..(2)
التركيب الطبقي للمجتمع النوبي:
اتفقت جميع الروايات التاريخية علي أن المجتمع النوبي كان يتألف من طبقتين أساسيتين:
الأولي: وهي الطبقة الحاكمة وتشمل الأسرة المالكة وعلي رأسها الملك الكبير سواءً كان في دنقلا أو سوبا هذا فضلاً عن حكام الأقاليم والملوك.
الثاني: هي طبقة العبيد وهم عامة الشعب النوبي وبين هاتين الطبقتين قامت فئة الموظفين ورجال الدين وقد تولي أفراد هذه الفئة مختلف الوظائف في العاصمة والأقاليم ولأن عددهم كان محدوداً ومن الواضح أن الطبقة الحاكمة الشاملة للأسرة المالكة وفروعها هي وحدها التي مارست حقوقاً سياسية ودينية..(1)
وكما أوضحنا سابقاً أن الملك هو صاحب الأرض ولابد أن طبقة الحكام في الأقاليم كان لهم نفس هذا الحق أما الشعب فلا أملاك له وهم عبيد الملك يعملون في الأرض ويقومون مقام العملة ويوضح ذلك أن العملة ببلاد النوبة لم تعرف إلا في منطقة مريس، أما وراءها جنوباً فإن الرقيق يقوم مقام العملة في البيع والشراء(2)
كما نشير إلي فئة الحرفيين التي تطورت بتطور الصناعة الحرفية حدادين، نجارين .. إلخ، ونشير أيضاً إلى فئة التجار التي كانت تمارس عمليات التجارة في الداخل والخارج والتي بدأت تتطور مع تطور الزراعة والصناعة الحرفية كما أشرنا إلي أن التجارة كانت تمارس بالمقايضة أو بالعملة يقول ابن سليم الأسواني " ومن يخرج إلي مولاه، يقبل الجميع ويكافئ عليه بالرقيق.
ثم يضيف ولا يجوزها دينار لا درهم إذ كانوا يبايعون بذلك إلا دون الجنادل مع المسلمين، وما فوق ذلك فلا بيع بينهم ولا شراء، إنما هي معاوضة بالرقيق والمواشي والجمال والحبوب(3).
خصوصيات نظام الرق في ممالك النوبة:
يمكن مما سبق أن نستخلص السمات العامة التي تميز نظام الرق في بلاد النوبة علي النحو التالي:
1- كان عامة الشعب عبيداً لملك النوبة، يعملون في الأرض لصالح سادتهم.
2- كان الرقيق يصدر إلي الخارج وعنصراً أساساً من صادرات النوبة في العصور الوسطي.
3- كان الرقيق يقوم مقام العملة أو وسيلة تبادل في البيع والشراء.
4- في اتفاقية البغط كان الرقيق العنصر الرئيسي ( ملك المغرة كان يدفع سنوياً 400 رأس من الرقيق مقابل مؤن غذائية).
5- كان الرقيق النوبي في مصر عنصراً هاماً في تكوين الجيوش مثال " كان أحمد ابن طولون أول من استخدم السودانيين في الجيش الطولوني وبلغت عدتهم أربعين ألف سوداني. ويقول المقريزي أنه حصل عليهم بطريق الشراء، وإذا صح ذلك، فإن بلاد النوبة تعرضت لحملات استنزاف كبيرة من قبل تجار الرقيق وخاطفيهم"، كما بلغ العدد في جيش المستنصر بالله خمسين ألف.
6- أما بخصوص الجاريات النوبيات فقد كان دورهن هاماً في الحياة المصرية منهن تخصص في تربية أولاد السلاطين وتنظيم الأفراح والأعياد وترتيب شئون الحريم السلطاني.(1)
7- في وادي العلاقي حيث توجد مناجم الذهب والزمرد، كان التجار العرب يستخدمون الرقيق في إستخراج الذهب الزمرد.
خصوصيات تشكيلة النوبة:
هكذا نصل إلي خصوصيات أو سمات التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية لممالك النوبة والتي تتكون من أنماط متنوعة يمكن تلخيصها علي النحو التالي:
1- نمط إنتاج إقطاعي ولكنه ليس كالنمط الاقتصادي الكلاسيكي في أوربا والذي نشأ من نظام عبودي سابق أو نمط إنتاج اقطاعي خالص ولكن بالسمات والخصائص التي حددناها سابقاً حيث كان الملك ومعه حكام الأقاليم يعتبرون كل الأرض ملكهم وأن الرعايا العاملين كانوا يعتبرون عبيداً لهم، أي أن ملك النوبة كان يمتلك الأرض والعاملين عليها، وبالتالي فإن جهاز الدولة كان يستحوذ علي كل فائض عمل العبيد، مقابل معيشتهم.
2- نمط الإنتاج العبودي، والذي كان متداخلاً مع نمط الإنتاج الإقطاعي، والذي كان يتميز بالوظائف التي كان يشغلها الرقيق في النسيج الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع النوبي والتي حددناها سابقاً: تصدير إلي الخارج، وسيلة تبادل ، عمل في مناجم الذهب والزمرّد وفقاً لعلاقات الإنتاج العبودية، عنصر رئيسي في اتفاقية البغط وغير ذلك.
3- نمط الإنتاج السلعي: كان النوبة يستخدمون النقد ( دينار – درهم) مع المسلمين في بلاد مريس والمقايضة جنوب بلاد مريس، كما عرف النوبة التجارة الداخلية والخارجية مع بلاد الحجاز ومصر وغيرها، كما ازدهرت التجارة والصناعة الحرفية وقامت المدن والمراكز التجارية والثقافية والدينية الهامة والتي فصلناها سابقاً.
وهكذا نرى أنفسنا أمام تشكيلة لها سماتها وخصوصياتها المعينة والتي تتميز هنا وهناك عن نمط الإنتاج الآسيوي أو نمط الإنتاج الإقطاعي في أوربا أو البلدان الشرقية الأخرى.
ثانياً المدينة والمعمار والحياة الاجتماعية:-
كان من ثمرات التطور الحضاري السالف ذكره، ظهور المدينة التي استندت في قيامها إلي النشاط الاقتصادي، وما نتج عنه من تفاوت اجتماعي وتقسيم للعمل وتطور ثقافي والمدينة هي نتيجة لانفصال قطاع من الناس عن عملية إنتاج الغذاء، وتخصصهم في أعمال أخرى مثل الحرف المختلفة والتجارة والإدارة والدين، أن ظهور المدينة كان ثمرة للحضارة ، ولم تكن الحضارة ثمرة للمدينة.(1)
وتتباين وظائف المدن في فترة النوبة المسيحية من حيث النشاط الإداري والتجاري والصناعي والثقافي.
فمدينة سوبا كانت عاصمة مملكة علوة التي كانت تقع علي الضفة الشرقية للنيل الأزرق قرب ملتقى النيلين، وكانت مقر الإدارة والجيش وكان مدينة رائعة العمران، حسنة التخطيط، وذات مبان حسان وكنائس محكمة البناء، وأهلها نصارى يعاقبه، وتتكون من أحياء مختلفة ومتصلة، وبها حي للمسلمين، وصفها الرحالة ابن سليم الأسواني بقوله وفي هذه المدينة مبانٍ حسان ومنازل واسعة كثيرة الذهب والبساتين(2) يبدو من وصف أبن سليم الأسواني أن المدينة تمتعت بالثراء والرفاهية وتجمعت فيها فوائض اقتصادية كثيرة.
أما مدينة دنقلا فقد كانت عاصمة مملكة المغرة وبها قصر الملك وتميزت بالكنائس والإدر الكبار والشوارع المتسعة والمباني من الطوب الأحمر علي حد وصف أبو صالح الأرمني(3) ومن وصف الكتاب العرب في العصور الوسطي لمدينة دنقلا نلاحظ أنها كانت ذات أسوار منيعة مما إضطر جيش المسلمين بقيادة عبد الله بن أبي السرح لقذفها بالمنجنيق.
ومن المدن التجارية مدينة بلاق الي وصفها الوردي بقوله وهي مدينة كبيرة وهي مجتمع تجار النوبة والحبشة(1).
وكذلك مدينة المقس الأعلى التي وصفها أبو صالح الأرمني وفي بلاد النوبة عند الجنادل مدينة تسمى المقس الأعلى، ولا يمر فيها أحد، إلا يفتشوه، ولو كان ملك من الملوك ومن جاز وخالف قتل، ويقايضون بالأمتعة والبيع والشراء عندهم مقايضة، وكذلك يقايضون بالأقمشة والرقيق وكلما يباع ويشترى مقايضة(2) ويبدو أن مدينة المقس الأعلى كانت نقطة جمارك هامة ومدينة تجارية.
مدينة صناعية هي وادي العلاقي التي كانت توجد بها مناجم الذهب والزمرد والتي وصفها اليعقوبي بقوله: ووادي العلاقي كالمدينة العظيمة به خلق من الناس وأخلاط من العرب والعجم وأصحاب المطالب وبها أسواق وتجارات وشربهم آبار تحضر في وادي العلاقي.(3)
علي أن المدينة الثقافية الهامة هي مدينة فرص التي كانت عاصمة نوباطيا قبل اتحادها مع مملكة المغرة، وفرص مشهورة بكنيستها العظيمة التي كانت مثالاً لكنائس النوبة الأخرى والتي تمتاز بالقبب بدل السقف المسطح وتزيين الجدران الداخلية، يقول الأب ج فانيتني أثبتت الأبحاث الحديثة أن حوالي ستين كنيسة قد تم بناؤها في أرض النوبة إقتداءاً علي مثال كنيسة فرص في ذلك العصر ويستنتج العلماء أن مدينة فرص كانت المركز الثقافي للنوبة السفلي(4)
وأخيراً نذكر مدينة عيذاب التي كانت منفذ النوبة إلي بلاد الحجاز واليمن ومكة وصف اليعقوبي ميناء عيذاب بقوله وعيذاب ساحل البحر المالح (البحر الأحمر)، يركب الناس منه إلي مكة والحجاز واليمن ويأتيه التجار فيحملون التبر والعاج وغير ذلك في المراكب(1) ومن الملامح العامة للمعمار في بلاد علوة، أن الكنائس كانت تقع داخل قلاع، وتكاد تكون هناك كنيسة مع كل قلعة، كتب أحد الرحالة الذي كان ماراً ببلاد علوة إلي بعثة تبشيرية في بلاد الحبشة بأن علوة بها 150 كنيسة وأن هذه الكنائس تقع داخل قلاع قديمة وتنتشر في كل البلاد وتكاد تكون هناك كنيسة مع كل قلعة وأن حكام النوبة يقطنون في كلا جانبي النيل، ويقولون أن القواد بعدد القلاع تلك ، وليس لهم ملك بل حكام عسكريون(2).
ثالثاً: المرأة النوبية:-
معلوم أنه في كل المجتمعات القديمة التي انبثقت أو تطورت من المشاعة البدائية نتيجة لاكتشاف الزراعة والرعي وبالتالي ظهور الفائض الاقتصادي وظهور الملكية الفردية وما يلازمها من ظهور أول إنقسام طبقي وظهور الدولة والطبقات وانفصال العمل اليدوي عن العمل الذهني وانفصال الريف عن المدينة، ظهرت عدم المساواة بين الرجال والنساء نتيجة لانفصال المرأة عن الإنتاج وتحكم الرجال في الإنتاج الفائض في الزراعة وبدأ عمل المرأة يتقلص تدريجياً إلي الأعمال المنزلية.
ولتوضيح ذلك أكثر نشير إلي أنه عند الشعوب الأكثر بدائية ( أو المشاعة البدائية) كان للمرأة دور في التقسيم الاجتماعي للعمل مساوي لدور الرجال.. فحياة الشعوب البدائية كانت تعتمد علي الصيد وجني الثمار قبل اكتشاف الرعي والزراعة.. فكان التقسيم الاجتماعي للعمل علي النحو التالي، الرجال ينصرفون إلي الصيد والقنص بينما يلتقط النساء الثمار والحيوانات الصغيرة غير المؤذية، وعند المجتمعات البدائية الأكثر تطوراً كان النساء يعملن بالقرب من المسكن في رعاية النار، الغزل والنسيج، صنع القدور ( أو صناعة الفخار) بينما كان الرجال يعملون في الصيد، وصنع أدوات العمل من الحجر والعاج والقرون والعظام(1).. ومن هذه الصورة نرى أن المرأة لها دور لا يقل عن دور الرجال في التقسيم الاجتماعي للعمل.. وبعد اكتشاف الزراعة والرعي ظهر ما يسمى بالفائض الاقتصادي أو النتاج الإجمالي للفائض، وهذا بدوره أدى إلي تقسيم أرقي للعمل، فتم انفصال الصناعة الحرفية عن الزراعة وانفصال المدينة عن الريف، وانقسام المجتمع إلي طبقات ، وتقلص دور النساء ليختصر في الأعمال المنزلية والناتج الاجتماعي الفائض أدي إلي
1- السماح بتكوين احتياطي من الأغذية لتجنب عودة المجاعة علي نحو دوري أو التخفيف من شرها.
2- إتاحة المجال أمام نمو أسرع للسكان ( قبل ذلك نتيجة لنقص الطعام كان يتم تحديد النسل أو قتل الأطفال أو قتل أسرى الحرب..) وبالتالي شكل لك مؤشراً للنمو الاقتصادي والاجتماعي وأدى إلي تطور القوى المنتجة، وأصبح أسرى الحرب يعملون كرقيق في مزارع الأسياد أو رعي ماشيتهم أو في الأعمال المنزلية وغير ذلك وبالتالي ظهر نظام الرق.
إذن، يمكن القول، أن اكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات أدي إلي أول تقسيم اجتماعي للعمل، وظهرت الشعوب الزراعية والشعوب الرعوية(1) وتشهد تجارب الشعوب التي في مرحلة المشاعة البدائية أن المرأة التي كانت تنقطع إلي التقاط الثمار وتبقي في أغلب الأحيان بالقرب من المسكن هي أول من بدأ بزرع بذور الثمار الملتقطة تسهيلاً لتموين القبيلة، وفي بعض القبائل (مثل قبيلة وينباغو الهندية ) كانت النساء مرغمات علي إخفاء الأرز والذرة المخصصين للزراعة وإلا أكلها الرجال.
وفي المشاعية البدائية كان هناك نظام الأمومة ( الانتساب إلي جهة الأم) الذي كان له الارتباط بالدور الذي لعبته النساء في اكتشاف الزراعة هذا إضافة لدور النساء في اكتشاف التجارة أو تبادل المنتجات(2) أي أن المرأة هي أول من اكتشفت الزراعة والتجارة إذن يمكن القول أنه في المجتمعات المشاعية البدائية واكتشاف الزراعة والرعي تقلص دور المرأة في الحياة الاقتصادية وأصبح الرجل هو المهيمن فيها ( تملك الرجال للفائض من الزراعة والرعي) وانقسام المجتمع إلي طبقات وبالتالي تراجع دور المرأة إلى الأعمال المنزلية التي كانت تشمل إعداد الطعام وتربية الأطفال ومساعدة الرجال في الأعمال الزراعية، وصناعة النسيج والفخار وهلمجرا… ومجتمع النوبة كمجتمع زراعي رعوي تطور من مجتمعات بدائية منذ حضارة المجموعة (أ) قبل 3.000 ق.م وقبل ذلك كانت عصور ما قبل التاريخ التي كان النشاط الاقتصادي الأساسي فيها يقوم علي الصيد والتقاط الثمار(1) وبعد اكتشاف الزراعة منذ حضارة المجموعة (أ) ، (ج) ومع تطور هذه العملية نسمع عن قيام أول مملكة سودانية سنة 2000 ق. م هي مملكة كرمة التي عرفت ظهور المدن والقوى والطبقات الحاكمة والجيش والتجارة، ومع تطور المجتمع الزراعي الرعوي ظهرت ممالك أخرى مثل نبتة ومروي واستمرت بقايا نظام الأمومة في تلك الممالك.
نظام الأمومة:
معلوم أنه كان للمرأة مكان خاص في مملكتي نبتة ومروي فقد كان الكوشيين ( سكان نبتة ومروي) عادات خاصة بهم مثل انتخاب الملك بواسطة الآلهة ونظام الوراثة المتداول من الأخ للأخ عن طريق الأم كما كان هناك نظام الملكة الأم ( قنداقة) والهالة القدسية التي تحيط بها، وأن نظام الوراثة الملكي والمكانة العظيمة للأم كان متغلغلاً في صميم المجتمع الكوشي(1)
وفي بلاد النوبة استمرت هذه العادة، وكانت من عادة النوبة إذا ماتت والدة الملك كان من عادة الملوك أن يختاروا إحدى نساء الأسرة ويطلقون عليها لقب ( الملكة الوالدة) وهي تلعب دور الملكة الأم، وكان من عادة النوبة و( البجة) أنهم كانوا يورثون ابن الأخت وابن البنت دون ولد الصلب ويقولون أن ولادة ابن الأخت وابن البنت أصح وأن يكون من زوجها أو غيره فهو ولدها علي كل حال.. وهذا راجع إلي تعدد العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة في تلك الفترة وكما أشار صاحب الطبقات في ارض النوبة.
كان الرجل يطلق منهم المرأة ويتزوجه غيره في نهاره من غير عدة (1) .. ونظام الأمومة لم يكن خاصاً فقط ببلاد النوبة فهو نظام قديم عرفته تقريباُ جميع المجتمعات القديمة.
وأول من أشار إلي ذلك بطريقة علمية ومنهجية هو العالم الألماني باخفن (Bachafen) في كتابه "الأمومة أو حقوق الأم " الذي نشر عام 1861 والذي أشار فيه إلي الآتي:
1- النكاح: عند أجدادنا كان فوضوياً وغير محدد بشروط أي أنهم كانوا يتعاطون نكاح الاختلاط والمشاركة (Reterisme)
2- أن لا سبيل في هذا النكاح المطلق إلي معرفة أب الولد والانتساب إليه وبهذا كان النسب محصوراً في الأم وقرابتها، أي أن النكاح المذكور أو ولد الأمومة أو سلطة الأم في المجتمع الإنساني وأن الأمومة كانت شائعة بين جميع الشعوب القديمة علي الإطلاق.
3- أن المرأة نظراً الوالدة الوحيدة المعروفة من أبوي الولد كانت محترمة جداً ورفيعة عند القدماء وهو ما أدى إلي ترؤسها في الهيئة الاجتماعية وبعد باخفن جاء علماء اجتماع آخرون بحثوا هذا الموضوع مثل الكاتب الإنجليزي لينان، وعالم الاجتماع الأمريكي مورغان في كتابه المجتمع القديم، وفردريك إنجلز في كتابه أصل الدولة والعائلة والملكية الخاصة وغيرهم.
أشارت كل هذه الأبحاث إلي أن نظام الأبوة ( الانتساب إلى جهة الأب) لم يكن خالداً وإنما هو نتاج تطور طويل من نظام الأمومة الذي كان سابقاً له أي أن نظام الأمومة متقدم علي نظام الأبوة ويرجع الفضل الأعظم في اكتشاف ذلك إلي عامل الاجتماع الأمريكي مورغان (1)(MORGAN)
ونظام الأمومة أيضاً عرفته القبائل العربية قبل الإسلام وبعد الإسلام حل محله نظام الأبوة والزواج الشرعي المعروف.
ولذلك أصبح من المقرر اليوم عند العلماء أن أصل الأمومة عدم معرفة أب الولد وذلك ناتج عن عدم تمسك الهيئة الاجتماعية القديمة بالزواج الشرعي الذي يعد حديثاً بالنسبة إلي حالة الزواج الفوضوية التي كانت عليها الهيئة الاجتماعية قبل معرفتها للزواج الشرعي، إذ من المعروف أن الزواج كان في أول العمران وقتياً وغير مقيد، أي أن المرأة لم تكن مربوطة مع الرجل برباط متين شرعي لأجل مسمى بل كانت اليوم تجامع زيداً وغداً عمراً من نفس قبيلتها وهكذا… إلخ.(2)
وفي ضوء هذا المنهج والإطار العام الذي كشفه لنا علماء الاجتماع نفهم نظام الأمومة عند النوبة ونفهم الاحترام الكبير الذي كانت تحظى به الأم في بلاد كوش ( نبتة ومروي) وفي بلاد النوبة حيث كانت المرأة ترمز للخصب والحياة.. ونفهم أيضاً أن الحياة في بلاد النوبة لم ينتظمها شرع أو عقد وبالتالي كانت نسبة الأبناء من جهة الأم والسمات العامة لنظام العائلة في المشترك العشائري الأمومي هو نظام الزواج الخارجي الذي يحرم التزاوج داخل العشيرة والاقتصاد المشترك الذي يتحرك من خلال العمل الجماعي من أعضاء العشيرة والذي يتميز بالمعيشة المشتركة والطابع في مساكن كبيرة أو مجموعة مساكن صغيرة وبالطابع المشترك للاقتصاد المنزلي.
- ارتباط الزواج بنظام سكن عند الأم أي انتقال الأزواج إلي عشائر زوجاتهم.
- وجود العائلة الثنائية.
- الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج الأساسية.
- حق العشيرة في وراثة ممتلكات المتوفي من أعضائها الشئ الذي يجعل من وظائف العائلة الثنائية الاقتصاد ذات أهمية تاريخية.
- الطابع الجماعي في الغالب للعمل الجماعي.(1)
النشاط الاقتصادي للمرأة النوبية:
رغم الدور المهيمن للرجل في عملية الإنتاج في المجتمع الزراعي الرعوي في بلاد النوبة إلا أنه كان للمرأة النوبية أيضاً دور في الحياة الاقتصادية نذكر منه ما يلي:
- الأعمال المنزلية من طحن للذرة ( بالمرحاكة ، والهون ، والفندك) وصناعة الخبز وصناعة الخمور وصناعة النسيج وصناعة الأدوات الفخارية ( قواديس السواقي ، أفران الطين).
- تربية الدواجن ( دجاج ، حمام) أغنام.
- هذا إضافة للمساعدة في بعض الأعمال الزراعية أما الرجال في مجتمع الساقية فكانوا يقومون بصناعة الأدوات الزراعية مثل الأربل والواسوق والطورية والمنجل وصناعة الحبال وصناعة السواقي وصيانة أجزاءها، وصناعة المراكب والعناقريب والأسراج من خشب السنط والسيال والحراز، هذا إضافة إلي حفر الآبار ( الكفرية) وغير ذلك من أعمال البناء وأعمال الحدادة والنجارة ومتابعة العمليات الزراعية المختلفة البذر، النظافة، إستخدام السماد ، حتى الحصاد، إضافة إلي الأعمال التجارية والصيد والعمل في الخارج لتجهيز البيت ولزوم الزواج.
- بهذا الشكل يمكن تصور التقسيم الاجتماعي للعمل بين الرجال والنساء في مجتمع النوبة.. ونلاحظ دور المرأة الكبير في النشاط الاقتصادي.
عادات وتقاليد المرأة النوبية:
كان من عادات المسيحيين بالنوبة كما ذكر الهمذاني أنهم كانوا يختنون ولا يقربون من النساء في أيام الحيض ولا يغتسلون من الجنابة وهذا يدل علي أن عادة الختان الفرعوني للنساء ظلت مستمرة في بلاد النوبة.
وأورد ابن بطلان (1050م) خبراً آخر عن المرأة النوبية قال فيه إن نساء الزنج غير صالحات للخدمات المنزلية ولا للمتعة أما النوبيات فهن أحسن الدايات والحواضن لعواطفهن نحو الأطفال ويوضح ذلك الخبر أن المرأة النوبية كانت متطورة وذات ذوق حضاري رفيع في الخدمات المنزلية وتربية وحضانة الأطفال.
وقال الإدريسي: النوبيات بارعات الحسن والجمال ومن العادات النوبية التي تشمل المرأة النوبية والساقية والبقر التي تجر الساقية، وكل هذه الأشياء ترمز بدرجات متفاوتة للخصب والحياة عند النوبة وهي الطقوس التي تمارس حسب اعتقاد النوبيين ضد خطر الحسد أو ما يسمي بالكبسة أو العين، وهي ضرب من الحسد يصيب المرأة أو البقرة أو طرفاً من أطراف الساقية أو جميع أجزائها… وعلاج الكبسة هو المشاهرة وهي طقوس تؤدي بطرق معروفة وبقيادة امرأة مسنة.
والساقية تصاب بالكبسة إذا مر عليها إنسان جنب أو مرت بها امرأة وهي عائدة من طقوس النزول إلي النيل بعد أن تكمل عدتها.. وهي عملية تتم ليلاً بعد أن ينقطع الناس عن التجول ويعتقد القوم أن وقوع بصرها أثناء الطقوس خطر مقيم علي الإنسان والحيوان والساقية والسيارة وأنه علي الخصوص يعرض الإنسان إلي الفالج، أو مرض يصعب علاجه ولذلك يتفادى القوم الوجود في المنطقة ليلة تعتزم امرأة أن تقوم من عدتها وعادة ما تنذر نساء الحلة الرجال بهذه الليلة ليبتعدوا اتقاءً لهذا الشر الوبيل.(1)
وكذلك تصاب الساقية بالكبسة إذا مرت بها جنازة أو وقفت عليها امرأة تؤدي طقوس المشاهرة أو مرت بها نفساء في طريقها إلي النيل لغسل وجهها بمناسبة ظهور الهلال الجديد، أما النفساء في غير هذه الحالة فلا تضر لأن الملائكة في اعتقادهم تلازمها..
وإذا أصيبت الساقية بالكبسة، فإن علاجها يكون كالآتي:
يربط حبل طويل في ( التوري) أو في ( التقم)(2) أو أي طرف من أطراف الساقية الدائرة وتقوم امرأة كبيرة في السن قاطعة من الولادة بجر الطرف الثاني من الحبل وتنزل به وتقف داخل النيل وترمي طرفي الحبل فيه ثم تملأ صحناً تحمله معها بالماء وترجع صاعدة إلي الساقية وهي تجمع معها الحبل فإذا بلغت الساقية أو قدت النار ورمت الجمر علي بخور التيمان وبخرت ثم تقوم بإطفاء البخور بالماء التي أتت بها من النيل وترش أطراف الساقية بما تبقي من هذه المياه..(3)
وهكذا نري دور المرأة في إصابة الساقية بالكبسة وفي علاج الساقية من الكبسة ونحسب أن هذا من العادات القديمة التي استمرت حتى بعد إندثار ممالك النوبة المسيحية، وحتى وقت قريب قبل أن تندثر الساقية.. والمشاهرة هي مجموعة من الطقوس التي كانت تمارسها المرأة النوبية مرتبط بعلاج أمراض الأعضاء التناسلية عند الرجل والمرأة وهي طقوس تتخذ طابع السحر المشروع وتتم في جو من الكتمان الشديد بحيث لا تعلم بها إلا قلة قليلة جداً من النساء القعود، وهي عادة نسوية بحتة لا يلعب الرجل فيها أي دور البتة والمسببات الرئيسية لأمراض الأعضاء التناسلية في مفهوم من يمارسون عادة المشاهرة هي " العين" أو " الحسد" في بعض الممارسات التي هي في الأصل ممارسات يومية عادية، إلا أنها عندما ترتبط بالولادة أو الختان أو الزواج أو أي ممارسات متعلقة بالأعضاء التناسلية تسبب أمراضاً مستعصية مثل الالتهابات والتشويه والعقم وتختلف طرق العلاج باختلاف الأمراض نفسها وطبيعة التشخيص الذي يدل علي نوع العين المباشرة التي تسببت في المرض ويحدثنا د. علي عثمان محمد صالح عن عادة المشاهرة ويقول والمحقق أن عادة المشاهرة عادة نوبية ولو أننا لا نعرف حتى الآن أصلاً نوبياً لكلمة مشاهرة التي يستعملها النوبيون الآن لتعني أمراض الأعضاء التناسلية كما تستعمل كذلك في وصف بعض الأدوات التي تستعمل لعلاج هذه الأمراض والمغزى الحضاري والعنصري لهذه العادة ربما يكون متعلقاً بحفظ نقاء العنصر النوبي وحضارته..(1) وهذه ربما تكون طقوس سابقة للمسيحية والإسلام ولكن استمرت رغم انتشار المسيحية والإسلام بعد ذلك في بلاد النوبة.
وكان من عادات المرأة النوبية في كثير من المناطق النيلية أنها إذا كانت والدة لا تخرج من البيت قبل أن تتم أربعين يوماً، وفي عشية اليوم الأربعين يبدأ الاحتفال بالمولود وتحمله أمه إلي نهر النيل لتقوم بغسله هناك وفقاً للطقوس المطلوبة.
ويعتقد الأهالي أن عقوبات وشروراً ستنزل بالمرأة التي تهمل هذه الطقوس وترافق الوالدة إلي النيل نساء أخر يحملن أغصان النخيل، ويغنين بعض الأغاني الشعبية المحلية وغسل الوالدة وجهها ويديها ورجليها وتقوم بغسل وجه الولية بينما تطلق رفيقاتها الزغاريد ولا زالت هذه العادة مستمرة حتى اليوم.ويرى د. ج. فانتبني أنها من آثار المسيحية في ممالك النوبة القديمة صحيح أنها ربما تكون كذلك عادة أقدم من المسيحية اتخذت شكلاً جديداً في النوبة المسيحية لارتباط النيل بالحياة. والخير والخصب كما يسبب الدمار والخراب في حالة الفيضان أو الانحسار وبالتالي لابد من تقديم الضحايا والقوانين له. ومع التطور اتخذت العادات تجاه النيل أشكالاً مختلفة.
وهناك عادة أخرى من آثار المسيحية أشار لها د. ج: فانتبني وهي في بعض القرى ما بين وادي حلفا ودار سكوت ودار المحس حتى ضواحي دنقلا احتفال ويسمى هذا الاحتفال ( مارية) بعد الولادة يومين أو ثلاثة، تحمل النساء المولود إلي النيل ليغسلن وجهه ويديه ورجليه وتقود الموكب القابلة (الداية) حالمة الوليد وتحمل امرأة أخرى طبقاً مصنوعاً من الأعشاب وفيه أدوات الولادة والنفايات المجموعة بعد كنس البيت ويضاف إليها قرص من الخبز ويرمى الطبق بمحتوياته في النهر وتأخذ النساء قليلاً من الماء إلي البيت ويحفظنها بعناية بضعة أيام ثم يرمينها وتذبح بهذه المناسبة ضحية يحرص الأهالي علي ألا يكسر منها عظم ويوضع علي حائط البيت رسم يد تحمل دم الضحية.
وهناك عادة أخرى في المنطقة المعروفة ببطن الحجر ربما تعزي إلي النوبة المسيحية إذا كانت الولادة صعبة ترفع النساء أصواتهن بالدعاء المتكرر ويذكرن مراراً باللغة النوبية اسم مارية (مريم).
ويورد نعوم شقير خبراً ربما كان له علاقة بهجرة النوبة من شمال السودان إلي جبال النوبة بعد دخول الإسلام واندثار المسيحية، يقول شقير " إن بعض العوائد الوثنية تمتزج بالمسيحية في بعض الجهات جبال الغرب (جبال النوبا) إذ يروى أن تاجراً من الأقباط الذي كانوا يترددون إلي جبال النوبة قال:
" إن أهل تلك الجبال إذا ولد لهم وكان عمره أربعين يوماً أخذته أمه إلي الكجور وهو رئيس ديانتهم وسأله أن يخرج منه الأرواح النجسة فيغطسه بالماء ويدفعه إلي أمه وقال ذلك من التقاليد المحفوظة عن النصرانية والله أعلم.(1) ومن عادات النوبة في الأعراس استخدام الجرتق والعلجة والبرش والسوميت والسباتة. يقول د. يوسف فضل " ولعل خير ما يحكي عن تلاقح العادات المختلفة ما يسجله حفل عرس سوداني" فالعقد والحنة والضريرة والبطان مثلاً تدل علي التيار التبداوي " البجاوي" وتدل الدلوكة والطبل علي أصل إفريقي.. (2) ومن العادات أيضاً التي عرفت في بلاد النوبة التي كانت تشمل المرأة والرجل منذ العهد المروي هي الشلوخ حيث اكتشف علماء الآثار بعض التماثيل والنقوش والأشخاص مشلخين ترجع إلي ذلك العصر، وتمثل تلك الشلوخ أنماطاً مختلفة فبعضها علي هيئة خطوط أفقية مستقيمة وأخرى مائلة وبعضها هلالية الشكل وقد استمرت هذه العادة منذ التاريخ حتى شملت معظم أجزاء السودان الشمالي..(1) وتحدث القسيس سيمون سموليس الذي زار البلاد المقدسة بين (1322م – 1324) عن مصر وبلاد النوبة وقال عن النوبيين أنهم يتميزون عن الهنود بالخطوط الطويلة التي يضعونها علي وجوههم حتى أصبحت سمة تدل عليهم وتعمل هذه الشلوخ أو العلامات بمرواد محماة بالنار ويعتقد النوبة أنهم بكي وجوههم إنما ( يعمدون أنفسهم) يأملون أن تخلص نيران الكي والأمة أرواحهم من الآثام التي لحقت بهم وتطهرها من الذنوب.(2)
وأخذ العرب بعد دخولهم السودان الشلوخ عن النوبة، وأن تغيرت أشكالها ووظائفها بعد ذلك ومن عادات المرأة النوبية أيضاً كانت عادة المشاط أو طريقة تصفيف الشعر أو التي كانت سائدة في بلاد النوبة منذ عهود سحيقة والتي رقما أخذتها المرأة العربية عن المرأة النوبية بعد ذلك..(3)
ومن العادات أيضاً التمائم التي كانت تربط علي العنق والمعصم لتحمي الإنسان من الأرواح الشريرة، وهي عادة إفريقية، وبعد دخول العرب السودان اتخذ شكل الحجاب الذي يكتب فيه بعض الآيات القرآنية..(4)
الفصل الثالث
إتفاقية البقط – النهب والسلب – الجزية
في هذا الفصل سوف أحاول طرح رؤية جديدة لعلاقة مملكة النوبة المسيحية ( المقرة) مع الدولة الإسلامية في مصر وفي تقديري أن مملكة النوبة عرفت ثلاثة مستويات من العلاقة مع الدولة الإسلامية.
الأول: اتفاقية البغط.
الثاني: الجزية.
الثالث: الغزو والنهب.
وسوف أحاول إثبات ذلك علي مدى هذا الفصل.. وقبل أن نبدأ في ذلك من المهم أن نحدد بوضوح المعاني التالية:
1- البغط (Pactum) بمعني الضريبة أو المعاهدة أو الهدنة أو السلم.(1) وكانت عبارة عن ضريبة من غلال كان البيزنطيون يجمعونها من سكان مصر لتزويد جيوشهم بالمؤن فأخذوا يدفعون هذه الضريبة للمسلمين المحاصرين بمدينة مصر ( بابليون). وصارت فيما بعد تدل علي الاتفاق أو المعاهدة بين النوبة والعرب.
2- الجزية: هي الضريبة علي الرقاب أو الرؤوس وكان العجم والبيزنطيون يأخذون من رعاياهم ضريبتين.
أ) ضريبة علي الأراضي وهي الخراج بمعناه الحقيقي.
ب) ضريبة علي الرؤوس كان يؤديها الحاكم مرة في السنة نقداً وهي الجزية بمعناها المتأخر.
وكلمة جزية كانت تشمل في أيام النبي (ص) والخلفاء الراشدين ضريبة الرؤوس وضريبة الأراضي، وإن كلمة خراج لم تكن معروفة عند العرب أو علي الأقل مستعملة عندهم1) والجزية يدفعها الذميون ( بمقادير معلومة عن كل رأس) أما الزكاة فيدفعها المسلمون ( بمقادير معلومة أيضاً) والجزية في الشريعة الإسلامية لفظ يطلق علي الأموال التي تفرضها الدولة الإسلامية علي أهل الذمة لقاء أمور معينة مبسوطة في مكانها استنادا إلي الآية 29 من سورة التوبة وقاتلوا الذي لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
والذين أوتوا الكتاب هنا هم اليهود والنصارى في حكمهم ويعطوا الجزية بمعنى الضريبة المقدرة علي رؤوسهم ( وذلك مقابل تكفل الدولة الإسلامية لنفس الذمي وماله وعرضه ودينه ولا يكلف حرباً ولا يدفع للدولة زكاة)
وعن يد: بمعني عن قدرة ( بما لا يشق عليه ) أو عن قهر وقوة.
وهم صاغرون: بمعني أي خاضعون لحكم الدولة غير متمردين عليه أذلاء.
3- ضرائب أخرى:
(أ) ألفئ: الأراضي التي تفتح صلحاً تكون فيئاً للمسلمين والفئ هو ما صُولِح عليه المسلمون من الجزية والخراج.
(ب) الغنيمة: أما الغنيمة فهي الأراضي المفتوحة عنوة ( بالقوة أو الحرب) فتكون في حكم الغنيمة وتقسيم بين الفاتحين طبقاً للشرع الحنيف.
قال تعالي: "واعلموا إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا علي عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان" ( الأنفال: الآية 41).
(ج) العشور: ضريبة عن الأرض ( بمثابة زكاة الأرض) يدفعها المسلمون مثلما يدفع المسلم الزكاة عن نفسه وأهل بيته.
(د) خراج الجزية: اسم أطلق علي الخراج الذي بغرض علي الأرض التي صولح أهلها(1)
(هـ) خراج الأجرة: يفرض علي الأرض التي صولح أهلها عليها أن تعتبر وقفاً ولا يسقط عنها بإسلامهم أو انتقالهم إلي غيرهم من المسلمين يعكس خراج الجزية(2)
(و) المكوس: هي الضرائب علي التجارة.
فتح المسلمين لمصر (الجزية:
معلوم أنه بعد أن فتح المسلمون مصر تم عقد معاهدتين:
المعاهدة الأولي: هي معاهدة بابليون التي عقدت عقب استيلاء المسلمين علي حصن بابليون سنة 20هـ (641م) والتي أعطي فيها عمرو بن العاص الأمان لأهل مصر علي أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم ( المقصود بالبر هنا الأراضي الزراعية والبحر هو نهر النيل مقابل أن يعطوا الجزية، وقيمة هذا الجزية متوقفة علي ارتفاع النيل أو انخفاضه كل عام، ولم يكن المصريون يدفعون الجزية مرة واحدة ولكن علي أقساط خلال السنة، وفي المعاهدة ورد النوبة والروم الذين خيرهم عمرو بن العاص في قبول أو رفض الصلح.. والمقصود بهم النوبة والروم الذين كانوا يقيمون في مصر(3)
المعاهدة الثانية: هي معاهدة المقوقس مع عمرو بن العاص حسب ما أوردها الطبري في تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة (20هـ) والتي جاء فيها:
مادة (1)
هذا ما أعطي عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان علي أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وبرهم، لا يدخل عليهم شئ من ذلك ولا ينقص ولا تُساكِنهم النوبة ( إشارة إلي حماية المصريين من أهل النوبة إذ يبدو أن النوبة انتهزوا فرصة اضطراب الأحوال السياسية في مصر وانهاروا علي الحدود)(1) .
مادة (2)
علي أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا علي هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف درهم (50 مليون درهم تعادل حوالي 900 ألف دينار) وعليهم ما حت لصوتهم ( أي لصوصهم) فإن أبي أحد منهم أن يجيب رفع عنهم الجزاء ( الجزية) بقدر ذلك ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله ما لهم وعليه ما عليهم.
المادة (3) من أبى منهم واختار الذهاب فهو آمن، حتى يبلغ مأمنه ويخرج من سلطاننا.
مادة (4) عليهم ما عليهم من الجزية أثلاثاً من كل ثلث جباية ثلث ما عليهم.
مادة (5) وعلي أهل النوبة الذين يدخلون في صلح مع المسلمين دفع كذا من الرؤوس (عبيد وكذا فرساً علي أن لا يفوزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة)(2)
ما يهمنا هنا أن المصريين أصبحوا ذميين وتدريجياً أصبح الإسلام ينتشر في مصر ( كان مقدار الجزية حوالي 2 دينار كحد أقصى علي كل ذمي) وانخفضت الجزية من 12 مليون دينار في السنة في عهد عثمان بن عفان إلي 5 مليون و4 مليون و3 مليون دينار في عهود كل من معاوية بن أبي سفيان(41 – 61هـ) وهارون الرشيد (148 – 189هـ) والعصر العباسي المتأخر علي الترتيب.(3)
وحلت اللغة العربية محل اللغة القبطية وصارت اللغة العربية لغة الكنيسة ابتداءً من القرن العاشر الميلادي ( الرابع الهجري).
وتعتبر سنة 239 هـ من السنوات الحاسمة في انتشار الإسلام، وأصبح المسلمون أغلبية، وانتشرت اللغة العربية وتمت ترجمة الإنجيل من القبطية للعربية وقبل الإسلام كانت مصر ولاية رومانية ثم بيزنطية منذ انتصار الإمبراطور ( أغسطس قيصر) علي كليوباترا في واقعة اكتيوم 31 ق.م، واستيلائه علي مصر سنة 30 ق.م وقضائه نهائياً علي دول البطالمة فيها، ثم جاء العهد الروماني في الفترة من (31ق.م – 248م) وتلاه العهد البيزنطي (284- 640م) ثم بعد ذلك جاء العهد الإسلامي وفي مصر الإسلامية توالت العهود الآتية التي عاصرت ممالك النوبة المسيحية في الفترة موضوع دراستنا وهي : العهد الأموي، العهد العباسي، الدولة الطولونية، الدولة الإخشيدية، الدولة الفاطمية ، الدولة الأيوبية ، الدولة المملوكية.
ويعتبر العصر الأموي هو عصر الدولة العربية، الدينار الإسلامي الموحد، وكان الولاة في العهد الأموي علي مصر كلهم من العرب، وفي عهد الدولة العباسية كان الولاة من عناصر فارسية ومنذ عهد الخليفة المعتصم (218 – 227هـ) تم التحول إلي الترك الذي كان أولهم يزيد بن عبد الله التركي (242 – 253هـ).
أولاً: اتفاقية البغط:
بعد أن فتح المسلمون مصر بقيادة عمرو بن العاص حوالي سنة 640م قرروا غزو بلاد النوبة بهدف تأمين حدود مصر الجنوبية ( من غزوات قبائل البجا والنوبة) فجهزوا جيشاً من المشاة والفرسان وحاولا غزو النوبة للمرة الأولي 641م في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وكان عمر بن العاص والي مصر، أجمع المؤرخون قائلين أن عمرو بن العاص أرسل إلي النوبة نافع بن عقبة الفهري، ولقي العرب مقاومة شديدة في النوبة من أصحاب النبل ولم يتمكنوا من احتلال بلاد النوبة ولم تختم هذه الحملة بهدنة بل عاد العرب إلي غزو بلاد النوبة كل سنة حتى عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر سنة 645م فلما ولي عبد الله بن سعد بن أبي السرح علي إمارة مصر عقد صلحاً مع النوبة، وربما كان ذلك أثر الغزو الذي تم سنة 646م وتعاهد الطرفان علي ألا يغزو بعضهما البعض واتفق المسلمون علي أن يزودوا النوبة ببعض السلع التي لا توجد في بلادهم وأن يسدد النوبيون قيمتها بتقديم عدد من الرقيق المسببين، كما كانت عادتهم في أسر من وقع في أيديهم من الغزو علي الأقطار المجاورة وألا يقدموا أبناءهم حتى يكمل العدد المطلوب.
وتمت الحملة الثانية في عهد الخليفة عثمان بن عفان سار عبد الله بن سعد إلي النوبة سنة 652م وسار العرب إلي دنقلا رغم المقاومة الشديدة من النوبة ودار القتال العنيف علي ضواحي دنقلا ولم يحتل العرب عاصمة المملكة مع أنهم تمكنوا من إصابة بعض المباني بقذف الحجارة عن طريق المنجنيق: وهي آلات حربية لم يعرفها النوبة من قبل، وكانت دنقلا ذات أسوار منيعة كما ذكر بعض المؤرخين العرب ويبدو أن العرب قد أصيبوا بإصابات فادحة وأدرك عبد الله بن أبي السرح أنه لن يستطيع الإستيلاء علي المدينة فعرض الهدنة علي ملك النوبة فخرج إليه ملك النوبة وإسمه (قاليدوروت) كما ذكر المؤرخون العرب وبدأت المفاوضات مع عبد الله وتوصل الجانبان إلي اتفاقية جديدة اسمها ( البغط) وكانت شروط الاتفاقية لا تختلف عن الاتفاقية الأولي إلا في شأن بعض المنسوجات الثمينة المصنوعة في مصر التي كان علي المسلمين أن يقدموها وفي شأن ارتفاع عدد العبيد الذي كان علي النوبة أن يقدموه لفئ الخليفة 360 أو 400 رأساً كما ذكر البلاذري.
أورد البلاذري أنه في الحملة الأولي لم يتم صلح وفي الحملة الثانية بعد تولي عبد الله بن أبي السرح تم صلح علي غير جزية ولكن هدنة ثلاثمائة في كل سنة، وعلي أن يهدي المسلمون إليهم طعاماً بقدر ذلك.
وأورد البلاذي: قال عبد الله بن صالح عن أبي لهيعة عن يزيد بن حبيب قال: ليس بيننا وبين الأساود عهد ولا ميثاق، إنما هي هدنة بيننا وبينهم علي أن نعطيهم شيئاً من قمح وعدس ويعطونا رقيقاً فلا بأس بشراء رقيقهم منهم أو ومن غيرهم.
حدثنا أبو عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد قال: إنما الصلح بيننا وبين النوبة علي ألا نقاتلهم ولا يقاتلوننا وأن يعطونا رقيقاً ونعطيهم بقدر ذلك طعاماً ، فإن باعوا نساؤهم وأبناؤهم أري بذلك بأساً أن نشتري.
من رواية البحتري وغيره أن عبد الله بن سعد بن أبي السرح صالح أهل النوبة علي أن يهدوه في السنة أربعمائة رأس يخرجوا بها طعاماً وكان المهدي أمير المؤمنين أمر بإلزام النوبة في كل سنة ثلاثمائة رأس وستين رأسا وزرافة علي أن يعطوا قمحاً وخل ( خلا) وخمر (خمرة) وثياب وفرشاً أو قيمته.(1)
والبغط حسب ما أورده المقريزي(2) يشمل النقاط التالية:
1- أمان وهدنة جارية بينهم ( النوبة) وبين المسلمين وممن جاروهم من أهل صعيد مصر وغيرهم من المسلمين وأهل الذمة.
2- أن يدخل النوبة بلاد المسلمين مجتازين غير مقيمين فيه ويدخل المسلمون بلاد النوبة غير مقيمين فيه وعليهم حفظ من نزل ببلدهم أو بطرفهم من مسلم أو معاهد، حتى يخرج عنه وعليهم رد كل عبد خرج إليهم من عبيد المسلمين إلي أرض الإسلام ولا يستولوا عليه ولا يمنعوا منه.
3- لا حرب ولا نصب لحرب ولا غزو إذا قام النوبة بالشرائط الموضحة.
4- وعلي النوبة حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينة النوبة ولا يمنعوا منه مصلياً وعليهم كنسه وإسراجه وتكريمه وألا بتم التعرض لمسلم قصده وجاوره حتى ينصرف عنه.
5- يدفع النوبة كل سنة ثلاثمائة وستون رأساً إلي إمام المسلمين من أواسط رقيق بلادهم غير المعيب، يكون فيه ذكران وإناث ليس فيهم شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم تدفع إلي والي أسوان وليس علي مسلم دفع عدو عرض لكم ولا منعه عنكم من حد أرض علوة إلي أرض أسوان.
6- تبطل الهدنة والأمان إذا آوي النوبة عبد المسلم أو قتلوا مسلماً أو معاهداً أو بالتعرض للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتهم بهدم أو منع الثلاثمائة رأس والستين.
وفصل لنا المسعودي البغط علي النحو التالي:
365 رأساً لبيت المسلمين، ولأمير مصر 40 رأساً، ولخليفة الأمير في أسوان المتولي لقبض هذا البغط عشرون رأساً وللحاكم المقيم بأسوان الذي يحضر مع أمير أسوان قبض البغط 5 رؤوس غير العشرين التي يقبضها الأمير، والأثني عشر شاهد عدو لا من أهل أسوان يحضرون مع الحاكم حين قبض البغط، أثني عشر رأساً من السبي حسب ما جري فيه الرسم في صدر الإسلام بدء إيقاع الهدنة بين المسلمين والنوبة والموقع الذي يتسلم فيه البغط يعرف بالقصر وهو علي بعد ستة أميال من مدينة أسوان بالقرب من جزيرة بلاق(1)
وبحساب المسعودي يصبح مجموع البغط 442 رأساً كما أورد المقريزي عن أبي زكريا ما يلي وكانت النوبة دفعت إلي عمرو بن العاص ما صولحوا عليه من البغط قبل نكثهم وأهدوا إليه أربعين رأساً من الرقيق فلم يقبلها ورد الهدية إلي كبير البغط ويقال له ( سمقوس) (أو نستقوس) كما جاء في كتاب ابن عبد الحكم واشترى بذلك جهازاً وخمراً ووجه إليه وبعثهم إليهم عبد الله بن سعد ما وعدهم به من الحبوب قمحاً وشعيراً وعدساً وثياباً وخيلاً ثم تطاول الرسم علي ذلك فصار رسماً يأخذونه عند دفع البغط كل سنة، وصار الأربعون رأساً التي أهديت إلي عمر يأخذها والي مصر، وقال المقريزي ناقلاً عن أبي خليفة بن هشام البحتري: " أن الذي صولح عليه النوبة ثلاثمائة وستون رأساً لفئ المسلمين ولصاحب مصر أربعون رأساً ويدفع إليهم ألف أردب قمحاً ولرسلة ثلاثمائة أردب من الشعير وكذلك من الخمر ألف اقنين للمتملك ولرسله ثلاثمائة أقنين وفرس من نتاج خيل الإمارة من أصناف الثباب منه ثوب ومن القباطي أربعة أثواب للمتملك ولرسله ثلاثة من البقطرية ثمانية أثواب ومن المعلمة خمسة أثواب وجبة مجملة للملك ومن حمض إلي بقطر ومن أحاصي عشرة أثواب وهي ثياب غلاظ.
وقال المقريزي ناقلاً عن أبي زكريا أن والي مصر قد أنكر عطية الخمر كما أنكرها أمير المؤمنين عبد العزيز بن مروان غير أنه ظلت تلك العادة لمدة طويلة، كما انفرد مايكل السوري بذكر أن النوبة يقدمون بعض القرود المدربة والزراف وسن الفيل إلي جانب الرقيق.
وهكذا نجد اختلاف في الروايات مع إتفاق في الجوهر.
ويرى الأب ج. فانتيني أن المقريزي قد نقل شرائط البغط من مصادر مختلفة في جملتها ربما يعود الإختلاف وشبه التناقض بين المصادر أما إلي تعديلات متعددة للبغط علي مدى الزمان وأما إلي اختلاف شرائط البغط النوبي بعهود أخرى تمت بين المسلمين وشعوب أخرى (1) تناول المؤرخون والباحثون اتفاقية البغط من زوايا ومنطلقات مختلفة، فعلي سبيل المثال:
1- يرى د. مصطفي مسعد " الواضح من نص العقد الذي عقده عبد الله بن سعد للنوبة أنه نص علي ما يدفعه النوبيون علي حين أنه لم يلزم المسلمين بدفع شئ لهم… أما ما جري عليه العرف من إرسال كمية من الحبوب والملابس إلي النوبيين فهي نتيجة إقناع عبد الله بن أبي سعد بحاجته إليها لفقر بلادهم، وصار هذا التقليد رسماً اتبعه كل من جاء بعده من ولاة المسلمين.
2- يرى الأب ج فانتيني أهم ما يمكننا أن نستنتج من شرائط العهد بين النوبة والمسلمين أنه لم يكن البغط عبارة عن ضريبة أو خراج مفروض من المسلمين علي النوبة وإنما هو عهد تجاري وسياسي متبادل وبمقتضى هذا العهد كان للطرفين أثر اشتباكاتهم الحربية الأولي يلتزمان بعدم التعدي علي أرض الآخر وبتزويد بعض السلع التي تنقص في بلاد الأخر.
كما يستنتج أن المسلمين لم يتمكنوا من فتح أرض النوبة وخلاف ما فعلوا بمصر بسبب المقاومة الشديدة التي لاقوها في بلاد أرض النوبة وقلة مواردها وبقي البغط ساري المفعول لمدة ستمائة سنة تقريباً حتى عصر الممالك، وذلك بالرغم من بعض الاشتباكات والغزوات المتفرقة التي تبادلها كل من النوبة والمسلمين من وقت لآخر واتفق ملوك النوبة والخلفاء العباسيين وغيرهم علي تعديل البغط...(1)
3- ويرى د. يوسف فضل أن البغط كانت هدنة بين العرب والنوبة لا غالب فيها ولا مغلوب وإن البغط كان تبادل رقيق مقابل مؤونة...(2)
4- ويرى د. منصور خالد حول البغط ( أن التبادل التجاري الذي يشمل الخمور ورعاية المسيحيين لمسجد لا يرتاده ذويهم تكشفان عن التسامح الذي ساد العلاقة بين النوبة والمسيحية وولي أمر المسلمين في أرض مصر والنوبة في عهد الجهاد بالسيف.(3)
5- وعن معاهدة البغط يقول د. علي عثمان محمد صالح.. " وكانت الدوافع الرئيسية للعلاقات السياسية بين المسلمين في مصر والمسيحيين في بلاد النوبة من وجهة نظر حكام مصر المحافظة علي تدفق البضائع النوبية الإفريقية المطلوبة في بلاطات الملوك والخلفاء في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية المختلفة وأهمها الرقيق والذهب، ثم تأمين حدود مصر الجنوبية بوجود حكومة صديقة أو علي أقل تقدير حكومة غير قادرة علي عداء مصر، ولتحقيق هذه الدوافع سارع المسلمون بعقد معاهدة صلح مع النوبيين تسمى في التاريخ معاهدة البغط..(1)
6- ويرى باحث آخر د. أحمد الياس " كلمة البغط قد تدل علي معني أعم فتصدق علي الاتفاق مع البجا أو ومع النوبة..(2)
7- ويقول بروفيسور محمد عمر بشير ونود أن نذكر أيضاً في هذا الصدد، أن بعض القبائل غير العربية مثل البجا والنوبيين اعتنقت الإسلام دون قهر، كما أن الإسلام انتشر في الشمال والجنوب لسماحته وحسن مبادئه وتعاليمه...(3)
8- في تقدير باحث آخر – حسب الله محمد أحمد أن البغط كان عبارة عن جزية سنوية. يقول الباحث " فاستسلم حاكم دنقلا وعقد صلحاً مع القائد العربي احترام المسلمين مارين بدياره أو مقيمين أو مؤيدين لشعائرهم الدينية والحفاظ علي مساجدهم علي أن يدفع مسيحيو دنقلا جزية سنوية لحاكم أسوان نيابة عن والي مصر ولكن سكان هذه المنطقة ( النوبة) لم ينقطعوا عن العصيان والتحرر من هذا الاتفاق فترات عديدة من ما قاده لإعادة للهجوم عليهم المرة بعد المرة...(4) وقبل مناقشة هذه الآراء نكمل الصورة بالآراء المختلفة التي أوردها المؤرخون والكتاب العرب حول البغط والتي ربما استندت إليها بعض الآراء السابقة.
أ/ يرى يزيد بن حبيب ( ت 128هـ/ 845) والليث بن سعد ( ت 166هـ/ 751م) وابن أبي لهيعة ( ت 174هـ/ 790م) ابن عبد الحكم (ت 254هـ/ 926م) والكندي (ت360هـ/ 971م) ونقلها أغلب المؤلفين فيما بعد إمثال ابن الأثير (ت 630هـ/ 1232م) والمقريزي (ت 854هـ/ 1442م) وقد أوردوا الآتي عن الصلح وشروطه:
- أنه هدنة وأمان.
- ركزت بنوده علي نقطتين: الأولي: إنهاء الحرب والثانية: تبادل الرقيق بالمؤن الغذائية.. وقد جاءت بنود النقطة الأولي عند ابن عبد الحكم كما يلي:
1/ " قال ابن أبي حبيب أن عبد الله صالحهم علي هدنة بينهم علي أن لا نقاتلهم ولا يقاتلنا".
وقد أورد المقريزي رواية أخرى لليث بن سعد جاء فيها " إنما صولحوا علي أن لا نغزوهم ولا نمنع منهم عدواً"
أما بنود النقطة الثانية: ذكرت كل المصادر أن المسلمين اتفقوا علي أن يقدموا للنوبة مؤن غذائية مقابل الرقيق لاختلافات في العدد بين 360 – 400 وأنفرد مايكل السوري بإضافة القرود والزراف وسن الفيل وجلود النمور إلي جابن الرقيق.
كما أورد الكتاب والمؤرخون العرب أسماء مختلفة للبغط يتسم بعضها بعدم الدقة مثال علي ذلك.
(أ) المسعودي يسمى البغط (جرية)(1)
(ب) إبن خلدون: ( العبر وديوان المبتدأ والخبر) المكتبة، ص 279.
(ت) أورد البلازري أن ما تم ( صلح علي غير جزية)(2)
من السرد السابق يمكننا أن نصل إلي الاستنتاجات التالية:
أولاً:
واضح أن مفهوم الجزية بمعناه الشرعي في الإسلام لا ينطبق علي البغط كما أن حالة الصلح بين النوبة والدولة الإسلامية تختلف عن الصلح الذي عقده عمرو بن العاص مع المقوقس عندما فتح مصر، ففي حالة مصر كان الصلح علي جزية بالمفهوم الإسلامي الشرعي، حسب ما أوردناه سابقاً في المعاهدتين التي عقدهما المسلمون مع المصريين، وبالتالي أصبح المصريون ذميين ولهم حقوق أهل الذمة في إطار الدولة الإسلامية التي أصبح واليها مسلماً في مصر.
أما في حالة مملكة النوبة المسيحية، فكان الوضع مختلفاً تماماً ومن خلال الحملتين التي قام بهما المسلمون علي مملكة دنقلا( أوالمغرة) لم يتمكنوا من تحقيق نصر عسكري حاسم، ولم يتم الصلح بعد الحملة الأولي وتم الصلح بعد الحملة الثانية، ولم يصبح النوبة ذميين بعد ذلك الصلح وإلا لماذا لم تفرض عليهم الجزية بدلاً من البغط؟ أعتقد أن ما أورده البلازري أن ما تم " صلح علي غير جزية" يعبر فعلاً عن الحالة التي نحن بصددها ، فما هي مكونات وعناصر هذا الصلح؟.
المكون الأول:-
أن الصلح هو عبارة عن هدنة وأمان بين دولتين مستقلتين ، وبعد حملتين لا غالب فيهما ولا مغلوب، والهدنة والأمان تعني آلا يغزو المسلمون بلاد النوبة وألا يغزو النوبة بلاد المسلمين ( مصر)، ولكن كل دولة غير مسؤولة عن الدفاع عن الآخر في حالة غزو أجنبي خارجي لهما، وبالتالي فإن الصلح لم يكن حلفا أو معاهدة دفاع مشترك فلا بلاد المسلمين ( مصر) أصبحت في حماية بلاد النوبة من الخطر الخارجي ولا مملكة دنقلا المسيحية أصبحت في حماية بلاد المسلمين فمن ناحية الهدنة والأمان كان هناك تكافؤ، أي كان لكل طرف مسئولية عدم غزو وكل منهما الآخر، وبالتالي فهي معاهدة أمان بين طرفين مستقلين.
المكون الثاني:
ذكرت كل المصادر أن المسلمين اتفقوا علي أن يقدموا للنوبة مؤن غذائية مقابل الرقيق، وهذا الاتفاق دخل في صلب المعاهدة والذي في حالة الإخلال به يتم نقض الصلح والهدنة والأمان، وبالتالي فإن البغط كان الزامياً رغم المحاولات المختلفة التي حاولها النوبة للتخلص منه ونجاحهم في تعديله من كل سنة إلي ثلاث سنوات كما هو الحال بعد مفاوضات جورج بن زكريا مع الخليفة العباسي المعتصم والتي تم فيها إلغاء بغط أربعة عشر عاماً مما يشير إلي أن النوبة لم يدفعوا بغط أربعة عشر عاماً، والتي تم فيها إلغاء بغط أربعة عشر عاماً، وبالمقابل رغم استنكار بعض الولاة المسلمين للخمر في المئون إلا أن الخمر استمرت في المئون.
ما يهمنا هنا أن نوضح أن الرقيق الذي كانت تقدمه مملكة دنقلا مقابل المؤن الغذائية لم يكن جزية بالمفهوم الإسلامي كما لم يكن خراجاً ولم يكن فيئاً أو وغنيمة أو خراج جزية أو خراج أجرة أو مكوس أو عشور بالمفاهيم الإسلامية الشرعية... أنه كان عبارة عن تبادل تجاري ولكن هذا التبادل كان إلزاميا بالنسبة للطرفين وهذا هو الفرق بينه وبين التبادل التجاري العادي.
لا أعتقد أن ما أورده د. مصطفي مسعد حول أن العهد الذي عقده عبد الله بن سعد مع النوبة أنه نص علي ما يدفعه النوبيون علي حين أنه لم يلزم المسلمين بدفع شئ، وأن المؤن مقابل البغط كانت نتيجة اقتناع عبد الله بن سعد بحاجتهم إليها لفقر بلادهم فصار هذا التقليد رسمياً اتبعه كل من جاء بعده من ولاة المسلمين.
لا أعتقد أن ما أورده د. مسعد صحيحاً فإذا كان العقد أو الصلح لم يلزم المسلمين بدفع شئ فكيف يكون صلحاً بين دولتين مستقلتين متكافئتين ، وما الفرق بينه وبين الأتاوة أو الضريبة أو الخراج؟ وفي هذه الحالة أليس صحيحاً أن نقول أن مملكة دنقلا أصبحت ولاية مستقلة في إطار الدولة الإسلامية مقابل دفع ضريبة أو أتاوة مقدارها أربعمائة رأس كل عام؟ لا أعتقد أن الوضع كان كذلك.
وإذا اتفقنا أن الصلح تم بين دولتين مستقلتين متكافئتين، لا غالب ولا مغلوب وأن الصلح الزم الطرفين بعدم الاعتداء كل منهما علي الآخر فإن النتيجة المنطقية التي تقترن بذلك التكافؤ، أن يدفع المسلمون مؤن غذائية مقابل الرقيق.. وإذا كان الأمر يتعلق باقتناع عبد الله بن سعد بحاجة النوبة إلى المؤن الغذائية فلماذا وردت الخمر المحرمة حسب الشريعة الإسلامية التعامل فيها والتي أنكرها والي مصر كما أنكرها أمير المؤمنين عبد العزيز بن مروان ورغم ذلك استمرت تلك العادة لمدة طويلة وربما كان طلب الخمر من قبل ملك النوبة وإصراره عليها وإلا لماذا استمرت رغم إستنكار بعض ولاة المسلمين لها؟
وربما كانت الاختلافات التي وردت في قيمة البغط والتبادل من الطرفين، فمثلاً: المقريزي أورد في المؤن الغذائية غير الخمر والحبوب والثياب فرسين من نتاج خيل الإمارة وأربعة أثواب من القباطي(1) للملك، وهي ثباب نادرة من إنتاج الأقباط المصريين.
كما أورد مايكل السوري أن النوبة كانوا يرسلون إضافة للرقيق بعض القرود المدربة والزراف وسن الفيل وجلود النمور. وربما تشير تلك التعديلات إلي إنها كانت نتيجة مفاوضات تمت بين ملك النوبة وأمير المؤمنين وإذا صح ذلك يكون ما يدفعه المسلمون مقابل الرقيق كان ملزماً وبالتالي كان البغط أشبه بالتبادل التجاري لا أعتقد أن تعبير ابن خلدون الذي أطلقه علي البغط " جزية " دقيقاً كما أن تعبير المسعودي (سبي) أيضاً ليس دقيقاً، فالسب سواء كان نتاج حروب النوبة مع الممالك والقبائل المجاورة أو نتاج لغزو المسلمين لبلاد النوبة لا يتحدد بمعاهدة أو صلح فهو نتاج الغزوات والحروب التي يتحول فيها الأسرى إلي رقيق بدون تعويض أو مقابل أما في حالة الرقيق الذي كان يقدم من بلاد النوبة للدولة الإسلامية كان مقابل المؤن الغذائية.
أما تعبير اتاوة ( أو ضريبة أو خراج ) فإنه لا ينطبق عي حالة الرقيق الذي ورد في معاهدة البغط كما أورد بعض المؤرخين المستشرقين.. وإنما أورده البلازي كان مطابقاً تماماً لواقع الحال وهو أن ما تم صلح علي غير جزية وفي هذا الإطار أصبحت اتفاقية البغط إطاراً سياسياً بين مملكة المغرة المسيحية والدولة الإسلامية لتنظيم العلاقة بين البلدين وفي إطار هذه الاتفاقية استطاع التجار المسلمون الدخول إلي بلاد النوبة لممارسة التجارة وأهمها الذهب والرقيق حسب ما أورده د. صالح، مقابل السلع التي تحتاجها بلاد النوبة والبلاد الإفريقية الأخرى، أي أنه كان من الدوافع الأساسية لاتفاقية البغط كانت حماية النشاط التجاري الذي كان يمارسه المسلمون ( ومن قبلهم الرومان)(1) منع بلاد النوبة والبلاد الإفريقية الأخرى ، وحماية التجار المسلمين من الاعتداءات إضافة إلي حماية الطرق التجارية في مملكة المغرة.
كما مهدت اتفاقية البغط أيضاً لانتشار الإسلام بطرق سلمية في بلاد النوبة سواء كان ذلك عن طريق التجار المسلمين في بلاد النوبة أو وعن طريق أبناء النوبة الذين كانوا يهاجرون إلي مصر للعمل بها ثم يعودون بعد أن يكونوا قد حملوا الأموال اللازمة لزواجهم أو ولأسرهم.
أما ما أورده د. منصور خالد حول البغط أن التبادل التجاري الذي يشمل الخمور وبرعاية المسيحيين لمسجد لا يرتاده ذويهم تكشفان عن التسامح الذي ساد العلاقة بين النوبة والمسيحية وولي أمر المسلمين في أرض مصر والنوبة في عهد الجهاد بالسيف لا شك أن جانب التسامح أو المساومة أو التنازل من قبل الطرفين، إعطاء المسلمين الخمر للنوبة ورعاية المسيحيين لمسجد ولي الأمر كان جانباً صحيحاً في معاهدة البغط. ولكن أضيف أن التسامح الديني في بلاد النوبة كان موجوداً قبل اتفاقية البغط، فبلاد النوبة لم تشهد تعصباً دينياً، وكان ملوك النوبة لا يرغمون رعاياهم المخالفين لهم دينياً في تغيير معتقداتهم ( مثال تعايش المذهب اليعقوبي والمذهب الرومي) ولم ترد في تاريخ النوبة حالات اضطهاد ديني في بلادهم ( سوف نشير إلي ذلك بالتفصيل لاحقاً) وإذا كانت هناك حالات اضطهاد ديني في بلاد النوبة فكيف سمحوا للمسلمين ببناء مسجد في قلب عاصمة المغرة ( دنقلا) والذي قننت اتفاقية البغط حمايته ورعايته ( المرجع وكما أورد د. عبد الله الطيب) أن المسلمين دخلوا بلاد النوبة مع فجر الإسلام هرباً من الاضطهاد وحملات التنكيل والتعذيب وربما يكون بعضهم دخل بلاد النوبة من الحبشة أو ربما تكون بلاد النوبة تدخل في تسمية الحبشة ( أو أثيوبيا) حسب ما كان يرد في تسميات التاريخ القديم – واستفزوا في دنقلا وبني المسجد أو ربما كان بعض التجار المسلمين اللذين أسلموا مع فجر الدعوة الإسلامية هم الذين بنوا المسجد، المهم أن المسجد كان قائماً، ولم يتم التعرض له، وربما كان ملوك النوبة هم الذين حموا وأووا المسيحيين الأوائل في فجر الدعوة المسيحية الذين هربوا إلي الأديرة في بلاد النوبة واتصلوا بهم، ودخل بعضهم المسيحية كما أن انتشار المسيحية في بلاد النوبة تم بشكل سلمي وعلي حسب المذهبين اليعقوبي والملكاني يشير إلي أن ملوك النوبة وأهل النوبة عموماً لم يكونوا متعصبين دينياً، أي كانوا متسامحين دينياً.
أما بخصوص دفاع النوبة ضد حملات المسلمين فكان دفاعاً عن الوطنية والذي ارتبط دائماً ومنذ عهود سابقة لممالك النوبة بالدفاع عن العيدة الدينية، وكان دفاعاً عن استقلالهم الوطني وضد فرض الإسلام عليهم أو احتلال بلادهم بالسيف والقوة.
واضح من أن دفع الـ 400 رأس من الرقيق سنوياً للمسلمين في مصر كان عبئاً ثقيلاً علي مملكة المغرة المسيحية لأنه استنزاف سنوي لأيديهم العاملة إضافة لتجارة الرقيق. ومن الزاوية الاقتصادية أن الرقيق الذي كان يقدم في البغط إضافة لتجارة الرقيق كان من القوة المنتجة الحقيقية وحسب المقريزي كان الرقيق المقدم في البغط من أواسط رقيق البلاد، غير المعيب يكون فيه ذكران وإناث ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم وبالتالي فإن هؤلاء كانوا يمثلون القوة البشرية الحية والمنتجة في البلاد وأن تدفق هذه الكميات سنوياً إلي الدولة الإسلامية كان استنزافاً للقوة العاملة الحية التي كانت تعمل في الزراعة والرعي والصناعة الحرفية من أبناء النوبة أو نتيجة للحروب الخارجية وما يترتب عليها من خسائر في أرواح جيوش النوبة وعتادهم.. وكان لذلك أثره السلبي علي التطور والازدهار الاقتصادي لمملكة دنقلا ( المغرة) والتي كانت أصلاً فقيرة في مواردها الاقتصادية والطبيعية، عكس مملكة علوة التي كانت غنية ولذلك لم يكن غريباً أن يتمرد النوبة ويضيقون ذرعاً بهذا العبء ولذلك كانوا أحياناً يمتنعون عن دفع البغط كما حدث في مفاوضة جورج بن زكريا للخليفة المعتصم العباسي والتي تلخصت المفاوضات حول الآتي:-
1- البغط.
2- إطلاق سراح سجناء النوبة.
3- إزالة الحماية العسكرية التي أقامها المسلمون بمدينة القصر.
وكانت نتيجة المفاوضات موافقة الخليفة علي إعفاء بغط أربعة عشر عاماً وتعديل البغط ليكون كل ثلاث سنوات بدلاً من كل سنة وأصدر الخليفة أوامره بالإفراج عن سجناء النوبة نتيجة لطلب جورج غير أنه لم يجبه علي طلب إزالة الحماية العسكرية التي أقامها المسلمون في بلاد القصر.(1)
علاقة المسلمين مع البجة:(2)
رغم أن هذا خارج عن علاقة ا لمسلمين بالنوبة، ولكن نود أن نكمل الصورة بعلاقة المسلمين ببلاد النوبة والبجة والتي كانت تشكل السودان الشرقي في العصور الوسطي وفي إطار بحث التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية.
أشارت المصادر العربية إلي أن المسلمين كانوا متواجدين في بلاد البجة بحثاً عن الذهب والتبر والزمرد، كما أوردت المصادر خبراً عن غارة قام بها البجة علي المسلمين وأن المسلمين ردوا هذا الهجوم وصالحهم ابن الحبحاب يعهد بدفع البجة بموجب ثلاثمائة من الإبل الصغيرة وأن يجتازوا الريف غير مقيمين وأن لا يقتلوا مسلماً وهذا العهد ضمن للمسلمين تأمين حدودهم علي الصحراء وفي الوقت نفسه ترك العلاقات التجارية حرة كما كانت من قبل.
وتشير المصادر العربية أنه بعد أن جدد البجة غاراتهم علي أسوان في عهد المـأمون العباس الذي بعد سماعه الخبر أرسل حملة إليهم بقيادة عبد الله بن الجهم سنة 841م ونتيجة لذلك أملي عليهم عهداً جديداً حوّل بموجبه بلاد البجة من حد أسوان إلي ما بين دهلك ( مصوع ) وباضع (جزيرة الريح) ملكاً للخليفة وأن يكون كنون بن عبد العزيز رئيسهم هو وأهل بلده عبيداً لأمير المؤمنين، وعلي ملك البجة أن يؤدي خراجاً سنوياً مقداره مائة من الإبل أو ثلاثمائة دينار وأن يحترم البجة الإسلام ولا يعينوا أحداً علي المسلمين وألا يقتلوا مسلماً أو ذمياً حراً أو عبداً في أرض البجة أو في مصر أو النوبة وعليهم تأمين حياة المسلمين المجتازين لبلادهم للتجارة أو الإقامة… وإذا ما دخل البجة صعيد مصر مجتازين، أو تجاراً لا يظهرون سلاحاً ولا يدخلون المدائن والقري ولا يهدموا المساجد التي ابتناها المسلمون بصحبة وهجر وعلي كنون ملكهم أن يدخل عمال أمير المؤمنين بلاد البجة لقبض صدقات من أسلم من البجة..(1)
واضح من العهد بين المسلمين والبجة أن البجة كانوا يدفعون خراجاً سنوياً معلوماً ويختلف هذا العهد عن اتفاقية البغط بين النوبة والمسلمين فاتفاق المسلمين مع البجة جاء نتيجة هزيمة عسكرية بعكس اتفاق النوبة مع المسلمين، وكما هو الحال في بلاد النوبة يتضح من عهد المسلمين مع البجة أن الإسلام دخل بلاد البجة قبل هذا العهد ويدل علي ذلك انتشار المسلمين سواء كانوا من العرب الذين أقاموا هناك أو من البجة الذين اعتنقوا الدين الإسلامي.. هذا فضلاً عن الوجود الإسلامي الكثيف الذي كان في ميناء عيذاب التي كانت لها إدارة إسلامية ومذهب المسلمين كان المذهب الشافعي وبها مساجد كثيرة.
ومما ورد في المصادر العربية أيضاً نعلم عن دخول جماعات من قبائل بلي وجهينة لغرض التجارة أو جذبتهم معادن الذهب أو الزمرّد أو المراعي عقب الفتح الإسلامي وبديهي أن يدخل بعض البجا دين الإسلام نتيجة اختلاطهم بهم.
تمرد البجة علي شروط المأمون العباسي القاسية وأغاروا علي مناجم الذهب بالعلاقي فندب المتوكل لحربهم محمد عبد الله القمي سنة 854م الذي قاد جيشاً بلغ تعداده عشرين ألفاً من نظامي ومتطوعين .. وانتهت المعركة بصلح علي بابا مع المسلمين علي أن يدفع الخراج ولا يمنع المسلمين من العمل في المعدن وبعد ذلك ازداد انتشار الإسلام في بلاد البجة علي النحو المعروف ونتيجة أيضاً لسياسة العباسيين المعادية للعرب، وتجنيد الأتراك في جيوشهم بدلاً عنهم مما أدى إلي هجرة أعداد كبيرة منهم إلي بلاد البجة وبلاد النوبة.
الغزو والنهب:
رغم اتفاقية البغط إلا أن العلاقة بين النوبة والدولة الإسلامية في مصر لم تسر دائماً في خط مستقيم أو في سلام دائم فعلي سبيل المثال في عهد الدولة الأيوبية بمصر غزا توران شاه النوبة عام 1173م بسبب محاولة النوبة لإعادة الدولة الفاطمية التي قضي عليها الأيوبيون وأنهزم النوبة أمام الجيش الكردي وأشار ابن الأثير إلي سبب انهزام النوبة أمام الجيش الكردي قائلاً: فلم يكن النوبة بقتال العسكر الإسلامي قوة لأنهم ليس لهم جنة ( أي مجن) التي تقيهم السهام وغيرها من آلة الحرب ويبدو من هذا أن جهاز النوبة الحربي لم يستطع أن يقاوم الجيوش التركية – أي الأكراد والمماليك وعجزت عدتهم الحربية عن مقاومة عتاد الجندي الكردي.. أما النوبة فلم يتطور جهازهم الحربي منذ أيام اشتباكاتهم الأولي مع العرب حيث كان عتادهم مكوناً في الغالب من الأقواس والسكان.(1)
وذكر المؤرخ أبو صالح الأرمني في هذا الصدد أن شمس الدين (دمر أبريم) وأسر جميع سكانها من بينهم الأسقف وعذبه تعذيباً شديداً ليدله علي مكان الكنوز المخبأة وقد أمر المؤذن بأن يؤذن لصلاة الظهر من سقف كنيسة أبريم، وقد قتل جميع الخنازير الموجودة في المدينة وعددها يزيد عن سبعمائة كما قبض علي كميات كبيرة من القطن ونقله إلي فرص حيث بيع بثمن عال…(2)
من أعلاه يمكن استنتاج أن هذه الحملة كان نتاجها أسر جميع سكان إبريم بما فيهم الأسقف وتعذيب الأسقف وانتهاك الحريات الدينية للمسيحيين (الآذان من سقف كنيسة إبريم) وقتل الخنازير والاستيلاء علي كميات كبيرة من القطن التي بيعت بثمن عال..
وهذا مستوى آخر للعلاقة بين النوبة والدولة الإسلامية وهو مستوى الغزو الذي نتج عنه نهب وسلب وغنائم وانتهاك التسامح الديني وهذا المثال يشير إلي أن البغط لم تكن العلاقة الوحيدة بين النوبة والدولة الإسلامية بل كان هناك مستوى آخر لعلاقة قامت علي النهب والغزو ليس من جانب الدولة الإسلامية فقط علي بلاد النوبة بل من بلاد النوبة علي الدولة الإسلامية.
الجزية:
في عهد المماليك مرت علي مملكة المغرة فترة مظلمة نتيجة لهزيمة المماليك الملك داؤد الثاني بمعاونة الأمير شكندة ( ابن أخت الملك داؤد الأول). وكان ذلك بسبب تعاون داؤد الثاني مع الصليبيين أثر مهاجمة ميناء عيذاب وسواكن في إطار حملة الخطة الصليبية وبسبب إغلاق الدولة الإسلامية في مصر منفذ النوبة ( عيذاب) أمام النوبة.
تمت الهزيمة في المعركة التي جرت في عام 2176م وكان الممالك متفوقين علي النوبة في آلة الحرب وكان درق وبيض وغيرها من أجهزة الدفاع والمعدات الحربية. ذكر النويري منها الزرافين والرماة ورجال الحواريق وجهاز الرزدخاناة وهذه عبارة عن أجهزة تركية تلقي النفط الملتهب وما كان للنوبة سبيل للدفاع عن أنفسهم منها..(1) هزم الممالك الملك داؤد الذي هرب وأسر أخوه شنكو وقبضوا علي أم الملك داؤد وأخته وتم تنصيب شكندة الذي كان في صحبة عسكر المماليك وتقرر عليه قطيعة في كل سنة فيلة ثلاثة وزرافات ثلاث وفهود إناث خمس وصهب جياد مئه وأبقار جياد منتخبة أربعمائة، وقرر أن تكون البلاد مشاطرة النصف للسلطان والنصف الآخر لعمارة البلاد وحفظها ولإحتمال أن يطرقها عدو وأن تكون البلاد العلي والجبل للسلطان وهي قدر بلاد النوبة لقربها من أسوان وحمل ما يكون بها من أقطان والتمر مع الحقوق الجاري بها العادة من زمن الملوك المتقدمة، يواصل النويري قوله: " ثم عرض عليهم الإسلام أو القتل أو الجزية واختاروا القيام بالجزية وأن يقوم كل واحد بدينار عيناً في السنة وعملت نسخة بهذه الشروط فحلف عليها الملك شكندة وكبار المملكة كما أنه عملت نسخة أخرى حلف عليها الرعية ملتزمين بطاعتهم لملكهم ( شكندة) ما دام هو مطيعاً للسلطان وهذه نسخة اليمين التي حلف بها شكندة.
" والله، والله ، والله ، وحقاً الثالوث المقدس والإنجيل الطاهر والسيدة الطاهرة العذراء أم النور والمعمودية والأنبياء والمرسلين والملائكة والحواريين والقديسين والشهداء الأبرار، وألا أجحد المسيح كما جحده يوادس أقول ما فيه ما يقول اليهود وأعتقد ما يعتقدونه وإلا أكون يوادس الذي طعن المسيح بالحربة، أنني أخلصت نيتي وطويتي من وقتي هذا وساعتي هذه لسلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس وأنني أبذل جهدي وطاعتي في تحصيل مرضاته، وأنني ما دمت نائبه لا أقطع ما قرر علي كل سنة تمضي وهو ما تفضل من مشاطرة للبلاد علي ما كان يحصل لمن تقدم من ملوك النوبة وأن يكون النصف من المتحصل للسلطان مخلصاً من حقي، والنصف الآخر يرصده لعمارة البلاد وحفظها من عدو يطرفها ، وأن يكون في كل سنة من الأفيلة ثلاثة ومن الزرافات ثلاث ومن إناث الفهود خمس من الصهب الجياد مائة ومن الأبقار الجياد المنتخبة أربعمائة.
"وأنني لا أترك أحداً من العربان في بلاد النوبة وما وجدته منهم أرسلته إلي الباب السلطاني.
ومهما سمعت من الأخبار الضارة والنافعة طالعت به السلطان في وقته وساعته ولا أنفرد بشئ من الأشياء إذ لم تكن مصلحته، وأنني ولي متوالي السلطان وعدو من عاداه والله علي ما نقول وكيل".
وفي ما يلي صورة الحلف التي حلف بها الرعايا بدنقلا.
"(أني أطيع ) نائب السلطان وهو الملك شكندة المقيم بدنقلا، وكل نائب مطيع للسلطان أنا مطيع له ولا أري عليه بردئ ولا أخبئ عنه مصلحة وكلما أسمعه من الأخبار الجيدة والرديئة أطالع نابيه به ومتي علمت علي نائبه الملك شكندة أمراً يخالف المصلحة لا أطيعه وأطلع السلطان به في الوقت والساعة وأنني لا أدخل في حكم داؤد ولا أكون معه ولا أطالعه بخبر من الأخبار ولا أرتضي به ملكاً، ورضيت بأن أقوم بدينار عيناً في كل سنة حالية عليّ.(1)
وكما يري الأب ج. فانتيني إن أهم أغراض السلطان من محتويات القسيم كان أمن الحدود الجنوبية لمصر ولذلك ألزم ملك النوبة بأن يكون خاضعاً له في كل شئ وأن يخبره بأي خبر يتصل بالأمن العام لمصر، ثم تمسك بالحصون المنيعة والممرات الضيقة المسيطرة علي الملاحة النهرية في النيل.
وأخيراً جعل شرطاً واضحاً وهو ألا يسمح الملك النوبي بدخول العربان أرض النوبة ومن المعلوم أن العربان آنذاك كانوا رحالة في صعيد مصر وأن ولاءهم غير مضمون للسلطان المملوكي، ولذلك كان لا يريد أن يبتعدوا عن يد السلطان خشية أن يتحالفوا مع النوبة ويصبحوا خطراً علي حدود مصر.
وهكذا انتهت الحملة المملوكية التي كتب عنها ابن دقماق ان من قتل من النوبة خلق كثير وأسر أكثر مما قتل حتى بيع كل رأس رقيق بثلاث دراهم والذي بقي من القتل والبيع جاء عددهم عشر آلاف نفر وأقام الجيش المملوكي بدنقلا سبعة عشر يوماً حتى مهدوا البلاد ورسم السلطان العساكر المنصورة بالعودة إلي القاهرة واجتمع الأمير شمس الدين والأمير عز الدين بالسلطان في الخامس من شهر ذي الحجة من تلك السنة الموافق 12 مايو 1276م ومعهما أخو الملك داؤد أسيراً وروى المؤرخ النويري عن هذه الحملة فقال وعاد العساكر وأحضر من النوبة ما نذكر وهو ما وجده في كنيسة أبسوس من الصلبان والذهب وغيرها أ ربعة آلاف وستمائة وأربعين ديناراً ونصفه والتي فضيات ثمانية آلاف وستمائة وستين دينارً والذي حضر من الرقيق سبعمائة رأس.
ورسم السلطان الملك الظاهر بهاء بن حنا وزيره باستخدام عمال علي ما يستخرج من الخراج والجزية من دنقلا وأعمالها"
صحيح أنه بعد ذلك تغير شكندة بتدخل المماليك وجاء بعده الملك برك وبعد برك شمامون وحدثت معارك وحملات في عهد الملك شمامون (1278 – 1295م.) وبعدها تخلي المماليك عن النوبة بسبب انشغالهم بالصليبيين في الجبهة الشمالية بفلسطين.
ولكن ما يهمنا هنا أنه لأول مرة بعد انهزام الملك داؤد واستبداله بملك آخر من الخارج والشروط التي فرضها المماليك علي النوبة وفرض الجزية فضلاً عن النهب والقتل، كل ذلك أدى إلي فقدان مملكة المغرة لاستقلالها الوطني ولإضعافها مما تسبب في انهيارها فيما بعد.
وهذا المستوى، مستوى الهزيمة العسكرية وفرض الجزية (إضافة البغط) كانت تعبر عن علاقة غالب بمغلوب.
وابتداء من هذا التاريخ بدأ عدد كبير من النوبيين يعتنقون الإسلام ليتخلصوا من الجزية كما أن ملك دنقلا التزم بأن يكون نائباً للسلطان مطيعا له في كل شئ وهكذا إنفتح المجال كي يتدخل سلاطين المماليك في شئون المملكة النوبة وهذه الحملة تعكس وجهاً آخر لانتشار الإسلام بالعنف (اعتنق عدد كبير من النوبيين الإسلام ليتخلصوا من الجزية) وهذا يشير إلي أن المقولة التي ترى أن الإسلام انتشر سلمياً في بلاد النوبة ليست صحيحة بشكل مطلق وبها وجه من الحقيقة ( المصاهرة، العلاقات التجارية والاقتصادية ، دور شيوخ الطرق الصوفية) ولكن هناك وجه آخر لانتشار الإسلام بالعنف كالذي ذكرناه سلفاً، كما نشير إلي عامل آخر من عوامل انتشار الإسلام وهو رغبة الكثير من أبناء النوبة في التخلص من عبودية ملوك النوبة الذين كانوا يملكون الأرض ويعتبرون الفلاحين عبيداً لهم.
اتفاقية البقط كانت نتاجاً لتوازن قوي ومصالحة وهدنة لا غالب فيها ولا مغلوب، وكانت عبارة عن اتفاق تجاري سياسي رغم أنه كان إلزامياً.
أما الجزية التي فرضت بعد هزيمة الملك داؤد فكانت تعبر عن علاقة الغالب بالمغلوب، وهذه الحملة نتج عنها تدمير لقدرات مملكة المغرة الاقتصادية والمالية والبشرية نتيجة للجزية ( إضافة للبقط)، إضافة للنهب الذي وصفه النويري من كنيسة أبسوس من الصلبان والذهب وأربعة آلاف وستمائة وأربعين ديناراً ونصفه والتي فضيات ثمانية آلاف وستمائة وستين ديناراً والذي حضر من الرقيق سبعمائة رأس.
وهذا يوضح جانباً من ثروات النوبة التي استنزفت بعد تلك المعارك بخلاف الأسرى والقتلي.
ومنذ تلك اللحظة بدأت مملكة المقرة في التفكك والحلل حتى إنهارت فيما بعد.
غزو الدمادم لبلاد النوبة:
بعد غزو النوبة من توران شاه الأيوبي لم يدون المؤرخون العرب شيئاً كثيراً من أخبار النوبة في عهد الدولة الأيوبية وقد قالوا أنه ظهرت أمة يسمونها الدمادم ( ربما يكون المقصود النمانم)، وإحتلت أراضي النوبة في سنة 2220م وكانت هجومهم علي حاضرة النوبة مثل غزو الأراضي الإسلامية من التتر.(1) ولا شك أن هؤلاء الدمادم وبلادهم علي النيل فوق بلاد الزنج والدمادم تتر السودان، فإنهم هجموا عليهم وقتلوا منهم كما جرى من التتر المسلمين وهم مهملون في أديانهم ولهم أوثان وأوضاع مختلفة وفي بلادهم الزراف، وفي أرض الدمادم يقترف ( ربما المقصود يقترن) النيل إلي جهة مصر.
ويبدو من هذا القول – كما لاحظ الأب . ج. فانتيني - أن الدمادم قبيلة من الأراضي الواقعة جنوب أراضي النوبة، أي جنوب السودان اليوم كما ذكر المسعودي أن الدمادم قوم يسكنون بجوار الزغاوة وحسب المقريزي الذي نقل من أصحاب النسب أن الدمادم قوم من الواحات الغربية المتصلة بالزغاوة وإليك ما ورد في كتابه عن نسبتهم.
إن " الواحات" " أخو شنقا بن كوش أبو الزغاوة وأخو شنقا بن كوش أبو الدمادم" ويستنتج الأب. ج. فانتيني من هذا أن الدمادم غزو النوبة قادمين من جهة الصحاري الغربية أي دارفور اليوم. أما الدوافع لهذه الغزوة فلا نعلم شيئاً عنها ولكن الإدريسي ذكر في كتابه " أن أحد أمراء النوبة قاد حملة حربية علي الزغاوة وضرب مدنهم وكان ذلك قبل سنة 1200 وربما كان الدمادم قد خرجوا من أرض الزغاوة وغزو النوبة في وادي النيل عقاباً وردا علي ما صنع النوبة.
ومهما يكن من أمر سواء كانوا من جنوب السودان أو من دارفور لا شك أن غزوهم لبلاد النوبة الحق بها من الدمار وتسبب في ضياع جزء كبير من معالمها الحضارية والثقافية المتطورة.
الخلاصة:-
1- وفي خلاصة هذا الفصل يمكن أن نلخص استنتاجنا علي النحو التالي:
بعد أن فتح العرب المسلمون مصر سنة 638 بقيادة عمر بن العاص عرف النوبة ( مملكة دنقلا أو المغرة) ثلاثة مستويات من العلاقة مع الدول الإسلامية في مصر.
الأول: اتفاقية البغط:
التي كانت نتيجة الهدنة والمصالحة التي تمت بين العرب والنوبة وهي عبارة عن اتفاق تجاري سياسي.
ورغم أن البغط تعرض لاهتزازات وفترات انقطاع وتعديلات إلا أن الاتفاقية ظلت سارية المفعول لمدة ستمائة سنة تقريباً حتى عهد المماليك ورغم أن الاتفاقية كانت عبارة عن اتفاق تجاري سياسي وتختلف عن الجزية أو الضريبة أو الخراج… إلخ.. إلا أنها كانت نتاج ظرف محدد نتج من المصالحة والهدنة بعد حروب العرب الأولي مع النوبة ولم تكن اختيارية بالنسبة لملوك النوبة الذين كانوا يتبرمون منها أحياناً، ويتضح ذلك من المفاوضات التي كانت تتم بين الخلفاء الإسلاميين وملوك النوبة حول البغط كما حدث في مفاوضات جورج بن زكريا مع الخليفة المعتصم ( العباسي) حول إلغاء البغط أربعة عشر عاماً، وتم تعديل الاتفاقية بحيث تتم كل ثلاث سنوات بدلاً عن كل سنة، إضافة إلي أن اتفاقية البغط كان كانت تستنزف القوى المنتجة لبلاد النوبة (من خلال استنزاف عنصرها البشري الأساسي) والتي بموجبها كانوا يدفعون أربعمائة رأس من الرقيق غير المعيب يكون فيها ذكران وإناث ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم كما أورد المقريزي، هذا فضلاً عن استنزاف تجارة الرقيق للعنصر البشري.
وهذا هي القوى الحية التي كانت تشكل الجانب البشري في القوى المنتجة الأساسية في بلاد النوبة، إضافة لقواها العسكرية والحربية.
وهذا كان أحد عوامل الاستنزاف الاقتصادي، هذا إضافة إلي الجهود التي كان يبذلها ملوك النوبة لتوفيرها من غزو الأقطار المجاورة وما ينتج عن ذلك من خسائر وفي حالة الفشل في توفيرها من القبائل المجاورة يتم دفعها من أبناء مملكة المغرة.
الثاني: الغزو والنهب:
في عهد الدولة الأيوبية (1169 – 1250م) في مصر غزا توران شاة النوبة عام 1173 وإنهزم النوبة أمام الجيش الكردي، وكان من نتائج هذه الهزيمة تدمير مدينة أبريم وأسر جميع سكانها بينهم الأسقف وقتل جميع الخنازير الموجودة في المدينة وعددها لا يزيد عن سبعمائة كما تم الاستيلاء علي القطن وبيعه بثمن عال.
وبعد ذلك تم صلح ولم تهتم الأسرة الأيوبية بغزو بلاد النوبة.
وهذا يوضح مستوى من الغزو والنهب لبلاد النوبة.
الثالث: الجزية:-
في عهد المماليك هزم النوبة في دنقلا التي كانت بقيادة الملك داؤد وتم تنصيب شكندة ملكاً بواسطة المماليك، وتم عرض الإسلام أو القتل أو الجزية واختاروا القيام بالجزية إضافة لقطيعة معلومة، هذا فضلاً عن النهب الذي تعرضت له مملكة دنقلا من جراء الهزيمة كما أوضحنا سابقاً.
وابتداءً من هذا التاريخ بدأ النوبة يدخلون الإسلام حتى يتخلصوا من الجزية مما يشير هنا إلي جانب من جوانب انتشار الإسلام بالعنف، وليس صحيحاً بشكل مطلق أن الإسلام انتشر سلمياً في السودان، قد يكون هذا صحيحاً علي مستوى جزئي مثل المصاهرة، الطرق الصوفية، العلاقات التجارية والاقتصادية… إلخ. وهذا يوضح جانباً من الاستنزاف الذي تعرضت له البنية الاقتصادية الاجتماعية لمملكة دنقلا، مما أدى لتفككها وضعفها ، وفقدانها لاستقلالها الوطني، مما مهد لانهيارها فيما بعد.
2- فيما يختص بعلاقة المسلمين مع البجة واضح أن العهد بين المسلمين والبجة، أن البجة كانوا يدفعون خراجاً سنوياً معلوماً، ويختلف هذا العهد عن اتفاقية البغط بين النوبة والمسلمين ، فاتفاق المسلمين مع البجة جاء نتيجة هزيمة عسكرية وربما كان الخراج علي البجة أنهم لم يكونوا أهل كتاب وإلا كانت فرضت عليهم الجزية، كما فرضت الجزية علي النوبة بعد هزيمة المماليك لأنهم أنل كتاب.
كما هو الحال في بلاد النوبة يتضح من عهد المسلمين مع البجة أن الإسلام دخل بلاد البجة قبل هذا العهد، ويدل علي ذلك انتشار البجة الذي اعتنقوا الدين الإسلامي نتيجة اختلاطهم بالعرب، هذا إضافة للانتشار السريع للإسلام بعد هذا العهد نتيجة لازدياد وتوسع الاختلاط بين البجة والمسلمين.
3- من العوامل أيضاً التي أدت إلي تدمير البنية الاقتصادية والاجتماعية لبلاد النوبة، هي غزو الدمادم الذي دمروا وعرقلوا تطور وازدهار حضارة النوبة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والتفافية، والحقوا بها خراب يعادل الخراب الذي ألحقه التتر ببلاد المسلمين كما أشارت المصادر العربية.
4- تخلف التقنية العسكرية لبلاد النوبة:
نلاحظ تخلف التقنية العسكرية النوبية في العصور الوسطى، فمن خلال المعارك التي خاضها العرب في غزوهم الأول لبلاد النوبة لم يكن النوبة علي معرفة بالمنجنيق، كما أورد المؤرخون العرب: أن المنجنيق من الآلات الحربية التي لم يعرفها النوبة… ففي معركة النوبة ضد توران شاه في عهد الدولة الأيوبية التي هزم فيها النوبة في قلعة أبريم واجهوا أسلحة متطورة كانت السبب الأساسي في هزيمتهم فلم يكن للنوبة جنة ( أي مجن) هجوم الجيوش التركية – أي الأكراد والمماليك وعجزت عدتهم الحربية أمام النوبة فلم يتطور جهازهم الحربي منذ أيام اشتباكاتهم الأولي مع العرب حيث كان عتادهم مكوناً في الغالب من الأقواس والسكان.
وفي حربهم مع المماليك في عام 1276م واجه النوبة آلة حرب متطورة كان يملكها المماليك الذي كان لهم درق وبيض وغيرها من أجهزة الدفاع والمعدات الحربية ذكر النويري منها الزراقين والرماة ورجال الحرائق وجهاز الزردخاناة.
وهذه عبارة عن أجهزة تركية تلقي النفط الملتهب وما كان للنوبة سبيل للدفاع عن أنفسهم منها… أي أن تخلف التقنية العسكرية كان من أسباب هزائم النوبة في تلك المعارك.
ويبدو أن عزلة النوبة عن التطور التقني في العالم في العصور الوسطى كان من أسباب تخلفهم التقني في الجانب العسكري.
الباب الثاني
البنية الثفافية – الفكرية
الفصل الرابع: المسيحية السودانية.
الفصل الخامس: الثقافة النوبية.
أولاً: الفن النوبي: اللغة النوبية.
ثانياً: الفلسفة والحكمة والعلوم.
ثالثاً: البنية الفوقية لمجتمع الساقية.
وتحولات في البنية الثقافية – الفكرية بعد انتشار الإسلام.
الفصل الرابع
المسيحية السودانية
المقصود بالمسيحية السودانية هو نتاج تفاعل تعاليم المسيحية كما وفدت من الخارج مع الأديان والأعراف والتقاليد النوبية السابقة لها، ذلك أن المسيحية.. كما دخلت السودان في العصور الوسطى كان لها استقلالها وخصوصيتها ومميزاتها والتي سنحاول أن نبرزها في هذا الفصل.. ومعلوم أنه قبل دخول المسيحية عرف النوبيون في العصر المروي ديانات وثنية متعددة، وآلهة اعتقدوا أنها تستطيع أن تصنع للناس الخير والشر مثل ايزيس في النوبة السفلى التي كان لها القدرة علي إخصاب الإناث وكانت لهم مراكز للعبادة والحج مثل معابد جزيرة فيلة ومن الآلهة أيضاً عند أهالي النوبة السلفي.. الإله مندولس وهو عبارة عن الشمس وقد بني له البطالسة معبداً ضخماً في كلابشة..
كذلك الإله ( أبيد ماك) الذي كان إلهاً محلياً في النوبة العليا وكان تكريمه في المصورات الصفراء ورمزه جسم إنسان يعلوه رأس أسد، وله معابد أخرى في النقعة ومروي/ كبوشية. ومن الآلهة أيضاً في النوبة هورس إله الشلال الأول وصورته جسم إنسان عليه رأس نسر وهذا الطير مكرس له، ومن آلهة النوبة (أرنستوفس ) الذي يعبده أهل البجة والنوبة ويشيرون إليه بصورة صياد يمسك غزالة بيده وباقة من الزهور في اليد والأخرى وفي المصورات الصفراء كان الفيل يتمتع بعبادة خصوصية نسبة لأحد الآلهة المحلية وكانت تقام حفلات عظيمة ومواكب مهيبة يسير فيها الفيلة تكريماً.
كما كان النوبة يؤمنون بالحياة بعد الموت لذلك بنو مقابر تدل علي اهتمامهم بموتاهم وتصوروا أن الروح تعود إلي الجسد من حين إلي آخر وتخيلوا روح الإنسان له رأس بشري(1)
واعتقدوا أن الروح بعد رجوعها إلي الجسد في القبر تحتاج إلي كل ما يلزمها قبل الموت لذلك كانوا يضعون جوار الجثة آنية مليئة بالماء واللبن والأطعمة وأدوات أخرى مثال المرآة والسكاكين والعصي والأسلحة وغيرها، وأننا نجد في قبور الملوك كنوزاً هائلة من الأثاثات المختلفة وقد بلغوا في اعتقادهم باستمرار الحياة أنهم ذبحوا بعض الرجال والنساء والخيول والأبقار عند دفن ملك النوبة في بلاده لظنهم أنهم سيؤدون خدماتهم للملك ومن ظواهر هذه العقيدة أن النوبة كانوا يضعون بعض الهدايا من الماء والخبز واللبن فوق قبور موتاهم – ويلاحظ ج. فانتيني أنه ربما بقي من هذه العوائد حتى يومنا هذا، ففي أيام عيد الأضحى وعيد الفطر يذهب النوبة إلي القبور وينظفونها ويرشون عليها الماء ويزينوها بفروع النخيل.(2)
وللنيل عند النوبة شأن عظيم فهو تعيش فئة قوى الخير ( أنقلسري) وفيه تعيش قوى الشر ( دقري) حيث تتحكم قوى الخير علي النيل وعلي البسيطة من أول النهار وحتى منتصفه ثم من بعد القيلولة حوالي الساعة الثانية ظهراً حتى منتصف الليل تتحكم قوى الشر علي النيل وعلي البسيطة فيما عدا ذلك، وقد ارتبطت دورة العمل والإنتاج المحلي في بلاد النوبة لهذه الاعتقادات الراسخة حول النيل، فأصبح يوم العمل النوبي طويلاُ لأنه يتكون من كل عدد الساعات التي تسيطر فيها أرواح الخير علي النيل والبسيطة وهذه تكون الجزء الأعظم من الأربعة والعشرين ساعة اليومية.(1)
وعلي ذلك تم تقسيم ( الثاني) أي الدورة الزراعية اليومية أما إله النوبة الأعظم قبل دخول المسيحية فكان اسمه ( دودو) وكان لا يتجلى إلا في صورة الرعد وما زال الاعتقاد في هذا الإله يعيش في الأدب الشعبي النوبي في الرواية الشعبية ولم يكن هذا الإله محبوباً عند النوبيين لأنه لم يكن يتجلى إلا في صورة الرعد الذي يتبعه دوماً مطر ورياح.. والأمطار والرياح مظهران للطبيعة وهما مكروهين جداً عند النوبيين لأنهما يأتيان في زمن قرب نضج محصول البلح الذي كان ولا يزال يكون عصب الحياة الاقتصادية النوبية ومعروف أن الأمطار تضر بالبلح عند نضجه وقبل أن يجفف وتؤدي إلي تخميره كما تؤدي الرياح إلي تساقطه.. وقد نشأ عند النوبيين طقوس معينة لدرء خطر الـ ( دودو) وإرضاءه إذا كان لابد من ذلك(2) وهكذا نرى أنه كان للنوبيين دياناتهم الوثنية الخاصة قبل دخول المسيحية وكان لهم مجمل اعتقادات وأعراف وطقوس مرتبطة بالمشاهرة(3) والنيل والـ ( دودو) وعندما ندرس المسيحية السودانية نأخذ في الاعتبار تفاعلها مع الأديان والمعتقدات والأعراف والتقاليد السابقة لها.
2- إنتشار المسيحية في أرض النوبة:
منذ فجر المسيحية دخل بعض الأفراد المسيحيين بلاد النوبة ونشروا تعاليمها بين المواطنين عن طريق التجارة أو التبشير ولكن المسيحية لم تتحول إلي ديانة رسمية في الممالك النوبية إلا في الأعوام (543 – 580م).
ومعروف أنه بين سنة 200- 300م) أمر قياصرة روما باضطهادات متعددة وشاملة تستهدف المسيحيين في الإمبراطورية كلها بما في ذلك مصر التي يغش بها الإمبراطور دقلديانوس عام 284م وقفل الكنائس وأحرق الإسكندرية وأجبر الناس علي عبادة الأصنام، ونتيجة لهذا الاضطهاد خرج كثير من الرهبان والنُسّاك القاطنين في ضواحي أسوان يتصلون بالنوبة والبجة عبر الحدود، وتشهد علي ذلك كثير من الحوادث المسجلة في سير كبار الرهبان نتيجة لهذه الاتصالات دخل بعض البلميين (البجة) والنوبة الديانة المسيحية.
ويشير الأب. ج. فانتيني إلي الإثبات القاطع لنفوذ المسيحية المصرية إلي حد ما في ارض النوبة وهو اكتشاف بعض الصلبان والأثاثات المسيحية في مقابر ملوك النوبة ببلانة وقسطل تعود إلي ما بين سنة 400م – 500م(1)
وبعد أن أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومية (أو البيزنطية) حدث في القرن الخامس الميلادي أن انشقت الوحدة المسيحية في أراضي الإمبراطورية الرومية أثر بعض المناقشات والمنازعات اللاهوتية بين رعايا الإمبراطور البيزنطي اليوناني في المجمع المسكوني بخلقيدون ( سنة 451 ) وكان الإمبراطور قد أيد مقررات هذا المجمع وصار مؤيدية يعرفون بالحزب الملكي أو الطائفية الرومية ( الملكية) وأغلب أتباعها في اليونان والمناطق الغربية من العاصمة القسطنطينية والحزب الآخر المكون من الذين يعارضون حكم الإمبراطور قد رفضوا مقررات المجمع المذكور، وبما أن هذه الطائفة يعود تنظيمها النهائي إلى الأسقف يعقوب أسقف أنطاكيا أطلق عليها الطائفة اليعقوبية ونسبت لهذا الاسم نسبة إلى مؤسس الكنيسة السورية المستقلة في عهد جستنيان – وهو يعقوب البرادعي حيث تؤمن بالمشيئة الواحدة للمسيح(1) .
وأغلب أتباعها في مصر ( الأقباط) يعرفون اليوم بالأقباط الأرثوذكس ، ويرجع جذور هذا الانقسام إلي الأيام الأولي التي انتشرت فيها المسيحية منبعثة من فلسطين فقد انتشرت في الشرق الأدنى في بيئة انتشرت فيها الفلسفات الإغريقية القديمة والجامعات الإغريقية مثل جامعة الإسكندرية وجامعة أنطاكيا وجامعة الرها.. وكان المسيحيون الأوائل يلاقون حملة من فلاسفة الإغريق ومن مفكريهم ووجدوا أنفسهم مضطرين إلي أن يقابلوا هذه الحملة بمثلها وأن يستخدموا نفس المنطق الإغريقي ونفس الفلسفة الإغريقية وعداوتهم. وكان لكل قطر من أقطار الشرق فلسفته الإغريقية الخاصة به ومذهبه الإغريقي الخاص(2) فالمصريون مثلاً تأثروا بتعاليم الإسكندرانية وفلاسفتها وخصوصاً المذهب السكندري المعروف بالأفلاطونية الحديثة الذي ينادي بنظرية معروفة تسمى نظرية الحلول ومعناها إمكانية حلول الأرواح الإلهية في الجسم البشري.
وإمكانية الجمع في جسم واحد بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية وعن هذه الفلسفة السكندرية نشأ مذهب مسيحي معروف في مصر هو مذهب الطبيعة الواحدة المونوفست (Monphysits) أي للمسيح عليه السلام طبيعة واحدة، هو بشر وإله في نفس الوقت.. والكنيسة البيزنطية الرومية ، هي الأخرى تأثرت بمنهج جديد في التفكير الإغريقي هو ومنهج الثنائية.. بمعني أن الإنسان قد يجمع بين الطبيعتين البشرية والإلهية، وقد أدى هذا بالكنيسة الرومانية ( البيزنطية ) أن تنادي بمذهب الطبيعيين فنتج عن هذا انقسام بين كنيسة الدولة الحاكمة في ( بيزنطة) وبين كنيسة الإسكندرية في مصر(1) وعندما دخلت المسيحية أرض النوبة وأصبحت ديانة رسمية أعتنق ملك نوباطيا الديانة المسيحية بموجب العقيدة اليعقوبية ( القبطية)، أما ملك المغرة فقد إعتنقها بموجب العقيدة الرومية، وملك علوة اعتنقها بموجب العقيدة اليعقوبية حسب القصة المشهورة التي تقول أن الإمبراطور جستنيان الذي مذهبه رومي وزوجته ثيودورا مصرية مذهبها قبطي..
أرسل الملك دعاته إلي ملك نوباطيا ولكن زوجته علمت وأسرعت بإرسال رسلها إلي ملك نوباطيا، وأصبح ملك نوباطيا قبطيا.. وبعد ذلك توجه رسل الملك إلي المغرة التي أصبح ملكها رومياً(1) يمكن القول أن المسيحية تواجدت كديانة رسمية وشعبية في ممالك النوبة وفقاً للمذهبين الرومي واليعقوبي ( القبطي).
ومن المصاعب التي واجهت انتشار المسيحية في بلاد النوبة بشكل واسع وعميق أنه عندما دخلت المسيحية أرض النوبة كانت تمارس تعاليمها بصعوبة فائقة فكتبها باللاتينية والقبطية بخلاف لغة أهل النوبة كتبهم المروية القديمة وتخرج رهبان من أهل السودان كان يتطلب زمناً ليس باليسير، ولكن رغم تلك المصاعب قامت الكنائس والأديرة في ممالك النوبة ولكن الدير في السودان حسب ظروف دخول المسيحية لم يجذب الناس إليه كما كان في مصر فقد اضطهد المسيحيون في مصر حيث دفعهم الاضطهاد لأخذ أسلوب خاص في العبادة، أما في السودان فقد دعي ملوك النوبة لهذه الديانة فكان أصعب لنشر الدعوة ثم ترغيب الأفراد في أخذ حياة الدير كنوع من السمو في العبادة(2)
ولكن مع ذلك لعبت الديانة المسيحية دوراً تقدمياً وتحررياً هاماً، فعملت علي تحرير العقل السوداني من تسلط الملوك والكهنة والعبادات الوثنية وفتحت له الحياة من جديد ليأخذها بمفهوم جديد.. بخلاف ما توارثت عليه الأجيال.. ولكنها عجزت أن تقف بجانبه وتسد له هذا الفراغ الكبير الذي حدث في عقله بعد عبوديته لتلك الأوثان والتفكير فيها، لأن الديانة المسيحية نفسها محصورة في الطبقة الحاكمة ولم تصبح ديانة شعبية علي نطاق واسع كما لم تكن إمكانيات المسيحية بالقدر الذي يتيح لها أن تعلم الناس جميعاً تعليمها أو اللغة الجديدة التي جاءت بها الديانة(1) وإذا قارنا الوضع بمصر نجد أن المسيحية في مصر انتشرت علي أكتاف عامة الناس، وقد اشترك الأقباط في نشرها وظهر فيها المذهب الأرثوذوكس ومراكز التعليم، والتدريب والتأهيل وحلت اللغة القبطية محل اللاتينية في تعليم لغة الإنجيل.. أما في السودان فقد كان الوضع مختلفاً فقد كان تعليم الديانة المسيحية يتطلب تعليم اللغة القبطية أو اللغة اللاتينية ( الإغريقية) فكانت مهمة تعليم الرهبان من الأفراد السودانيين فيه كثير من المشقة. ويبدو أن هذه الدعوة لم تقف أمامها هذه الصعاب، وتم استنباط اللغة النوبية وكتابتها وتعليم الإنجيل بها، ونشأت الكنائس بعد إيمان ملك نوباطيا والمغرة وعلوة، كما نشأت الأديرة بمساعدة كنيسة روما وكنيسة الإسكندرية لمد كنائس النوبة بالرهبان والبطارقة حتى الفتح الإسلامي.(2)
وكان بطريك الأقباط في الإسكندرية يرسم الأساقفة ويرسلهم إلي الكراسي التابعة لسلطته في النوبة، كما كان بطريك الروم يعين أساقفة من طائفته ليرسلهم إلي رعاياه في النوبة.
ولكن من خصوصيات الوضع في ممالك النوبة أن بعض ممالك النوبة أولو الأسقف مسئوليات سياسية في المدينة نيابة عن الملك ذاته، وفي هذا جمع بين السلطة الدينية والمدنية وامتداد لدور الكهنة المتعاظم في الهيمنة علي السلطة الزمنية منذ أيام مملكة نبتة ومروى كما كانت الكنيسة تمتلك ثروات كبيرة كما رأينا في مثال كنيسة إبسوس، وكنائس سوبا التي وصفها الرحالة العرب.
ذكرنا سابقاً أن ملك نوباطيا كان تابعاً لطائفة الأقباط وملك دنقلا كان تابعاً لطائفة الأقباط وملك دنقلا كان تابعاً لطائفة الروم. وكان هذا من أسباب الخلاف والصراع بينهما، ومن لوحة التدشين في كاتدرائية فرص في سنة 707م التي ورد فيها اسم الملك مرقوريوس ملك دنقلا كأنه الملك الوحيد الحاكم في كل من نوباطيا والمغرة، إستنتج د. فانتيني من ذلك أنه في عهد الملك مرقوريوس ( 497م – 724م ) تم انصهار المملكتين واتخاذهما في مملكة واحدة كانت عاصمتها دنقلا العجز. وبما أنه كان الملك مرقوريوس تابعاً لعقدية البطريرك القبطي الإسكندري رأى بعض العلماء أنه في أيامه انتقلت كل الكراسي الأسقفية بالنوبة إلي رئاسة بطريك الإسكندرية القبطي الإرثوذكس(1)
وكان الكرسي الأسقفي بدنقلا يخضع للبطريك الأرثوذكس وكان الملك النوبي من بين رعاياه من يجلس علي الكراسي الأسقفية في مملكته ويرسلهم إلي مصر ليرسمهم البطريك(2) وهذا اختلاف عن الوضع السابق في البداية حيث كان بطريك الإسكندرية الرومي واليعقوبي يرسم الأساقفة ويرسلهم إلي ممالك النوبة فأصبح تدخل الملك هنا واضحاً أنه كان يختار من بين رعاياه من يجلس علي الكراسي الأسقفية في مملكته ويرسلهم إلي مصر ليرسمهم البطريك، أي أن الملك أصبح يرشح الأسقف ولا يفرض فرضاً علي مملكة النوبة من بطريرك الإسكندرية.
وهذه واحدة من سمات استقلال الكنيسة النوبية أما بخصوص الطائفة الملكية ( الرومية ) فقد ظلت مستقلة بالنوبة وتمارس شعائرها وطقوسها بحرية تامة ولا يتدخل الملك في شئونها وهذا نموذج من نماذج التسامح الديني في السودان.
ويؤكد ذلك ما أورده د. ج. فانتيني نقلاً عما دونه ساويرس بن المقفع في سيرة البطريرك زكريا القبطي ( 1003م –1031م) إن في أيام هذا البطريك اعتقل الملك البيزنطي ( الرومي ) بطريرك أنطاكيا ليعاقبه والذي اسمه يوحنا بين يدى ا لملك البيزنطي دعاه الملك أن يعدل من عقيدته اليعقوبية.. وهي في نفس الوقت عقيدة الأقباط الأرثوذكس بمصر وينضم إلي الطائفة الملكية.. فقال يوحنا للملك: أن ملك النوبة لا يضغط علي رعاياه من الطائفة الملكية (الرومية) الذين في النوبة لينضموا إلي طائفة الأقباط.
وفيما يلي ما ورد في كتاب المؤرخ:
" فأجابه البطريرك قائلاً: لا يجوز لسلطانك أيها الملك أن تلزم أحداً بأن يترك دينه كما أن ملكين هما ملك الحبشة وملك النوبة وهما لا يلزمان أحداً من أهل مملكتهم المقيمين عندهم أن ينتقلوا عن عقيدتهم (1) " وهذا يدل علي التسامح الديني لدى النوبة وملكهم وهذه أيضاً واحدة من خصوصيات ومميزات المسيحية السودانية في أرض النوبة، وهي احترام عقائد الآخرين وعدم إلزامهم بتغييرها.
ومن خصوصيات المسيحية أيضاً في النوبة أنه كان من عاداتهم أن يكون ملكهم مكرزاً في رتبة الكهنوت كما جاء في كتب الشرقيين، وقد لاحظ ذلك أحد الرحالة الغربيين وهو ريشارد دي كالوني(2) سنة 1172م وقد قدم من فرنسا إلي إفريقيا ليبحث عن الأهالي المسيحيين المحليين ولم يجد منهم أحد في الجزائر وتونس وليبيا إلا أنه قيل له أنه توجد أمة مسيحية في النوبة جنوب مصر وكتب عنهم أن ملكهم يحارب السلطان صلاح الدين وأضاف أن ملك النوبة هو قس (3)
ويبدو أن النوبة تخلصوا من ظاهرة الأساقفة الأجانب ويؤكد ذلك الرحالة الألماني برخارد جبل صهيون الألماني سنة 1200م الذي ذكر أن النوبة أمة مسيحية لا يحصي عددها ولهم أساقفة من أمتهم وقال أنه صادف ملكهم في بابليون ( قصر الشمعة بمصر )(1) وتتمايز الكنيسة النوبية عن الكنيسة الكاثوليكية أيضاً فيما أورده الرحالة جاك دي فيتري الفرنسي وهو أسقف عكا بفلسطين سنة 1216م، وكان شاهد عيان لكثير من الأخبار التي دونها في كتاب ( تاريخ الشرق) قال أن النوبة نصارى يقع موطنهم جنوب أرض مصر وكنيستهم تابعة لطائفة اليعاقبة ( الأقباط) وقد انفصلوا عن وحدة الكنيسة الكاثوليكية منذ زمن بعيد بسبب بعض الأخطاء العقائدية فيما يتعلق بالختان والاعتراف بالخطايا والعماد بالنار أي بواسطة الحديد المحمي(2)
وهذا يوضح تمايز المسيحية النوبية عن الكنيسة الكاثوليكية إذ أنها كانت تسمح بالختان ( الفرعوني الأصل) وتمارس العماد بالنار وعدم الاعتراف بالخطايا.. كما نفهم مما ورد أعلاه ما يشير إلي أن المسيحية النوبية امتزجت بالأعراف والتقاليد المحلية وأصبحت لها مميزاتها الخاصة التي تختلف عن الكنيسة الكاثوليكية.. ومن الظواهر النادرة التي أشار إليها الأب ج. فانتيني – التي تميز بها بعض ملوك النوبة المسيحيين أنهم كانوا يتخلون عن الملك طوعاً واختياراً ويكرسون أنفسهم للحياة الرهبانية ومثال علي ذلك الملك سلمون ( سلمان) ملك النوبة الذي تخلي عن العرش ليكرس نفسه للحياة الرهبانية حوالي سنة 1079م ، وعين ابن أخته الذي اسمه جورج ملكاً آخراً اسمه جورج الرابع ( هذه الظاهرة أيضاً عرفت عند بعض ملوك الهند القديمة). ومن أهم المميزات الدالة علي احترام النوبيين للصليب ولا يوجد مثيل له في إثيوبيا ولا في مصر ولا في بلاد أخرى ( حسب ملاحظات الأب. ج. فانتيني) هو مديح الصليب كما يسمونه.. ونموذج المديح اكتشفه البروفيسور قريفث في سره(1) وجاء في المديح التالي:
الصليب هو:
الدرب للضالين.
عكازة العرج.
قوة الضعفاء.
كمال القسييس.
إطلاق الأسرى.
ما يذل الكبرياء.
طاقة الشهداء.
الصليب هو:
علاج
أرواء الجفاف.
إكساء العريان
فرح الكرويم.
قيامة الموتى.
مرشد العميان.
مرضع الرضع
طبيب المرضى
الأمل لمن لا عنده أمل.
حصن المناضلين.
فخر الملوك.
شقيق الفقراء.
فداء الخطأة
هزيمة إبليس.
نشيد الملائكة.
حجر الزاوية للأرباع الأربع.
وهكذا نرى أن الصليب في هذا المديح اتخذ أبعاداً أشمل ذات جذور في ديانات النبتيين والمرويين السابقة للمسيحية فعبارات مثل الصليب قوة الضعفاء " أرواء الجفاف، حصن المناضلين ، شقيق الفقراء" طبيب المرض وغيرها.. كنا نجدها بهذا الشكل أو ذاك في أناشيد ولوحات ملوك نبتة ومروي مثل لوحة بعانخي ونشيد الإله ابدماك مع الاختلاف في التفاصيل مما يشير إلي الاستمرارية في هذا الجانب..
ومن الخصائص الفريدة أيضاً التي أوردها الأب. ج. فانتيني للكنيسة النوبية هي صور الملوك المرسومة في الهيكل وفي أشرف مكان داخل الكنيسة ولعلها ترتبط بأن دائماً يكون الملك النوبي يرسم قسيا، ويقوم بصلاة القداس بداخل الهيكل مع جميع الكهنة، ويتناول القربان بعدهم وكان هذا النظام مطبقاً علي الملك ما دام طاهراً من سفك الدماء في القتال، ولكن إذا اشترك في سفك الدماء لا يجوز له بعد ذلك دخول الهيكل كما ذكر أبو صالح الأرمني..
وهناك ميزة أخرى للعبادة الخاصة بالصليب في كنائس النوبة وهي لوحة الثالوث الأقدس: الأب والابن والروح القدس: بشكل ثلاثة صلبان قائمة علي الأرض وهذه الصورة وجدت في جميع الكنائس التي تم فيها اكتشاف بعض الصور(1)
كما كان حوض المعمودية في اقدم الكنائس النوبية عبارة عن بركة مربعة الشكل ومزدانة جدرانها بالألوان وفيها ثلاثة سلالم للنزول وثلاثة سلالم أخرى للخروج منها وفي كنيسة ( غزالي) وغيرها اكتشف جرن فخاري هو جرن المعمودية بدل البركة المحفورة في أرض الكنيسة.
أما الكنائس التي يعود زمن بنائها إلي عصر أحدث فلم يكتشف فيها جرن ولا بركة .. ويقول فانتيني أنه " ربما كان سبب ذلك أنه بعد انتشار المسيحية في النوبة كانت المعمودية تتم في نهر النيل وما زالت هذه العادة – المعروفة اليوم بأربعين الولادة تقام في بعض الأماكن علي نهر النيل(1)
وهذه أيضاً واحدة من خصوصيات الكنيسة النوبية السودانية.. طبعاً لما كانت الكنيسة النوبية قد أخذت التعليم ونظم الصلاة من كنيسة القسطنطينية فإن العقائد والطقوس المسيحية النوبية لا تختلف عما كانت في الكنيسة البيزنطية والقبطية ويتجلى ذلك كما أشار – فانتيني – من لوحة مصورة محفوظة في متحف السودان وهي معروفة ( بجلجثه) وهذه اللوحة تحتوي علي صورة إنزال جثمان السيد المسيح عن الصليب وصورة قيامته من الموت وصعوده إلي السماء، وهذه اللوحة القديمة تعبر عن كل العقائد الأساسية المسيحية الخاصة بسر الفداء، وهذه اللوحة القيمة تعبر عن كل العقائد الأساسية المسيحية الخاصة بسر الفداء، ومن الجدير بالذكر أن هذه اللوحة النوبية شبيهة بأجمل اللوحات المماثلة من إبداع الفن البيزنطي المحفوظة في كنائس اليونان اليوم، وفي كاتدرائية القديس مرقص بالبندقية المشهور(2). وهكذا نرى أنه كان للكنيسة النوبية خصوصيات ومميزات خاصة واستقلال نتجت من تفاعل تعاليم الديانة المسيحية مع الأعراف والتقاليد المحلية. وهذا ما أطلقنا عليه المسيحية السودانية في العصور الوسطي.
3- دور الكنيسة في البنية الفوقية لمجتمع النوبة:
تطور الكنيسة ودورها في البنية الفوقية لمجتمع النوبة في العصور الوسطى يجب أن ننظر إليه كحلقة في تطور المؤسسة الدينية منذ قيامها في السودان القديم .. حيث ظهرت المؤسسة الدينية في مجتمع شمال السودان في شكل المعابد الصغيرة داخل الحصون والقلاع التي بنتها الدولة المصرية المتوسطة في سمنة " وبوهين" كما توضح لنا ذلك آثار تلك الفترة.(2)
وكانت تلك المعابد تخدم الحاجات الدينية للجنود المصريين العسكريين داخلها، وليس من المعروف تماماً ما إذا كان شكل المؤسسة الدينية عند السكان الأصليين المتمثلين في المجموعة ( ج) وفي فترة الدولة المصرية الحديثة كان نوع الهيمنة والاحتلال مختلفاً، وقد تم دخول المؤسسة الدينية كعنصر مؤثر في المجتمع المحلي وشهدت تلك الفترة توسعاً كبيراً في إنشاء المعابد في منطقتي النوبة السفلى والعليا (2) وقامت حول هذه المعابد مجتمعات للكهنة وأصبحت المؤسسة مجتمعات للكهنة وأصبحت المؤسسة الدينية واضحة الوجود والتأثير في منطقة النوبة ولكن من المشكوك فيه أن تكون هذه المؤسسة قد أثرت كثيراً في الطبقات الشعبية للعنصر المحلي من السكان. فقد كانت هذه المعابد تمثل ديناً أجنبياً وتتفاعل باللغة المصرية القديمة، وهي لغة أجنبية وكان الكهنة أنفسهم أجانب، ولم تتعد هذه المعابد كونها مظهر من مظاهر السلطة السياسية للمحتل، ترتبط به ارتباطاً قوياً عضوياً فهي في الأساس تخدم الموظفين والجنود المصريين وقلة قليلة من صفوة المجتمع المحلي التي ارتبطت مصالحها بالمستعمر والجهاز السياسي الحاكم وتأثرت تأثراً مباشراً بالمعطيات الحضارية والثقافية للدولة المصرية الحديثة(1)
بعد انسحاب الحكم المصري من منطقة النوبة شهدت المؤسسة الدينية تطوراً جديداً فقد ترك الحكم المصري خلفه مجموعة من المعابد علي طول النيل ومجموعة من الكهنة المرتبطين بهذه المعابد وصفوة من النوبيين الذين أصبحت معتقداتهم الدينية ترتبط بالديانة المصرية معابدها.
ويعزي بعض المؤرخين قيام دولة نبتة إلى هذه المجموعة من الكهنة التي تخلفت لتخدم المعابد وبصورة تشمل إلي هذه الصفوة النوبية التي ارتبطت بالديانة والثقافة المصرية… ومن الواضح أن دولة نبتة احتفت بالمعابد المصرية وزادت عليها، وفي هذه الفترة ارتبطت المؤسسة الدينية وتلاحمت بالسلطة السياسية .. وكان من المعروف أن ملوك نبتة يمثلون قمة الجهازين السياسي والديني، وصار الملك منهم خليفة آمون في الأرض وحامي حمى المؤسسات الدينية(2) وفي تطور آخر ورثت دولة مروي ذات الطابع المحلي هذه المؤسسة المصرية اتجاها ولغة إلا أنها زادت عليها معابد الآلهة المحلية مثل أبادماك " آرنسوفس" كما تم استنباط اللغة المروية المحلية وتم التخلص من اللغة المصرية القديمة.. وفي فترة مروي تضخمت المؤسسة الدينية بشكل واضح وانفصلت عن السلطة السياسية وظهرت مجتمعات دينية واضحة الهيمنة تدل علي قوة المؤسسة الدينية والسلطة السياسية ما حدى بالأخيرة إلي محاولة تحجيم المؤسسة الدينية وإخضاعها.. وفي فترة مروي ضعف الأثر المصري المباشر علي المؤسسة الدينية وظهر أثر محلي قوي، مما حدى بها إلي أعمال اللغة المروية في الطقوس والكتابة كما طغت عبادة الآلهة المحلية مثل الآلهة الأسد ( ابادماك) وامتدت جذورها في المجتمع المحلي وأصبحت مؤسسة شعبية تهم المجتمع كله وليس السلطة السياسية وحدها…(1)
نخلص مما سبق أن المؤسسة الدينية أصبحت حقيقة واضحة في تكوين المجتمع السوداني القديم ولعبت دوراً هاماً في الآتي:
1- قامت المدن حول المعابد والمراكز الدينية.
2- تطورت اللغة السودانية المكتوبة – التي كان يستخدمها الكهنة والجهاز السياسي.
3- تجمعت لديها ثروات ضخمة بحكم ارتباط المؤسسة الدينية بالسلطة السياسية حيث كان لها أراضيها المعفية من الخراج والتي كان يعمل فيها الناس عمل السخرة إضافة للفوائض من الغذاء والماشية التي كانت تصلها من السكان.
4- تطور الفن المعماري، بناء الأهرامات ، المعابد الفخمة ، والفن التشكيلي ، كما يتضح من اللوحات والزخارف في تلك المعابد
5- كانت تقوم بوظائف تسجيل المواليد والوفيات والهيمنة علي السلطة السياسية.
6- كانت المعابد تقوم مقام البنوك حيث كان الناس يحتفظون فيها بأموالهم ووثائقهم النادرة.
وفي فترة النوبة المسيحية ورثت الكنيسة تلك الوظائف التي كان يقوم بها المعبد في المجتمع المحلي كما هو واضح في كنائس وآثار تلك الفترة.
وقد مرت الكنيسة المسيحية بفترتين هامتين في تطورهما.
الفترة الأولي: كانت المسيحية فيها ديناً رسمياً للدولة احتضنها الملوك وقاموا ببناء الكنائس أو كانوا يتدخلون في شئونها وكانت لهم صفتهم الدينية المعتبرة ( كان ملوك النوبة قسيس وملوك في نفس الوقت) وفي هذه الفترة الأولي ارتبطت الكنيسة بالسلطة السياسية ازدهرت بازدهارها أو انكمشت بانكماشها، ولم تكن الكنيسة عميقة الجذور في المجتمع النوبي، إذ كانت تهم وتهتم بصفوة صغيرة من المجتمع، وقد يعزي السبب في ذلك إلي أن المسيحية كانت ديناً أجنبياً لغة أجنبية ويقوم بأمره قساوسة أجانب(1)
لكن في الفترة الأخيرة من عمر الممالك المسيحية في السودان شهدت الكنيسة تطوراً بالغ الأهمية فقد أصبحت الكنيسة النوبية محلية الطابع، وأضحت شعائرها تؤدي باللغة النوبية، وظهر لها تراث ثفافي خاص ناتج عن تدوين اللغة النوبية التي ترجمت إليها الأناجيل والتراتيل الدينية الأمر الذي استدعي أن يكون القساوسة أنفسهم من العنصر المحلي أي " نوبيون" وفي هذه الفترة انتشرت الكنائس الصغيرة علي طول النيل وفي القرى.
ويشير الشاطر بصيلي إلي بعثة الرهبان الدومنيكان (1338م) ويقول " بني الرهبان الدومنيكان عدداً من الكنائس استعمل فيها الأجر الأحمر في التي (ELTI) وكترانج (KUTRANG) وكاسمبا (KASEMBA) وبرنكو (BRONKO) والحصاحيصا (HESSA HEZA) وقد استطاع الدومنيكان تنصير عدد من سكانها..(2) وبهذا صارت الكنيسة مؤسسة شعبية محلية أحتضنها المجتمع كجزء أصيل منه وأدت الوظائف السابقة التي كانت تؤديها المعابد والتي تتلخص في الآتي:
1- مكان للعبادة، حفظ الوثائق ، لها أراضي ضخمة زراعية معفية من الخراج ولها ثروات ضخمة.
2- طورت اللغة المحلية ( النوبية) كما طورت الفنون كما يظهر من الرسوم الفنية الجميلة علي كنيسة فرص، مكان لتسجيل المواليد والوفيات ، وغير ذلك من الوظائف التي كانت تؤديها الكنيسة في البنية الفوقية لمجتمع النوبة.
4- اندثار المسيحية بالنوبة:
هناك عوامل كثيرة متنوعة لعبت دوراً كبيراً في اندثار المسيحية بالنوبة نذكر منها ما يلي:
1- لم تنتشر المسيحية في النوبة كما هو الحال في مصر نتيجة لحركة جماهيرية وشعبية، بل انتشرت عن طريق الملوك، وكانت قوتها تعتمد علي قوة العرش الملكي.
2- بسبب عامل اللغة كانت لغة الإنجيل هي اللاتينية والقبطية واللغة النوبية(1) لم تنتشر المسيحية علي نطاق شعبي واسع وخاصة في الأجزاء البعيدة لوادي النيل ولم تتعد اللغة البيزنطية أو القبطية أو النوبية (المكتوبة) الأسر المالكة والكهنة وموظفي الدولة، وبالتالي فإن الكنيسة النوبية فشلت في خلق حركة جماهيرية واسعة ولتعليم المسيحية للأهالي.
3- فشلت الكنيسة النوبية في تربية قسيس محليين وكما أشار فانتيني: كان كثير من الأساقفة يرسلهم البطريك الرومي والبطريرك القبطي ومن المحتمل أن التعليم الديني من رجال الدين الأجانب لم يقبل إقبالاً كبيراً لدى النوبة الأصليين ولما توقف إرسال رجال الدين من الخارج لم يوجد في النوبة من يرعى شأن المسيحيين.
4- هذا إضافة إلى الاضطرابات الداخلية والخارجية التي تعرضت لها
مملكتي المغرة وعلوة ونتج منها تفكك وتحلل مملكة المغرة وزوالها نهائياً بعد هزيمة المماليك وتدخلهم في شئونها الداخلية، ودخول القبائل العربية الإسلامية إليها ومصاهرتهم للنوبة، حتى انتشر الإسلام واصبح له الغلبة كما أوضحنا في مكان سابق. ويشير الأب. ج. فانتيني أن الكنيسة النوبية في دنقلا قد زالت من الوجود لا بالعنف بل بسبب ضعفها الذاتي، أما في مملكة علوة فقد كان المسلمون موجودين في المملكة وفي مدينة سوبا، وكانت لهم أحياء خاصة في المدينة ولكن المسيحية زالت نهائياً فيها بعد تحالف القبائل العربية تحت قيادة عبد الله جماع الذي نتج عنه تدمير سوبا وتخريبها تخريباً شديداً حتى أصبحت مثلاً في الخراب كما يقول السودانيون " خربت خراب سوبا" وقام بعد ذلك تحالف الفونج مع العبدلاب والذي قامت علي أساسه دولة الفونج الإسلامية عام 1504م.
5- أشار ترمنجهام أيضاً إلي أن الكنيسة النوبية عجزت عن إنشاء حركة ثقافية في الشمال هذا إضافة لفساد الرهبان والفشل في تطوير مراكز للتعليم.(1)
5- علاقة الدين بالدولة:
كما ذكرنا سابقاً أن علاقة الدين بالدولة استمرت في ممالك النوبة المسيحية كامتداد كما كان عليه الحال أيام مملكتي نبتة ومروي مع اختلافات فرضتها الظروف الجديدة يقول شقير كان للكهنة سلطة علي الملوك وان من عادة كهنة مروي أنهم إذا غضبوا علي ملك أرسلوا إليه رسلاً يأمرونه بقتل نفسه بحجة أن ذلك يسر الآلهة قيل وقد كان الأمر يسحره فيخضع له صاغراً حتى قام أرجمنيس الذي كان ملكا حربياً متثقفاً بآداب اليونان وعلومهم وكان يكره الكهنة ولا يطيق غطرستهم فأرسلوا إليه امرأ ليقتل نفسه فهاجه الأمر وحمل عليهم في الهيكل الذهبي الذي كانوا يقيمون فيه وقتلهم عن آخرهم وسن قوانين جديدة لمملكته وحور كثيراً في ديانة الأثيوبيين.(1)
وهكذا نرى كيف كان أثر الكهنة وسلطتهم في الدولة وفي الملوك وفي الواقع الذي كان يحكم الكهنة وكان الملوك أدوات في أيدي الكهنة قبل أرجمنيس.
وعندما دخلت المسيحية أرض النوبة كان للملوك دور هام في تثبيت أركانها وارتبطت بالملوك والطبقات الحاكمة ( الناس كما يقولون علي دين ملوكهم).
وكان بعض ملوك النوبة يولون الأسقف مسئوليات سياسية في المدينة نيابة عن الملك بالإضافة لمنصبه الديني مما يشير إلي ارتباط الدين بالدولة
ونشير أيضاً إلى ما أورده شقير عن ما كتبه ديودور الصقلي أن بعض ممالك أثيوبيا كانت انتخابية وملوكها ينتخبون من الكهنة ويولون بعد تمليكهم إذا كان حكمهم من النوع المطلق ولكن كان لهم من مراعاة لشرائع البلاد وعرفها وعاداتها في كثير من الحكام(2)
وهذه الحالة كان لها ارتباطاتها بهذا الشكل أو ذاك في النوبة المسيحية والتي تظهران صورة الملوك كانت ترسم في الهيكل وفي أشرف مكان داخل الكنيسة، وهذه ميزة فريدة للكنائس لعلها ترتبط بأن دائماً يكون الملك النوبي يرسم قسياً ويقوم بصلاة القداس بداخل الهيكل مع جميع الكهنة ويتناول القربان بعدهم، وكان هذا النظام مطبقاً علي الملك ما دام طاهراً من سفك الدماء ولا يجوز له بعد ذلك دخول الهيكل ، والمسيحية في دولة النوبة كانت متأصلة في الملوك وأصحاب النفوذ ولم تقترب بجذورها وسط الشعب مما كان له الأثر في اندثارها فيما بعد.
مما يشير إلي أنها كانت ديانة ذات ارتباط شديد بالدولة وارتباط ضعيف بالشعب وفي مكان آخر ذكرنا أن بعض ملوك النوبة تركوا الملك وأصبحوا رهباناً، وكان ملوك النوبة ملوكاً وقساوسة في الوقت نفسه كما لاحظ الرحالة النوبي الذي أوردنا خبره في مكان سابق أي أنهم جمعوا بين أيديهم السلطتين الزمنية والدينية ويعكس هذا تطور جديد في علاقة الدين بالدولة ففي ممالك نبتة ومروي كان الكهنة هم الذين يحكمون ويتحكمون في الملوك ( قبل الملك أرخميس) ولكن نلاحظ هنا أن ملوك النوبة تحرروا من سيطرة الكهنة وجمعوا بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية إذ أنهم كانوا ملوكاً وقساوسة، وهذا يلقي بعض الضوء علي علاقة الدين بالدولة في النوبة المسيحية.
الفصل الخامس
الثقافة النوبية
أولاً: الفن النوبي – اللغة النوبية:
الفن النوبي:
من الحفريات التي قام بها العلماء في النوبة (1960 – 1970) اكتشف العلماء العاملون في مواقع مدينة فرص – النوبية السودانية كنيسة كاتدرائية تحت رمال كوم فرص بها تحف فنية رائعة من خلالها تم التعرف علي ما كان غائباً عن الثقافة والفن النوبي هذا إضافة للتحف القيّمة التي اكتشفت في سنقي وغرب ابريم ويتجلي ازدهار الثقافة النوبية في التحف الأثرية القيّمة من التصوير وتصميم الكنائس وصناعة الأواني الفخارية التي تدل علي مستوى رفيع للثقافة النوبية.(1)
وأورد الأب . ج. فانتيني مثالاً عن كنيسة فرص التي أعاد بناءها الياس مطران فرص بأسلوب جديد وميزته الرئيسية القبب بدل السقف المسطح وتم تزيين جدرانها الداخلية بصورة في غاية الفن والجمال كما يبدو من النماذج التي تم إكتشافها وهي محفوظة في المتحف القومي ( تم تدشين الكاتدرائية حوالي 952م) ويشير ذلك المثال إلي أن الأبحاث الحديثة أثبتت أن حوالي ستين كنيسة قد تم بناءها في أرض النوبة إقتداءً به.
ومن أهم الصور التاريخية صورة الملك جرجة في كنيسة سنقي غرب ويظهر فيها هذا الملك تحت حماية السيد المسيح ( عما نويل) والملك يرتدي كل الرموز التقليدية الدالة علي سلطانه ومن بينها التاج الذهبي المزدان بحجارة كريمة والقرنان وتتدلي منها سلسلتان وجرسان ويستنتج فانتيني من ذلك أن تنصيب الملك النوبي كان يتم بوضع التاج الذهبي علي رأسه.
تطور الفن والمعمار النوبيان وتم إتباع أسلوب جديد في بناء الكنائس فبينما كانت قديماً تبني علي أعمدة حجر الجارنيت المستدير بقطع كبيرة مستطيلة وكان عرض الكنائس مسطحاً أصبح (في القرن العاشر) بناء الكنائس علي أعمدة مبنية من الطوب الأحمر علي شكل مربع تستند إليه السطوح المقوسة مع القباب(1)
وكان من عادة النوبة أن ترسم صور ملوكهم في الكنائس أما عن أسلوب الفن التصويري فحسب فانتيني الذي قال عنه " أجمع العلماء المتخصصون علي أنه تابع للأسلوب البيزنطي، ويستنتج فانتيني من ذلك أن العلاقات بين النوبة والمملكة اليونانية كانت متعددة وذلك بسبب الحجيج(2) من النوبة إلي الأماكن المقدسة بأورشليم ( القدس) وكانت العلاقات بين النوبة ولا سيما الرهبان النوبيين ومدينة القدس مثمرة، مفيدة بتطوير الفنون بالنوبة لأن أهل الفنون النوبية كانوا ينسخون النماذج البيزنطية ويكيفونها حسب الظروف المحلية وذوق مواطنيهم " وإذا صح استنتاج فانتيني هذا – وليس هناك ما يمنع من صحته – فيمكن أن نبني عليه استنتاجاً آخر وهو أن أهل النوبة تفاعلوا مع الفن البيزنطي الرفيع وهذا مثل جيد للأصالة والمعاصرة من التراث الفني النوبي فأهل النوبة كانوا معاصرين وفي الوقت نفسه لم يفقدوا أصالتهم وكيفوا الوافد إليهم من الخارج مع ظروفهم وبيئتهم.
أما عن صناعة الفخار وفن التصوير والفن المعماري في مملكة علوة فلم يتبق منها مع الأسف ما يكفي لمعرفة أنواعها وكل ما نعرفه عن مملكة علوة وحالة الكنيسة في هذه المملكة ما ورد في كتاب أبي صالح الأرمني – الذي أشرنا إليه سابقاً – حوالي سنة 1190م والذي ذكر أن في مملكة سوبا زهاء أربعمائة وتملك بعض الكنائس شيئاً كثيراً من الذهب في شكل صلبان وأواني وفيها الصور المقدسة.
كما أشار إلي الكنيسة منبلي بمدينة سوبا التي وصفها بأنها كبيرة وتحيط بها البساتين والمزارع، ويبدو أن أهالي علوة كانوا يبنون كنائسهم بالجالوص الذي لا يصمد مع مرور الزمن ولا يقاوم عوامل التعرية والأمطار وغير ذلك.
اللغة النوبية:
معلوم أن اكتشاف الكتابة في مصر تم حوالي سنة 3000 سنة ق.م وكان ذلك باللغة المصرية القديمة، والقارئ يعلم أنه توجد مجموعة من الكتابات باللغة المصرية تركها ملوك كوش ( نبتة ومروي) وهي عبارة عن لوحات من الحجر تحتوي علي سجل بأعمالهم في خدمة الآلهة أو بناء المعابد لها أو في خدمة رعاياهم بتوفير الغذاء لهم وضرب الأعداء المارقين(1) ومنذ قيام مملكة نبتة كانت اللغة المروية هي لغة المخاطبة وقد كتبت لأول مرة في القرن الثاني قبل الميلاد منذ الثمانينيات من القرن الماضي وحتى الآن بذلت جهود كبيرة لحل رموزها، انتهت بنا إلي التمكن من قراءتها وفهم معاني بعض المفردات والتراكيب إلا أن الجهود لفهم قواعدها ونحوها فهماً كاملاً ما زالت متعثرة.(2) وأستند النوبة في العصر الوسيط علي هذا التراث فنجد من ظواهر ازدهار الثقافة النوبية التوصل إلي تأليف أبجدية من الحروف القبطية واليونانية تصلح للاستعمال في كتابة اللغة النوبية لأول مرة في التاريخ، ويرى الأب فانتيني أن هذا تم في عصر الملك قرقي وحلفائه ولذلك تميز هذا العصر عن العصور السابقة له بكتابة الإنجيل والصلوات وبعض الكتابات التذكارية بلغة النوبة الوطنية وقل استعمال اللغتين القبطية واليونانية في الكتابات الرسمية.
وهذه واحدة من مظاهر الاستقلال الثقافي والأصالة الوطنية في النوبة المسيحية وهو امتداد لاستقلال وأصالة المرويين الذي استنبطوا لغتهم المكتوبة الخاصة بهم والتي أشار إليها عالم الآثار ب. ج هيكوك بقوله " إن لغة التخاطب في الحديث في نبتة ومروي السابقتين للنوبة كانت اللغة السودانية التي تطلق عليها اللغة المروية، إلا أنهم كانوا يكتبون تلك اللغة بالخط والحروف المصرية ( الهيرغلوفية)(1) وانتقلت تلك اللغة معهم إلي موطنهم الجديد في وسط السودان ( منطقة كبوشية ) ولقد تمكن الكوشيون (المرويون) بعد عدة قرون واجهتهم فيها صعوبات باللغة في كتابة تلك اللغة الأجنبية من أن يحدثوا ويبتدعوا طريقة مكنتهم من كتابة لغتهم السودانية في حروف أبجدية تبلغ ثلاثة وعشرين حرفاً.(2)
وطوّر النوبة هذا الجانب في حضارة مروي وأصبحت اللغة النوبية هي اللغة الأصلية في الوثائق المدنية مثل العهود والصلوات والإنجيل في الكنيسة، وكانت الحروف التي دونت بها اللغة النوبية مأخوذة من اللغتين اليونانية والقبطية وأدخلوا الفهرست لابن النديم يستعملون الحروف اليونانية في الكتابات الرسمية وفي كنائسهم.. ولكن المصادر لم توضح لنا عدد الحروف الأبجدية التي استخدمت في كتابة اللغة النوبية(1) وذكر ابن الفقيه (المتوفى سنة 903م) أن الروم ( المقصود المسيحيين الروم) يقرؤون الإنجيل بالملكية ( أي اللغة اليونانية) أما اليعاقبة (المسيحيون الأرثوذكس) فيهذون ( باليونانية ) دون إدراك تلك اللغة ثم يفسر القساوسة لهم بلهجاتهم المحلية..(2) ولكن من جانب آخر فإن اللغة النوبية المكتوبة كانت خاصة بالملوك والكنيسة وجهاز الدولة ولم يتم تعليمها للجماهير بشكل واسع مما ساعد في اندثار هذه اللغة المكتوبة(3) بعد أن عجزت عن إنشاء حركة ثقافية تعليمية في الشمال(3) ويقول ترمنجهام " ما ساعد في مقاومة اللغة النوبية وبقائها أمام طوفان اللغة العربية أنها حولت إلي لغة تكتب بفعل القسيس في العهد المسيحي وظلت صامدة حتى الآن أمام التيار الجارف للغة العربية..(4)
ونكمل ما أورده ترمنجهام مما ساعد علي بقاء اللغة النوبية هو تفاعلها مع اللغة العربية يقول د. عون الشريف قاسم بامتزاج العرب بالسكان الأصليين للبلاد من النوبة والبجة والقبائل النيلية والفوراوية وما إليها ترسبت في لغتهم مجموعات كبيرة من ألفاظ هؤلاء الأقوام بحكم المجاورة والحاجة لهذه الألفاظ التي تعبر في كثير من الأحيان عن مفاهيم ومعان لم يألفها العرب(1) من ألفاظ الزراعة والري والحضارة التي تأثرت بها القبائل الجعلية المستقرة علي النيل فنجد في صلب لهجاتها مجموعات كبيرة من الألفاظ النوبية والمصرية القديمة الدالة علي ذلك، وخير شاهد علي ذلك مصطلحات الساقية والأنواء والرياح التي تهب علي النيل شمالاً وجنوباً ( د. عون الشريف قاسم: قاموس اللهجة العامية في السودان ط2 القاهرة 1985م) ص 24، إذاً اللغة النوبية تركت بصماتها الواضحة علي اللغة العربية وكانت حصيلة ذلك التفاعل هي اللغة العربية السودانية أو اللهجات السودانية العربية المتميزة في شمال السودان، ويقول محمد متولي بدر كان بين العربية والنوبية صراع طويل الأمد كانت الغلبة فيه للغة العربية فاندثرت لغة النوبيين من السودان الأوسط بكامله وانكمشت رقعتها فانزوت في ناحية من بيئتها بين الشلال الأول والرابع..(2) وفي دراسة أنجزها باحثان هما محمد مهدي محمد وزكريا علي أحمد عن بعض ملامح التراكيب والصيغ النوبية في اللهجة العربية السودانية، أشار الباحثان إلي أن هناك بعض الخصائص الصوتية وكثير من الألفاظ المرتبطة بالزراعة وأدواتها بالسودان قد انتقلت من اللغة النوبية إلي اللغة العربية، ودراسة الباحثين ذهبت إلي ما هو أعمق وهو بأنواع الافتراض المتعلق بالتراكيب والصيغ التي لم تتطرق لها البحوث الكثيرة المتعلقة بأثر اللغة النوبية علي اللغة العربية بالسودان من قريب أو بعيد فيما نعلم…(3) وحاول د. علي عثمان محمد صالح في بحث لتحديد أرض النوبة التاريخية عن طريق التأثير اللغوي…(1) ويعتبر قرفث من أوائل المهتمين باللغة النوبية والدارسين لها، فقد استطاع بفضل جهوده أن يضع خطوطاً عامة لقواعد هذه اللغة، كما قام بترجمة بعض النصوص التي كتبت بها، ولكن أهم عمل في هذا الصدد هو ما قام زيهيلارز الذي نشر في العام 1928م قواعد اللغة النوبية وأظهر تعمقه في فهم اللغة النوبية والإلمام بها، فقد وضع أسساً ثابتة لدراستها وتوضيح مشكلاتها(2)
وقد اختلف العلماء في أصل هذه اللغة فمنهم من قال أنها حامية الأصل كالنوبيين أنفسهم، ومنهم من يظن أن الصبغة الحامية هي الغالبة عليها سواء من ناحية المفردات أو النحو أو الصرف وعليه يرونها حامية الأصل دخلتها مؤثرات أجنبية حسب رأس راينش وموري..
وصفوة القول أن الثقافة والحضارة النوبية كانت عظيمة فيما يختص بالفنون واللغة المكتوبة.
ثانياً: الفلسفة والحكمة والعلوم:-
لم توضح لنا المصادر التاريخية التطور في هذا الجانب عند النوبة وفي حضارتهم القديمة السابقة أو المعاصرة لحضارة النوبة مثل الحضارة الصينية والهندية والفارسية واليونانية والرومانية والحضارة العربية الإسلامية ولكن أبو القاسم الأندلسي الذي زار بلاد النوبة في القرن العاشر يقول:
" إن السودان ليس لديهم ميل طبيعي للفلسفة أو العلوم الدقيقة ولكن بعض القبائل منهم لقربهم من الشعوب المتمدنة قد تأثرت بنظم الشعوب المتقدمة..(1)
وجاء في كتاب ( طبقات الأمم): من كان منهم ساكناً قريباً من خط معتدل النهار غلب عليهم الطيش وفشا فيهم التسول والجهل مثلما كان من السودان ساكناً بأقصى بلاد الحبشة والزنوج وغيرها.. أنهم لم يستعملوا أفكارهم في الحكمة ولا راضو أنفسهم بتعلم الفلسفة وأن جمهورهم من هذا وهم أهل المدن وخلافهم من أهل البادية لا يخلون من سياسة ملوكية تضبطهم ناموس إلهي بملكهم.(2)
وحول خفة وطيش السودانيين وما يشاع عن ضعف عقولهم أورد ابن خلدون في مقدمته التفسير التالي:
" ولما كان السودانيون ساكنين في الإقليم الحار واستولي الحر علي أمزجتهم وأصل تكوينهم كان في أرواحهم الحرارة علي نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أمزجتهم واصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة علي نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلي أرواح الإقليم الرابع(3) أشد حراً فتكون أسرع فرحاً وسروراً وأكثر انبساطاً ويجئ الطيش علي أثر هذا ويواصل ابن خلدون ويقول:
" وقد تعرض المسعودي للبحث عن السبب في خفة السودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم وحاول تعليله فلم يأت بشئ أكثر من أنه نقل من جالينوس ويعقوب بن اسحق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم وما نشأ من ضعف عقولهم وهذا كلام لا محصل له ولا برهان فيه"..(1) وكان ابن خلدون قبل ذلك قد قدم تفسيراً شبه علمي لسواد بشرة السودانيين التي أرجعها إلي حرارة الجو وفند فيها الإعتقاد الديني القديم الذي كان يرجعها إلي سواد بشرة حام بن نوح الذي انحدر منه الحامي والزنجي ولا شك أن ما أورده ابن خلدون كان أكثر تقدماً مما أورده في تفسير سواد البشرة والذي يبدو معقولاً ومنطقياً وبعكس ما ورد في القصص القديمة حول سواد البشرة.
وربما يرجع عدم الميل إلي الفلسفة والعلوم الدقيقة إلي عزلة بلاد النوبة عن الحضارات القديمة ومراكزها العلمية والفلسفية ( الحضارة اليونانية والرومانية وغيرها) خاصة.
بعد انفصال واستقلال السودانيين نهائياً عن المملكة المصرية الحديثة وتكوين حضارتهم المستقلة في نبتة ومروي وبعد انهيار حضارة مروي لا تشير المصادر إلي الاتصال بالحضارات التي كانت معاصرة لها في ميدان الفلسفة والعلوم، وحتى بعد قيام ممالك النوبة التي أصبحت مسيحية فيما بعد لم تشر المصادر إلي احتكاك بالمراكز الثقافية والحضارية التي كانت موجودة في الإسكندرية التي كانت بها جامعة تدرس فيها الفلسفة والعلوم المختلفة والاتصال الوحيد الذي ورد في هذا الجانب هو دخول المسيحية إلي بلاد النوبة كما أوردنا سابقاً.
وحتى بعد انتشار المسيحية في بلاد النوبة نجد أن الكنيسة النوبية فشلت في إنشاء حركة ثقافية وتعليمية وكما أشار ترمنجهام بقوله " أخفقت الكنيسة النوبية علي النقيض من الكنيسة المصرية في أن تنمي للبلاد ثقافة وطنية أو تطور مراكز للتعليم وذلك يعزي لفقدانها الحيوية. وأصاب المسيحية في السودان التمزق جراء الاختلافات المذهبية والخصومة بين الكنيسة البيزنطية والمصرية وقد دب الفساد إلي القسيس والرهبان الذين فقدوا الاتصال بالكنيسة فيما وراء الحدود. ولم يأتوا بأي حركة إصلاحية ومن ثم عجزت المسيحية عن تغيير حياة الناس إلي أفضل كما عجزت عن إنشاء حركة ثقافية تعليمية في الشمال.(1)
ولكن مع ذلك فإن بلاد النوبة لم تكن تخلو من الحكمة والحكماء والعلماء الذين كان لهم إسهامهم في الحضارات السابقة للإسلام والثقافة العربية الإسلامية ويمكن إيراد الأمثلة الآتية لنبرهن علي زعمنا لهذا.
1- يقول المسعودي وكان ببلاد مدين وأيلة في مصر داؤد عليه السلام لقمان ابن مريد بن صاوون وكان نوبياً مولي للعين بن جر ولد علي عشر سنين من ملك داؤد عليه السلام، وكان عبداً صالحاً فمّن الله عز وجل عليه بالحكمة والزهد في هذا العالم إلي أيام يونس بن متى حين أرسل إلي أرض نينوي من بلاد الموصل (2) ولقمان الحكيم معروف وهو الذي وردت سيرته في القرآن الكريم ( سورة لقمان).
2- وفي حكمة بعض ملوك النوبة أيضاً ترد قصة عبد الله بن مروان المشهور عندما دخل أرض النوبة فاراً من السفاح كما أوردها ابن خلدون في مقدمته بقوله ثم استحضر عبد الله بن مروان فقص عليه خبره مع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح قال أقمت ملياً ثم أتاني ملكهم فقعد علي الأرض وقد بسط لي فرش ذات قيمة فقلت ما منعك علي القعود علي ثيابنا فقال: إني ملك وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذا رفعه الله. ثم قال لي: " لمً تشربوا الخمر وهي محرمة عليكم فقلت اجترأ علي ذلك عبيدنا وأتباعنا قال فلِم تطأون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم، قلت: فعل ذلك عبدينا وأتباعنا بجهلهم. قال: فلِم تلبسون الديباج والذهب والحرير وهو محرم عليكم في كتابكم قلت: ذهب ما الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا ديننا فلبسوا ذلك علي الكره منا فأطرق ينكث بيده في الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا ثم رفع رأسه إليّ وقال: " ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بذنوبكم ولله نعمه لم تبلغ غايتها فيكم وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم. وإنما الضيافة ثلاث فتزود ما احتجت إليه وارتحل عن أرضي..(1) ويري بعض المؤرخين أن هذه الرواية مدسوسة علي الأمويين من قبل أعدائهم العباسيين ومهما يكن من شئ سواء أكانت مدسوسة أم لا، فما يهمنا حكمة ملك النوبة التي يمكن استخلاصها من ثنايا الرواية علي النحو التالي:-
أ) تواضع ملك النوبة عندما قال أني ملك وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة
الله إذا رفعه.
ب) لخص ملك النوبة في إيجاز شديد بليغ الأسباب التي أدت إلي زوال خلافة بني أمية وهي: الظلم والفساد واستحلال ما حرم الله والإتيان بما نهي، أي أن بني أمية كانوا يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يرضي عنه الخالق والناس..
ج) أكرم ملك النوبة ضيوفه لمدة ثلاثة أيام ثم أمرهم بالرحيل بعد ذلك وبعد أن تزودوا بما احتاجوا إليه.
3- وأورد د. عبد الله الطيب خبراً عن الجاحظ وسيدنا بلال مؤذن رسول الله (ص) والجاحظ العظيم كان كثير الاستطراد، واصلة من بلادنا وأشياء كثيرة في بيانه وحيوانه تدل علي ذلك ومن الجاحظ علمنا أن سيدنا بلال من السابقين الأولين وصاحب الآذان رضي الله عنه كان نوبي الأصل.
4- وأفادنا ابن الوردي (861-1457م) في كتابة جريدة العجائب بخبر عن ذي النون المصري العالم الصوفي المشهور ورد فيه أن لقمان الحكيم – الذي كان مع داؤد عليه السلام وهو المذكور في القرآن من النوبة وأنه ولد بايلة ومنها ذو النون المصري رضي الله عنه وبلال بن حمامة خادم رسول الله صلي الله عليه وسلم ومؤذنة..(1)
5- كما أورد ياقوت الحموي (626هـ – 1229م) صاحب معجم البلدان خبراً عن يزيد بن أبي حبيب – المؤرخ العربي المشهور – بأنه كان نوبياً وأن والده من سبي دنقلا بقوله:
قال: يزيد بن أبي حبيب ليس بين أهل مصر والأساود عهداً وإنما هو أمان بعضنا مع بعض نعطيهم شيئاً من القمح وعدس ويعطوننا رقيقاً..
وقال ابن ابي لهيعة: وسمعت يزيد ابن أبي حبيب يقول كان أبي من سبي دمقلة (دنقلة) والله أعلم(2) من الأمثلة والأخبار أعلاه ليس الغرض هو التحقيق ما ورد فيها لإثبات خطأها أو صحتها ولكن أريد أن أقول أنه مهما يكن من أمر سواء كان لقمان والجاحظ وبلاد ويزيد بن حبيب أو ذو النون المصري سواء كانوا نوبيين أو وغير نوبيين فإن الواضح لنا من المصادر التاريخية أن مملكة النوبة الموحدة ( التي نشأت بعد اندماج نوباطيا والمغرة ) والتي وردت في كتابات المؤرخين العرب كانت عظيمة الشأن في الشرق الأدنى وذكرها المؤرخون العرب بين الممالك الأربع الكبرى في ذلك العصر مع بلاد الفرس واليونان والمسلمين وأخذت مملكة النوبة تلعب دوراً هاماً بين عظماء الشرق وهكذا أبتدأ من ذلك العصر الذهبي للفنون والعظمة السياسية التي بلغت ذروتها في منتصف القرن الميلادي.
وإذا كان الأمر كذلك كما أشار د. ج. فانتيني فإنه لا يستبعد كغيرها من الحضارات الأخرى غير العربية أنها تفاعلت أخذاً وعطاءاً مع الحضارة العربية قبل وبعد الإسلام. وبالتالي ربما يمكن أن يكون منهم بلال أو الجاحظ أو لقمان أو ذو النون المصري أو يزيد بن حبيب.
وكما أشار ابن خلدون في مقدمته أن أهل الحضارة هم العجم وأن صاحب صناعة النحو سيبويه والفارس ومن بعده والزجاج من بعدهما ، وكلهم عجم وأن علماء أصول الفقه كلهم عجماً وحملة علم الكلام، وكذا أكثر المفكرين ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم..(1)
ومن هذا المنظور الواسع نعالج إسهام النوبة في الحضارة والثقافة الإسلامية، وطالما أن النوبة كانت لهم حضارة لم تكن تقل عن حضارة الفرس والروم، فمن الجائز أن يكون أفراد من النوبة أسهموا في بناء صرح الثقافة والحضارة العربية الإسلامية، وحكم وأمثال النوبة التي أوردها الأستاذ محمد متولي بدر في كتابه حكم وأمثال النوبة تعطينا صورة واضحة للمجتمع النوبي وتركيبته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما أنها تعبر تعبيراً صادقاً عن بيئة المنطقة الصادرة منها تلك الحكم والأمثال. كما تعكس وضع المرأة في المجتمع النوبي، كما تمجد الأمثال قيم العمل والتعاون والتي كانت تعتبر ضرورية للحياة ولتماسك المجتمع كما تشير الأمثال إلي قيم جميلة مثل الشجاعة ونبذ الضعف وسداد الرأي وإكرام الضيف ونبذ البخل" وعدم الاستبداد بالرأي، ومواجهة الداء بالداء، وكتمان الأسرار وعدم انشغال الإنسان بأمور كثيرة في وقت واحد ومن الأمثلة لتلك الحكم والأمثال.
* الذي يموت لا يعدم الكفن * " بالمواجهة تحل المشاكل"
* برش الضيف مطوي * " الجمل لا يري سنامه"
* الذي يخاف من الشوك لا يأكل البلح"
* الذي يطبخ يذوق ما يطبخه " الكلام الطيب يستخرج الحية من جحرها"
* الذي يركب علي سرجين لا محالة واقع وغير ذلك
ثالثاً: سوف نتناول في هذا الجزء البنية الفوقية لمجتمع الساقية والتحولات التي طرأت علي البنية الثقافية – الفكرية بعد انتشار الإسلام.
1- البنية الفوقية لمجتمع الساقية:
المقصود بالبنية الفوقية لمجتمع الساقية هو مجمل النظام الاجتماعي الثقافي الفكري الذي قام حول مجتمع مثلث الساقية عصب حياته الأساسية.
وكما هو والحال في المجتمع الرعوي الذي يشكل الحيوان فيه الجانب الاقتصادي الأساس أو مركز الثقل في ذلك النمط من الحياة فيقوم علي ذلك النمط نظام اجتماعي ثقافي وسياسي محوره ومركزه الحيوان ( أبقار ، جمال ، ضأن ... إلخ).
فإن الساقية أيضاً قام حولها نظام اجتماعي ثقافي معين والساقية كما أشرنا سابقاً مثلث ثورة تقنية هائلة عندما دخلت أرض النوبة أيام مملكة مروي الأخيرة عن طريق مصر، وهذه الثورة التقنية تمثلت في انتقال الإنسان النوبي من الاعتماد علي القوة العضلية في الري بالشادوف إلي الساقية التي كانت تعتمد علي قوة الحيوان وبالتالي زادت من القوى الإنتاجية ، وكانت ثورة في القوى المنتجة كما أسهمت الساقية في استقرار حياة الإنسان النوبي التي كانت عرضة للفيضانات نتيجة لارتفاع أو انخفاض منسوب النيل. والساقية وفرت الري الدائم وبالتالي وفرت حياة مستقرة لمجتمع النوبة الزراعي الذي اعتمد عليها ... وحول هذا المجتمع المستقر قام نظام اجتماعي ثقافي معين ( بنية فوقية ) فما هي سمات البنية الفوقية لمجتمع الساقية ؟
1- عرف النوبة العمل التعاوني أو النفير أو الفزعة في إنشاء السواقي الجديدة أو في حفر بئر الساقية التي كانت العادة إذا حفرت بئر أن يحضر كل رجل حجراً واحداً، فيكفي ما يحضرونه طئ البئر إلي منتهاها.(1)
2- مجتمع الساقية ينتج تخصصاً أو تقسيماً اجتماعياً للعمل فيها من صمد ( رئيس الساقية ) إلي النجار ، أو صناع الفخار ، صانع الحبال، صانع التروس ، بصير الساقية ، والحداد وغيرها من المهن المختلفة.. وكان لكل من أصحاب هذه المهن في النهاية نصيب معلوم من المحصول في نهاية الحصاد، وبالتالي نشأت علاقات توزيع تعبر عن هذا التقسيم الاجتماعي للعمل.
3- الساقية كغيرها من مصادر الحياة والإخصاب ، في بلاد النوبة كان لها تقدير عظيم في حياة النوبة وعاداتهم وتقاليدهم ، فالساقية مثل المرأة والأبقار تصاب بالكبسة التي كانت تعالج بالمشاهرة كما أوضحنا سابقاً فهي تعرف " الحسد " وال" العين" وغير ذلك. والمرأة هي مصدر الإخصاب واستمرار الحياة الذي يمد المجتمع بالرجال والنساء كقوة منتجة بشرية أساسية، والبقرة لها دور كبير في عمل الساقية ودورانها إضافة إلي أنها مصدر اللبن واللحم وغير ذلك وبدون الساقية لا حياة مستقرة للنوبة. وبالتالي فإن ثالوث المرأة ، البقرة ، الساقية كان له تقدير عظيم وخاص في أرض النوبة.
4- الفن النوبي كان يدور حول الساقية كما لاحظ د. أبو سليم كان يدور حول الساقية بمجالس الطرب وحفلات الأفراح ومجلس الشراب والغناء كان الجانب الأعظم فيها الغناء مكرساً نحو المزارع المجتهد وذاتيته الأصلية وسواقيه وأصواتها الشجية وزراعته الناجحة. ومن الآلات التي كان يستخدمها النوبة في ذلك الغناء والطرب هي آلة الطمبور أو الربابة واسمها النوبي " كيسر" وهي من الآلات القديمة ذكرها المسعودي في تاريخه، وعرفت في الحضارات القديمة في فارس وفي مصر وفي روما كانت تسمي " اليزا" واسمها العربي كنار، وفي البادية نجد آلة مشابهة تسمى السمسمية ، وربما يكون دخول الطمبور للسودان عن طريق مصر في عهد المملكة المصرية الوسطي أو وبعدها(1) كما استخدموا الطار أو الدف ، ورقص النوبة وغنائهم الجماعي معروف ولما كان اقتصاد الساقية اقتصاداً معيشياً وفقيراً ، فقد كان النوبة يهاجرون إلي الخارج بحثاً عن العلم لتلبية متطلبات حياتهم الأخرى مثل الزواج وما يستلزم من فتح بيت جديد. وبالتالي فإن النوبة عرفوا في أغانيهم السفر والغربة والحنين إلي الوطن وبسبب شح الماء الناتج من الساقية والذي لا يكفي لري إلا ما هو ضروري فإن أغاني النوبة - كما لاحظ د. أبو سليم – جاءت خالية من الزهور والورود وأشجار الزينة وغير ذلك، وبالتالي فإن الساقية في بلاد النوبة ظلت أساس العمران لقرون طويلة، وقام حولها الاقتصاد المعيشي والبنية الفوقية التي أشرنا إليها أعلاه، واستمرت كذلك بعد زوال ممالك النوبة المسيحية وقيام دولة الفونج الإسلامية وحتى بداية القرن العشرين الذي بدأ يشهد دخول طلمبات الري بالبخار والبترول والخزانات الضخمة الكبيرة، مما أدي إلي اضمحلال الساقية ، وبالتالي فإن الساقية شكلت حلقة في تطور القوى المنتجة ا لزراعية في السودان، وتم فيها الإنتقال من جهد الإنسان ا لعضلي في الري إلي جهد الحيوان الذي هو أكبر وأقوى من جهد الإنسان، وبعد الحيوان دخلت الطاقة البخارية والبترولية والكهربائية والتي هي أقوى بكثير من طاقة الحيوان.. وهكذا تطورت القوى المنتجة في الزراعة والصناعة في العالم كما هو معلوم.
2- تحولات في البنية الثفافية – الفكرية بعد إنتشار الإسلام:
بعد إنتشار الإسلام في بلاد النوبة بدأت تحصل تحولات في ا لبنية الثقافية الفكرية لبلاد النوبة التي إستعرضنا أبرز معالمها سابقاً حسب ما تيسر لنا من المصادر التاريخية.. وهذه التحولات في وجهتها الأساسية كانت تتمشى مع التطور والتقدم الاجتماعي كما يظهر من الآتي:
بعد انتشار الإسلام في بلاد النوبة لم يعد بإمكان الملك أو شيخ القبيلة أو السلطان أن يسترق من يشاء من رعاياه بجرم وبغير جرم كما كان يفعل ملك المغرة. كما أن الملك أو السلطان لم يعد مالكاً للأرض والشعب كعبيد له كما كان الحال عند ملوك النوبة، بل تغير الوضع إلي الأفضل. صحيح أن السلطان ( سلطان الفونج) كان نظرياً هو مالك للأرض ولكنه كان يملكها إلي الآخرين بحجج معينة وبنصيب معلوم في خراجها، ولكن الفلاحين العاديين فيما عدا الرقيق لم يكونوا عبيداً لحاكم المسلمين، وهذه من التحولات الهامة في النظام السياسي والاجتماعي، فيما يختص بعلاقة الحكام وأفراد الشعب، كما أن نظام الحكم المركزي الذي كان سائداً في بلاد النوبة تبدل إلي حكم لا مركزي.
1- ترتب علي انتشار الإسلام تحولات تدريجية فيما يختص بنظام العائلة، وتغير نظام الأمومة أو النسبة من جهة الأم إلي جهة الأب حسب الشريعة الإسلامية أي تم التحول من نظام الأمومة إلي نظام الأبوة الحالي كما تم تنظيم الميراث وفقاً للشريعة الإسلامية بدلاً من الذي كان سائداً في بلاد النوبة والذي كان فيها الميراث من جهة الأم.
هذا إضافة إلي تنظيم الزواج والطلاق حسب الشريعة الإسلامية بدلاً من الفوضى التي كانت سائدة في بلاد النوبة التي كانت لا تعتمد علي شريعة دينية ولا علي أداب وحكم في هذا الجانب إضافة إلي أنهم كانوا يقربون النساء أيام الحيض، كما علم غلام الله بن عائد وهو من أوائل شيوخ الإسلام والصوفية العدة حسب ما أورد ابن ضيف طبقاته أن أهل النوبة كان يطلق الرجل منهم زوجته ليتزوجها غيره في نفس النهار وهكذا بدأت تحصل تحولات في هذا الجانب.
2- قيما يختص بعلاقة الدين بالدولة حدث تحول أساسي فقد كان ملوك النوبة يجمعون بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، أي كانوا ملوكاً وقساوسة في نفس الوقت، وتحول مركز الثقل الديني إلي شيوخ الصوفية الذين كان لهم استقلالهم عن الملوك والسلاطين، وكان السلاطين يخشونهم ويعملون لهم ألف حساب ويعطونهم الأراضي، أي أن الدين أصبح بشكل من الأشكال مستقلاً عن الدولة رغم أن دولة الفونج كانت إسلامية، وكانت تحكم استنادا إلي الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية.
4- حلت اللغة العربية محل اللغة النوبية بشكل جماهيري واسع نتيجة للدور الذي لعبه شيوخ الخلاوى والصوفية في تعليم الناس القرآن واللغة العربية، وأصبحت هي اللغة الرسمية في دواوين الدولة والحكومة وفي المحاكم وغير ذلك. هذه هي أبرز التحولات ولكن لابد أن نشير إلي أن الثقافة النوبية بعاداتها وتقاليدها الراسخة في القدم فيما يختص بالإنتاج المادي وأدواته تركت بصماتها علي التطورات في البنية الإنتاجية والفكرية اللاحقة التي حلت محلها، وذلك من موقع النفي الجدلي الذي يعني أن كل تطور جديد يستند بشكل من الإشكال علي منجزات التطور السابق له، ويحمل سماته العامة مع إضافة الجديد.
خاتمة:-
يمكن أن نلخص استنتاجاتنا للفصول السابقة علي النحو التالي:
علي ضفاف النيل الخالد أقام النوبة حضارة ومدنية راقية متطورة اقتصادياً وثقافياً. وهذه الحضارة شأنها شأن كل الحضارات القديمة السابقة عرفت لحظات ازدهار واضمحلال وزوال.. ولكنها تبقي في مجرى التاريخ السوداني العام مكوناً أساسياً من مكونات الحضارة والثقافة السودانية فما هي أهم معالم البنية الإنتاجية الطبقية لتشكيلة النوبة؟
1- الزراعة:
عرفت شعوب النوبة الزراعة، وكانوا يزرعون القمح والذرة والشعير والحبوب والنخل والكروم والزيتون والموز والقطن والبصل والبطيخ والبقول… إلخ كما كانوا متطورين فيما يختص بالري فاستخدموا السواقي التي تدار بالبقر كما عرفوا السماد بروث البهائم كما عرفوا ثلاث دورات للزراعة بعد استخدام السماد.
2- الرعي والصيد:
أما القبائل البعيدة من النيل كما هو الحال في الجهات الصحراوية حيث تقل الأمطار فقد كانت ثروتهم تتكون أساساً من المواشي والإبل والغنم أي أنهم كانوا رعاة، وفي بعض المناطق مثل ابريم عرفوا تربية الخنازير.
كما عرفوا الصيد حيث كانوا يصطادون السمك من النيل والحيوانات المتوحشة مثل السلاحف والزراف والقرود والفهود التي كانوا يصدرونها للبلاد المجاورة.
كما اعتاد أهل النوبة أن يذهبوا إلي مصر للعمل ويعودوا إلي بلادهم بعد أن جمعوا الأموال التي كانوا يحتاجون لها.
3- التجارة:
نتيجة لتطور الزراعة ونشوء الفائض من عائد الرعي والصيد ازدهرت التجارة وعرف النوبة التجارة مع مصر وغيرها… حيث كانوا يصدرون إلى مصر كميات من ريش النعام وسن الفيل والأبنوس والصندل والرقيق وغيرها من الأخشاب والتبر الذي يستخرج منه الذهب من رمال الأنهار أو من جبال كردفان أو البحر الأحمر وبعض المعادن في صحراء العتمور إضافة للفحم والمواشي والصمغ وجلود الحيوانات والأحجار الكريمة وكانوا يقايضون المصريين بالأنسجة.
وكان للنوبة تجارة مع القبائل الاستوائية ( التجارة الصامتة) حيث كانوا يحملون إليهم الملح وقطعاً من المنسوجات والحديد، وكانوا يجلبون منهم الذهب والبخور.
أما الشعوب الإفريقية الأخرى فكان النوبة يستوردون منها سن الفيل والأسود والزرافات والطيور النادرة والسموم القوية.
إضافة للتبادل والمقايضة، فقد عرف النوبة النقد واستخدموا الدينار والدرهم في تعاملهم مع التجار المسلمين في بلاد مريس.
4- الصناعة الحرفية:
عرف النوبة صناعة الحديد الذي كانوا يستخرجونه ويصنّعونه في مروي الواقعة بالقرب من كبوشية والتي كانت من أكبر مراكز صناعة الحديد تصدره إلي كل الجهات في القارة شرقاً وغرباً وجنوباً.
كما عرفوا صناعة النسيج من القطن والصوف وصناعة الخمور من الذرة والبلح، وعرفوا صناعة السواقي وصناعة الفخار التي كانوا بارعين فيها كما توضح الآثار من الفخار الموجودة حالياً في متحف السودان.
إضافة للحديد عرفوا استخراج الذهب والفضة، هذا إضافة إلي صناعة أدوات الإنتاج الزراعي من الخشب والحديد وصناعة السلاسل والأطباق والحبال وصناعة المراكب والأبواب والعناقريب وصناعة أدوات القتال ( درق ، أقواس، نشاب.. إلخ).
ولكن من جانب آخر لاحظنا تخلف التكنيك العسكري النوبي في العصور الوسطى من خلال المعارك التي خاضوها ضد العرب في غزوهم الأول لبلاد النوبة، وفي معركتهم ضد حملة توران شاه، وفي حربهم ضد المماليك ويبدو أن عزلة النوبة عن التطور في العالم في هذا الجانب كان من أسباب التخلف التكتيكي.
5- عرف النوبة المدن الصناعية والتجارية والثقافية كنتاج لتطور الزراعة والتجارة والصناعة الحرفية. كما شهدت هذه المدن فن إزدهار العمارة فكانت المنازل تبني من الجالوص ( الطوب الأخضر) إضافة للكنائس التي كانت تبني من الحجر والطوب الأحمر والطوب الأخضر.
أما فيما يختص بطعام النوبة والبجا فكان يتكون من الخبز واللحوم ( سمك ، ماشية طيور… إلخ) إضافة للمنتجات الزراعية الأخرى بلح بطيخ، بصل ، زيتون وشرابهم اللبن والمريسة أما ملابسهم فكانت من جلود الحيوانات (نمور ، أسود ، فهود ، ومن نسيج القطن المصنع محلياً أو المستورد من مصر).
6- أما فيما يختص بعلاقة النوبة بالدولة الإسلامية التي كان يمثلها والي مصر فقد عرف النوبة ثلاثة مستويات من العلاقة معها، مترابطة ومتداخلة وهي: (أ) اتفاقية البغط (ب) الغزو والنهب (ج) الجزية.
ومن ذلك يتضح أنه ليس صحيحاً بشكل مطلق أن الإسلام انتشر سلمياً في السودان، وقد يكون ذلك صحيحاً بشكل جزئي مثل المصاهرة ، الطرق الصوفية العلائق التجارية والاقتصادية ، أبناء النوبة في مصر إلخ..
إضافة للكوارث التي كان يتعرض لها النوبة من جراء انخفاض وارتفاع منسوب النيل وما يترتب علي ذلك من مجاعات أو فيضانات تدمر المباني والزرع والضرع، تعرض النوبة في عهد الدولة الأيوبية في مصر لغزو الدمادم الذي الحقوا ببلاد النوبة الدمار الذي تسبب في ضياع جزء كبير من معالمها الحضارية المتطورة، ويقارن المؤرخون العرب هذا الدمار بالدمار الذي ألحقه التتار بالحضارة العربية الإسلامية وتسببوا في ضياع كثير من تراثها الثقافي.
7- ثم بعد ذلك درسنا وفحصنا تشكيلة النوبة بهدف تحديد مميزاتها وخصوصيتها، وبدأنا بالإقطاع وقادتنا الدراسة حسب المعطيات التاريخية أن الإقطاع النوبي كانت له خصوصياته التي تميزه عن الإقطاع الأوربي أو الشرقي أو نمط الإنتاج الآسيوي.
كما درسنا خصوصية نظام الرق أو نمط الإنتاج العبودي وتوصلنا إلي أن السمات العامة التي كانت تميز الرق في بلاد النوبة هي أن عامة الشعب كانوا عبيداً لملك النوبة يعملون في الأرض لصالح سادتهم الملوك أو من ينوب عنهم في المناطق البعيدة وأن الرقيق يصدر للخارج إضافة إلي أنه كان عنصراًُ أساسياً في اتفاقية البغط وكان وسيلة تبادل (عملة) ، كما كان يستخدم في استخراج الذهب والزمرد في وادي العلاقي، ثم بعد ذلك عممنا لنصل إلي خصوصيات تشكيلة النوبة ككل ووجدنا أنها تتكون من أنماط متداخلة ومترابطة في شمولها وعمقها، وتتكون تلك الأنماط المتعددة أو المتنوعة من:
أ- نمط إنتاج إقطاعي وبالسمات التي حددناها في الدراسة والتي تتلخص في أن ملك النوبة كان يمتلك الأرض ويعتبر العاملين فيها عبيداً له.
ب- نمط الإنتاج العبودي الذي كان متداخلاً مع نمط الإنتاج الإقطاعي، وخارجاً عنه في حالات أخرى من جراء الوظائف المختلفة التي يشغلها الرقيق في بلاد النوبة.
ج- نمط الإنتاج السلعي: عرف النوبة اقتصاد السلعة والنقد في بلاد مريس التي كانوا يستخدمون فيها الدينار والدرهم إضافة للمقايضة في جنوب بلاد مريس.. كما كان للنوبة تجارة بعيدة أو خارجية مع بلاد مصر والحجاز وغيرهما.. وقامت مدن ومراكز تجارية كما انتشرت ا لصناعة الحرفية..
وهنا أيضاً قادتنا الدراسة إلي أن لتشكيلة النوبة خصوصيات ومميزات معينة بحيث يصبح من الخطأ مطابقتها بلوحة ماركس الخماسية عن التاريخ الأوربي أو نمط الإنتاج الآسيوي، وقد تحمل تشكيلة النوبة بعض السمات من هذه أو تلك ولكنها تتمايز عن كل منهما بخصوصيتها ومميزاتها المتفردة التي أوضحناها في الدراسة، وأخيراً تعرضنا للتحولات التي حدثت في تشكيلة النوبة بعد إنتشار الإسلام في بلاد النوبة والتي أهمها: التحول في نظام ملكية الأراضي والتي كانت ملكاً خاصاً للملك في بلاد النوبة، ونال الفرد حريته بعد أن كان كل الأفراد عبيداً لملك النوبة. وأصبحت الأرض ملكاً للقبيلة وصارت توزع علي الجماعة، يقومون علي استقلالها ودفع الضريبة أو ا لخراج لشيخ القبيلة أو زعيم الدار ويعد هذا الدور من التطور – الإنتقال من مرحلة الإقطاع المطلق إلي نظام إقطاعي جديد يعطي الفرد نصيباً من جهوده – خطوة متقدمة في تطور ملكية الأرض في السودان.
وبحثنا في الباب الثاني البنية الثقافية - الفكرية ويمكن أن نصوغ خلاصة استنتاجنا علي النحو التالي:
1- ورث النوبة عن المملكة المروية تقاليد نظام الحكم الإقطاعي المركزي مع اختلاف الظروف والشروط التاريخية كما ورثوا تقاليد الملكة الأم أو دور الملكة الأم في تسيير شئون المملكة.
والواقع أن حدود ممالك النوبة المسيحية هي نفسها حدود المملكة المروية القديمة التي بلغ نفوذها ساحل الجبال الإثيوبية شرقاً وسهل كردفان ودارفور غرباً والجزيرة بين النيلين جنوباً، وكان الملك هو صاحب الأرض والشعب كله عبيده لا يخالفون له أمراً ولا يعصونه كما كان ملوك النوبة يتمتعون بسلطة سياسية ودينية في نفس الوقت والإختلاف عن مملكتي نبتة ومروي هو أن الكهنة في مملكتي نبتة ومروي كانوا ينتخبون الملوك ويعزلونهم إذا شاءوا أي أن السلطة الفعلية كانت في يد الكهنة، أي كانت سلطة دينية مطلقة، أما في مملكة النوبة فقد جمع الملك بين السلطة الدينية والدنيوية، وهذا في حد ذاته تطور ملحوظ في هذا الجانب، أي الإنتقال من حكم الكهنة المطلق الذي كان يؤله الملك إلي نظام يجمع فيه الملك بين السلطة الدينة والدنيوية.
وبعد اتفاقية البغط تأثر النظام السياسي والاجتماعي في مملكة المغرة بعوامل داخلية وخارجية جعلته في حالة عدم استقرار، ونتيجة لذلك استمر في التدهور والاضمحلال حتى سقوط المغرة نهائياً ، والحال نفسه ينطبق علي مملكة علوة.
2- أما عن النظام الاجتماعي فكما أشار المؤرخون العرب أن ممالك النوبة المسيحية لم تكن تعتمد علي شرائع دينية أو آداب تنظم حياة الناس الاجتماعية.
3- عالج البحث المسيحية السودانية وعرفها بأنها نتاج تفاعل تعاليم المسيحية كما وفدت من الخارج مع الأعراف والتقاليد الموروثة السابقة لها، كما أشار إلي الديانات الوثنية السابقة للمسيحية في بلاد النوبة وانعكاس هذه الديانات علي تشكيل المسيحية السودانية، كما أشار إلي خصوصيات المسيحية في السودان التي كانت تتميز بالتسامح، فكلا الطائفتين اليعقوبية والرومية كانتا موجودتين في بلاد النوبة، كما أوضح البحث الصعوبات التي واجهت انتشار المسيحية.
وأشار البحث إلي بعض خصوصيات المسيحية السودانية التي منها كانت عادة ملوك النوبة أن يكون ملكهم مكرزاً في رتبة الكهنوت، أي أن ملك النوبة كان ملكاً وقساً في نفس الوقت.
كما أن النوبة تخلصوا من ظاهرة الأساقفة الأجانب هذا إضافة إلي تمسكهم بالختان الفرعوني والعماد بالنار، والأخطاء العقائدية الأخرى مثل الاعتراف بالخطايا، هذا إضافة إلي أن بعض ملوك النوبة كانوا يتخلون طوعاً عن ملكهم ليتفرغوا للحياة الرهبانية فضلاً عن مديح الصليب الذي كان يميز المسيحية السودانية عما سواها، زد علي ذلك صورة الملوك المرسومة في الهيكل وفي أشرف مكان داخل الكنيسة، والمميزات الخاصة للعبادة الخاصة بالصليب في كنائس النوبة وهي لوحة الثالوث الأقدس ( الأب والابن والروح القدس) والاختلاف في بركة المعمودية.
كما تناول البحث اندثار المسيحية بالنوبة كما أوردها المؤرخون والتي أهمها : عدم انتشارها علي نطاق شعبي واسع واقتصارها علي الملوك والحكام، والفشل في تربية الكادر المحلي من القسس، إضافة إلي الاضطرابات الداخلية والمحلية والفشل في بناء حركة تعليمية ثقافية واسعة في الشمال.
4- ازدهرت الثقافة النوبية ووصلت إلي قمة ازدهارها في القرن العاشر الميلادي وتجلي ذلك الازدهار في التحف الأثرية القيمة من التصوير وتصميم الكنائس وصناعة الأواني الفخارية التي تدل علي مستوى رفيع للثقافة النوبية.
ومثال كنيسة فرس التي أعاد بناءها الياس مطران يدل علي ذلك الازدهار الثقافي فقد تم استخدام القبب بدل السقف المسطح وتم تزيين جدرانها الداخلية بصورة في غاية الفن والجمال .. ويبدو أن فرص كانت من المراكز الثقافية لبلاد النوبة كما تشير الكنائس الأخرى التي اكتشفت والتي كانت علي مثال كنيسة فرص.
تطور الفن والمعمار النوبيان وتم إتباع أسلوب جديد في بناء الكنائس، فبينما كانت قديماً تبني علي أعمدة حجر الجرانيت المستدير بقطع كبيرة مستطيلة، وكان عرض الكنائس مسطحاً، أصبح إبتداءاً من القرن العاشر بناء الكنائس علي أعمدة مبنية من الطوب الأحمر علي شكل مربع تستند عليه السطوح المقوسة مع القباب، ورغم أن النوبة تفاعلوا مع الفن البيزنطي إلا أنهم طوعوه وكيّفوه حسب الظروف المحلية وذوق مواطنيهم.
ومن ظواهر ازدهار الثقافة النوبية التوصل إلى تأليف أبجدية من الحروف القبطية واليونانية ثم استخدامها في كتابة اللغة النوبية، ولكن المصادر لم توضح لنا عدد الحروف الأبجدية التي استخدمت في كتابة اللغة النوبية وتطورت هذه اللغة لتكون لغة القراءة والكتابة ولغة الأدب والتجارة والعبادة.
5- عرفت بلاد النوبة شأنها شأن المجتمعات القديمة نظام الأمومة الذي كان سابقاً علي نظام الأبوة، ورغم تطور المجتمع النوبي من مجتمع بدائي إلي مجتمع زراعي رعوي ( أي أن النوبة عرفوا) الثورة النيولوتية التي تم فيها الانتقال من مجتمع الصيد وجني الثمار إلى المجتمع الزراعي الرعوي، إلا أن بقايا نظام الأمومة ظل مستمراً، وأن كان دور المرأة تقلص إلي الأعمال الاقتصادية المنزلية وأصبح الرجل هو المهيمن في الإنتاج الزراعي الرعوي.
كما أوضح البحث بعض عادات وتقاليد المرأة النوبية الموغلة في القدم، ودور المرأة النوبية في التقسيم الاجتماعي للعمل في مجتمع النوبة.
6- أما في ميدان الفلسفة والحكمة والعلوم فلم تصل إلينا أعمال مدونة في أسفار كتلك التي دوّنها فلاسفة وحكماء وعلماء الحضارات القديمة وفي العصر الوسيط التي كانت سابقة أو معاصرة لممالك النوبية مثل الحضارات الهندية، والفارسية، الصينية ، اليونانية ، الرومانية والحضارة العربية الإسلامية، ولكن بلاد النوبة فلم تكن تخلو من حكمة وحكماء كغيرهم من الشعوب وكانت لهم حكم وأمثال غير مدونة.
كما كان لبعض الأفراد منهم إسهامهم في الحضارات السابقة للإسلام وبعد الإسلام، ومملكة النوبة ذكرها المؤرخون العرب وأشادوا بها من زاوية أنها لم تكن تقل عن ممالك الروم والفرس ودولة الخلافة الإسلامية، وبالتالي من غير المستبعد أن يكون من النوبة الجاحظ أو ذو النون المصري أو غيرهم من اللذين أسهموا بهذا القدر أو ذاك في الثقافة والحضارة الإسلامية.
7- قامت حول الساقية بنية فوقية معينة أبرز سماتها نظام الفزعة والتقسيم الاجتماعي للعمل وعلائق توزيع معينة في النهاية لكل من أطراف هذا التخصص كما ارتبطت بها عادات وتقاليد تعبر عن تقدير خاص للساقية مثل تقدير النوبة للمرأة والأبقار كمصادر للحياة والإخصاب كما أن الفن النوبي دار حول الساقية وعبر عنها.
8- بعد انتشار الإسلام في بلاد النوبة حدثت تحولات في البنية الثقافية – الفكرية أبرزها:
(أ) حل الدين الإسلامي محل الديانة المسيحية.
(ب) حدث تغيير في علاقة الحكام بالمحكومين وزال النظام السياسي الذي كان يعتبر المواطنين رعايا أو وعبيداً لملك النوبة.
(ج) تغير نظام العائلة من نظام الأمومة إلي نظام الأبوة كما حدث تنظيم في الزواج والطلاق بشكل جديد حسب الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية.
(د) فيما يختص بعلاقة الدين بالدولة زال الوضع الذي كان يجمع فيه ملك النوبة بين السلطتين الدينية والدنيوية ( كان ملكاً وقساً في الوقت نفسه )، وتم شبه انفصال بين الدين والدولة أو بين الدولة ورجال الدين، فمثلاً كان شيوخ الصوفية بعيدين عن الدولة الإسلامية في سنار رغم تأثيرهم الروحي علي الناس والحكام، ورغم أن الدولة كانت تقوم علي نظام الشرعية والعرف.
(هـ) حلت اللغة العربية محل اللغة النوبية كلغة تجارة ولغة أدب ولغة عبادة ودولة ولغة دواوين الدولة.
ولكن هذه التحولات في البنية الثقافية – الفكرية لا تعني أن الثقافة النوبية بمعناها الواسع والشامل، أي الحضارة النوبية بتقاليدها الراسخة في القدم، فيما يختص بالإنتاج المادي والفكري، لم تترك بصماتها علي التطورات اللاحقة في التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، بل كان لها تأثير عميق من زاوية أن تشكيلة الفونج اللاحقة كانت نفياً جدلياً لتشكيلة النوبة أو بمعني أن التطور الجديد في تشكيلة الفونح استند بشكل من الأشكال علي التطور السابق في تشكيلة النوبة والتي هي نفسها حملت سمات تشكيلات الممالك السابقة لها (كرمة ، نبتة ، مروي).
المصادر والمراجع
أولاً: الكتب:
1. القرآن الكريم.
2. الكتاب المقدس.
3. إبراهيم بيضون: تكون الاتجاهات السياسية في الإسلام الأول ( دار إقرأ للنشر والتوزيع ط2 1986م).
4. إبن خلدون: المقدمة ( دار الجيل بيروت بدون تاريخ).
5. إبن فضل الله العمري: ملك الأبصار في ممالك الأمصار ( دراسة وتحقيق دور بناكرفولسكي) ( المركز الإسلامي للبحوث 1986).
6. أحمد صادق سعد: تحو ل التكوين المصري من النمط الآسيوي إلي النمط الرأسمالي (دار الحداثة 1981).
7. أحمد صادق سعد: تاريخ مصر الاجتماعي الاقتصادي في ضوء نمط الإنتاج الآسيوي ( دار ابن خلدون 1979م).
8. أحمد المعتصم الشيخ: المؤسسة الدينية التقليدية، دورها ووظائفها في مجتمع الرباطاب - رسالة ماجستير – شعبة الفلكلور ( معهد الدراسات الآفروأسيوية – جامعة الخرطوم 1985م).
9. آرنست ماندل: النظرية الاقتصادية الماركسية - الجزء الأول – ( دار الحقيقة بيروت 1972م).
10. البان ج. وبدجري : التاريخ وكيف يفسرونه، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد ( الهيئة المصرية للكتاب 1972م).
11. الجاحظ: تهذيب الحيوان، تقديم عبد السلام محمد هارون ( مكتبة نهضة مصر بدون تاريخ).
12. الجاحظ: التاج في أخلاق الملوك.
13. الشاطر بصيلي عبد الجليل: تاريخ وحضارة السودان الشرقي والأوسط من القرن السابع إلي القرن التاسع عشر الميلادي ( الهيئة المصرية العامة للكتاب 1972م).
14. الشاطر بصيلي عبد الجليل: معالم تاريخ سودان وادي النيل ( القاهرة 1955م).
15. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ( كتاب التحرير 1966م - 1386هـ).
16. أسامة عبد الرحمن النور: مجتمعات الاشتراكية الطبيعة ( الطبعة الثانية، أورينتال للطباعة والنشر 1986م).
17. بندلي ، صليبا الجوزي: دراسات في اللغة والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي عند العرب ( دار الطليعة بيروت 1977م).
18. بوران ثربورن: سلطة الدولة ترجمة عبد الله خالد ( دار المروج 1985م).
19. ب-ل – شيني : بلاد النوبة في العصور الوسطي ، ترجمة نجم الدين محمد شريف ( الخرطوم 1954م).
20. تاج السر عثمان الحاج: مدخل لدراسة التاريخ الاقتصادي الاجتماعي للسودان القديم ( مخطوط غير منشور).
21. الأب . جون فانتيني : تاريخ المسيحية في ممالك النوبة القديمة والسودان الحديث ( الخرطوم 1978م).
22. جمعة جابر: في الموسيقي السودانية ( شركة الفارابي بدون تاريخ).
23. حسب الله محمد أحمد: قصة الحضارة في السودان ( القاهرة 1966م).
24. محمد عوض محمد: السودان الشمالي، سكانه وقبائله ( القاهرة 1951).
25. محمد إبراهيم أبو وسليم: الساقية ( معهد الدراسات الآفروآسيوية) 1980م).
26. محمد إبراهيم أبو سليم: في الشخصية السودانية ( دار جامعة الخرطوم للنشر 1979م).
27. محمد عمر بشير: تطور التعليم في السودان، ترجمة هنري رياض وآخرون ( دار الثقافة بيروت 1970م).
28. محمد عمر بشير: تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ترجمة هنري رياض وآخرون ( المطبوعات العربية للتأليف والترجمة والنشر ط3 1987م).
29. محمد عمر بشير: مسألة جنوب السودان، ترجمة هنري رياض وآخرون ( دار الجيل بيروت ودار المأمون الخرطوم 1983م).
30. محمد متولي بدر: حكم وأمثال النوبة ( معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية 1978م).
31. محمد صالح ضرار: تاريخ سواكن والبحر الأحمر ( الدار السودانية للكتب 1981م).
32. محمد علي نصر الله : تطور نظام ملكية الأرض في الإسلام – نموذج أرض السواد – ( دار الحداثة بيروت 1985م).
33. متوكل أحمد أمين: النوبة التراث والإنسان عبر القرون ( مؤسسة القرشي للإعلان والطباعة بدون تاريخ).
34. مرجريت شيني: موجز لتاريخ السودان إلي سنة 1500م ترجمة ثابت حسن: مصلحة الآثار بدون تاريخ.
35. منصور خالد: الفجر الكاذب ( دار الهلال 1986م).
36. مصطفي محمد مسعد: المكتبة السودانية العربية ( القاهرة 1972م).
37. مصطفي محمد مسعد: الإسلام والنوبة في العصور الوسطى (القاهرة 1960م).
38. مكي شبيكة: السودان عبر القرون ( دار الثقافة بيروت 1965م).
39. مكي سيد أحمد: خصائص اللحن والإيقاع في منطقة السكوت (منشورات معهد الموسيقى والمسرح 1982م).
40. موريس غودوليية: العقلانية واللاعقلانية في الاقتصاد ( باريس ماسبيرو 1971م).
41. نجم الدين محمد شريف: إنقاذ آثار النوبة ( مصلحة الآثار بدون تاريخ)
42. نجم الدين محمد شريف: السودان القديم وآثاره ( دار جامعة الخرطوم 1971م.
43. نعوم شقير: تاريخ السودان ، تحقيق د. أبو سليم ( دار الجيل بيروت 1981م.
44. نكولاس بولانتراس: السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية ( باريس ماسبيرو 1968م).
45. سمير أمين: التراكم علي الصعيد العالمي، ترجمة حسن قبيس (دار بن خلدون 1978م).
46. سيد محمد عبد الله: من حياة وتراث النوبة بمنطقة السكوت ( معهد الدراسات الآفرو آسيوية 1973م).
47. شوقي الجمل : تاريخ سودان وادي النيل – الجزء الأول ( القاهرة 1969م).
48. صابر محمد دياب: دراسات في تاريخ مصر الإسلامية ( القاهرة بدون تاريخ).
49. صلاح الدين المنجد: ( جمع وتقديم ) مملكة مالي عند الجغرافيين المسلمين ( نصوص) – ( بيروت 1963م).
50. صلاح عيسي: حكايات من دفتر الوطن، كتاب الأهالي رقم (39) (فبراير 1993م).
51. طيب تبزيني: حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث – الوطن العربي نموذجاً ( دار دمشق ط2 1973م).
52. عبد الله الطيب: من حقيبة الذكريات ( دار جامعة الخرطوم 1983م).
53. عبد الله الطيب: في رثاء جمال محمد أحمد ، في الثقافة السودانية، دراسات ومقالات ( دار جامعة الخرطوم فبراير 1990م).
54. عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي ( دار التنوير والمركز الثقافي العربي 1985م).
55. عبد الله العروي: الأيدلوجية العربية المعاصرة ( دار الحقيقة بيروت 1970م).
56. عبد الغفار محمد أحمد: الأنثروبولوجيا الاقتصادية وقضايا التنمية في السودان ( دار جامعة الخرطوم 1975م).
57. عبد الهادي صديق: أصول الشعر السوداني ( دار جامعة الخرطوم 1989م)
58. عبد الحميد العبادي، محمد مصطفي زيادة، إبراهيم أحمد العروي: الدولة الإسلامية (تاريخها وحضارتها) – ( دار نهضة مصر بدون تاريخ).
59. عثمان عبد الله السمحوني: نبتة ومروي في بلاد كوش ( شعبة أبحاث السودان جامعة الخرطوم أغسطس 1970م).
60. علي عثمان محمد صالح: الثقافة السودانية الماضي والحاضر، في الثقافة السودانية ، دراسات ومقالات ( دار جامعة الخرطوم للنشر 1990م).
61. عون الشريف قاسم : قاموس اللهجة العامية في السودان ( القاهرة 1985م).
62. فردريك أنجلز: ضد دوهرينغ ( دار التقدم موسكو 1984م).
63. فردريك أنجلز : أصل الدولة والعائلة والملكية الخاصة ( دار التقدم موسكو، بدون تاريخ).
64. هنري رياض: موجز تاريخ السلطة التشريعية في السودان – دار الثقافة بيروت ( مكتبة النهضة الخرطوم 1967م).
65. ود ضيف الله : الطبقات – تحقيق د. يوسف فضل – الطبعة الثالثة (دار جامعة الخرطوم، 1985م).
66. وليم نظير : المرأة في تاريخ مصر القديم ( دار القلم، 1965م).
67. يوسف فضل : دراسات في تاريخ السودان ( دار جامعة الخرطوم 1972م).
68. يوسف فضل : الشلوخ ( دار جامعة الخرطوم 1976م).
ثانياً: المجلات والدوريات:
1. أرشيف مجلة الثقافة السودانية: الأعداد : مايو 1980م ، فبراير 1980م أغسطس 1979م ، نوفمبر 1979م، أكتوبر 1983م، فبراير 1981م.
2. أرشيف مجلة الخرطوم أعداد : يونيو 1980م، ديسمبر 1981م، يونيو 1982م.
3. أرشيف مجلة وازا: العدد الأول والثاني.
4. د. أحمد الياس : صلح عبد الله بن أبي السرح مع مملكة نوباطيا، مجلة حروف ( العدد 2-3) مزدوج ديسمبر / مارس 1990/ 1991م دار جامعة الخرطوم للنشر.
5. الحاج حمد محمد خير : ابن سليم الأسواني وكتاب أخبار النوبة، في مجلة الدراسات السودانية العدد ( 1-2) مزدوج ومجلد ( 9) 1989م.
6. د. جعفر ميرغني: المعربات السودانية، مجلة حروف العدد ( 2-3) مزدوج ديسمبر / مارس 1990 –1991م ( دار جامعة الخرطوم).
7. جعفر طه حمزة: الاتحاد السناري ، مجلة الثقافة السودانية العدد ( 8) نوفمبر 1978م).
9. جورج بليخانوف: في الذكرى الستين لوفاة هيغل، مجلة الفكر المعاصر ترجمة محمد يونس 1979م.
10. حسن إسماعيل عبيد : الخصائص الحضارية للثقافة في السودان، مجلة الثقافة السودانية مايو 1978م.
11. رفعت سلاّم : بحثاً عن النمط الآسيوي للإنتاج في تاريخ مصر الاجتماعي الاقتصادي ، مجلة قضايا فكرية الكتاب الأول يوليو 1985م.
12. محمد إبراهيم أبو سليم: خمور النوبة: مجلة الدراسات السودانية العدد (1) المجلد (7) ديسمبر 1981م.
13. محمد المبارك التيرابي: المظاهر الحضارية والصلات التجارية قديماً في بلاد السودان، مجلة الحياة بتاريخ 26/5/1992م.
14. محمد مهدي محمد، وزكريا علي أحمد: بعض ملامح التراكيب والصيغ النوبية في اللهجة العربية السودانية، في مجلة الدراسات السودانية العدد (1) مجلد (10) أبريل 1989م.
15. مجذوب عيدروس : مدخل للنقاش حول الهوية الثقافية ، مجلة الثقافة الوطنية العدد ( 6 ) أبريل 1989م.
16. د. سامية بشير دفع الله: التعريف بتاريخ السودان القديم ، مجلة الدراسات السودانية العدد ( 1) مجلد (10 ) أبريل 1990م.
17. د. سمير أمين: الصراع الطبقي في إفريقيا، مجلة الفكر المعاصر، ترجمة بيومي قنديل مايو 1979م.
18. علم الدين عمر: الأخذ والعطاء بين الثقافة العربية والثقافات الإفريقية، مجلة الثقافة السودانية العدد (14) مايو 1980م.
ثالثا: الإنجليزية:
1) Arkell, A.j: A history of the Sudan to A.D. 1881 (1961)
2) Crofoot, ,T,W: Christian Nubia, in Journal of Egyptian Arcaeology Vol. 13 (1923).
3) Hasan, Dr. Yusuf Fadl: The Arabs and the Sudan ( U. of K. Press (1973).
4) Hay Cock, B, B: Medieval Nubia in perspective of Sudanese History. S.N.R, 53, 1972.
5) Marx: A contribution to the Critique of Political Economy (Moscow 1977).
6) Marx: Capital, Vol. (1) (Moscow 1974)
7) Shinne, P.L. The Culture of Medieval Nubia and its Impact on African, in Sudan in African (edited and introduced by Yusuf Fadl Hassan.).
8) Shinne P.L: Meroe, A civilization of the Sudan (London 1967).
9) Trigger, B. : Nubia Under the Pharoahs ( 1976).
10) Trimingham, J.S: Islam in Sudan (London 1949).
11) Vantine, J: The Excavations at Faras A contribution to the History of Christians Nubia (Italy, Nigrizia Press 1970).
William y. Adams: Nubia Corridor to Africa (London 1977).
الخريطة
فهرست
الموضوع الصفحة
1- تقديم 1
2- مقدمة 8
3- الباب الأول: البنية الإنتاجية – الطبقية. 20
الفصل الأول: الأوضاع الاقتصادية
أولاً: ملكية الأرض – الزراعة – الرعي
ثانيا: التجارة.
ثالثاً: الصناعة الحرفية. 21
الفصل الثاني: الأوضاع الاجتماعية
أولاً: الإقطاع – الرق – التركيب الطبقي.
ثانياً: المدينة والمعمار والحياة الاجتماعية
ثالثاً: المرأة النوبية. 50
الفصل الثالث: اتفاقية البقط – النهب والسلب – الجزية. 74
4- الباب الثاني: البنية الثقافية – الفكرية. 106
الفصل الرابع: المسيحية السودانية.
الفصل الخامس: الثقافة النوبية.
أولاً: الفن النوبي – اللغة النوبية.
ثانياً: الفلسفة والحكمة والعلوم.
ثالثاً: البنية الفوقية لمجتمع الساقية وتحولات في البنية
الثقافية – الفكرية بعد انتشار الإسلام 107
5- الخاتمة 146
6- المصادر والمراجع. 156
السيرة الذاتية للمؤلف :
• تاج السر عثمان الحاج
• اللقب : السر بابو.
• من أبناء أمبكول بمنطقة مروي بالولاية الشمالية.
• من مواليد مدينة عطبرة، يناير 1952م.
• تلقي تعليمه الأولي والاوسط والثانوي بمدينة عطبرة.
• تخرج في جامعة الخرطوم ابريل 1978م.
• باحث ومهتم بتاريخ السودان الاجتماعي.
• صدر له:
1- تاريخ النوبة الاقتصادي – الاجتماعي، دار عزة 2003م.
2- لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي، مركز محمد عمر بشير 2004م.
3- تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي، مكتبة الشريف 2005م.
4- النفط والصراع السياسي في السودان، بالاشتراك مع عادل احمد ابراهيم، مكتبة الشريف 2005م.
5- خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية، الشركة العالمية 2006م.
6- الجذور التاريخية للتهميش في السودان، مكتبة الشريف 2006م.
7- التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي في السودان، مركز محمد عمر بشير 2006م.
8- تطور المرأة السودانية وخصوصيتها، دار عزة 2006م
9- الدولة السودانية: النشأة والخصائص، الشركة العالمية 2007م.
10- تقويم نقدي لتجربة الحزب الشيوعي السوداني ( 1946- 1989م)، دار عزة 2008م.
11- دراسة في برنامج الحزب الشيوعي السوداني، الشركة العالمية 2009م.
12- أوراق في تجديد الماركسية، الشركة العالمية 2010م.
13- دراسات في التاريح الاجتماعي للمهدية، مركز عبد الكريم ميرغني 2010م
14- قضايا المناطق المهمشة في السودان، الشركة العالمية 2014
15- أسحار الجمال في استمرارية الثقافة السودانية ، مدارات للنشر 2021.
16- الهوّية والصراع الاجتماعي في السودان ، دار المصورات 2021م.
17 – في ذكراها المئوية : دور ثورة 1924 في تطور الحركة السياسية والثقافية، الشركة العالمية 2025 ل
18 – الأرض والصراع الطبقي والاجتماعي في السودان، دار المصورات 2025 .
19- دراسات ومواقف في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، دار عزة 2023.
• كاتب صحفي وله عدة دراسات ومقالات ومنشورة في الصحف السودانية والمواقع الالكترونية، ومشارك في العديد من السمنارات وورش العمل داخل وخارج السودان.
• عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني
• أُعتقل مرتين خلال ديكتاتورية نميري عامي 1973م، و1977م، ومرتين خلال ديكتاتورية الانقاذ عام 1995م لمدة سنة وتعرض لتعذيب وحشي.، وفي مارس 2018 بعد الهبة الجماهيرية في 16 يناير 2018 .
• متزوج وأب