تأريخ الخرافة ح 13


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7973 - 2024 / 5 / 10 - 16:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

وبعيدا وقبل هذا التفكير كان هناك ميلا بشريا دائما أن يكون الرب قريبا من الإنسان بل وحتى في متناول يده، في أجواء الغربة والوحشة التي عاشها الإنسان الأول والحاجة الدائمة إلى وجود أنيس قريب يزيد في طمأنته ويبعد عنه التوحش، وفي عالم مليء بالغموض والغرائبية وغياب الأجوبة وقلة الحلول التي تجعل أمور الحياة اليومية أكثر سهولة ويسر، أبتكر الإنسان الأول علاقة أفتراضية مؤداها أن القوة الخارقة التي تدير الوجود وتتحكم به من بعيد لا بد لها من حل أن تقترب أو هو يتقرب منها، أولا لرفع هذا الإحراج والخوف المستدام من الوجود المحيط برهبته وأسراره، وثانيا كسب ود الرب ومحاولة الأستقواء على الوجود به من خلال التواصل معه، فلابد إذا من شعور روحي وحسي وهو على الأقل البديل عن القرب الفعلي المكاني من أن يكون الرب يرى ويسمع ويتكلم ويفهم ما يريد الإنسان، لذا كان الدعاء والمناجات والتوصل والترانيم والأناشيد الدينية التي هي نوع من الغناء الأستئناسي كي يشعر هو أنه قريب من الرب البعيد والبعيد جدا.
وفعلا كان الإنسان الأول شديد التعلق بالغيب محاولا أسترضاءه بكل ما يدور في عقله من وسائل ولإمكانيات كان يعتقد أنها ترضي الرب، فقد قدم القرابين والأضاحي والهدايا المختلفة وفي مناسبات عديدة، الهدف دوما كان رضا الرب أو محاولة حثه على التقليل من غضبه على الإنسان، والذي يترجم أو يترافق مع غضب الطبيعية عليه من أمطار وسيول وصواعق وكوارث يشهدها الإنسان على مدار العام، لاحظ الإنسان الأول مع الأستمرار بتقديم القرابين والأضاحي أن هناك أوقات محددة في كل مرة يحدث لها غضب الرب كما يفهم، فحاول أن يؤرخ هذه الأوقات ويستسبق الرب بتقديم ما يرضيه بشكل دوري، هنا بدأت عمليا تأرخة الطقوس والألتزامات الدينية دوريا وجعلها أياما ثابته منها أعياد ومنها حج ومنها مواسم أسترضاء كالصوم والأمتناع عن أعمال وأفعال محددة لا ترضي الرب، ووضع لها قواعد وأساليب وطقوس خاصة بها ليكون على الموعد دوما، من هذه البدايات الأولى صار التاريخ الديني جزء من حياة الإنسان وجزء من وجوده وأخترع أيضا حكايات وقصص عن هذه المواعيد وعن غضب الرب ورضاه في مجموعة ضخمة من الصور الحكائية التي في الغالب لم تحدث بالشكل الوارد فيها، أو لم تفسر حسب واقعها العلمي والفعلي فنسجت على شكل خرافات قديمة تتوارث جيلا بعد جيل.
كانت المشكلة الأكبر في هذه العملية هو ليس في أختيار الزمان فقد تم تحديده بالتجربة والأعتياد والثبات، بل في أختيار المكان الذي يجب أن يسترضى فيه الرب، ففي المناطق التي تكثر فيها متقلبات الطبيعية المتعلقة بالفيضانات والطوفان والسيول وكل ما يتعلق مع الماء كما في بلاد سومر القديمة، أنشئت هذه الأماكن قرب الأنهر وحافات مجاري المياه وحافات المستنقعات والأبحر، هنا أسس القديم المتعبد أول معبد له بأعتباره مكانا مقدسا يقدم فيه هداياه وقرابينه لله، كل المعابد القديمة في العراق القديم الذي شهد العبادات المنتظمة الأولى كانت المعابد على حافات النهر ومثلها في مصر أيضا وعلاقة العبادة مع الرب ونهر النيل.
المعبد بدأ طقسيا وقتيا متعلقا بأسترضاء الله أولا، ثم تحول مع الأستمرار إلى أنه بيت الرب الذي تنزل فيه روحانيات الله وسكينته وهو محل التبجيل والتعظيم والقداسة، لذا أكتسب المعبد صفة العلاقة الإسكانية بين الرب والمعبد حتى حل في الذهنية الأولى أنه بيت الرب الخصوصي، والذي يستطيع فيه أن يكلم مع ربه ويستمع ويتقرب منه، هكذا أستبدل الإنسان فكرة الرب البعيد بالمعبد الذي زاد في أستخدامه كملاذ يزيد من إحساسه وشعوره بان الرب معه، فكان لا بد أن يضع رمزا للرب فيه ليكون مشغول فعلا من ربه أو على الأقل يقتنع نفسيا بذلك، وولدت فكرة عبادة الأصنام والأوثان داخل المعبد ليس لأنها ذات قدرة وفعل حقيقي، بل لأنها تمثل حضورا مكانيا قريبا ينقل للإنسان تطمينات الرب ودعمه ونصرته له، وينقل للرب هواجس وطلبات العابد له مباشرة.
لكن تبدو الإشارة ضرورية إلى أمر هام وهو أن البعض من الباحثين والدارسين يرد الخرافات المنتشرة إلى الإيمان الزائد والمفرط بالغيب وحده، ناسيا أن اللجوء للغيب مجرد مونه غيب لا سبب له ولا يمكن أن يكون علة ما لم يكن له بواعث دافعة، هذه البواعث والمقتضيات كما قلنا سابقا يتصدرها الخوف والغربة والجهل بوسائل فهم الوجود، فالهروب من الواقع للغيب هو عجز واقعي عن الحل أو البحث عنه، لذا كلما أكتشف الإنسان جزء من الحل قل اللجوء للغيب، لكن تبقى الرواسب الأولى عميقا في وعيه اللا مختار، هناك قصة وردت في كل الأديان الإبراهيمية وهي قصة عبادة العجل، بالرغم من أن بني إسرائيل كانوا يؤمنون بالله بالشكل المسطر في دينهم، لكن عندما غاب موسى عنهم رجعوا يبحثون عن الرب القريب، هذا وإن كان هذا التصرف يعد نوعا من الكفر في التفسير الديني، ولكن في التفسير النفسي كان يمثل العودة مرة أخرى إلى البحث عن رب قريب يؤمن روعهم ويناجونه وهو بين أيديهم، إن إنتساب كل الخرافة للغيب بلا سبب هذه مغالطة خطيرة بقدر ما تنطوي على تشخيص خاطئ.
أن الإنسان بطبعه كائن مستعد لخرق الطبيعة فضوليا أو بدافع محاربة خوفه وغربته، ومحاولة الاتصال بمديات أبعد بكثير من حدودها المتناهية، وأن إبعاده من الغيب قسريا أو نتيجة عجز كامل للإتصال به سيدفع به إلى أحد الخيارين، الأول النكران المادي الإلحادي بوجود عالم موازي وسابق وأن الوجود مجرد عبث صدفوي لا مبر له ولا تفسير، أو الإيغال في التدين الخرافي السحري العاطفي الذي يرى في الإنسان مجرد لعبة قدرية لا حول ولا قوة له إلا أن يبقى لعبة القدر، هذا الخيار والذي قبله ليس خيارا منطقيا يتوافق مع سلوك مؤيد بالعقل والإحساس والتفاعل.
إن اعظم الازمنة التي يمكن فيها ملاحظة نمو الخرافات هو زمن الانقطاعات العقلية أو الأسترخاء في متابعة الوجود وملاحقة أسراره، هذا بالتأكيد يؤدي إلى انحسار العلم وغياب الإجابات الفعلية أو تنشيط السؤال الوجودي، لو أخذنا من التاريخ المحلي وأقصد به هنا تأريخ العراق الحضاري، نجد أن المجتمع العراقي وكنتيجة منطقية للمرحلة الظلامية التي أعقبت تجمد الدين ومؤسساته وتحول المعبد إلى سلطة جامدة وقهرية لا تسمح للتفكير ولا للبحث أن يكون حرا ولا متاحا/ قد تفشت فيه الخرافة الدينية التي توسعت وأمتدت لتهيمن على كل نشاك العقل الإنساني، لقد كان هذا الانقطاع سببا في استحضار كل الخرافات عبر التاريخ وخاصة التي تعشعش في البعد اللا مرئي من الذات الفردية، تنتقل من الازمنة الغنية بها مضافا اليها ما يُنتج من ظلام الواقع الجديد لتحيل الواقع إلى عبودية أخرى للجهل، هذا الواقع خرافي في كل المقاييس لأنه يدفع الإنسان أن يعاود البحث عما يخيفه أو يقلقه أو يثير فضوله.
لقد لعب المعبد دور المهيمن على العقل الجمعي بخرافته وغيبياته التي لا تنتهي ولا يمكن الخلاص منها، لأنه عبارة عن شبكة ممتدة ومتعددة الأطراف لديها في كل مكان وجود، حتى في الزوايا التي لا علاقة للدين بها أو متعلق فيها، إن هذه الهيمنة التي ما زال الإنسان يعاني منها لم تحدث لمجرد وجود غيب وجهل وقلة معرفة وغياب منطق الأشياء القياسي والوجودي، بل لأن العقل البشري في زواياه البعيدة مساحة ما للأختباء من فشله ومن خيبته من واقعه الغير مفهوم، ووجود مساحات يسميها الإنسان غرورا بالأمل في أن يحدث ما هو غير متوقع أو غير مأمول، شجع هذا العقل قليلا وتتابعا للإستسلام لمخاوف صنعها المعبد عن الله الذي يأتمر برغبات الكهنة ولأراءهم وأفكارهم، والحل دوما أن تطيعه بلا سؤال ولا جواب، بل ولا من حقك أصلا الأعتراض على وجوده طالما أنه يمثل الرب البعيد تماما.