تأريخ الخرافة ح 21


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7987 - 2024 / 5 / 24 - 16:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

2. الخرافة وعالم العقيدة
العقائد الأديان اليقينيات الما ورائية عالم موازي ومساوق لعالم المعرفة بل هما الشقيقان المنبعثان من رحم واحد، قد يتحول العلم إلى خرافة وهذا طبيعي جدا فكثيرا من ما كان يسمى حقائق علمية أصبحت اليوم مجرد خرافات عفي الزمن والعلم عليها، كذلك كثيرا من الخرافات والأوهام الفكرية قد تحولت مع البحث العلمي والمعرفي إلى حقائق علمية، منها وعلى سبيل المثال خرافة طيران الإنسان في الجو وقد أضحت مجرد حقيقية واقعية بعد أن أدرك العقل حقائق وجودية تتعلق بالحركة وقوانينها، الملخص أن العلم والخرافة وإن كانا في زمن ما في تناقض وتصادم أصبحا اليوم في صراع من أجل الإنسان.
الخرافة التي عصيت على التزحزح من مكانها هي التي تنمو في ظل الأفكار الثابتة، تنمو مع الأيديولوجيات والعقائد الثابتة، وتكتسب يقينيتها من الأصل الديني أو الأعتقادي الذي ظهرت منه، لذا فكثيرا ما نواجه التمرد والعصيان في العقل الجمعي المتمسك بالعقائدية أكثر من تمسكه بالإيمان الديني على أي محاولة مس بصور من الخرافة أو الأوهام المتعلقة بأستار الدين، تقول الكاتبة الكويتية (شيماء ملا يوسف) في مقال لها على الحوار المتمدن بعنوان (المعتقدات الدينية والخرافات) وهي تشير إلى هذا الخلط ما بين العقائدية والإيمان الديني (ي العصور القديمة، كان الإنسان يجهل عمل الطبيعة، والعقل لا يكف البحث عن الأسباب وعندما عجز الإنسان عن التفسير أحال الأسباب لقوى ميتافيزيقية، كوجود "إله الفجوات" إله يحل محل الأسباب المجهولة)، هذه الإحالة عقائدية بينما الإيمان بأن الله هو مسبب الأسباب وأنه واضع كل القوانين الوجودية بما فيها المظاهر الغير مفسرة هو إيمان ديني، فالله ليس إله الفجوات بل إله القوة والقدرة.
مثلا عندما جهل الإنسان الأول الكثير من أسباب حدوث الفيضانات والأمراض والصواعق والزلازل رد السبب إلى قوى ميتافيزيقية مشاغبة أو شريرة أو منتقمة، لأعتقاده أن الله قد يكون رأي كل شيء ورضي به ومع ذلك لا يمنع هذه القوى من أن تعلو على الطبيعة وتخربها لآن عوامل وشروط الإيمان تضعضعت عند البشر وعليهم أن يزيدوا من مستوى العبادة والقبول، أي أن الحدث الطبيعي سببه تسلط قوى غير طبيعية أنحازت للرب أو الإله ضد البشر حتى تدفعه للإيمان، وهنا تشرح وتنسب الكاتبة ملا يوسف هذه هي السببية بالقول (السببية التي يوضحها ولتر ستيس بأنها "الاقتران بين السبب والنتيجة، أي إنْ حدث س، سيحدث ص. وإنْ حدث ص فسببه س. وهذا لا يعني أن النتيجة تعقب السبب، بل يعني أن السبب هو الذي أحدث النتيجة. فكأن هناك سلطة يمارسها السبب بالقوة على النتيجة. والسببية لا نقول عنها أنها قضية كاذبة أو صادقة، ولكنها غير علمية، ولا يمكن اثباتها بالتجربة العلمية")، يعني أن سبب حدوث هذه الطواهر الطبيعية ليس طبيعيا أبدا، ولا لأنها نتاج قواعد وقوانين ومعادلات حقيقية وجودية طبيعية تحدث طبيعيا كلما تطابق القانون مع الحال، ولكن السبب عنده هو خارجي عن الظاهرة ولا يتصل بها بأي حال لأنه متعلق برضا أو عدم رضا صاحب القوة الرب أو الإله أو حتى الله عند المؤمنين به.
هذا الحال ليس بالضرورة قد أنتهى مع تفسير الكثير من الظواهر ومعرفة الإنسان بالقوانين الفيزيائية والكيميائية وسلسلة العلوم والمعارف التي تتصل بدراسات الطبيعة والوجود، بل تحولت إلى الزوايا الأكثر تعلقا ومساسا بالواقع اليومي والشأن الشخصي للأفراد، مثل إيمانه بالرزق والتوفيق والحسد والجن وغيرها من زوايا المعتقد المتصل بمعاني بعض القيم الدينية وأنحدارات الفهم منها.
لذا نجد أن الكاتبة ملا يوسف تصف هؤلاء المتعلقين بالحاجات بما يعتقدون أنه "إله حاجات المادية"، (إله من أجل تحقيق رغباته التي لا يستطيع تحقيقها، فهو يريد من المطر أن ينزل ليسقيه ويسقي زرعه وماشيته ليعيش، وإنزال المطر لا يستطيع فعله، لكنه يستطيع أن يتمنى، فالتمس التضرع إلى الآلهة)، هذه المعتقدات لا يمكن عدها خرافات دينية وأنتسابها للدين، بل لأنها أنحدرت من فهم قاصر لوضع الرب وعلاقة بالبشر المادية من خلال نص الدين مثلا (يرزق من يشاء ويمنع من يشاء وهو على كل شيء قدير)، فالخرافة ليس فيما يتضمنه النص بل بما يعتقد من نتيجة وجود النص في سياقه الفكري الذاتي الخاص، ولو كانت الخرافة في النص وجب أن يكون كل مؤمن بالدين على حد واحد في الإيمان بها.
إن معرفة ومعنى أن الدين والإيمان ليس مجرد موقف داخلي يقيني فحسب، دون أن يكون هذا الموقف له وجود ممكن أو حتى متصور وعقلاني متوافق مع مادية الواقع ووجوده، أو حتى يصنف على أنه خيار وإرادة يبنى عليها التصور العقلي والسلوك المنطقي يخرج اليقين بمجمله من دائرة المعرفة ليتحول إلى مجرد فكرة تائهة، إذ أن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي قائم على وحدة الروح الداخلية والجسد الخارجي في عملية تكامل ووحدة حتمية في التكوين وفي التكييف، فما ينتج من هذا التكوين المكيف هو أمر طبيعي من حيث كونه نتاج، المشكلة في النتاج إذا وليس بكونه يحمل علم أو معرفة أو لا يحمل أو ينتمي لهما أو لا ينتمي، المشكلة الأساس أنه إنساني خالص، لذلك لا يمكن أن يغيب الموقف الباطني قسرا والاعتراف بأمر الخارجي دون أن يكون الخارجي محسوس بما فيه عمقه الداخلي، وإلا تعرض الموقف الوجودي للإنسان بمجمله للتلاشي وذلك فقط لفقدان المعنى الكلي والكامل له.
عندما يؤمن الإنسان أن السماء عبارة عن عالم مليء بكل ما يمكن أو لا يمكن تصوره من كائنات تتحرك بقدرات فائقة ولها إمكانيات غير محدودة، وينظر لواقعه المحبوس بالإمكانيات والقدرات المحدودة بما يملك فقط من قوة وقدرة ومعرفة، سيمتلكه الشعور بالهزيمة أتجاهها، ويشعر بالتضاؤل بما في المقارنة بينهما من ميل الميزان لصالح السماء وكائناتها، هنا تكون ردة الفعل الإنعكاسية لذا منح هذه الكائنات التي هو أساسا لم يراها ولم يعرف من ماهيتها شيئا سوى القدر والقوة الفائقة، سيمنحها المزيد من القوة الخرافية والطاقات اللا متناهية ويعظمها ويقدسها، حتى يتجنب سطوتها أولا، ويحاول أن يبتعد عن شرها إذا أمكن الوصف، فمن يخلق الخرافة كما قلنا الجهل بالوقائع والماهيات، وليس جهلا وجوديا بعدم القدرة على إستيعاب ما تمثله هذه الكائنات من وظيفة في عالم مترابط متعدد الأواصر والعلاقات.
قبل أن تنزل الأديان المدونة وما فيها من إخباريات وقصص تحكي جزء من عالم الغيب الذي كان الإنسان وما زال شغوفا لمعرفة المزيد عنه، قد عملت هذه المدونات على تفسير الكثير من التصورات عن ذلك العالم الما ورائي وما يحمل من أسرار، كان من المفترض عقليا ومنطقيا أن يتلاشى جزء كبير من عالم الخرافة الدينية المتصل بذلك العالم مع التفسيرات والتبريرات التي حصل عليها الإنسان من الدين، وقد حدث هذا فعلا بجزء مهم، لكن عقل الإنسان الأستكشافي والفضولي لم يهدأ ولم يسلم سلاح التأمل والتصور بل حاول أن يفهم هذه التفسيرات والتبريرات بذات الطريقة التي نشأت بها الخرافات الأولى، في مثال حي عندما يقول النص الديني أن الله "ليس كمثله شيء"، هنا يقطع النص كل محاولة في التشبيه والتمثيل عن صورة الله شكلا وماهية وجوهر.
العقل الديني الذي أمن بالنص ومن خلال إشارات مثل "يد الله" أو "نفس الله"، ألغى مسألة النفي الشيئي مطلقا وعاد للتشبيه والتمثيل بما أن الله له يد إذا لها وظيفة وشكل ووجود، فطالما له يد يجب أن يكون لها موقع شمالا أو يمين، اليد بحاجة لذراع والذراع بحاجة لجسد والجسد بحاجة لهيأة، وبما ان الله هو الذي حلق الكمال والجمال فلابد ان تكون الهيئة الجسدية لها صفات كمال الجمال وجمال الكمال، فاختار الإنسان له شكل الشاب أو الغلام الأمرد، لأن هذه الصفة متعلقة بذوقية المتخيل ورغباته المكبوتة، ثم أمن أيضا أنه طالما يمتلك هذه الهيئة الجسدية الجميلة فلا بد له من أن يكون بشكل أو بأخر يمتلك نفس النوازع التي تنمو في عمق النفس المادية الحسية، بالتأكيد أنه سيحتاج إلى من يكلمه فما فائدة لسان الله وكلامه وحديثه إن لم يستعملهم، هنا يكون الرب أو الله بحاجة لرفيق أو رفيقه لكسر هذا الملل ولضرورة أن يكون الجسد البدني موافيا لواجب وجوده، فأتخذ صاحبة وأنجب منها ولد .....