تأريخ الخرافة ح 3


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7963 - 2024 / 4 / 30 - 01:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

في البدء كان الجهل
في تصور خيالي ذهني ربما قد يكون قد حصل فعلا في زمن ما وفي حالات وأماكن عدة حيث وجد الإنسان، هذا التصور التأملي لنضعه على شكل فلم سينمائي ونتابع ما يجري كما نحاول أن نفهم النتائج، (في زمن ما ومكان ما ولد الإنسان حسب نظرية الأديان، أو تطور عن مخلوقات أسلاف هي الأخرى تطورت عبر ملايين السنين عن أسلاف متطورة من خلية أحادية قابلة للانشطار والتكاثر الذاتي، وهذا ما يقره بعض أوجه العلم وتقره بعض نصوص الأديان، ولد هذا الإنسان في عالم مركب مدهش كبير على أن يفهم أو يدرك سريعا، حاول الإنسان أن يبقى متشبثا بأي شيء لأن غريزة البقاء أقوى فاعل فيه، ثم فطرته التي تكونت معه بالنشأة، هنا كان هدفه الأول والأخير أن يستجيب لهما، كيف ومتى وأين ظهرت فجأة أمامه بعد أن سقطت متى بوجوده المحسوس، فبدأ يأكل كل شيء تقريبا أمامه وفي متناول يده تماما مثل طفل يحبو ويحاول أن يطعم بنفسه مما أمامه لأول مرة، فتناول الحجارة والورق وحتى الحشرات... لا يعرف طعم لها او ذوق أو سبب صحي او أي شيء أخر بقدر ما عرف أنها تسكن جوعه),
يمضي الفلم التأملي وستعرض الحياة اليومية للإنسان الأول لحظة بلحظة حتى يبدأ بالفعل في أختيار ما يتناول، فقد عرف من التجربة ان ليس كل ما أمامه يؤكل وليس كل ما أمامه مفيد، في هذه لحظة الإدراك غادر منصة الجهل البدوية الأولية وقد تعلم أن هناك خيارات لا بد من مراعاتها ليضمن وجود أفضل، الشيء الذي لم يعد يستعمله أو الذي تركه بسبب التجربة أما أن يدرك لماذا تركه والعلة منها كأن يتناول حشرة أو نبات ويسبب له أزمة صحية لم يعود لها مرة أخرى، هذه التجربة فيها جانبين، الأول أنها علمته حقيقية والثانية أوجبت عليه أن يفحص لماذا صار الذي صار، إن أكتشف السبب فقد خطى خطوة كبرى نحو العلم، وإن تركها دون أن يعرف لماذا وكيف، فقد حول الموضوع إلى ما يشبه السؤال النائم الذي لا جواب له ومنها تبدا عملية خرفنة الحالة,
طبعا هذا في المسائل البسيطة اما إذا كبرت المواضيع والمشاكل وخاصة التي لها مساس وجودي اعظم، تكبر معها الخرافة وتتحول الى عالم من التشويش والضبابية يعزل الإنسان وعقله عن الوعي والفهم والإدراك، ثم يستمر الفلم في أستعراض حياة الإنسان الذي تكاثر لطبيعته الفطرية متعمدا أو منساقا لها كبقية الكائنات الحية، فيولد له نفس الإنسان السابق الذي كان هو عليه، الفرق هنا إذا ترك الأب الابن ليمارس نفس الطريقة التي خطاها والتجربة التي خاضها هو، فقد بقي حيوانيا لم ينقل المعرفة التي حصل عليها لمن بعده، وسنرى المولود الجديد يسير تماما على نفس الألية التي سار عليها سلفه، وهكذا جيل بعد جيل حتى يتدخل الأب لأول مرة أو الأم لتعليم الطفل ما تعلم من قبل، هنا بدأت رحلة العلم والمعرفة، وهنا بدأ الإنسان البشري يأخذ دوره الوجودي بدل الإنسان الحيواني البهيمي.
قرأت نصا منقولا يؤرخ للخرافة وعند الأنتهاء منه تبين لي ان النص هو أيضا مجرد خرافة صنعها عقل الإنسان ليفسر لنا كيف ولدت الخرافة، إذا فلنقرأ معا (وفقًا للتقرير الذي نشره موقع caminteresse فقبل ثلاثون الف سنة، في العصر الحجري القديم دوّت عاصفة قوية في السماء، لجأ الناس للاختباء في أكواخهم خائفين، كيف وُلدت هذه النار في السماء مَن أرسل إليهم هذا الطوفان؟ كيف يوقفونه؟ هكذا تخيل هؤلاء الناس الخائفين أن قوًى مظلمة قادرة على إطلاق العنان لعناصر مدمرة، إنها الأرواح التي يجب تهدئة غضبها من خلال الطقوس، هكذا وُلدت الخرافة، من الاعتقاد المجنون بأنه يمكننا التأثير على العالم من خلال ”أفكار سحرية“، كما يسميها المحلل النفسي فرويد وعالم الاجتماع إميل دوركهايم.، عندما رسم الإنسان العاقل Homo sapiens على جدران أحد الكهوف ثيرانًا وحشية قُبِض عليها كان يعتقد بالتأكيد أنه يرسل رسالة إلى الأرواح غير المرئية حتى تمنحه صيدًا جيدًا).
أقول أنها خرافة لعدة أسباب أولا أختيار التاريخ عشوائيا دون دليل ربما معتمدا على أبحاث ودراسات، لكنها بالتأكيد ليست جازمة، فعمر الإنسان المتعلم والذي أدرك السكن في الاكواخ أبعد بكثير خاصة انه ما انتقل من المغاور الى الاكواخ الا بعدما ترك الالتقاط اعتمادا وادرك طريقة الزرع، ها يعني انه قد مر في فترات تعليمية كثيرة من قبل أن ينتقل من المغاور والكهوف، وبالتأكيد قد مر عليه الكثير من مثل هذه العاصفة وهذه النار في السماء، إذا الأمر مجتزئ خاصة إذا علمنا انه يتكلم عن إنسان بدائي لا يعرف قوانين الوجود أصلا، إلا مما يلح منها عليه من خلال الغرائز والفطرة، فالظن فورا بعد مشاهدة النار بأن هناك أرواح غاضبة لا دليل عليه علميا حسب الرواية، خاصة وأن قد أعتاد الأختباء من ظواهر الطبيعة وعرف من خلال تكرارها الدائم انها أمور ممكنة وطبيعية وعرف كيف يتفاداها، إذا الموضوع ليس بهذا الشكل ما لم يكون الإنسان ومن خلال التواصل مع الأخر عبر لغة من نوع ما إشارة أو وسائل تواصلية، قد أنشأ حوارا مشتركا فهم من خلاله مع الأخرين أن الأمر ممكن أن يتم السيطرة عليه من خلال تجاربهم الخاصة، كل تجربة لها ظروفها ولها نتائجها، فالخرافة التي تتعلق بالأرواح الغاضبة لم تولد فجأة ولم تتطور لتكزن عقيدة أو أعتقاد ما لم يكن هناك معارف أولية وملاحظات وإدراكات سابقة لها.
بين خرافة فهم الخرافة وبين حقيقة أن الإنسان كائن مهيأ بالقوة لأن يعرف متى ما جرب وأدرك أبعاد التجربة، نفهم منها تاريخ الإنسان منذ ان كان جاهلا حتى تعلم، هناك مرحلتان في تاريخ جهل الإنسان يمكن تصنيفهما كل على حدة:.
أولا _ الجهل الطبيعي الذي يعني خلو العقل الإنساني من أي معارف خارجية عنه وعن طبيعته الفطرية، هذا الجهل مؤقت وطارئ يزول شيئا فشيئا مع التطور والنمو والتعلم والتجربة، وهذا النزع أساسي وبدوي ومشترك في كل العقول قديمها وحديثها.
ثانيا _ الجهل اللاحق أو الغير طبيعي وهو الجهل الذي يتولد نتيجة التقصير العقلي للسعي إلى المعرفة، وهذا أيضا نوعان، جهل مختار ومتعمد حين تكون أمامك فرصة للعلم والتعلم ولكن لخيار شخصي تتركها وتحاول أن تعتمد على محدد اخر أو عقل أخر، والنوع الثاني هو جهل بالمعرفة ذاتها حين يكون العقل غير قادر على التمييز بين المعرفة ذاتها، فيختلط عليه المعيار أو تختلط عليه المحددات فيخلط بين ما هو معقول ومنطقي ومعرفي حقيقي وبين ما هو متوهم وظني وخيالي لتشابه في الأطر أو لتداخل في الفكرة الرابطة، هذا الجهل كان مع الإنسان منذ البداية وما زال مستمرا، طالما أن المعرفة ذاتها بجميع أشكالها يستقبلها العقل بدون مرشحات أو مقومات أبتدائية.