الدرس الثامن عشر من دروس رمضان لهذا العام


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7937 - 2024 / 4 / 4 - 10:25
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ

يتوهم البعض ممن يقرأ هذه الآية من سورة الأنعام على أنها تتحدث عن خلق الإنسان في بطن أمه كما يقال (خلق من بعد خلق) وكأنه يعني به ما تقوله الآية التالية (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) ﴿٤ النحل﴾، فالنص السابق مع تكملته يتحدث عن مرحلة الخلق الأولى التي لم يكن فيها الإنسان شيء بذكر، ولو عدنا للنص كاملا نجده (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) 11 الأنعام، إذا الموضوع الخلقي مختلف بين الصورتين والحالين والمضمون، مبدأ البداية أنه خلقه من طين (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ) 򞑽 السجدة﴾، ولكن السؤال هنا هل هو الإنسان المخلوق من طين أم هو مسمى أخر، هناك أكثر من نص فيما يبدو أن بينهم تعارض فيمن خلق من طين، مثلا النص التالي الذي يقول أن الكل مخلوق من طين (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ) 򞑸 الأنعام﴾.
وأيضا هناك نصوص تفرد خلق الإنسان وتعرفه أيضا تعريفا وافيل مثل النص التالي (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) � يس﴾، وهذه مادة الخلق أساسا كانت جزء من خليط أساسي معتمد قانونا علميا للخلق لا ينفك ولا يتغير ولا يتبدل (أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ) � المرسلات﴾، هذا الماء الذي سماه الله المهين لأعتبارات بشرية أنه خارج وظيفة التخليق لا قيمة له بل يشكل وحسل النص الديني نوها من التنجيس والنجاسة، فهو مهين من هذه الناحية وليس بعزيز، هذا الماء وما يحمل من نطفة يحمل أسرار الخلق والتصوير اللاحقة، وبدون هذه الأسرار والخرائط الجينية المزدوجة لا يمكن تخليق الإنسان فضلا عن تصويره، النص علمي ووجودي وفي غاية الدقة والموضوعية (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) 򞑸 الانسان﴾.
في حين أن هناك نصوص تتكلم عن كائن أخر وهو أبو الإنسان وأصله وأحيانا يشار له على أنه هو الإنسان (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) � الأعراف﴾، هذا الكائن هو البشر المحدد بالمعنى الخاص "آدم" (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) الحجر، ولم يخلق الله بشرا من طين سوى آدم بعموم مفهوم هذه الآية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ) � المؤمنون﴾، فأصل السلالة ورأسها ومبتدأها آدم البشر، والذي خلق من بعده ومن نفس الأسباب والعلل عيسى (إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) � آل عمران﴾.، فعند المقارنة بينهما يذكر عيسى كمثل من آدم أو لآدم كتجربة مكررة مع العلم أن النص القرآني من وخلال الفهم العام ينفي أن يكون عيسى ولد من نطفة أو من ماء مهين أو من ماء دافق (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ 򞑻﴾ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ) 򞑼 الطارق، هنا يفهم قول عيسى على أنه بشر مثلكم جوابا للناس كما جاء في سورة الكهف (قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا) (110).
إذا النص (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) يعود بدلالاته إلى زمن وحال وكيفية خلق آدم ومختص به، فعند ما خلقه من صلصال أو من طين أو من تراب حسب التعبيرات المرحلية (الطور)، خلق المادة الأساسية القابلة للتشكيل والتصوير أبتداء، بمعنى أن الله حين أختار التراب ليكون المادة الأولى والضرورية إنما خلق الجسد حياة مرنة ومتحركة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) � الروم﴾، التراب أصل التكوين المادي وهو جزء الموت (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فصلت (39)، ولا بد له أي التكوين الجديد من بث الحياة في هذا التراب حتى تكتمل معادلة الحياة والموت معا في هذا المخلوق (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) � الفرقان﴾، فالماء وحسب قانون الخلق والخليقة وما تقره النصوص هو الحياة (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء (30)، والدليل أن الله خلق الموت والحياة معا في أن واحد ومكان واحد وكائن واحد قوله في سورة تبارك (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).
هذه العملية التكوينية الجعلية قد تكون أختصارا لمراحل تطورية عديدة وقد لا تكون في مكان واحد، بمعنى أن الله وكما قال النص (مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) الكهف (51)، ينفي أن يكون أحدا شاهدا على هذا الخلق ولم يشهد الله عليه أحد، إنما علمنا به من خلال ما أخبرنا عنه بالكتاب، وعند العودة للكتاب نرى جملة من النصوص التي تحكي عن أطوار الخلق الأبتدائية والنهائية، وهي جميعا تشكل نظرية واحدة لا تضاد فيها ولا تعارض ولا تناقض، فلنقرأ بالجملة (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۖ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) � النور﴾، المادة الأولى كانت الصلصال (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) � الرحمن﴾، أي من الصلصال الذي يصنع من الفخار قوالب وأشكال وماهيات مختلفة، وبكن قبل ذلك كان الخلق الأولي البدوي في الأرض في طينها وماءها (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) � طه﴾.
فالله قد خلق الإنسان الأول وتطوريا من الطين اللازب الممتزج بشكل كامل لا فيه ميوعة مثل الوحل ولا صلابة مثل الطين الجاف (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ) � الصافات﴾.
في موضوع الزب تبدأ قضية الخلق تأخذ بعدا عمليا لكون صفة اللزوب صفة جوهرية في المادة المخلقة، فما يعني الله باللازب؟، عند العودة للغة نجد المعنى في ثلاث دلالات قد تبدو للقارئ أنها مختلفة في القصد، والحقيقة أنها جميعا تشترك في النتيجة النهائية من المعنى، وكالآتي:.
1. لزب... ل ز ب: طين لاَزِبٌ أي لازق وبابه دخل والَّلازِب أيضا الثابت تقول صار الشيء ضربة لازب وهو أفصح من اللازم، أي ضروري ومستحق اللزوم... المعجم: مختار الصحاح.
2. لزب الشّيء... لزَب أي دخل بعضُه في بعض وتماسك "لزُب الطِّينُ".
3. لزِبَ.. لزِبَ يلزَب، لَزَبًا، فهو لَزِب، ولزِب الشَّيءُ لزَب ثبت واشتدّ كلزِب الطِّينُ أي لزِق وتماسك..... المعجم: اللغة العربية المعاصر.
فعندما بصف الله الطين الأساسي الذي خلق منه الإنسان باللازب أن يكون هذا الطين ضروريا لعملية الخلق (من معاني لازب الضروري) الثابت في تكوينه القادر على التشكل لكونه ممتزج جيدا ومؤهل لأن يكون محل تخليق لاحتوائه على ما يمكن أن يوفر للخلق الجديد الذي سيكون منه وفيه أساسيات الحركة، فلو كان غير ممتزج ولا موحد في التكوين وكان فيه أجزاء يابسة أو ناشفة وأجزاء رخوة غير مماثلة للمطلوب، لصار متعذرا وصعبا أن يكون حاضن أساسي للخلق الأول الذي هو علقة (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) 򞑸 العلق﴾، هنا العلق مرحلة أولى من الخلق الأول وليس العلقة التي أشار لها في نص أخر بعد النطفة، أولا النص يشير إلى جمع كثرة للدلالة على أنه ليس بواحدة كما في النص التالي (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) � المؤمنون﴾.
الأمر الأخر العلق كائنات حية معروفة تنمو في الكين وتتكاثر بشكل انقسامي تكراري لا جنسي بلا حساب، لمجرد وجود المادة الأساسية التي توفر لها الغذاء والماء ، فليس فيها ذكر ولا أنثى، بينما العلقة مرحلة تكوينية غير مستقلة وهي مرحلة أتحاد النطفة في البويضة، أي أنها لا تعد كائن مستقل بقدر ما هي عملية وجودية بين كائنين تنتهي بالعلقة/ والعلقة هي الكائن الذي يمكن أعتباره صورة الإنسان المخلوف لاحقا (ا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) الحج 5، إذا العلق هو الكائن الحي الذي يعيش في الطين والذي يحمل القدرة على التكاثر في الطين الصلصال، لاحتوائه على الأساسيات التكوينية اللازمة للتخليق.
من قراءة آيات الخلق نستشف أن الله يركز فيها على أوليات أساسية: هي:.
• إن صورة الخلق الحقيقية ليست الصورة المتعارف عليها في ذهن الناس، وهي أن الله أخذ من الأرض كمية من الطين بيده كما يفهم أعتباطا من هذا النص (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) ص (75)، ثم جعله على الصورة التي جعلها لآدم هيكلا وجسدا وبدنا، ثم نفخ فيه من روحه ليكون بشرا سويا، بل تشير كل النصوص أن الخلق مر بمراحل تكوينية بدأ من خلق التراب والماء ثم أمتزاجهما بالشكل الذي يجعل منهما مادة قابلة لأن تبث فيها الحياة بمخلوقات أولية أبرزها العلق، وطورا بعد طور (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) � نوح﴾، حتى تحول العلق إلى كائن منقسم على نفسه منه الذكر ومنه الأنثى (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ) 򞑼 الزمر﴾.
• قانون الخلق هذا ليس مختصا بالإنسان وحده، بل هو قانون عام لكل المخلوقات، أولا بناء على القاعدة التكوينية الجعلية الأولى (وخلقنا من كل زوج أثنين/ وخلق الذكر والأنثى)، هذا التعميم كلي ومطلق ولا يمكن أن يكون كائن حي ممكن أن يستمر بالتكاثر أن يكون خلاف هذه القاعدة (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ � الزخرف﴾ لذا فالمخلوقات التي أستثنيت من هذه الخاصية العامة لم تستمر ولم تخلف، مثل عيسى ع وما جاء من معجزات خاصة للأنبياء.
• بعد الخلق اللازم والضروري وتهيئة المخلوق لمرحلة التشكيل، مر بمرحلة طوريه أخرى نهائية، أو ما تسمى مرحلة التصوير والأستواء والتعديل وفيها أعطى لكل خلق صورة تميزه وتعرفه بين الموجودات (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا � الكهف﴾، ليستمر المخلوق ومنه الإنسان في مرحلته الوجودية معتمدا على قوانين الخلق التي ستعمل طبيعيا بوجوده (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ � غافر﴾.
• عندما وصل الكائن الوجودي الأول لمرحلة الأكتمال والقدرة على تنفيذ مشروع الله في سلسلة طويلة من التحولات والصعاب كما بقول النص (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ 򞑺 البلد﴾، أي في أصلاب وتحولات مغلقة وصعبة وذات بعد تكليفي، هنا قرر الله أن يختار (يصطفي) ما هو أقرب لمشروعه الذي خطط له من قبل (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، فالله أختار آدم من بين مخلوقاته التي كانت غي مستوى الأختيار لوجود مشتركات بينها تفاضل وخيار، كما أصطفى نوح وأل إبراهيم من بين الناس في حينهم، هذه المقاربة والمقارنة تفيد أن آدم كان ضمن مجموعة لها مشتركات كثيرة قد تكون متقاربة، والخيار لله لعلمه بما في خلقه من خصائص.
• بعد أن خلق الله آدم وأصطفاه وعلمه وكلفه (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) 򞑽 الإنفطار﴾، وعندها لزم ن ينفذ ما أراد بعد ذاك من نزوله للأرض لإتمام الحجة وبلوغ الغاية من الخلق في عملية متواصلة تبدأ من (وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ۚ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) � فاطر﴾، هذا الترتيب كان الهدف منه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (13).
من كل ما تقدم نفهم النص "العنوان" الذي قد يثير عند البعض تصورات وأفكار قد لا تكون هي المقصودة منه، أو يصرف تفكيره إلى موضوع أخر بعيدا عن المحدد الزماني والحال الذي تتكلم عنه الآية، إذا الله يخلق ما يمكن أن يكون قابلا للتصوير والإبراء والتسوية والتعديل من مادة أولية، ثم يباشر في إعطاه الصورة الخاصة للمادة التي ستتحول إلى شكل وماهية نوعية وموضوعية مختلفة حسب أسباب وعلل الخلق، ولكل حالة سمات وعلى إنفراد، كل ذلك يجري في سلسلة من التحولات والتبدلات النوعية التي سماها النص بالأطوار الخلقية، حتى إذا تم الخلق والتصوير جعله الله طابعا متسلسلا من جيل لجيل سماه النص سلالة، هذه السلالة تحمل نفس البصمات والخرائط الجينية المتنقلة بين الأشخاص عبر مرحلة المضغة المخلقة، هذه المضغة هي المسئولة عن أختيار ونقل البصمات الجينية من الأبوين للمولود، وبذلك تكون نظرية الخلق الدينية الواردة في القرآن قد تقدمت باكرا على أبحاث العلم الذي توافق معها بالتفاصيل وشكليات التطور وأساسيات البقاء.