تأريخ الخرافة ح 2


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7961 - 2024 / 4 / 28 - 23:22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

التحليل البسيكولوجي للخرافة يساعد على معرفة الأبعاد الحقيقية والتاريخية التي ساعدت على بقاء الخرافة وأنتشارها غي ضل تطور معرفي وعلمي تاريخي متواصل، حتى أن مفهوم الخرافة المعلن اليوم وصل الى دائرة العلم وظهر مصطلح "الخرافة العلمية"، فإذا كانت الخرافة أصلها جهل كيف لها أن تلتصق بالعلم وتنتسب له وتصبح واحدة من مفرداته الشائعة، الحقيقة أن العلم لا علاقة له بالخرافة ولا يمكن ان تكون جزء منه، إنما هي خرافة بعض العقول التي لا تعرف العلم ولا تتقيد بقوانينه، فتضع تصوراتها عن بعض المظاهر والمواضيع العلمية دون أن يكون لها برهان أو يقين، فالعقل الخرافي أو العقل الخرف هو من صنع مفهوم الخرافة العلمية وروج لها، تماما كما يحصل في نطاق الدين كمعرفة غير تجريبية تسللت لها الخرافة بكل سهولة لأسباب وعلل كثيرة سنتناولها في طيات البحث لاحقا.
تلعب العوامل الفكرية الناتجة عن التجربة والتعلم والتعليم دورا مهما في وضع الحد بين الخرافة وبين ما يمكن أن يشاركها في تقارب المعنى، فالتعليم لم يصل بعقل الإنسان إلى كل الحقائق بحيث لم يبقى أمامه شيء مغيب أو مستور أو مجهول، كذلك العلم لم يفكك كل شفرات الوجود وقوانينه ومعادلاته، لذا فهناك دوما مساحة متاحة ليتحرك بها الخيال الخصب والتصور الذهني بحرية للتحرك في محاولة فهم أو على الأقل وضع سمات لهذا الجزء الغائب من معرفة الوجود، إذا طالما أن هناك جهل في شيء ما فمن الضروري أن توجد خرافة أو على الأقل تصورات خرافية عنه، أما الجانب النفسي الذي يدفع بقوة نحو الذهاب للخرافة أو التصور الخرافي هي طبيعة الإنسان الفضولية أو لنقل شغفه الغير طبيعي في أكتشاف الأشياء، ربما من هذه النقطة نجح الإنسان أن يتجاوز جهله ويتجاوز مرحلة الخرافة في الجزء الملقى عليه الضوء علميا ومعرفيا.
من دراسات علم النفس وعلم الأجناس والمعرفة والتاريخ نجد أن الكائن البشري المسمى إنسان هو الكائن الوحيد الذي يسعى دوما لجعل العالم من حوله مفهوما على الأقل ليتكيف أو يتأقلم معه وجوديا، فعندما بلغ بذلك درجة معرفية ما أهلته ليتوسع في التجربة العملية لتتعدى مفهوم التأقلم والتكيف عنده ليصار التدخل باتجاهات مختلفة، ويحاول التجريب الغير طبيعي أيضا لكن في حدود ما يمكن أن يجني منه منافع تلبي حاجاته، هذه المرحلة المعرفية أبتدأت كما يقول الباحثون عندما ترك عادة ألتقاط الفواكه وجني المحاصيل "الطبيعية النمو" ليتدخل هو في إنباتها وزراعتها وتحديد الكميات التي يحتاجها، كان هذا التصرف عند البعض الذي لم يجرب القضية كان مجرد خرافة وأسلوب غير طبيعي وربما أعتبر كفرا بقوانين الوجود، حتى إذا ما صارت التجربة ظاهرة ثم واقع ثم تحولت إلى طريقة ووسيلة أنتاج معتادة وضرورية، تعمق الإنسان في تدخله هذا لينظم هذه المرة موارد المياه الخزن التقسيم الأستفادة من الفائض المنتج، فأخترع التجارة وعرف قوانين الأقتصاد، قد يكون التصرف الصحيح في وقته مع وجود الجهل بالنتائج ع البعض نوعا من مصاديق الخرافة.
فمن يعرف الخرافة اليوم على أنها (هي عبارة عن الاعتقادات التي تفتقد إلى أساس علمي ولا تجد لها واقعية يقبلها العقل، كما أنها لا تتوافق والأسس الفكرية المبنية على ركائز منطقية وعلمية، وبمعنى آخر فإنها كفكرة أو موضوع أو ظاهرة فكرية وربما حتى دينية أو علمية كما يزعم البعض، فإنها تجد أصلاً لها في الاعتقادات التي تنطلق من الوهم والخيال أيمن التصور الذهني وليس من الواقع الحقيقي، والتي تبتني على معطيات غير علمية وفاقدة للدليل والبرهان أي هب نتاج طبيعي للجهل بالواقع أصلا)، الحقيقة هذا التعريف المطاط يشمل الكثير من العناوين والفرعيات التي ربما لا تكون خرافة أصلا مثل الغيبيات أو ما يعرف بالميتافيزيقيا أو الأساطير التاريخية والدينية، أو حتى ما يعرف اليوم وشائع من أدب وفن الخيال العلمي، ومنها مثلا أفلام الكارتون المعروفة فيها القدرة على تجاوز المعقول أو الطبيعي، فهذه جميعا ليست خرافة وإن كانت تفتقد للدليل والركيزة العلمية والمنطقية، لكن ما يفرقها عن الخرافة هو موضوع الجهل أساسا.
إن التركيز دوما على عامل المعرفة هو تركيز على تضييق مساحة الخرافة في بناء عالم الإنسان، فعندما نقول أن تاريخ الإنسان يبدا مع تأريخ الخرافة لا نظلم الإنسان ولا ننسب له مسبة، لأنه وكما يقول البعض من المفكرين إن الإنسان العالم كان جاهلا بالأصل فتعلم، وتاريخه الحقيقي هو تاريخ تعلمه ومقدار ما تعلم، أما الإنسان الجاهل فولد جاهلا وبقى على حاله دون تغير وتاريخه متوقف عند أخر نقطة تعلمها أو عرف عنها شيء..... ولأن الجهل لا يتطور لأنه أصلا فقدان والمفقود لا يفقد على العكس من العلم والمعرفة التي تتطور وتتضخم وتتجدد، لذا فتاريخ الجهل والخرافة هو تأريخ بداية الإنسان قبل أن يبدأ يفهم ويفسر ويترجم ويتعلم.
نعود لكيفية بناء هذا البحث وما هي الخطط والمنهجية اللازمة التي سنعتمدها في البحث، لنصل إلى تاريخ فعلي للخرافة وليس تأريخا محددا بالأيام والسنين، بل بالتطور التاريخي الذي يبحث في البدايات والتكوينات والعناصر المؤسسة مع سيرورة تطور وإدراك الإنسان للخرافة ودورها في بناء معرفة أو ترسيخ الجهل عنده، ولو أني أميل أصلا إلى قاعدة أن كل علم ولد عن تصور أولي قد يكون خرافة أو خرافي ولكن حينما ينجح الإنسان في أكتشاف جهله ينجح أيضا في أكتشاف طريق المعرفة، هذه ملامح بدائية وأولية عن مشروعي ربما أجد أيضا زوايا مهمة لا بد لي من بحثها أو تسليط الضوء عليها، لإعطاء البحث قيمة علمية تتناسب مع خطورة دور الخرافة في واقع الإنسان قديما وحديثا، وأثرها أيضا في بناء علمه ومعرفته ودور العوامل الأساسية المتمثلة بالفضول الطبيعي والحاجة كعوامل نفسية ساهمت مع الخرافة في لن يبلغ الإنسان هذه الدرجة من العلم والمعرفة الراهنين.