الدرس السادس عشر من دروس رمضان لهذا العام


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7935 - 2024 / 4 / 2 - 07:25
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

سُبُلَ السَّلامِ
في سورة المائدة تحديدا ورد هذا المصطلح المهم والأساسي في حياة الإنسان مهما كانت عقيدته أو دينه، فالسلام يعني الحياة الأمنة المطمئنة التي في أجوائها وتحت قوانينها يتمكن البشر من أن يعيش كما المفترض، لذا أمر الله الناس عامة والمؤمنون خاصة بأن يدخلوا في السلم كافة، ومن خلال قراءة هذه السورة وما ورد فيها من أحكام كثيرة وأفكار متعددة، نجد أن مفهوم السلام أكبر من فهمنا المحدود له وه المعنى الضدي للحرب، فالسلام يبدأ من التصالح مع الذات ومع الواقع ومع المجتمع، تصالح المسالمة وليس صلح الخضوع القهري والاستبدادي، ويبدأ السلام من الوفاء بالألتزامات والعقود التي هي تطين وأستقرار للروابط داخل المجتمع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)، زمنه أيضا الأمتناع عن الأعتداء فوق المستوجب المنطقي للرد (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ)، مرورا بالتعاون الإيجابي المعزز لقيم السلام ومرسخ قوة الشد في المجتمع (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى)، ويستمر النص في رسم سبل السلام برأس السبل وأنجحها وهو (وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
لقد أورد هذه السورة في بداياتها الكثير من صور السلام وسبل تحقيقه سواء من خلال الإيمان بمتطلبات الأمتثال لأمر الله ومن باب العبادات والعقائد أو من خلال قوانين المجتمع الطبيعية، فالعلاقات الأجتماعية الضرورية وإن كانت تحمل معها في بنيانها الأسباب والعلل الضرورية، لكن تقنينها وتطويرها وإنضاجها لا بد أن يمر من خلال قواعد المصلحة الشمولية ومبدأ الأخيرية والأكثر أحسنية ومن أمثلة هذا السبيل النص التالي (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ....ذَلِكُمْ فِسْقٌ)، في مفهوم القرآن سبل السلام منظومة متكاملة من الأدوات والأفكار القائمة على التكامل فيما بينها لتوفير أسس بناء قوي وصامد لا يهتز بالتقلبات الطارئة، ما دمنا قد تلقينا من التجربة ومن التنزيل ما هو ماما وتام وضروري لنا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، كلها هذه السبل تصب في منظومة الوجود الإنساني بتفرعاتها وروابطها المختلفة (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
لقد ربط الإسلام بين العدل والسلام بأعتبار أن البناء العادل لا ينتج أهتزازات بنيوية في نسيج المجتمع وعلاقاته، ولا يثير وقلقا أجتماعيا يؤثر على أحتمالات أن يخرج البعض عن واقع السلام، لذا أشتهرت المقولة المعروفة والتي تنسب لمنظومة الفكر الإسلامي وهي (العدل أساس الملك)، العدل كما هو في مفهوم الإسلام يعني (وضع الشيء في محله الطبيعي دون زيادة ولا نقصان)، أي أن العدل هو تطابق بين المفترض الأساسي والواقع العملي دون أن نحتاج إلى إكمال أو تنقيص من أحدهما، لذا كان العدل وجها من وجوه الحق وصوره من صوره المجسدة.
كما أن من أسس العدل أن نقر بالحقائق الوجودية التي لا بديل عنها والتي تثبت وقائع التجربة حقيقتها، وأن لا يكون فيها أو بما يحققها ما يشق على الوضع الطبيعي للإنسان في دوره في الوجود (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، هذا العدل القائم على عنصرين أساسيين وهما الملائمة الوضعية والملائمة الموضوعية في التحقيق والتحقق، سيتحول فيها الإمكان إلى قانون كلي ومطلق، وعلى الإنسان أن يفهم أن مجرد حدوث الأنتهاك له لا يعني نهاية العدل، بل يعني لا بد من العود السريع للتصحيح مقابل الترخيص على أن يكون الأمر أستثنائي وغير متكرر (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، فليس الإنسان بألة مبرمجة على نظام بل هو كائن تجريبي يخطأ وينجح وبتعلم ويتعرف ويشيع التجربة.
هذه مفاهيم العدل التي لو أقيمت وإدركت أهميتها على حياة الإنسان وبما ينعكس على نظام الوجودي بالأثر الإيجابي، سيتحول هذا العدل بالقدر الذي يجعل الأمور ممكنة ومنطقية إلى سلام كوني، سلام لا يخرق القدرة على التحرك والتطور بالرغم من أنه يجعل الحركة البينية الإنسانية في حالة أستقرار، ولكنه أستقرار حركي كما يتحرك المحرك الألي بشكل منتظم وكأنه ثابت للناظر له، من هنا نفهم إذا النص القرآني الذي يشير إلى سبل السلام (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ) هذا أساس العدل أن نتبع ما أراد الصانع الخالق وما رأه حسنا بشقيه الملزم والإرشادي مع أختلاف سببي لهما، لأنه بالنهاية ومع التطبيق السليم سنكون على عتبة (سُبُلَ السَّلامِ) بما يعني الخروج من فوضى الظلام والتخبط الذي لا يجعل للرؤية وضوح وبيان (وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ)، وستكون النتيجة لهذه السبل أن تضعنا في الغاية القصوى من وجود الإنسان في هذا الوجود (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
وبعيدا عن ورود أسم السلام كتحية بين الناس والتي ورد ذكرها كثيرا في القرآن في إطار ما يعرف بالتكرار التذكيري، تأت أهميته من أن هذا التكرار يشير إلى أن خيارات الإنسان الطبيعية والتي تؤسس لعلاقات حقيقية برغم الأختلاف والأتفاق بين الناس هو السلام المجتمعي، فمثلا من أداب فرض السلام أن لا يقتصر على المؤمنين وحدهم (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ)، كذلك تكون إشاعة ثقافة السلام هدف مركزي في التربية الإسلامية الملزمة، وأسلوب حياتي ضروري للشعور بالأمان المتبادل بين الناس (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، عليه فإن إدراك الإنسان للسلام يعطيه قوة في أن يتحول إلى عنصر مسالم وطبيعي (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
إذا من يتهم الإسلام بأنه دين دموي ويدعو للقتل والحرب والأنتقام عليه أن يقرأ سبل السلام، ويفهم حقيقة واحدة أن الواقع المنطقي العقلاني لا يقوم على قبول السلام الغير مشروط بالمقابلة والمعاملة بالمثل (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، فالدفاع عن النفس حربا أو قتالا هو صيانة للسلام، والسلام الذي يبني مجتمع لا يتغير نحوه وبتمسك بخرق القوانين الوجودية الشاملة أنتهاكها لا بد له من قوة لفرضه، فجميع الأحوال لا يمكن للسلام أن يترسخ ما لم يكن هو القانون الوجوبي الأول، عليه فقانون السلام في الإسلام هو قاتلوا من يبادر لمقاتلتكم (فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۚ وَأُولَـٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)، من غير إفراط ولا تفريط ولا تعتدوا ولا تأخذوا الناس بالنوايا، وقابلوا من يتردد في المحاربة أو يبدي تراجعا بمزيد من السلام (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا).
نستنتج من آيات السلام ومن السبل التي ذكرها القرأن أن السلام والعدل والحق منظومة واحدة تتصف بالخصائص التالية:.
• إن السلام هو القاعدة المؤسسة للعلاقات البشرية لأنها الضمانة لعيش أمن ومستقر، والقاعدة حاكمة حتى يمكن تحقق الأستثناء بشروطه.
• السلام لا يعني التخلي عن حماية وحفظ الوجود متى ما كانت الأسباب قهرية لخيار الدفاع فاعلة ولا يمكن تحاشيها أبدا (فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه).
• لا بد للسلام من قوة تحمية وتجعل منه حقيقية وجودية، لأن الإنسان وببساطة مجبول على التمرد لجهله وضعفه ودور الشيطان في حياته.
• المسئولية الأخلاقية عن أسباب الحروب ونتائجها المادية والمعنوية يتحملها الفريق الباغي (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، مع أن هذا النص يتكلم عن المؤمنين لكن هذا لا يمنع ان يكون أيضا قاعدة بينهما والأخر وبين الأخرين، طالما انه كان في مصلحة السلام والأمن والعدل والحق.
• السلام يحمي العدل وقواعده، والعدل يصون السلام وأسبابه، فالربط بين المحددين هو أرتباط جدلي لا يمكن التفريق بينهم، فلا سلام حقيقي ما لم يحقق العدل بأعلى درجة ممكنة، ولا عدل حقيقي وجاد ودائم ما لم يصنع سلاما وأمانا مستقرا ودائم.
• وأخيرا يؤمن الإسلام أن للسلام سبل وطرائق ومناهج متعددة ومتكاملة تشد بعضها بعضا، لذلك لم يطلق عليها سبيل السلام بل سيل من باب التعديد والكثرة، من هنا نفهم أن رؤية الإسلام رؤية إصلاحية تمتد لكل مفاصل الحياة البشرية بالتنظيم والنظام الأحسني لتحقيق السلام والعدل وإقامة الحق بميزانه.
هذه الدعوة للسلام في القرآن تعطي للقيم الوجودية في رؤية الفكرة الدينية بعدا قيميا تتعدى حدود النصح والإرشاد إلى جعلها من مستلزمات حماية الوجود وتطويره وإنمائه، فكل عمل يبني السلام حتى لو كان مصدره من غير المؤمنين فهو نوع من العبادة الدينية وطاعة الله، وإصلاح أجتماعي يرضي رب الدين ومثاب عليه (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).