داعش ووهم الخلافة المتستجدة


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6994 - 2021 / 8 / 20 - 11:00
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

داعش من أخر التسميات التي ظهرت فجأة من حطام المجتمع العربي والإسلامي الذي لا تنتهي نزاعاته إلا بنزاعات أعمق وأبعد أثرا في تأريخيتها المغرقة بالتناقض والعنف المتبادل والقهر والأستلاب وكل ذلك يحدث لعنوان ديني في كل مرة تثور بها هذه التناقضات في وجه الإنسان العربي والمسلم لتحطم جزء من تكوينه الفكري والعقائدي إضافة إلى تضرر وجوده الأصلي.
البعض يعزو هذه الظاهرة إلى تنازع خفي بين الإسلام كدين والإسلام كسلطة حين يجنح الثاني دوما إلى التغلب على الأول محاولا تسويقه كبضاعة تؤكد مشروعية الزيف والأنحراف فيه وعندما يفشل في ذلك تستغل السلطة كل قواها لتوجيه النار نحو المجتمع لأخافته والقبول بشعارات الإسلام السلطوي وإشغاله بأمور ثانوية تتضخم وتنفخ في أوصالها كي تبدو أكبر حجما وأشد في تأثيراتها لتعظيم القلق والعبور به للحد الحرج الذي يقود علميا إلى تغير أتجاه تثمير القلق للأبداع والتطور.
أخرون يرون أن الأنتماء للإسلام كدين يحض على العنف يبقي على جذوة التمرد متوهجة وموجهة لكل من لا يؤمن به مع حث دائم على فكرة الجهاد والمقاتلة بأعتبارها حماية لوجود الدين الذي يعده البعض حصانة له من الأخر الغريب الذي يحاول أن يبتلعه وينهي وجوده ,فهو يدافع عن هذا الوجود بالدفاع عن الدين ,والحقيقة أن غياب فكرة التناقض الديني مع الأخر كفيل بترك الدفاع عن الدين طالما أن المسلم سوف لا يتضرر من جراء وجود الأخر فلا يهم أذن الدفاع عن الدين لأن للدين رب يحميه .
هناك فكرة أخرى تبرر العنف تستند لجذور بيئية وجغرافية تأريخية عميقة في وعي الإنسان العربي والمسلم لا يستطيع مغادرتها أو التخلص منها ,تتخلص هذه الفكرة بالتأكيد دوما على بدوية الإنسان العربي وعربانيته التي لا تقبل التسامح مع الأشرار والمخالفين طالما أنهم يمثلون مصدر تهديد له ,لذا فالبدوي يهاجم قبل أن يهجم عليه أحد حسب مقولة (أتغدى بيهم قبل ما يتعشون بيك) (بادر قبل أن يبادر إليك) فلا غرابة أذن أن نجد هذا السلوك العدواني من نفسية غارقة بالبدوية العربانية وكتب التأريخ والدين والفكر تمجد العروبة والصحراء وقيم البادية ونقاء الجو وصفاء الذهن فيها .
رأي أخر يعتمد فكرة المزاحمة بين الفكر الديني الذي بات يُحْصَرْ في زوايا خانقة ويهزم في كل مرة أمام فكرة المدنية والعلمانية والتحرر العلمي والمنطق التطوري وكل هذه المفردات تعني بالأخر جعل الدين والتدين مجرد فرع من فروع الثقافة الشعبية وعزله عن وقائع ومسيرة الحياة, فلا بد أذن من أن يستفز الدين المحاصر كل الكوامن النفسية والحسية عند المتدين دون العقلية ليثيره تكليفا وجوبيا للقضاء على الأخر المختلف بحجة إنقاذ وجه الله أمام الكفر والإلحاد ومحاولة الأخر غلق الطريق أمام الدين ليكون العنصر الأوحد والأنسب لقيادة الوجود الحياتي بما يمثله من منافع "دنيوية وأخروية" محترمة ومعتبرة .
هذا كله أو بعضه أو غالبا ما تتفاعل كثيرا من هذه الآراء والأفكار مع بعضها لتشكل وجه أو أخر من وجود "داعش" الفكرة والصورة وإن كان ليس من الضروري أن تكون داعش هي الوجه الأقبح للإسلام السني فقط ,فهي قاعدة تنطبق على مسميات أخرى وتحت مظلات متعددة كلها تنطلق من نفس الفكرة والوعاء "الدفاع عن الله ودينه" مقابل قوى الكفر والضلالة والانحراف ,وكأن من يطلق هذه الفكرة جاد فعلا في الدفاع عن الله ودينه والذي يقول هو في كتابه المقدس{وأدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} دون أي تراجع عنها وأردفها بـ{أتبع السيئة الحسنة تمحها} .
داعش الفكرة ليست وليدة المجتمع الإسلامي وحده ولم تكن التجربة الأولى في التأريخ الديني الإنساني ,ولكن سلط عليها الضوء لأنها الحدث الأبرز الآن ومن وراء هذا الدفع بها للواجهة الحديثية أسباب ودوافع سياسية وأقتصادية وحتى دينية من جهات عديدة ومتنوعه كل له هدف واستراتيجية خاصة تنبع من مصالح وتكتيكات النزاع الوجودي بين المجتمعات والحضارات والأديان ,وكل طرف يحاول التوظيف للجهة التي يؤمن أنها تخدم المصلحة سواء كان هذا الطرف عربيا أو إسلاميا أو من الجانب الأخر المضاد الذي يقع تحت عنوان مجاهدته في ظل الشعارات الداعشية المرفوعة اليوم .
إن داعش الفكرة ما هي إلا ثقافة "إنسانية" بمعنى بشرية بالطبع التكويني تنبع من جهالة في مزمنة في تقدير الواقع أولا وفي طرق المعالجة ثانيا وأبتعاد غير أخلاقي وفوضوي لفكرة الدين كونه عامل أساسي جامع وموحد للمجتمع الإنساني عموما على قاعدة الإنسانية الكبرى ,كذلك يمثل نوع من الخديعة والانخداع والخداع الذي تمارسه قوى شبحية غير مرئية تقود العالم نحو الكارثة التي تعتقد أنها ستكون النهاية الأبدية له على أعتبار أن النتيجة أيا كانت فهي تصب في الأخر بالمصلحة البعيدة لعقيدتها الغامضة التي تؤمن بطغيان الشر لتظهر وتتحكم به من جديد .
من هنا ظهرت صورة الدعشنه الدينية والفكرية والأجتماعية لتكون الند العملي لمبدأ التسامح والتعاون عابر الحدود والحواجز الأجتماعية وتمثل نوع من أنواع عولمة الشر للدخول في تنازع كوني يعيد توزيع الخارطة الحضارية والفكرية بالصورة المرسومة والمرتجى منها أخيرا لتبلور فكرة الحكومة العالمية الموحدة ,والتي عبرت عنها وصورتها الكثير من الأعمال الفكرية والفنية والتي يتم تغذيتها حتى للأطفال عبر مسلسلات الأفلام المتحركة التي تؤشر وتظهر دوما سعي القوى الغامضة والشبحية للسيطرة على العالم الأرضي ومن ثم الأنطلاق في نواع أخر من الحروب والنزاعات مع سكان الكواكب البعيدة الأخرى .
أكاد أجزم أن الدعشنه الدينية التي ظهرت في عمق الوجود العربي والإسلامي قد لا تشكل خطرا حقيقيا بالقدر الذي تشكله القوى المتخفية خلف الفكرة والتي تدفع بها للواجهة وتثير منها زوبعة عالمية تعيد فكرة القلق والخوف من الأخر المختلف وأعادة تهيئة النفوس التي تحررت من مفاهيم النزاع الديني وأتجهت نحو فكرة التعاون الدولي والتسامح المبني على حدود الإنسانية لكي تجند مرة أخرى في حرب كونية ثالثة لا تبقي ولا تذر في ظل عالم متسلح بالمرعب الفتاك الشامل من الأسلحة عالية التدمير وعابرة للمواقع والحدود .