قيامة الحزب


خالص جلبي
الحوار المتمدن - العدد: 1244 - 2005 / 6 / 30 - 14:14
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي     

قابلت يوماً رجلاً عربيا من تونس، وكان فرحاً بزوال حكم بورقيبه الذي طال عليه الأمد، وتعفن مع تيبس مفاصل الثعلب، فضحكت من سذاجته، وقلت له لقد جاء نفس الحاكم فلم يتغير، بفارق أنه أكثر فتوة وأمضى دهاء وقسوة، وباسم براق فهو درة المتقين وفخر المصلين وشمس الواعظين. فلم يصدق كلامي.
وفي الأساطير اليونانية يتكلمون عن طير (الفينيكس) أنه ودوماً يخرج من رماده طير جديد، يعيد دورة الحياة فلا يموت أبدا، وفعلا هذا الذي حدث، بفارق أن الأمر أصبح أسوء مما توقعت.
وأتذكر جيدا شابا سودانياً كان في ممر المشفى حيث كنت أعمل يركض بحماس عام 1989 م قلت له ما الخبر قال: انقلاب رائع في السودان؟ قلت له هو في الغالب من تدبير ثعلب السودان (الترابي) قال لا ليست رائحته إسلامية؟ قلت له ولكن المهدي طار والرجل جاء بالديموقراطية؟ قال لا إنه كان فاسدا ويجب أن يطير؟
وأتذكر أنني اجتمعت بشاب حلبي في اليمن وكنت متفاءلاً؛ فقلت له هذا السودان على طريق الديموقراطية، وكان سوار الذهب قد أعطى نموذجاً مميزا في العالم العربي بتركه السلطة، بدون قتل واعتقال وانقلاب، كما كان الناس قد ارتاحوا من النميري وشريعته، فنظر إلي ضاحكاً وقال: غدا سوف تسمع خبر البلاغ رقم واحد، والسودان بلد القبائل، والديموقراطية مكانها سويسرا، وبين السودان والديموقراطية أربعين خريفا؟
وبعد سنوات تبين أن الانقلابي كان (ترابياً)، ثم انقلب الانقلاب على الانقلاب وطار الترابي على يد الإخوان، كما طار البيطار وعفلق على يد الرفاق، بفارق أن البيطار طار رأسه في باريس، وحافظ الترابي على رأسه فوق كتفيه، بسبب قوة حجة القبائل التي رواها لي الحلبي في اليمن.
وأتذكر من أيام القامشلي أننا كنا أطفالا نسمع أخبار الانقلابات بفترات متقاربة وكنا نظن أن الأمور تمشي نحو الأفضل فلم تزد إلا خسفا ومسخا. ولم يكن يخطر في بالنا ولا بالمنام أن النظام الثوري سوف يصبح ملكيا، ولكنه صار. وهو مرض عربي لايخص قطرا دون آخر ففي كل بلد يستعد أبناء الثوريين الانقلابيين لاحتلال مكان الآباء الجنرالات. بعد أن بارك الغرب هذا التوجه بعد استسلام الجنرالات الكبير ودفع الجزية عن يد وهم صاغرون.
وفي يوم حصلت معركة في دمشق تجمع لها الناس في اليوم التالي ليروا حصاد الهشيم يتفرجون على البطولات، بفارق أنه ليس كل الناس كان من الفرحين، فقد طارت رصاصة طائشة إلى بناية تجمعت فوقها عائلة فلسطينية ترقب المشهد مثل الألعاب النارية، وكانت المعركة يومها محتدمة عند مسجد الروضة في دمشق، فخرقت صدره فسقط صريعا، والأهل يظنون سقوطه من كل شيء إلا بالرصاصة وموت الشاب؟
وهذه الأيام انعقدت قيادة الحزب بعد مرور اثنين واربعين عاما فلم يتغير شيء سوى المظهر الخارجي، كما تغير الأفعى جلدها بين الصيف والشتاء. فيتقاعد الكبار، ويفرغون مقاعدهم لجيل مدرب على نفس العقلية؛ فيخرج من هو أنشط وأسرع وأكثر تهورا في المضي في طريق الكارثة.
وتمخض الجبل فولد فأرا، وسكت دهرا فنطق كفرا، وقالوا لقد تغيرت القوانين فلم يعد وجود للاعتقال التعسفي؟ بل يقدم لمحاكم أمن الدولة؟ والمواطن الفقير المسكين يعرف تفسير هذا الكلام جيدا، ومعنى هذا الكلام أن أي اعتقال هو ليس تعسفيا بل زيارة ودية لفرع أمني، وهنا يكسب القاموس الحزبي، كلمة ويخسر الواقع حقيقة، ويلبس رجال المخابرات ثوب القضاة، فيحكمون بسجن مواطن أكل من الشجرة المحرمة من الانترنت السنوات ذوات العدد لأنه سمح لعقله أن يتفتح، حيث يجب أن يكون نباتيا، مثل موت الدماغ في العناية المشددة.
وبقي الحزب هو الأول والآخر والباطن والظاهر وهو بكل شيء عليم. وبقيت الفروع الأمنية كما هي تحصي دبيب كل نملة وطنين كل نحلة، ولا يأخذها سنة ولانوم. وبقيت نفس العقلية تدير نفس الآلة الجنهمية من السهر على عقل قاصر، عليه تكرار نفس الشعارات، وترداد حجج قضت أجلها مع موت ستالين؛ مما جعل (حسن عبد العظيم) الناطق باسم الائتلاف السوري المعارض يحذر من "انهيار النظام من الداخل جراء الضغوط الخارجية، إذا لم يقم بإدخال إصلاحات حقيقية، معتبرا أن المؤتمر يشكل "الفرصة الأخيرة" للنظام لإدخال إصلاحات".
وعبد العظيم هو الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي الذي يشكل مع خمسة أحزاب أخرى التجمع الوطني الديمقراطي المحظور في سوريا. ولكن من يسمع ويعقل؟
وبالمقابل صرحت الناطقة باسم الحزب أنه لم يمر على البلد وقت مثل هذا الوقت لممارسة قانون الطواريء؟؟ مما يدل على أن أصحاب الامتيازات لايتنازلون عن امتيازاتهم، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم. فيقولوا هل إلى مرد من سبيل.
اجتمعت جوقة الحزبيين البعثيين لعزف لحن الموت في شهر يونيو 2005م. وكان من المفروض ان تقرأ الفاتحة، وتوزع النعوة، وتدفن جثة الحزب التي فاحت رائحتها، ولكن الكاهن الأعظم لم يعلن الوفاة بعد.
ومع شعور الكل ان الحزب مات، وأن البلد يحكم برهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولكنها الامتيازات، ويجب أن تستمر لآخر لحظة.
وفي اجتماع الحزب الشيوعي العشرين وقف خروتشوف فهاجم ستالين ولعنه في قبره إلى يوم الدين، فقام رفيق حزبي وصرخ من نهاية القاعة: وحضرتك أين كنت وقتها؟ فسكت خروتشوف وصمتت القاعة، وكأن الطير على رؤوس الناس، فنطق خروتشوف وقال: أين القائل؟ فلم يحر احد جواباً؟ قال خروتشوف: هذا هو السبب فكما سكت سكتت.
فهذه هي اجتماعات الحزبيين الذين يحسنون الزعيق بحياة القائد إلى الأبد بجانب اسم الله السرمدي. يضاهئون قول الذين كفروا من قبل.
اجتمعت الجوقة الحزبية وقالت إن البلد يحتاج لإصلاح، ولكن من يتجرأ فيصلح؟ وكيف يصلح؟ وماذا يصلح؟ إنه مثل عملية تغيير رأس، واستبدال قلب، وزرع كلية، وتوصيل شرايين بدون مشفى وعناية مركزة وجراحين وأدوات؟
ومن دواعي الغرابة أن الحزب يجتمع في اليوم الذي كان وزير دفاعه يعلن سقوط الجولان عام 1967م قبل سقوطه، فأكرمه الحزب بأن رفع رتبته إلى رئيس فسجن رياض الترك في زنزانة إفرادية 17 سنة.
وفي نكبة حزيران التي توافق هذه الأيام زعق قادة الحزب كما وصفهم (مالك بني نبي) في نكبة كبيرهم عبد الناصر، أنهم تصرفوا كالأطفال في حل مشاكلهم برفس الأرض والبكاء. وفي اليوم الذي سقط الجولان كان الكثير من المعتقلين السياسيين يفرج عنهم من سجن تدمر ببركة هذا السقوط؟
والجيل الحالي لا يعرف ماذا حدث في تلك الأيام، وجيلنا هو جيل المحرقة والتيه والخوف، بعد أن وضع البلد في براد جليدي أربعين سنة، وبعد أن استبيح البلد بالطول والعرض.
ولكل أجل كتاب، ولكل حزب أجل، فإذا جاء أجلهم لايستقدمون ساعة ولا يستأخرون.
وأنا أتعجب من البعض حين يتوقعون أن محاور الزمن سوف تقلب، فيرفع القيد عن الأمة. والخطأ منشؤه هو أن من تمتع بالسلطة لايتزحزح، فقد قست قلوبهم وغلظ فهمهم وظنوا أن التاريخ كلمتهم.
ولكن لماذا هذا الوباء والغباء في العالم العربي؟
إنها بنية فرانكنشتاين، بدماغ من عائلتين، وقلب طائفي، وعمود فقري من ضباط تدربوا على القتل، وعضلات وعظام من الأقليات والريف والهوامش من الدهماء، وأحشاء بورجوازية المدن المنحلة، يغلف كل هذا جلد من الحزب القائد؟ فهل يمكن لهذا الكائن الخرافي أن يعيش إلا في الأساطير؟؟ والسمألة مسألة وقت فتجتث هذه الشجرة من جذورها لأنها كلمة خبيثة، ولكن كما يقول رياض الترك في ثلاثيته المشهورة: النظام من الخارج ثوري ومن الداخل أمريكي ويمكن أن يصمد لريح العولمة كما صمد القذافي بعد دفع الجزية، والنظام ضعيفة والمعارضة أضعف والعلاقة التي تحكم هذا الوضع هي توازن الضعف، والنظام الذي ركبه الأسد القديم نظام غير قابل للإصلاح. وما حصل في المؤتمر الحزبي تحصيل حاصل، ومن ظن غير ذلك خالف قواعد الرياضيات وكان واحدا من ثلاث مغفل أو ساذج أو فاسد.
ولكن المؤشرات اختلفت اليوم، فرياح العولمة تهب بريح صرصر عاتية، ومقتل الخزنوي سمع به أهل الاسكيمو وجزيرة هوكايدو، وصدامات القامشلي تتناقلها مواقع الانترنت بسرعة الضوء، والدردار الذي يعتقل في دير الزور ترسل خبره لجنة حقوق الإنسان إلى كل مكان، ورجال الأمن يقتلون الصحفي سمير قصير، وهم يظنون أنهم يقتلون سليم اللوزي، ويلوحون بمكانس الساحرات من العصور الوسطى ليصطادوا أطباق فضائية تئز فوق رؤوسهم بسرعة الضوء.
وهذا من قصر النظر وعمى القلب.
ويبدو أن النظام الشمولي في طريقه إلى الانحلال والتفكك، وكل مسئول قد أعد نفسه ليوم الزلزلة بجواز رأسمالي وكاش، وكان من الأفضل في هذا اللقاء الحزبي أن ينفخ في الصوروتعلن قيامة البعث، كما فعل بوريس يلتسين مع الحزب الشيوعي.
ولو اندفعت الجماهير إلى ساحة المرجة كما فعلت الجماهير اللبنانية لارتج النظام وهرب تشاوسسكو، ولم يعد في مقدور النظام أن يطلق النار على الجماهير، ولو فعل لجاءته طير أبابيل، ولو أن المعارضة انتظرت هذه الأيام الناضجة وحشدت بضع آلاف في الشوارع لهرب رجال المخابرات بأشد من الجرذان إلى البلاليع، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها.
وقبل أيام من اجتماع الجنازة الحزبية الأخيرة قرر الشعب كلمته حين خرجت النساء يطالبن بالإفراج عن أولادهن وأزواجهن، وليس أبلغ في التعبير وأصدق من المرأة. والمختفون اكثر من خمسة عشرة ألف؟
وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون؟