لماذا قتل ابن المقفع؟


خالص جلبي
الحوار المتمدن - العدد: 847 - 2004 / 5 / 28 - 05:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يروي الجاحظ في كتابه (الحيوان) :(أن أبا أيوب المورياني وزير المنصور
بينا هو
جالس في أمره ونهيه إذ أتاه رسول أبي جعفر المنصور فامتقع لونه وطارت
عصافير
رأسه، وذعر ذعراً نقض حبوته واستطار فؤاده فتعجبنا من حاله، وقلنا له: إنك
قريب
المنزلة فلم ذهب بك الذعر واستفزعك الوجل؟ قال سأضرب لكم مثلاً من أمثال
الناس)
يمضي بعدها الجاحظ فيروي عنه قصة (البازي والديك) فيتهم الأول الديك أنه
قليل
الوفاء، فبعد احتضان بيضته وإطعامه من الأكف صار لايدنو منه أحد الا
وارتعب
وطار يميناً وشمالاً، أما (البازي) فهو يقنص الصيد من الجو فيحضره لسيده.
قال
الديك: ولكنك هل لاحظت أن من يشوى على السفافيد هم الديكة وليسوا الصقور
(إنك
لو رأيت من البزاة في سفافيدهم مارأيت من الديوك لكنت أنفر مني) يلتفت
الوزير
المورياني الى الجاحظ وأصحابه معقباً: (لو علمتم ماأعلم لم تتعجبوا من
خوفي مع
ماترون من تمكن حالي). كانت نهاية الوزير بحد السيف ولم يكن مصيره
استثناءً فقد
تتابع مسلسل قتل الوزراء بشكل درامي بئيس في العصر العباسي، فكل من وزراء
السفاح والمنصور والمهدي والرشيد والمأمون انتهت حياتهم بحد السيف قتلاً،
بدءً
من أبو سلمة الخلال وانتهاء بالفضل بن سهل، ويروي (التنوخي) قصة الوزير
والقرد
والقرَّاد على شكل مضحك، فقد اجتمع الناس في شارع ببغداد والقرَّاد يقول
للقرد:
هل تريد أن تكون برازاً فيوميء القرد برأسه نعم، فيكرر القراد هل تريد أن
تكون
عطاراً فيرد برأسه نعم، فمازال يكرر عليه طرفاً من الصنائع وهو يهز برأسه
نعم،
حتى إذا ذكر الوزير انجفل فقال: لا . ويصيح ويعدو بين يدي القراد فيضحك
الناس.
من المفيد للمرء التشبع بالوعي التاريخي وأن يحاول تصور الجو الذي عاش فيه
الناس فوضعنا المأساوي الحالي لم يولد من رحم التاريخ من لاشيء.
إن قصة (المورياني) هي عينة من ذلك الجو الذي عاشه الناس في العصر العباسي
الذي
دشنه (ابراهيم الإمام) بتوجيه تعليماته لأبي مسلم الخراساني على الشكل
التالي:
(إن استطعت الاتدع بخراسان أحد يتكلم العربية الا قتلته فافعل، وإيما غلام
بلغ
خمسة أشبار تتهمه فاقتله، وعليك بمضر فإنهم العدو القريب الدار فأبد
خضراءهم
ولاتدع على الأرض منهم ديارا).
يروي لنا التاريخ أن جو التجسس (الوشاية) وقتل الناس على الشبهة بالزندقة
بسبب
عداوة شخصية كان أمراً يومياً كما حصل لدماغ فذ خسرناه هو (ابن المقفع) .
جو الرعب الذي عاصره الجاحظ وابن المقفع مع تأسيس الدولة العباسية التي
جاءت
لإقامة العدل ينعكس في بعض الروايات، ويؤكد قاعدة أن من أخذ السيف بالسيف
يهلك.
وأن الانقلاب العباسي لم يزد الأمور الا بؤساً، وعن طريق المنهاج النبوي
الابعداً.
سئل (العتابي) لماذا لاتتقرب بأدبك الى السلطان؟ فيكون جوابه:(لإني رأيته
يعطي
عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين
أكون؟)
. أن العتابي كان أعقل من عشرة وزراء.
أما (المفضل الضبي) فيدعوه رسول المهدي فيظن أنه الموت، فيتطهر ويلبس
ثوبين
ويستعد للنطع والسيف، فلايعرف مانوع الوشاية التي وصلت الخليفة. ولكن
مفاجأة
سعيدة كانت بانتظاره، فالمهدي كان في مزاج جيد، فسأله عن أفضل بيت قالته
العرب
في الفخر! لم يهدأ روعه تماماً فقد يكون استدراجاً، ولكن تتابع الاسئلة عن
الشعر طمأنته أن ليس في الأمر مكيدة، فلما سأله في النهاية إن كان بحاجة
لشيء.
قال نعم إنه الدين قد ركبني. فيأمر له الخليفة بثلاثين ألف درهم.
إننا أمام مثقفين مفلسين وخلفاء يملكون الرقاب والأموال.
ولم تكن نهاية المثقف (الفضيل بن عمران) سعيدة على هذه الشاكلة فقد وشي به
الى
المنصور أنه يعبث بغلامه جعفر، وكان الفضيل كاتب ابنه جعفر، والكاتب كان
مثقف
العصر يومها قد اخذ من كل علم بطرف. أرسل المنصور اثنين من الزبانية
وأوصاهما
بحرص أن يقتلوه ولو تعلق بالغمام. ويتدخل شخص فيصف الفضيل أنه (رجل عفيف
دين)
وأنه (أبرأ الناس مما رمي به وقد تعجلت ياأمير المؤمنين) فيرسل المنصور
يعزز
بثالث قائلاً له: لك عشرة آلاف درهم إن أنقذته فامض بخطابي بحقن دمه. ولكن
الرسول يصل وقد سفح دمه ولم يجف دمه بعد. رجع الرسول مكسوفاً الى الخليفة
أن
السيف سبق العذل. يلتفت المنصور الى مولاه سويد قائلاً: ماتقول لأمير
المؤمنين
في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولاجناية؟ قال سويد: هو امير المؤمنين
يفعل
مايشاء وهو أعلم بما يصنع. يغضب المنصور ويقول أنا أسألك في الخاصة وأنت
تجيبني
في العامة.. خذوه من رجله فألقوه في نهر دجلة.
إن إعادة النظر في تاريخنا لاكتشافه حقيقته من جديد ضرورياً لاخراجه من
خانة
القدسية، واعطاءه حقنة تواضع أنه بشري مختلط بمظاهر الضعف والقصور وملطخ
أحياناً بالدم، وأننا مازلنا نرضع من نفس الثقافة العباسية بفارق ألف سنة،
وجراثيمها الإمراضية تضرب مفاصل ثقافتنا بألم .
وفي الوقت الذي كان المغني (ابراهيم الموصللي) يأخذ من الرشيد 200 ألف
دينار
مايعادل ميزانية دولة في تلك الأيام، ويترك المنصور في خزائنه 14 مليون
دينار
و600 مليون درهم يفرقها المهدي بين الناس سوى ماجبي في عصره، كان الشاعر
أبو
العتاهية يسجل منظراً مختلفاً لحياة الناس الغارقين في البؤس:
من مبلغ عني الإمام نصائح متواليــــــــــة
إني أرى الأسعـــار أسعار الرعية غاليـــة
وأرى المكاسب نزرة وأرى الضرورة فاشية
وأرى غموم الدهر را ئحة تمر وغاديـــــة
وأرى اليتامى والأرامل في البيوت الخاليـــة
يشكون مجهدة بأصوا ت ضعاف عاليــــــة....
في هذا الجو لمع ابن المقفع وترك لنا أفضل كتبه (كليلة ودمنة) التي جمعها
من
ثقافات شتى وأضاف اليها من عنده، وصبها في قالب بديع من إشراق العبارة
وعمق
المعنى، وكان يوصف أنه إذا ازدحمت المعاني في صدره توقف عن الكتابة لينتقي
أفضل
الكلمات فيصبها في رشاقة هندسية كالبناء كل كلمة لبنة تتماسك مع الأخرى.
ابن المقفع اشتهر بكتابه (كليلة ودمنة) ولم يشتهر بكتابه الآخر ( رسالة
الصحابة) ويجمعهما هدف واحد هو مسؤولية المثقف في نقد الأوضاع. إن الكتاب
الثاني لايقصد به صحابة رسول الله ص بل بطانة الحاكم قدمه الى المنصور
بكثير من
المدح والحذر يطرح عليه خطة اصلاحية متكاملة أمام الفساد العام، وتدل
الرسالة
على عبقرية مبكرة، ناقش فيها أخطر أربع مسائل: المؤسسة العسكرية (الجند)
وفوضى
القضاء وفساد البطانة والاصلاح الزراعي (الخراج)، واقترح لاصلاح الجيش ستة
أمور: أن يتم تربيتهم ليس على الطاعة المطلقة بل المشروطة في طاعة الله
فإن
كانت معصية لله فلاطاعة للحاكم، ولايعقل أن يقول أحد القواد أنه لو أمرنا
الخليفة أن نستدبر القبلة في الصلاة لقلنا سمعنا وأطعنا، فهنا لم تعد
المؤسسة
العسكرية اسلامية بحال. وطرح فكرة فصل الجند عن ادارة الشؤون المالية فسوف
تشترى ذممهم، ولإن ( ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة)، وأشار بمراعاة الكفاية
في
القيادة فتسلم على أساس الكفاءة وليس على أساس القبلية أو الولاء. ورأى
تثقيف
الجند فلايكون الجندي في يد الخليفة بوقاً أو عصا. ونصح بدفع رواتبهم بدون
تأخير. وأوصى بتفقد أحوالهم أكثر من الطاعة وامرهم بقتل الناس.
كان كتاب (رسالة الصحابة) انذاراً للمنصور بوجود أدمغة واعية في المجتمع
مقلقة
للنوم العام، ولكن الكتاب اللاحق (كليلة ودمنة) كان يتكلم بلغة الطيور
وحيوانات
الغابة ويحمل رسالة التوعية السياسية بعدما أصيب المجتمع بالعي والخرس، ثم
جاءت
القشة التي قصمت ظهر البعير، عندما ظن عم المنصور أنه وصل الى شاطيء
السلامة
بكتاب الأمان الذي وضع صيغته القانونية ابن المقفع بأدبه الرائع، بأنه إذا
أخل
بشروط الأمان فقتل عمه تكون زوجاته طوالق وعبيده أحرار وليس له بيعة في
أعناق
الناس. وظن ابن المقفع ان الحبر الكثيف والورق الجيد والعبارات المنتقاة
بعناية
ستكون حماية من الغدر فأخطأ ودفع حياته ومن كتب له ثمناً لذلك. في عصر
يقوم على
الغدر والقتل ومازال يلون سياستنا حتى اليوم. وإذا علمنا أن ابن المقفع
قتل
وهو دون الأربعين أدركنا عظم الفجيعة في حرمان الأمة من أدمغة ناضجة كان
يمكن
أن ترسم مصيرا مختلفاً للأمة. يربط الفيلسوف (برتراند راسل) بين قيام
النهضة
العقلية في أوربا وحفنة من الأدمغة المتميزة، ويقول لو تم اغتيال أصحابها
لما
كانت نهضة. والمنصور وأمثاله قاموا بهذه المهمة على احسن وجه. (وللبحث
صلة)