أفكار لأزمنة الحروب


خالص جلبي
الحوار المتمدن - العدد: 2517 - 2009 / 1 / 5 - 07:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

مع كتابة هذه الأسطر في شتاء 2008م تكون غزة غارقة في النار والدم. وأتذكر نفسي في عام 1991 عندما بدأت حرب الخليج الثانية والحزن الذي استولى علي.
كنت أتصور أن هناك الكثير من الشباب لم يبق بينهم وبين الموت سوى ساعات، واليوم تتكرر نفس صور الموت في فلسطين، فالحرب تعني الموت.
ويذكرني هذا بما كتبه (فرويد) لآينشتاين في ظروف الحرب العالمية الثانية أن الإنسان كائن يحمل قدرا كبيرا من التناقض فهو بقدر ما يحمل من غريزة (الليبيدوLibido) أي غريزة الحياة والبناء بقدر ما يغرق أحياناً في غريزة (التانتوس) أ ي غريزة الموت والدمار.
وفي الحرب يدفن الآباء الأبناء على صورة معكوسة لقوانين البيولوجيا. ويبيع الناس عقولهم لجنرالات قساة. ويسود مبدأ الإجرام (لأقتلنك).
ومع أن محكمة (نورمبرغ) اعتبرت أن الحرب جريمة وكل ما قرب إليها من قول وعمل فما زال البشر يرتكبونها في تعالي أحمق وإقرار ضمني عن بلادة الجهاز العصبي أمام لغة العضلات.
ويتم الرجوع ثلاثة آلاف سنة إلى الخلف ليتحدث (هرقليطس): "أن الحرب هي أم التاريخ".
ولكن الحرب كما يقول (توينبي) أنها أعظم مرضين ابتليت بهما الإنسانية بعد الرق.
ويدخل البشر أحياناً سورات من الجنون غير متوقعة أو مفهومة، ففي 28 يونيو 1914 أطلق (جافريلو برنسيب) النار على ولي العهد النمساوي فأنذرت النمسا صربيا بالاستسلام في عشرة شروط مستحيلة فرفضت وأعلنت روسيا التعبئة العامة فأمرتها ألمانيا بإيقاف التعبئة في 12 ساعة وخلال أيام اندلعت حرب كونية غير مبرمج لها ولم يكن اسمها حين اندلعت الحرب الكونية.
وظن الكثيرون أنها نزهة بسيطة ستنتهي في أيام، ولكن رصاصة (جافريلو) قضت على 12 مليون إنسان.
تماما كما حدث مع بداية اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية التي احتشدت فيها زوجات السياسيين (للفرجة) على ما يشبه مباراة رياضية فامتدت أربع سنوات وحصدت 600 ألف إنسان.
ويظن من يدخل الحرب أنه سيخرج كما دخل ألا ساء مايحكمون؟؟
ويبدو إن إسرائيل بما هي مشحونة فيه من الرعب الجماعي التاريخي من أكثر البشر حماقة على ذكائهم وعلمهم وخبرائهم من كل أصقاع الأرض، وكأنها ولدت لتدفن كما دفنها من قبل تيتيوس الروماني عام 72 م، ولكن من ينسى دروس التاريخ يدفع الأخطاء مع الفائدة المركبة..
ويعتبر (غاستون بوتول) الخبير الفرنسي الذي أنشأ معهداً خاصاً لدراسة مرض (الحرب) أن البشر بنوا كليات للطب ومعاهد لدراسة الأمراض المعدية واهتموا بتطوير اللقاحات والصادات الحيوية ضد الجراثيم والفيروسات ولكن الحرب قضت على البشر ما عجز عنه الطاعون وقصرت الجمرة والجدري، وأعظم الجوائح كانت للطاعون وقضى على خمس وعشرين مليونا من الناس في منتصف القرن الرابع عشر للميلاد، ولكن الحرب العالمية الثانية أرسلت إلى العالم الأخروي أكثر من خمسين مليون نسمة، وبإمكانها اليوم أن ترسل كل الجنس البشري إلى المحرقة. وفي عملية (بارباروسا) مات على الجبهة الروسية 22 مليوناً، ومات في معركة برلين لوحدها ثلاثة ملايين نسمة، وخلال الأشهر التسعة الأخيرة للحرب مات في مسالخ فعلية 15 مليون نسمة. واليوم في السينما يتم استعراض قصة القناص الروسي والألماني في معركة ستالينغراد عظة وعبرة للبشر أن لا يكرروا الحماقة. ولكن كما يقول عالم السياسة الأمريكي (شالمرز جونسون ـ 70 سنة Chalmers Johnson) ومستشار الاستخبارات المركزية في الحرب الباردة من جامعة بركلي "إن بلدنا مولع بضرب الصواريخ". ويرى في كتابه (الصدمة المضادة Blowback) أن المٍسألة ليست (صراع الحضارات) كما تنبأ بذلك (صمويل هنتجتون) بل هي ردة فعل لشعوب تم دمجها قسراً في نظام اقتصادي بما يسيء إليها مما جعلها تكن أشد الكراهية لبلده بعد أن بلغ سلطان أمريكا ما بلغه الليل والنهار. ويرى الرجل أن بلده قام بما يشبه احتلال العالم فهناك 65 قاعدة أمريكا في العالم منها فقط 38 في أوكيناوا وتحولت دول الحلفاء من الحرب الباردة إلى ما يشبه محميات أمريكية (Protectorat) وأن ما ذهب إليه كيسنجر في أن أمريكا سوف ترتكس كما فعلت مع ضرب بيرل هاربر يجعله يخشى أن يصل الرأي العام الأمريكي إلى نتائج خاطئة من وراء كارثة أيلول 2001 وأنه يخشى جداً من عسكرة الحياة العامة وزيادة حقد العالم على أمريكا في الوقت الذي يمكن أن تكسب احترام وود العالم وأن الشيء الملح حاليا هو دبلوماسية ذكية)
ويقول (بوتول) إن هذا الوباء يجب أن يدرس أكثر من كل الأمراض قاطبة لأنه "أبو جميع الأمراض" وحصد من أرواح الناس ما عجزت عنه أفظع الأمراض. وخلال قرنين نشب 366 نزاع مسلح أودى بحياة أكثر من 80 مليون نسمة ومنذ الحرب العالمية الأخيرة وحتى اليوم مات في النزاعات المسلحة أكثر من مائة مليون إنسان. أما المؤرخ الحجة ( ويل ديورانت ) فيقول في آخر كتاب صدر له : "الحرب أحد ثوابت التاريخ لم تتناقص مع الحضارة والديموقراطية فمن بين السنوات الحادية والعشرين بعد الثلاثة آلاف والأربعمائة سنة الأخيرة (3421) من التاريخ المسجل لا توجد سوى 268) سنة) بغير حرب" فعلى حساب ديورانت المذكور يصبح تاريخ الجنس البشري في غاية الظلام والإحباط لأنه مع كل دورة أربع عشرة عاماً في التاريخ تلطخت ثلاثة عشر عاماً منها بالدم الإنساني مقابل سنة واحدة توقف فيها منجل (عزرائيل) عن حصد أرواح الناس؟! واليوم بعد تفجيرات 11 سبتمبر وضرب أفغانستان هل نعتبر أن الحرب هي أصل الوجود الإنساني وتربح الملائكة الرهان على الإنسان حينما قالت: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمد ونقدس لك؟" وهل يكون الإنسان ذلك الكائن المجرم المخرب بكل انتماءاته الغربية والشرقية؟ يبدو أن رواية هذه القصص تذكر بقصة الفأر وابن الوزير في مقدمة ابن خلدون. فهو يروي عن وزير حبسه مليكه فعاش ردحا من الدهر مع ابنه في السجن ولم يكن الغلام قد رأى في السجن سوى الفئران فكان والده يحدثه عن الحصان فإذا انتهى من وصفه سأل الغلام: أتراه كالفأر يا أبت؟ يذهب (غورباتشوف) في كتابه (البروسترويكا) إلى أن العالم تغير وأن تطور السلاح بلغ درجة من القوة ما يجعل غواصة نووية واحدة تحمل من الطاقة النارية ما هو أكثر مما استعمل بعشر مرات في الحرب العالمية الثانية. وأن الدول النووية لا تحتاج أن تضرب منافساتها بل يكفيها أن تنتحر نوويا فتلوث العالم أجمع بالغبار النووي. وهذا يجعل حماقة أمريكا كبيرة في بناء مدرعة فضائية لحمايتها من الصواريخ الهائمة المجنحة في الملكوت من خصوم كثيرين. وينتهي (غورباتشوف) إلى القول أن تطور التقنية فرضت تطورا في الفكر. وهو ما يذكر بنظرية المؤرخ (توينبي) حول جدلية الأفكار والمؤسسات فحين تتطور التكنولوجيا تفرض ضربا جديدا من التفكير وقلباً لشكل المؤسسات ووظيفتها. ويبقى الخوف الأكبر من اندلاع حرب كيمياوية أو بكترولوجية يتساقط فيها البشر مثل الذباب والحشرات في المدن الكبرى ما يذكر بأنفلونزا عام 1918م حيث مات في (بوسطن) في شهر واحد 11 ألف إنسان ومات في العالم 25 مليون نسمة سقطوا صرعى للجنب أمام عدو ضئيل لا يرى أو يشم وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر. أما (فيكتور فيرنر) في كتابه (الحرب العالمية الثالثة ـ الخوف الكبير) فهو يرى أن "طبيعة الحرب" تغيرت ويضرب مثلاً في ذلك فيقول: لو مشى رجل في المدينة بطول مائة متر ووزن مائتي طن فإن شكله يبقى إنساناً ولكنه في الواقع لا يبقى إنساناً بل هو يدخلنا إلى عالم الأساطير ما يذكر بقصة جوليفر ومدينة الأقزام وليلي بوت. فهذه هي قصة الحرب وتطورها. وإذا كان (مكيافيللي) قد نصح أميره بالفرق العسكرية وتحصين الأسوار والقلاع، وإذا كان (كلاوسفيتز) قد طور نظرية الحرب واعتبرها امتداداً للسياسة بوسائل جديدة، فإن الرئيس الأمريكي (ايزنهاور) منذ عام 1954م اعتبر أن العالم تغير "وأن على القوى المتنافسة أن تجلس إلى طاولة المفاوضات فإن أبت فليس أمامها إلا الانتحار". وعندما طلب الجنرال (ماك آرثر) في الحرب الكورية 26 رأسا نووياً لإنهاء الحرب الكورية بزعمه لم تستجب أمريكا لطلبه لمعرفتها اليقينية أن الحرب لا تحل المشاكل فارتضت بتقسيم كوريا ومازالت حتى يوحدها العقل والحب بعد أن مزقتها الحرب والكراهيات. وهذه الحقيقة كررت نفسها في كوبا وفيتنام والشرق الأوسط أن زمن الحروب ولى، وأن عمر الأسلحة قد انقضى، وأن الحروب تخلق المشاكل أكثر من حلها، وأنها لا تمضي في طريق الحل إلا بإلغاء كل حل، وأن دورة العنف مغلقة تزداد ضراورة واتساعاً حتى تأكل النيران نفسها بنفسها. وإذا كان الغرب يفصل تعريفات على مقياسه للإرهاب ويأبى العدل وكلمة السواء ويظن أن من طبائع الأشياء حيازته للامتيازات فإن تاريخ الأرض يقص علينا نبأ الدول العظمى أنها تشبه الديناصورات في عدم التطور والعجز عن التكيف مما يهيؤها للانقراض، وأن الأرض تهيء الجو لولادة الثدييات الصغيرة النشيطة محلها. وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وأن ما ينتظر الإنسان "أن يتحقق فيه علم الله" بعد أن رأت فيه الملائكة ذلك الكائن المجرم والمخرب. عندما كان جواب الله على الملائكة:"إني أعلم ما تعلمون" إن معركة أمريكا وأفغانستان هي مثل منازلة فيل لنملة ولكن تروي القصة أن النمرود قتلته بعوضة حينما دخلت من أنفه إلى دماغه. ويجب أن نستوعب حقيقة أن القضاء على أمريكا سيجعلنا مثلها ويدخلنا في ملة القوة، ويخرجنا من ملة الأنبياء. وأن تغير مواقع الناس لا يقلبهم من مجرمين إلى مصلحين. وأن القاتل والمقتول في النار بسبب انطلاقهما من نفس الرصيد النفسي بحرص كل واحد على قتل الآخر. وأن القاتل هو مقتول وبالعكس والفرق بينهما هي سرعة الأداء فأسرعهما كان القاتل وأبطأهما كان المقتول. وأن التسلح مصيدة للدول الصغيرة وأن مصير الحرب مرهون بيد الكبار.
يذكر (مالك بن نبي) في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) أن حوارا جرى بين (كونفوشيوس) وتلميذه (هو تسي كوج) الذي كان يسأله عن السلطة؟ " يجب أن توفر السياسة ثلاثة أشياء: لقمة العيش لكل فرد، والقدر الكافي من التجهيزات العسكرية، والقدر الكافي من ثقة الناس في حكامهم. فسأل التلميذ: وإذا كان لابد من الاستغناء عن أحد الثلاثة فبأيها تضحي؟ فيرد الأستاذ: بالتجهيزات العسكرية. ويعود تسي كوج فيسأل: وإذا كان لابد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين فبأيهما تضحي؟ فيجيب الأستاذ: في هذه الحالة نستغني عن القوت لأن الموت كان دائماً مصير الناس ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساس للدولة".
إنني ارتعب مع كل زيارة يقوم بها مسئول غربي في المنطقة يحمل دفاتر شراء الأسلحة المتطورة وأكاد لا أصدق عن دولة صغيرة تشتري أسلحة بمبلغ يزيد عن مليار دولار، أو أن تتورط إيران وهي التي فجرت الثورة اللاعنفية بشراء أسلحة سوفيتية بمليار ونصف، أو هلع باكستان على منشآتها النووية وهي التي أنفقت عليها آخر قرش من جيب مفلس حتى ينفعها يوم النبأ العظيم لتكتشف أنها خرافة كبيرة وأنها أصنام لا تضر ولا تنفع. وإذا كان عمر ر في الجاهلية قد أكل صنمه حينما جاع فإن هذه الأسلحة لا تؤكل ولا تشرب. وهو ما يذكرني بيأس النبي حينما صرخ في قومه: أليس منكم رجل رشيد؟