الشارع المنتفض: صانع مصائر الشعوب


رندا قسيس
الحوار المتمدن - العدد: 3276 - 2011 / 2 / 13 - 13:26
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

ملخص لندوة التاسع من شباط التي شاركت فيها مع عدد من الضيوف، و التي أقيمت في نادي الصحافة الفرنسية، كنت قد تطرقت إلى العلاقة المترابطة ما بين الأنظمة القمعية و انتشار رقعة الإسلاميين في الدول العربية، بالإضافة إلى قدرة هذه الأنظمة على إيهام الغرب بأهميتهم في التصدي للحركات الأصولية الإسلامية.
لا شك ان هناك أسباب عديدة سمحت للأصولية الوهابية القادمة من المملكة السعودية بالتوغل في نسيج المجتمعات العربية التي تعاني من فقر و عطالة و فساد حكومي و اضطهاد الفرد وتأطيره و تهميشه.
وقد استفادت هذه الحركات الأصولية من حالة الاختناق التي تعاني منها هذه المجتمعات، و هنا علينا التنويه إلى حالة "الفراغ الثقافي" الذي استطاع أن يمتد إلى أطياف المجتمع، فبعد قيام الأنظمة العربية القمعية باضطهاد مثقفيها و"شيطنتهم"، تمكنت من خلق هوة ما بين الشارع و قادة الفكر فيه، ليسجنوا أنفسهم (أي المثقفون) داخل أسوار "غيتو" نخبوي، لتنشأ قطيعة بينهم و بين الشارع بشكل كامل.

لا بد من الإشارة ان حالة من الاستعصاء اللغوي ناتجة عن استخدامات لغوية نخبوية تشكل سبب إضافي لهذه القطيعة، فهذه النخبوية اللغوية تفتقد إلى صور عقلية يمكن تصورها من قبل عموم المجتمع. و قد سلط علم النفس أضواءه على هذه الظاهرة التي أصبحت تعرف ب"العقدة المستقلة" و التي تنشأ من خلال تحول الأفكار إلى عقد مستقلة ليتم استيعابها من قبل الأفراد، فمن ناحية عصبية_نفسية، لا تستطيع أية فكرة التأثير على الأفراد إلا من خلال الوسيط الحسي، لتتحول الأفكار المجردة إلى تصورات محسوسة، تنشأ عنها تجربة نفسية يكون لها تأثير فعال على الحياة العقلية للأفراد.

اعتماداً على مثال التجربة التونسية في ثورتها و التي قام بها الجيل الشاب بشكل عفوي، علينا الرجوع قليلاً إلى سنوات ماضية، لنجد أن هذه الانتفاضة التونسية لم تكن وليدة اللحظة و لا وليدة حرق "البوعزيزي" لنفسه، بل جاءت في ظروف حالة تأجج نفسي دفعه للذروة الفعل البوعزيزي.
نعلم أن هذه الانتفاضة ما كان لها أن تستمر لولا تضافر عوامل كثيرة، منها تقنيات الاتصال الحديثة، ناهيك عن وجود حركة شبابية (تكريز) إحداها، تمارس انتشاراً و نشاطاً على أرض الواقع التونسي بين الشباب منذ سنوات عديدة.
هذه الحركة أسست من قبل مجموعة من الشبان على الأنترنيت تحت أسماء حركية مختلفة و ذلك من سنة 1988، و كانت قد ابتدأت بشخصين و من ثم تزايد عدد أعضائها تدريجياً لتصبح حركة تهيمن بقوة على واقع حياة الشباب التونسي. و لا بد من الإشارة أن الداعم لنشوء قنوات اتصال بين هذه الحركة الشبابية "تكريز" وجيل الشباب كان اعتمادها على استخدام لغة ذات مصطلحات و مفردات شعبية قادمة من الشارع التونسي لا تحمل أي تكلف، لا بل في بعض الأحيان كانت بعض المفردات المستخدمة تنحو إلى السوقية، و ذلك بهدف تحقيق أعمق تواصل مع الشباب التونسي، فقد كان هدف هذه الحركة التخلص من النظام الاستبدادي التونسي، وكان القائمين عليها صادقين و مخلصين لغايتهم بعيدين كل البعد عن اغراءات الظهور و العظمة الأنوية، لهذا كان لهم دوراً فعالاً في التحريض و التواصل مع تلك الانتفاضة.
و هذا يرجعنا إلى أزمة القطيعة و فقدان قنوات التواصل ما بين قادة الفكر في المجتمعات العربية و أفرادها، و التي مهدت (أي القطيعة) الطريق إلى ملامسة الحركات الإسلامية لمشاعر الجيل الشاب المحروم، القابع تحت أجنحة الظلم، لا بل أكثر من ذلك، جعلت هذا الجيل يعاني من حالة وحدة و حرمان قاسية، تشابه كثيراً حالة طفل كان قد فقد ذويه.
ضمن ظروف كهذه، كان من السهل على الإسلاميين مد التواصل بينهم و بين أطياف المجتمع خاصة انهم كانوا يملكون برنامجاً اجتماعياً و جمعيات مساعدة مالية، ناهيك على أنهم يتقنون لغة و مفرداتاً تؤجج مشاعر كثيراً من سامعيها. انها لغة العاطفة و عدم التمييز، بينما لم يكن أغلب مثقفينا يملكون إلا لغة متعجرفة شائكة ذات تعابير متكلفة، مقصيين أي فكر لا يستسيغوه.
إضافة إلى أسباب أخرى كانت قد مهدت الأرضية المناسبة لانتشار الفكر الأصولي الإسلامي، منها انعدام الثقة في المشروع القومي العربي، فقد استطاع الإسلاميون استغلال مشاعر الانكسار هذه لدى الشعوب العربية الرازخة تحت ثقل شعورها بالهزيمة، و حاجتها إلى هوية أشمل من الهوية الوطنية. هذا الخلل في الثقة القادم من احتواء الأنظمة القمعية لنضالات حركات التحرر العربية بهدف فتح جبهات خارجية تمنحها المبرر للتحكم بمصائر شعوبها.
و لهذا كان من السهل على الإسلاميين دغدغة الحاجة النفسية لهذه الشعوب الباحثة عن نصر تاريخي لتعويضه بهوية إسلامية أكثر شمولية من الهوية العربية.

و قد آن الأوان أن تجابه هذه الشعوب واقعها و أن تتخلى عن أية هوية جماعية، و السعي نحو تعزيز قيمة الفرد كي ينعم في مساحة من الحرية من اجل تحقيق التقدم الإيجابي على المستوى الفردي و من ثم الجماعي. لا يمكن لأي فرد أن يقدم للآخرين ما يفتقده، لأن حالة السعادة و الاكتفاء الفردي عاملان مهمان في سيرورة العطاء.

لننتقل إلى عامل آخر ساعد في انتشار الإسلاميين ألا و هو اعتماد الغرب لغة مزدوجة، فهناك هوة ما بين مجاهرته في ديمقراطيته و شرعة حقوق الإنسان، و بين دعمه لبعض لكثير من الأنظمة القمعية المنسجمة سياساتها مع مصالحه، فمثلاً بالرغم من معارضة الغرب و بالأخص الولايات المتحدة لعمليات هتك حقوق الإنسان، إلا انها لا تبث بشفة إزاء سلوك حليفتها العائلة المالكة السعودية التي تستبد بمجتمعها و تنتهك حقوق الإنسان على أبلغ وجه.
السعودية ليست الدولة الوحيدة في العالم العربي التي تنتهك حقوق الإنسان، إلا انني ذكرتها بالتحديد لأنها بؤرة الإسلاميين، فهي الممول الأساسي و المحرك في أسلمة المجتمعات العربية و غيرها.
بالنسبة لي، لا يمكن الحد من الخطر الإسلامي الأصولي إلا من خلال وقفة صريحة للغرب للحد من التطاول الاستبدادي لحلفائه، فيقطع مع هذه الأنظمة القمعية و على رأسهم المملكة السعودية.
لقد آن الأوان للغرب أن يثق كما آن الأوان لنا أن نثق بالجيل الشاب الساعي للتغيير، فهم صنعة الأقدار،و قد برهن شباب تونس و مصر على ذلك بعد أن تجاوزوا عرقلة المستبد كما تجاوزوا أيضاً مفكريهم و منظريهم، ليضحوا بدورهم قادة للفكر العربي و معلماً لهؤلاء المستوين على عرش من كلمات و عبارات خارجة لا تبت للواقع الحياتي و اليومي بصلة ، كما استطاعوا أن يوجهوا صدمة لسياسيي الغرب المبتلين بآفة الغرور و الوهم بأنهم صانعي مصائر الشعوب.