اقتباس الاله للانا الاعلى


رندا قسيس
الحوار المتمدن - العدد: 2435 - 2008 / 10 / 15 - 07:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

عاش الانسان و لفترة طويلة حالة لا واعية، فكان في بحث دائم لتحقيق اكتفاء رغباته الغرائزية، إلا ان حاجة الانسان الى الجماعة خوفاً من تعرضه للافتراس من الحيوانات الاخرى ذات المخالب المفترسة، دفعته الى ابتداء رحلة طويلة مع الوعي الفردي. هذا الوعي الذي يستمد قوانينه و اسسه من الثقافة المحيطة بالافراد، هدفه منع الغرائز اللاواعية من الظهور. فالثقافة بدأت مع الاعراف و التقاليد للحد من وحشية الانسان و تنظيم الافراد بشكل جماعي، ليصب هدفها في وعاء المصلحة الجماعية. هذه التقاليد ما هي إلا عبارة عن سلوكيات فردية قد تمت غربلتها من قبل الجماعة على مر الزمن. بدأت الجماعة اولاً بإبتذال العادات الجنسية الطبيعية، لحصرها و تنظيمها على اساس مبدأ اسروي، ثم تحريمها من خلال اساطيرها و من ثم دياناتها.

اخذت الجماعة على عاتقها حصر الفرد ضمن قوانين معينة، فبدأت فكرة القضاء و العقاب تتبلور من خلال الاعراف للحد من الشعور الفطري عند الانسان المتسم بالعنف و الكراهية تجاه الآخر. الا ان الشعور المتمرس في الانسان مائل الى التمرد، فبذلك اضطرت الجماعة الى اضفاء شرعية الهية اقوى من شرعية التقاليد، لتقمع الداخل الغريزي عند الانسان,

استمد العقاب الالهي قوانينه من الداخل العميق للانسان، فالفرد في معركة داخلية ما بين الأنا المتمثل بتنفيذ غرائزه و الأنا الأعلى الذي يقوم بدور القضاء الداخلي القامع لجميع الرغبات التي لا تتواتى مع اعراف الجماعة. فإذا تجولنا داخل لاوعي الانسان، نرى ان عقدة الذنب تتشكل من الضغط الناتج عن معركة الأنا مع الأنا الأعلى، لتنتج بعدها حالة من العقاب الداخلي اللاواعي، يدفع الانسان إلى عقاب ذاته من خلال المعطيات الخارجية. و بما ان الفرد الانساني لا يدرك ما يجول في اعماقه، لجأ الى تفسير هذا العقاب بشكل شبه اسطوري، فنسبه الى خالق يريد معاقبة البشرية على تمردهم. و هكذا يضاف الى الثقافة وجهاً روحياً اعلى.

اذاً الثقافة هي جميع التقاليد المتعارف عليها من قبل جماعة ما، لتكون القدرة الخارجية التي تستطيع كبح المشاعر العنيفة عند الانسان. اختلفت الثقافات بين مجتمع لآخر فالثقافة في تحول مستمر، هدفها الاخير الوصول الى كمال الفكر الانساني، عن طريق التعايش المسالم بين البشر والتساوي بين اعراقهم، مع الاحتفاظ بشعور التعاطف لجميع الكائنات الحية. و لتحقيق هذا الهدف، اضطرت الثقافة في البدء، ارتداء ثوباً قمعياً لترسخ الركائز الاساسية للانسانية في الوعي البشري، ليتم ارسالها بعد ذلك الى اللاوعي، لتصبح جزءاً اساسياً في هذا اللاوعي. بعد هذه المرحلة، تستطيع الثقافة الاستغناء بعض الشيئ عن ديكتاتوريتها للافراد لتسمح لهم بممارسات حرة ضمن الجماعة. الا ان هذا التحول في الثقافة توقف عن الحركة في بعض المجتمعات. فإذا نظرنا الى المجتمعات الشرق اوسطية، نرى ان الثقافة اقتبست وجهاً الهياً، لتزرع عند افرادها شعور بعقدة الذنب تجاه الخالق. هذه العقدة التي بدأت مع الخطيئة الاولى {ادم وحواء}،كانت محاولة لاسر الجماعة كاملةً تحت غطاء ديني. ظهرت محاولات فردية للتمرد انذاك من خلال انبياء عدة، هدفهم تخليص البشرية من هذه الخطيئة، الا ان هذه المحاولات لم تكن مدروسة بشكل واعي، فوقعت في فخ الانا الاعلى، لتقوم بترسيخ هذه العقدة بدلا من القضاء عليها. لقد استطاع الانا الاعلى الجماعي السيطرة على جميع هذه المحاولات، ليخلق لدى هؤلاء الانبياء تناقض و شتات واضح بين هدفهم الاول و الاخير.

بدأت ثورة الانبياء للتخلص من عذاب الانا الاعلى الجماعي الناتج عن شدة وتيرة عقدة الذنب. فجاء المسيح ليعبر عن قسوة القمع، فثار اولاً على الثقافة السائدة انذاك، كما ثار سقراط على الثقافة اليونانية. فكان لافكار سقراط اهمية كبرى في التاثير على الحضارة الاوروبية، لانها ابعدت الثقافة عن الطبيعة الالهية، بينما كرس المسيح ثقافة الرادع الالهي و الشعور بالذنب تجاه الخالق. و مع ذلك كانت نهايتهما قاتلة لطرحهما افكارا تجديدية. اذا نستطيع القول ان الافراد الثائرين، قد جاءوا من رغبة دفينة جماعية، هذه الرغبة هي التي حركتهم للتمرد على الثقافة المتمثلة بالقوانين السلطوية و الجماعية.

و لكن لماذا عرفت حضارات منطقة الشرق الاوسط بشر من طبيعة الهية او انبياء اكثر من غيرهم؟

هل لان الثقافات القديمة التي تواجدت في هذه المنطقة، كانت اكثر قمعاً، لانها عبرت عن الغرائز اللاواعية عند الانسان؟

ام ان الانا الفردي، كان المحرك الاساسي عند هؤلاء الانبياء، فلجأوا الى تحديد الثقافة لربطها بالخالق و من ثم بهم؟

لابد من التنبيه ان ربط الثقافة بالخالق، اصبح راسخاً في اللاوعي الانساني لسكان هذه المنطقة، ليصبح الفرد و من ثم الجماعة متمسكان تمسكاً غريزياً بالاله، لترتبط وجودية الجماعة و الفرد بوجودية الخالق. و بهذا ينشأ لدينا بتر حتمي لاي محاولة فردية تريد الخروج بالجماعة من قدرها المحتم. و اخيراً لا استطيع الا ان اختم هذه المقالة بمقولة لنيتشه "لا يستطيع الانسان النهوض عالياً اذا استمر على جهل لمصيره".