احياء الاله من الصراعات الداخلية


رندا قسيس
الحوار المتمدن - العدد: 3027 - 2010 / 6 / 7 - 14:19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

وضح لنا كل من علم الاعصاب و النفس صراعات الانسان الداخلية المتمثلة ما بين العقلانية الواضحة خصوصاً خلال الفترة النهارية و بين تخيلات و اوهام الليل التي تجتاح الانسان، لترسله الى متاهات الطفولة، و الى ذكريات بعيدة تراكمت عبر الزمن لتأخذ شكلاً مختلفاً، فمنها من يندمج مع ذكريات اخرى لتشكيل صور جديدة في الذاكرة.
دعونا نغوص في اصل الالهة، و الاديان، و الاساطير، و التي اتتنا من التجارب الانسانية المتراكمة و المرتكزة على مرحلة الطفولة حسب بعض الدراسات الانتربولوجية، النفسية، و العصبية. فإذا تمعنا في علاقة الاله-الانسان، نرى ان هذه العلاقة عبارة عن انعكاس لعلاقة الاهل-الاطفال، الا ان القلق الطفولي كان المؤثر الاساسي لدفعها الى اخذ منحاً آخر، و بذلك اضفى عليها قدرة و انتشاراً اكبر، و هذا بالطبع لم يمر بطريقة مباشرة واعية، بل مر عن طريق شراكة لغوية، ليتم الجمع بين صفات عديدة للاله مع كلمات عظمى و حسنة، كما ان علاقة العقاب-الثواب بين الاهل و اطفالهم، انعكست على العلاقة الالهية-الانسانية، لتستمد منها جميع القواعد.

بين لنا اختصاصي الاعصاب "بيرسينجر" هذه العلاقة و التي تصب في اكتفاء الحاجات البيولوجية الاولية للطفل كالطعام و الشراب و الحنان التي يوفرها الاهل، فنرى التصاق كل وجبة طعامية مع مفردة الشكر للاله، لهذا نرى ان جميع المنظمات الدينية التبشيرية تشارك الافراد و الجماعات الطعام و الشراب، اي ان الاله اصبح مرافقاً لحاجة بيولوجية اساسية للانسان.
يتعلق الطفل بأمه كونها تؤمن له حاجاته الاساسية كالطعام، الدفء، و الحماية، الا انه عبر الزمن، يتلاشى شعور الضمان و حماية الاهل لاطفالهم، و ذلك لعدم استمرار الاهل مدى الحياة، و هنا تبدأ عملية التعويض عن فقدان الضمان في فترة الطفولة الناتجة عن عجز الطفل عن تحمل مسؤوليته و عن الدفاع عن نفسه، ليقوم بعدها بإستبدال الاهل بقوة عظمى لاحدودية، او اله جبار، لهذا نستطيع فهم وجود الهة انثوية في الثقافات القديمة خصوصاً في المجتمع الامومي سابقاً، ليتغير جنس الالهة تدريجياً مع انتقال المجتمع من امومي الى ابوي.

بعد فترات طويلة قضاها الانتربولوجي و اختصاصي النفس "جيزا روهيم" متنقلاً بين القبائل الاسترالية، يؤكد لنا اثر الطفولة في ابتكار الاساطير و الالهة، فحسب الطبيب النفسي و طبيب الاطفال" دونالد وينيكوت" الذي وجد ان صورة الام تأخذ طابعاً جديداً في نفوس الاطفال، فتتحول من ام رقيقة معطاءة الى غول او ساحرة، و يفسر هذا الشيئ بعدم قدرة الام على اكتفاء جميع حاجات طفلها. و هنا نرى الكثير من الاساطير المحكية عن وحوش او شياطين انثوية آكلة للحوم البشر، و المعاقبة للذكور كالعفريت الانثوي "كنارينتيا" و التي تأتي الى الذكور ليلاً لتجلس على عضوهم الذكوري فتقوم بمحاكمتهم و عقابهم اما بقطع العضو الذكري او بقتلهم و ذلك من خلال عضوها الانثوي السام. هذه العفاريت البدائية الممثلة للعقاب و الاساطير تستمد منابعها من علاقة الطفل-الام، فنجد نساء قبيلة "بيتجينتارا" في استراليا يتمتعن بعطف و حنين تجاه اولادهن، و بنفس الوقت يقمن بالتهام الضعفاء من اطفالهن ليمنحن حناناً و عناية شديدة للآخرين الاقوياء، اي انها عملية انتقاء الاقوى من الاطفال كما تفعل بعض الحيوانات، و كما تؤكد لنا نظرية الاصطفاء الطبيعي.
من ناحية اخرى، تؤجج هذه العادات رغبة دفينة للانتقام عند الاطفال، لهذا يجد البعض من المختصين، ان العفاريت و الاشباح تعكس بصورة اخرى رغبات الطفل في اختراق جسد امه لافتراس جميع اعضائها، فكما قالت اختصاصية الاعصاب "ميلاني كلاين"، "يعكس الطفل عدوانيته تجاه امه اولاً، و من ثم يعكسها على ابيه، ليغرق في مخيلاته الهادمة للاجساد".
من المرجح ان علاقة الام بطفلها منذ بدء تكوينه في رحمها و انفصاله عنها (لحظة الولادة)، كانت سبباً من اسباب القلق الطفولي الذي ساعد في نسج القصص الاسطورية، و من ثم الدينية.

هذا الشعور لا يمكنه المرور بطريقة سلمية، فهو يخضع الى جملة مشاعر متناقضة و جملة من الاحاسيس بالذنب، لتنقسم العملية النفسية الى قسمين يتراوحان ما بين الخير وو الشر، الجنة و النار، و بالطبع بين الاله و الشيطان، فلا يمكن لوجود اله من غير وجود نقيضه، فنحن جميعاً نخضع لهذه المتناقضات النفسية، الا ان ارادتنا الواعية توجهنا نحو فهم اوسع و اختيار افضل، بينما نرى ان الانسان الخاضع لمشيئة الهه و دينه بشكل غير واع و ذلك من دون التفكير او التمحيض في تعاليم الهه، انساناً يشبه الى حد بعيد حالة الطفل غير الواعي لما يدور حوله، و المستسلم لحماية اهله له، ليمدد بعدها هذه المرحلة الشبيهة بالخضوع و الاستسلام و الراحة لاله يعوضه عن التفكير و العمل.
نلاحظ ان عملية اقتران الاله بمفردات عدة لا تساعد كثيراً على قيام الفرد بعملية الفصل بين الاوهام و بين التجارب العملية الساعية الى فهم و ادراك تتجاوز العفاريت و السحرة و الالهة معاً، فالمفردات المقترنة بالاله تدفع الفرد الى بناء حاجز بينه و بين الارادة الواعية لمعرفة تاريخه و علله، لايجاد صيغاً تناسب حاجاته البيولوجية و النفسية و التي يمكنها ان لا تتعارض مع مبدأ الجماعة.

نلاحظ اذاً ان التحكم بالافراد يتم عبر قنوات لغوية تنغرس في ذاكرتنا، لتصبح عبارة عن استنتاجات تلقائية خالية من اي اسس تجريبية، فإذا قلنا من هو الاله؟ يأتينا جواب فوري فارغ من اي تحليل سليم، فالاله اصبح الجواب الرئيسي لكل فرد عاجز عن استخدام عقله.