انتعاشات باريسية حرة-1


رندا قسيس
الحوار المتمدن - العدد: 2976 - 2010 / 4 / 15 - 10:17
المحور: سيرة ذاتية     

لطالما كان يراودني ذلك البحث عن شيئ مفقود لم ادركه الا بعد سنوات طويلة. كنت ابحث عن حرية تتيح للذات ان تتقمص في كل كائن كي تندمج مع الطبيعة الام، كما يحلو للطفل في لاوعيه الرجوع الى رحم امه.
ربما نعيش انفصال ذراتنا عن الحاضنة الكبرى بشكل مأساوي فنحاول جاهدين ان نفهم السبب و الحكمة في ذلك الانفصال، كما يعيش الطفل حسب مفهوم "قلق الولادة" انفصاله عن الام و خروجه من رحمها، انه قلق كامن يستبطنه دون ان يعيه.
و من هنا علينا احيانا رمي جميع الثوابت التي ترعرعنا عليها في بلد المنشأ، فالانسان متحول و جميع القيم و المعتقدات التي نبنيها هي متحولات مثلنا، فاحيانا نضطر الى اختيار بلدا قد تجاوز الى حد ما او بالاحرى سبق بلدانا في البحث عن ايجاد توازن ما بين حرية الانا و بين المصلحة الجماعية، فكانت له ابحاثه و محاولاته الجدية لقرون عديدة في البحث عن تاريخ الانسان و فهمه لانشاء معادلات فكرية توسعية.
و تبدأ... رحلة التفتيش عن طرف خيط يقودنا الى الانسان الحر او الى كل كائن حي لملامسة النظام الطبيعي، إذ علينا ان نبدأ تدريجيا بالبحث عن الحرية، مع ان الحرية التامة ربما لن نجدها الا بعد رجوع ذراتنا الى غلافها الطبيعي.
وسط هذه الانشغالات، تضيع المفاهيم و القيم المغلفة بكلمات براقة ترعرعنا عليها، لتعطي افكارا و منهجا جديدا، لنكسر بعدها بعض الثوابت و الحواجز التي تعيق تقدم البشرية، و نتساءل عن معنى الحياة و الفائدة منها، فنستنتج بعد عراك، اننا ما وجدنا لنتوقف و نتشبث بثوابت قديمة، بل لنتمايل و نتراقص مع التغيرات الحياتية .

لا اعتقد ان اوروبا جنة على الارض و لا ازعم أن الاوروبيين او الغربيين بشكل عام قد استطاعوا الوصول الى مفاهيم و قيم انسانية نبيلة، الا اننا كأفراد باحثين عن اعماق الذات نتمتع و بشكل واضح و من غير خجل بالتعبيرعن افكارنا و كياننا.
كثير منا من شعر بخيبات امل متكررة لاسباب عديدة، منها النفاق المتبع في تبني اسلوب مناهض للمعايير الانسانية التي تجهر بها المجتمعات الغربية. ومع معارضتي الشديدة للمنهج و الاسلوب المتبع في علاج بعض القضايا، الا انني لا استطيع نسف جميع التجارب المكتسبة، فأنا شخصياً اشعر ببعض الارتياح الى ما آلت اليه افكاري و الى الخطوات الصغيرة التي تقدمت بها في مناشدة الفكر الحر. لا ننسى ان المجتمع الذي يتيح مساحة للتعبير و حرية النقد لكل شيئ و لاي شيئ هو مجتمع بناء، يحترم افراده فيساويهم جميعا امام القانون,
طبعا لا بد لهذا المجتمع ان يعتمد حدودا حمراء يمكن لكل فرد التحرك ضمنها. ثمة من سيتساءل عن هذه الحدود التي تشكل حاجزا بينهم و بين الثقافات الاخرى، والادعاء بأن هذه الحرية هي للافراد الذين يشربون من كأس الثقافة الغربية، بينما تتحول هذه الثقافة الى الة فتك لكل الثقافات الاخرى المختلفة، لذا اوضح بأن البشرية لا يمكنها التراجع و ما تعتقده شعوب و امم اليوم، كان يعتقده الغربيون في قرون سابقة، و اعتقد ان لهم الحق في الدفاع عن افكارهم و في مواجهة اي تيار يريد ان يكبل الفكر و يحد العقل ليرجعه الى خرافات قامت بهتك حياة افراد. ما ابرره الان ليسا حبا للغرب بل هو حب للفكر و للحرية التي اسعى و تسعى إليها البشرية عامة.

لا يمارس الغرب تاثيره على الشعوب الاخرى بالتنويم المغناطيسي، بل عبر مناداة انسانية للحصول على كفاءات او اداء جسدي او فيزيائي لنظام معين، اي اننا جميعا و من غير استثناء مطالبون بالوصول الى الحرية. هذه الحرية لا يمكنها الا ان تكون شاملة و ان تتبنى نظرة شمولية لكل شيئ حي، هكذا نستطيع القول ان ماوصل اليه الغرب ليس حكرا عليه، و ثقافته اليوم ليست وليدة افكاره بل هي من اثر التراكم التاريخي و المعرفي المنتقل من بلد الى آخر، فما آل اليه الغرب هو حصيلة حضارات ولدت منذ وجدت البشرية بل اكثر من ذلك، منذ نشأت الحياة على كوكبنا.
لقد تعلمنا من تجاربنا البشرية ان الانعطافات التاريخية تبدأ عند نقطة الالتزام بفكر حر غير مقيد، فكر قابل للتفكيك و الهدم و من ثم الترميم. حصيلة هذه التجارب التاريخية موجودة اليوم في فرنسا و الغرب الا ان الدول الغربية لم تنتهي بعد من رسم حلتها بشكل كامل و مازال لديها الكثير كما يمكنها التعلم من تجارب افراد يأتون اليها بحلى اخرى و ثقافات مختلفة لاضفاء شيئا من الجمال عليها.

في جعبتي الكثير من النقد و المديح لشعوب الغرب و لفرنسا بالتحديد، فهنا تعلمت كيف اتنفس الهواء الفاسد لاحوله الى هواء صالح يشرح صدري و يوسعه بعد ضيق، بيد انني سأتطرق الى مشكلة سرطانية اصابت الانسانية بشكل عام و الغرب بشكل خاص، وهي الان تتفاقم خفية، فالكل يخجل من التعبير عنها بشكل واضح لصرامة القوانين المتعلقة بالعنصرية، الا ان العنصرية و رغبة التميز عن الاخر، تختفي وراء عبارات شوفينية .
او ليست الشوفينية هي وجه اخر للعنصرية؟
وإذ ندقق قليلا في هذه الظاهرة نلاحظ ان العنصرية هي شكل متطور من اشكال الاثنية الانوية، (عندما اتكلم هنا عن الشكل المتطور، لا اعني به الشكل التقدمي فلا علاقة مترابطة بين التطور و التقدم )، و اذا تمعنا اكثر في الاثنية الانوية البدائية، نراها مرحلة متطورة لرفض و كره الغريب، لقد نشأ شعور كره الغريب منذ نشأة الجماعة، لذا نجده عند الكائنات الحية التي تعيش بشكل جماعي .
لنعد الى العنصرية حيث نرى ميل الانسان نحو طبيعته البدائية و الحيوانية و نرى ان كل العلوم و الفلسفة المتراكمة لم تكبح هذا الطبع البدائي الذي ولد مع الجماعة.
نعم، جميع الدول تعاني من الموروث البدائي فالانسان واحد اينما كان، ذلك ان ما يميز انسانا عن اخر هو فكره الحر و ما يميز مجتمعا عن اخر هو قانونه الذي يتكفل بحماية افراده مهما تعارضت افكارهم مع اسسه الجماعية.
لم ترتق بعد الكتلة الجماعية الغربية في مفاهيمها و معاييرها الانسانية و ما زالت الشوفينية سلاحا في ايدي بسطائها الذين لايملكون شيئا مميزا فيسعون للافتخار بأوطانهم و قوانينهم و مفكريهم. نحن بحاجة الان الى صحوة فكرية و الى كف الحكومات الغربية عن زيادة وتيرة الشوفينية من خلال اعلامها المسطح، ذلك ان الاكتفاء و التباهي هي من اشد العوامل المدمرة للحضارات الانسانية بما فيها الحضارة الغربية.

يتبع الجزء الثاني