بشائر مرحلة ما قبل النهضة


عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن - العدد: 3265 - 2011 / 2 / 2 - 23:35
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

بشائر مرحلة ما قبل النهضة
يبدو من ثورة الشعب التونسي على الاستبداد السياسي، المتمثل في السلطة الحاكمة وأجهزتها القمعية، كذلك ما يجرى الآن على أرض الكنانة من ثورة شعبية عارمة ضد النظام الجاثم على صدر الشعب المصري منذ ثلاثة عقود من الزمان، أنها بداية شرارة تغير حقيقي في المنطقة نحو نهضة شبيهة بنهضة أوروبا أبان عهد التنوير. ولكن ينبغي على هذه الشعوب الناهضة ألا تتغافل عن تجنب محاذير استراتيجية في عالم الثورات الشعبية. كذلك السعي الحثيث نحو تمهيد حقيقي لمناخ ثقافي وتعليمي يسهم بصورة فاعلة لإنجاح نهضة الشعوب الثائرة. من هذه المحاذير التي ينبغي تجنبها والانتباه إليها؛ الوعي بخطورة الاستبداد الديني وأنه لا يقل كارثية من الاستبداد السياسي. والوعي بخطورة عدم وجود مشاريع فلسفية وأطروحات منطقية تستوعب مسارات النهضة. وكذلك الوعي بأهمية ذيوع ثقافة العقل والمنطق، وشيوع روح النقد ونقد النقد.

والجدير بالذكر إن الاعتماد على عاطفة الشعوب في تثويرها ضد الاستبداد السياسي دون وعيها بخطورة المنطق الديني المؤدلج، وقدرتها على التمرد على سلطة التاريخ، والتمييز بين الديني والدنيوي، يعني استمرارية الاستبداد، وسيطرة ثقافة الاقصاء والتهميش الجهوي والمذهبي والحزبي،وإهدار تام لمباديء احترام الغير، واستعمال العقل، وقبول النقد. وبالتالي سهولة الالتفاف على هكذا ثورات؛ بل وسرقتها جملة.
ولعل هذا يذكرنا بموجة الثورات العسكرية في حقبة الستينيات والسبعينات من القرن المنصرم ضد الأنظمة الملكية وكيف تحركت الشعوب العاطفية تلبية للقادة الجدد. فقد جاء الانقلابيون بفكرة الثورة على الانظمة البائدة (بحسب قولهم)، من خارج الحدود وعلى وجه الخصوص من الفكر الشيوعي المتمثل آنذاك في الاتحاد السوفيتي، كما حصل في مصر على يد عبد الناصر، وليبيا على يد القذافي، والسودان على يد النميري، وسوريا على يد الاسد، والعراق على يد صدام. حيث حققت هذه الثورات نجاحا في قدرتها على خلع أنظمة استبدادية موالية للغرب، ولكنها أسست عوضا لتلك الانظمة أنظمة استبدادية موالية للشرق، حيث كانت أشد وأنكى على تلك الشعوب من الانطمة السابقة. ويبدو أن السبب الرئيسي وراء ذلك أن قادة هذه الانظمة الثورية على الرغم من أنها استطاعت تحريك الشعوب وثويرها ضد الانظمة البائدة، ولكنها كانت واقعة تحت سطوة الانبهار بالتجربة الشيوعية آنذاك، وهي بمعزل عن أدوات ومراحل الثورة البلشفية، فلم ترع الفوارق بين أعراف ومكونات المجتمعات العربية وتلك المجتمعات صاحبة التجربة، كذلك لم تأخذ في الاعتبار ضرورة الطرح الفلسفي الذي سبق ورافق الثورة البلشفية(1917م) وإن شئت فقل الثورات الروسية على أيدي مجموعة من الفلاسفة كهيجغل،وفوير باخ، وماركس، وإنغلز وغيرهم.

ولابأس من التذكير بأهم مرتكزات ثورة فرنسا التي غيرت أوروبا من باب المقاربة وعقد المقارنة حتى لا تضيع جهود الشعوب العاطفية كل مرة أدراج الرياح. فقد ابتدأت الثورة عام (1789)، وانتهت تقريبا(1799)، وكان من أهم مرتكزاتها، نقد الاستبداد السياسي، والتمرد على السلطة الدينية، وممارسة نقد نصوصها ورموزها. ولكن هذه المرتكزات كانت في إطار فلسفي منطقي نقدي تم إذاعته ونشره عبر مفكري عصر التنوير من أمثال مونتسكيو، وفولتير، وروسو وغيرهم، وترجمة هذه الاطروحات الفلسفية من خلال جملة من المفاهيم والشعارات، أبرزها شعار (الحرية والعدل والمساواة). واسفرت الثورة الفرنسية على إلغاء الملكية المطلقة، والامتيازات الاقطاعية للطبقة الارستقراطية، والنفوذ الكنسي ورجال الديني.
وبهذه الشعارات والطرح الفلسفي دخلت أوروبا مرحلة النهضة والثورة الصناعية والحداثة، إلا أن ممارسة وتطبيق تلك النظريات آلت ببعض القادة السياسيين إلى الانحراف عنها بزاوية من زوايا الانحراف؛ إما نحو اليمين المتطرف، أو اليسار المتطرف. فكان ذلك إيذان بمرحلة ما بعد الحداثة حيث قدم لها المفكرون والفلاسفة نظرية نقدية واستشرافية مستقبلية ساهمت في تطور المجتمعات الاوروبية في منطقها الفلسفي، وفكرها السياسي، وسلوكها الديمقراطي، وتقنينها القانوني، فكان تقرير خصوصية وقيم الثقافات،والايمان بمبدأ التسامح ، والحوار والتعايش، والاعتراف بنسبية العقل وعدم الايمان بالعقل الكوني. من أبرز منظري فترة ما بعد الحداثة فوكو، وغاتاري، وديلوز وغيرهم.
ولا يخفى أن غياب هذا التسلسل في أذهان محركي الشعوب العربية، وحرق مراحل الثورات الغربية والبلشفية، يعني تكرر تجارب الانقلابيين في المنطقة، والعودة بالشعوب إلى المربع الأول، وتكريس الاستبداد والتخلف والقهر والغبن ولكن بأقنعة مختلفة جديدة.

ولهذا نرجو لهذه الثورات أو الهبات الشعبية في تونس ومصر، أن تستفيد من تجارب الثورات الانسانية داخل الحدود وخارجها، وألا تقع في شراك فخ التضخيم وحرق المراحل والزعم بأن عهود الاستبداد والظلام قد ولت وأصبحنا نعيش الحرية وقيم الكرامة والانسانية كما هو الحال في أوروربا. وأحسب أن الاستفادة من الغير وعدم حرق المراحل يساعد بصورة كبيرة على تحقيق أهداف ثورة الشعوب، وتسهم في عملية دخول مجتمعاتنا إلى مرحلة النهضة والحداثة، تمهيدا مرحلة ما بعد الحداثة والنهضة. ولكن ما يخيف العقلاء أن تؤول تلك النضالات والتضحيات الجسيمة إلى هيمنة المستبد الديني، أو المتخلف العسكري، أو المؤدلج المدني. أو تساق تلك الشعوب إلى صدامات داخلية، وصراعات وهمية، وتبرز في تلك الاجواء روح الطائفية والحزبية التي تتقهقر بالمجتمع إلى منطق القبيلة ومصالحها الضيقة، وتتساوى حينئذ عملية تغيير النظام والسعي لتدمير الدولة لدى تلك الشعوب، وهنا مكمن الخطر. ولعل ما يدار في الصومال، وأرض الرافدين خير مثال لذلك الخلط بين تغيير النظام وتدمير أركان الدولة.
فإذا كان ذلك كذلك، فأن لمجتمعات تلك حالتها أن تدخل إلى عالم الحريات والقيم الانسانية وهي بمعزل عن أمتكلاكها خميرة الحضارة الاساسية المتمثلة في رفع مكانة العقل، وقبول منطق الفلسفة،والايمان بالتعددية، وبمبدأ الحوار والتعايش، وقيم المساواة، ومفاهيم المواطنة، واحترام الخصوصية.