روايات تثير شبهات حول عرض رسول الله


عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن - العدد: 2704 - 2009 / 7 / 11 - 09:35
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

جاء في صحيح مسلم في كتاب االتوبة ‏عن ‏ ‏أنس ‏ ‏أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏لعلي ‏ ‏اذهب فاضرب عنقه فأتاه ‏ ‏علي ‏ ‏فإذا هو في ‏ ‏ركي ‏ ‏يتبرد فيها. فقال له ‏ ‏علي:‏ ‏اخرج. فناوله يده فأخرجه، فإذا هو ‏ ‏مجبوب ‏ ‏ليس له ذكر. فكف ‏ ‏علي ‏ ‏عنه، ثم أتى النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقال: يا رسول الله إنه ‏ ‏لمجبوب.‏ ‏ما له ذكر.(صحيح مسلم، والمستدرك، وكتاب معرفة الصحابة، ومسند البزار، وابن أبي خيثمة،والبيهقي، وابن ماجه، والدار قطني،والإستيعاب، والإصابة، وبيان المشكل لطحاوي، والبداية والنهاية)

تناول هذا الحديث منهجان تقديسيان بطريقة تمجيدية؛ المنهج السني والمنهج الشيعي، حيث دافع المنهج السني على صحة الحديث بطريقة تمجيدية مفرطة دونما مراعاة للمآلات الخطيرة لهذه الطريقة التقديسية المنطلقة من المقولة المشهورة في الفكر السني (أصح كتابين بعد كتاب الله كتاب البخاري ومسلم)، حيث ذهب المذهب السني بطريقة تأويلية إلى القول بأن الحديث صحيح الاسناد ولا غبار عليه بحال من الأحوال مادام صحيح الاسناد!!

أولا: تمجيدية المذهب السني: وقد عبر ابن القيم عن هذا المنهج بقوله: وقد أشكل هذا القضاء على كثير من الناس فطعن بعضهم في الحديث ولكن ليس في إسناده متعلق عليه، وتأوله بعضهم على أنه لم يرد حقيقة القتل إنما أراد تخويفه ليزدجر مجيئه إليها.قال وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه في الولد بالسكين حتى أشق الولد بينهما ولم يرد أن يفعل ذلك بل قصد استعلام الأمر من القول ولذلك كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث الحاكم يوهم خلاف الحق ليتوصل به إلى معرفة الحق فأحب رسول الله أن يعرف براءته وبراءة مارية وعلم أنه إذا عاين السيف كشف عن حقيقة حاله فجاء كما قدره رسول الله .وأحسن من هذا أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا رضي الله عنه بقتله تعزيرا لإقدامه على خلوته بأم ولده فلما تبين لعلي حقيقة الحال وأنه بريء من الريبة كف عن واستغنى عن القتل بتبيين الحال والتعزير بالقتل ليس بلازم كالحد بل هو تابع دائر معها وجودا وعدما)(زاد المعاد).


كذلك تأول ابن تيمية الحديث بطريقة تمجيدية حيث قال: ثم ان من نكح ازواجه او سراريه فان عقوبته القتل جزاء له بما انتهك من حرمته فالشاتم له اولى والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن زهير عن عفان عن حماد عن ثابت عن انس ان رجلا كان يتهم بام ولد النبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه فاتاه علي فاذا هو ركي يتبرد فقال له علي اخرج فناوله يده فاخرجه فاذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي ثم اتى النبي فقال يارسول الله انه لمجبوب ماله ذكر ، فهذا الرجل امر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته ولم يامر باقامة حد الزنى لان حد الزنى ليس هو ضرب الرقبة بل ان كان محصنا رجم وان كان غير محصن جلد ولا يقام عليه الحد الا باربعة شهداء او بالاقرار المعتبر، فلما امر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه من غير تفصيل بين ان يكون محصنا او غير محصن علم ان قتله لما انتهكه من حرمته، ولعله قد شهد عنده شاهدان انهما راياه يباشر هذه المراة او شهدا بنحو ذلك فامر بقتله فلما تبين انه كان مجبوبا علم ان المفسدة مامونة منه او انه بعث عليا ليستبرى القصة فان كان ما بلغه عنه حقا قتله ولهذا قال في هذه القصة او غيرها اكون كالسكة المحماة ام الشاهد يرى ما لايرى الغائب فقال بل الشاهد يرى مالا يرى الغائب).(الصارم المسلول) وهذا ما ذهب إليه ابن حزم قبل ابن تيمية على الرغم من ظاهريته المعروفة راجع تأويليته في كتابه( الايصال إلى فهم كتاب الخصال)

وعلى الرغم من هذه التأويلية التمجيدية إلا أن الاشكال مازال قائما داخل المنهج السني، بمعنى أن تبرئة المجبوب لا تعني تبرئة مارية، لذا نجد بعض شراح الحديث أشكلت عليهم هذه التأويلية فألجأتهم إلى التسليمية المطلقة دونما التفكير برد الحديث بمنطق المحافظة على جناب رسول الله وأهل بيته الكرام من خلال تحكيم كليات القرآن وقصديته، فهذا الصالحي الشامي ومن قبله الطبراني يلجأ إلى التسليمية المطلقة بعد رفضه لتأويلات النووي والقاضي عياض فيقول: قيل لعله كان منافقا ومستحقا للقتل بطريق آخر، وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنا، وكف عنه علي اعتمادا على أن القتل بالزنا وقد علم انتفاء الزنا، وفيه نظر أيضا، لأنا نعتبر نفي ظن الزنا عن مارية، فانه لو أمر بقتله بذلك، لأمر باقامة الحد عليها أيضا، ولم يقع ذلك معاذ الله أن يختلج ذلك في خاطره أو يتفوه به.( انظر:سبل الهدى والرشاد للصالحي)

ثانيا:تمجيدية المذهب الشيعي: وإذا ما انتقلنا إلى تقديسية وتأويلية المذهب الشيعي لهذا الحديث نجد الأدلجة المذهبية حاضرة في كل جنبات نص هذا الحديث، ابتداء من أتهام عائشة وحفصة وعمر مباشرة بالطعن في عرض مارية، وفي المقابل إبراز عصمة علي ابن أبي طالب، كما نلحظ ذلك في رسالة خبر مارية للإمام المفيد بن النعمان(ت 413) حيث قال: أن ما رواه الحاكم في مستدركه، والسيوطي عن ابن، مردويه غير ذلك مما تقدم يقرب لنا: أن عائشة قد غارت من مارية، ونفت شبه ابراهيم بأبيه، رغم إصرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خلافها ورغم أنه كان أشبه الخلق به كما جاء في رواية الطبراني.

ثم قال: مما يعنى: انها تؤكد على نفيه، منه، وحصول خيانة من مارية فيه... وكان الحامل لها على ذلك هو غيرتها الشديدة، حسب اعتراف عائشة نفسها... ومما يجعلنا نطمئن إلى صحة ذلك الحوار، وأن عائشة قد حاولت أن تلقي شبهة على طهارة مارية هو ما قالته عائشة نفسها عن حالتها مع مارية:... ما غرت على إمرأة دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة، وأعجب: بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قالت: وفرغنا لها فجزعت، فحولها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى العالية، فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا، ثم رزقها الله الولد وحرمناه...، وعن أبي جعفر:... وكانت ثقلت على نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغرن عليها، ولا مثل عائشة.

ثم قال: وبعد كل ما تقدم... فاننا نعرف أن أم المومنين قد ساهمت في اثارة الشكوك والشبهات حول مارية، وولدها ابراهيم، ولعلنا نستطيع أن نفهم أيضا من رواية السيوطي عن ابن مردويه: أن حفصة أيضا قد شاركت في تأليب رأي النبي صلى الله عليه آله وسلم ضد مارية... وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حرم مارية على نفسه بعد المحاورة التي جرت بينه وبين عائشة... وبعد جزعهما، وعتاب حفصة له في شأنها... ويفهم أيضا من رواية الحاكم أن تكثير النساء، على مارية كان بعد المحاورة المشار إليها بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة... وكل ذلك يجعلنا نطمئن إلى أن سبب تحريم مارية هو ذكرهن الشبهات حولها، لا مجرد أنه وطأها في بيت حفصة أو عائشة... ولا سيما بملاحظة: أن آيات التحريم، في سورة التحريم تدل على أن مما ارتكبوه كان أمرأ عضيما جدا، لا مجرد قول حفصة: يارسول الله في بيتي وعلى فراشي، فإن هذا كلام طبيعي وليس فيه أي إساءة أدب، أو خروج عن الجادة أصلا... ولا يستحق هذا التأنيب العظيم الوارد في الآيات... وعلى هذا فإن الظاهر هو أن آيات تحريم مارية في سورة التحريم قد نزلت في قضية الشبهات حول مارية حينما حرمها النبي على نفسه لذلك، وأما آية الافك فنزلت في الافك عليها أيضا.(انظر: المرجع السابق)

أما عن إقحام عمر في هذه الشبهة فقد قال المفيد بن النعمان: دور عمر في قضية مارية تبرئة أو اتهاما، ولقد احتمل بعض العلماء: أن عمر أيضا قد شارك في إثارة الشبهات حول مارية بالاضافة إلى حفصة وعائشة... ومستنده في ذلك ما رواه الطبراني وغيره: في رواية تضمنت أن عمر هو الذي برأ مارية وأنه لما رجع إلى الرسول، قال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أخبرك يا عمر: إن جبرئيل أتاني فاخبرني: أن الله عز وجل، قد برأ مارية وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني: أن في بطنها، مني غلاما، وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أسميه ابراهيم... فقد احتمل، المظفر اسنادا إلى هذه الرواية أن لعمر بن الخطاب شأنا في إتهام مارية، وإلا...فلماذا يخصه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المقالة.( المرجع السابق)

وأما بخصوص أدلجة هذا الحديث وإثبات عصمة علي فيقول المفيد بن النعمان: فكان في إطلاق النبي صلى الله عليه واله وسلم، وسؤال علي عليه السلام وكشفه عما تضمنه الكلام من الاحكام والتي استنبطها الإمام عليه السلام من الفوائد في فضلهما وعصمتهما ونطقهما بالحق، ما بيناه وأوضحناه. وهذا أيضا مما دل الله تعالى به الأنام على مشاكلة أمير المؤمنين لنبيه صلوات الله عليهما في العصمة والكمال، ومشابهته له في تدبير الدين والحكم في العباد. ولو لم يقع الاطلاق في الامر والاشتراط من أمير المؤمنين عليه السلام لما عرف ذلك، حسب ما بيناه، والله الموفق للصواب.(انظر: رسالة في خبر مارية) ويبدو أن تمجيدية المذهب الشيعي في انطلاقته لأثبات عصمة علي ابن أبي طالب من خلال هذا الحديث لم تحافظ بذات القدر على عرض رسول الله حيث دفعت عن مارية الشبهة وأشارت بأصابع الاتهام إلى عائشة وحفصة، وجميعهن عرض رسول الله وأهل بيته الكرام.

ثالثا: نقد المنهجية التمجيدية. يبدو أن المنهج التمجيدي في الفكر الإسلامي قد رفع من مستوى جهود رجال الحديث في قبول الرواية وردها من دائرة العمل الانساني الذي يعتريه ما يعترى أي عمل بشري من خطأ وصواب إلى مصاف العمل الإلهي من حيث التقديس والتبجيل، حيث غلفت جهود رجال الحديث بثوب مقدس في إطار مقولات صارت بمثابة الأمر الإلهي فيما بعد، ومن تلك المقولات أن الله قد خص هذه الأمة بالاسناد، وأن الاسناد من الدين !!

وكان من المفترض أن يتعاطى العقل المسلم مع جهود رجال الحديث بمنطق أن المعرفة لا تقدس ولا تعرف دينا ولا جهة ولا لونا فهي قابلة للنظر والمناقشة والنقد تكميلا لما بذل من جهود مقدرة في مضمار المعرفة والجهد البشري، ويبدو أن هذا الأمر كان مستقرا عند جامعي الأحاديث كالبخاري ومسلم كما أشرت إلى ذلك في مقالي (أسطورة الدجال في الصحيحين)حيث قلت:أهمس في أذن الذين يقدسون الصحيحين بأن البخاري ومسلم صاحبي الصحيحين لم يعتبرا كتابيهما من الكتب المقدسة بل لم يخطر على بالهما أن الناس من بعدهما سوف يعظمون كتابيهما تعظيما أشد من كتاب الله. لأن ما قاما به من جمع وتصفية ووضع شروط لقبول الأحاديث، كان في حسبانهما هو قصار الجهد البشري في تحري الصحيح من الضعيف، ولكن لم يدر في خلدهما بأن جهدهما هذا لا ينبغي مراجعته ولا نقده ولا الاستدراك عليه البتة. فهذا أبو زرعة إمام الجرح والتعديل في زمن البخاري ومسلم حين عرض عليه صحيح مسلم فقال هذا عمل تجاري ولم يعطه أي اعتبار ناهيك إن يجعله مقدسا.وهاك النص كاملا، قال سعيد البرذعي شهدت أبا زرعة ذكر عنده صحيح مسلم فقال: هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه، فعملوا شيئا يتسوقون به .ثم قال: يروي عن أحمد بن عيسى في الصحيح !! ما رأيت أهل مصر يشكون في أنه-وأشار إلى لسانه.(=أي كذاب). (ميزان الاعتدال للذهبي)

وهذا يعني أن نقد صحيح البخاري ومسلم، أو البخاري ومسلم في ذاتهما لم ولن تكن من المحرمات ولا من المقدسات في زمانهم، فكيف انقلبت الأحوال في الأزمنة اللاحقة حتى صار البخاري وصحيحه،ومسلم وصحيحه من المقدسات بل من صلب اعتقاد الناس، وبالتالي فإن ناقد البخاري ومسلم يعد ناقدا لرسول الله ورادا لكلامه، وبذلك يصير كافرا وزنديقا، فهذا بهتان عظيم لأن البخاري ومسلم ومن عاصرهما من علماء الحديث كأبي زرعة، ومحمد بن يحيي، وابن المديني، والدار قطني، لم يكونوا يعتقدون فيهما هذا الاعتقاد المتخلف، فهذا ابن القطان قد قال: فيهما(أي الصحيحين) من لا يعلم إسلامه. وقال ابن أبي الوفاء القرشي في الكتاب الجامع: وما يقوله الناس: إن من روى له الشيخان فقد جاوز القنطرة، هذا من التجوه ولا يقوى، فقد روى مسلم في كتابه عن ليث بن أبي سليم وغيره من الضعفاء، فيقولون: إنما روى عنهم في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات وهذا لا يقوى؛ لأن الحافظ قال: الاعتبار والشواهد والمتابعات أمور يتعرفون بها حال الحديث، وكتاب مسلم التزم فيه الصحيح، فكيف يتعرف حال الحديث الذي فيه بطرق ضعيفة؟ واعلم أن(أن) و(عن) مقتضيتان للانقطاع-أي من المدلس-عند أهل الحديث، ووقع من مسلم والبخاري من هذا النوع كثير، فيقولون على سبيل التجوه: ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع، وما كان في الصحيحين فمحمول على الاتصال(انظر:اسطورة الدجال في الصحيحين)

رابعا:الشخصية المحورية في الرواية (مارية،ومأبور). تفيد دراسة الشخصية المحورية في النص من خلال السياق التاريخي والمساق الثقافي والاجتماعي والسياسي في عملية استنطاق التاريخ، ومعرفة حجم عملية الادلجة، ورصد التوظيف الديني، ومدى حضور أجواء التدافع في صناعة الرواية والاسانيد.

السيدة مارية القبطية في سياق التاريخ: فيها مارية بنت سمعون هدية المقوقس إلى النبي فقد وصلت إلى المدينة بعد صلح الحديبية في سنة سبع من الهجرة وهو العام الذي أرسل فيه النبي رسائله إلى الملوك والقادة في زمانه، حيث أرسل إلى هرقل ملك الروم، وكسرى ملك فارس، والنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر. فقد أرسل الأخير مارية ومعها أختها سيرين وغلام اسمه مأبور، فأختار النبي مارية لنفسه، ووهب أختها سيرين لشاعره حسان بن ثابت. وبعد مرور عام على قدوم مارية حملت ماريه بإبراهيم وولدت به في شهر ذي الحجة من السنة الثامنة للهجرة، حيث عاش إبراهيم سنة وبضع شهور. وإسلمت مارية في الطريق إلى المدينة كما قال ابن كثير، وماتت في خلافة عمر وصلى عليها عمر رضي الله عنهما.

مأبور (أو جريح) في سياق الروايات: فقد وقع الاضطراب في مأبور من ناحية اسمه وعلاقته بالسيدة مارية ووضعه من ناحية رجولته، فمن ناحية اسمه جاءت رواية بأنه جريح وفي رواية مأبور. ومن ناحية علاقته بمارية فقد جاءت رواية بانه ابن عمها، وفي رواية أنه أخوها، وفي رواية أنه غلام أسود كما قال ابن كثير مأبور غلاما اسودا خصيا. وفي رواية أنه خصى نفسه بعد أن رضي أن يكون قريبا منها كما جاء في المعجم الكبير للطبراني...وكان مأبور يدخل على أم إبراهيم (مارية)؛ فرضي لمكانه منها أن يجب نفسه؛ فقطع ما بين رجليه حتى لم يبق له قليل ولا كثير. والراجح من هذه الروايات المضطربة أنه ليس أخوها وأنه أجنبي عليها؛ فلو كان أخوها ما احتاج إلى عملية الإخصاء ولا غيرها، وهنا يكمن الاشكال والمشكل في هذه القصة صحيحة الاسناد بزعم أهل الرواية !!

علما بأن ثمة فارق جلي بين الخصي، والمجبوب، فالخصي ناقص في رجولته، والمجبوب ليس به نقص ولكن ذلك مرتبط بحسب ما تبقى من الآلة، فقال سئل الشافعي عن ذلك فقال: للمرأة الخيار في المجبوب وغير المجبوب من ساعتها؛ لأن المجبوب لا يجامع أبدا والخصي ناقص عن الرجال. وقال في إيلاء الخصي غير المجبوب والمجبوب: وإذا آلى الخصي غير المجبوب مع امرأته فهو كغير الخصي، وهكذا لو كان مجبوبا قد بقي له ما يبلغ به من المرأة ما يبلغ الرجل حتى تغيب حشفته كان كغير الخصي في جميع أحكامه.(انظر: كتاب الأم، كتاب النكاح) والاشكال أن الروايات جاءت بالشيء ونقيضه في الآن الواحد؛ ففي رواية أنه جاء مخصيا، وفي رواية أخرى خصي نفسه عندما رضي أن يكون قريبا من مارية!! وفي رواية أن مأبور كان خصيا ومعلوم أن الخصي كغير الخصي تماما في إتمام المواقعة الجنسية كما قال الشافعي. وفي رواية أن مأبورا كان مجبوبا وهذا مرتبط بما تبقى عنده من آلة. ويبدو أن هذه الروايات المضطربة تكرس الشبهة وتزيد من الطين بله وليس العكس، وهذا ما حمل مقدسي الروايات إلى تأويلات غير منطقية ولا تستقيم مع مفاهيم تعد من المسلمات، كمفهوم عفة بيت النبوة، وعدالة الصحابي، ولا يخفى أن تداعيات هذه المفاهيم تعود على النظرية المثالية (الملائكية) للمجتمع الإسلامي الأول بالإبطال والإلغاء .

خامسا:تساؤلات تطرح نفسها: اللافت للنظر أن العقلية التمجيدية السنية والشيعية في مساعيها التأويلية لهذه الرواية تضع جملة من الروايات والاسانيد تحت مجهر تساؤلات العقل الناقد الذي يؤمن بمنطق الوحي ووحي المنطق، ومن هذه التساؤلات مدى صحة ودقة أسباب نزول سورة التحريم، وأسباب نزول آيات حادثة الأفك من سورة النور عند السنة والشيعة،حيث جاء في أسباب نزول سورة التحريم عند أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منزل حفصة فلم يجدها وكانت قد خرجت إلى منزل أبيها، فدعا مارية إليه، وأتت حفصة فعرفت الحال، فقالت يا رسول الله: في بيتي وفي يومي وعلى فراشي، فقال: إني أسر إليك سرا فاكتميه. فنزل قوله تعالى: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك. (الدار قطني، والبيهقي، والطبراني). بينما أسباب نزول آيات حادثة الإفك كانت بخصوص السيدة عائشة في غزوة بني المصطلق وما أثير حولها مما هو معروف في كتب الأحاديث والسير. بينما يذهب المذهب الشيعي إلى غير ذلك حيث يرى أن آيات سورة التحريم نزلت في مارية كذلك نزلت تبرئتها في سورة النور.

ولعل هذا التنازع المذهبي والتدافع السياسي بين السنة والشيعة عبر التاريخ يشير بوضوح إلى حجم التوظيف الديني لصالح السياسة مما يفتح المجال أمام البحاث إلى إعادة قراءة كتب التفاسير ومدونات الأحاديث وفق قواعد البحث العلمي الحر. وأحسب أنه بدون هذا المسلك العلمي النقدي يصبح المتلقي لهذه الكتب والمدونات بالطريقة التسليمية (الكهنوتية) محاطا بحزمة من الأسئلة المحرجة التي لا قبل له بالايجابة عليها بالمنهج التمجيدي التقديسي، ومن هذه الأسئلة المحرجة سؤال خطير عن حيادية القرآن في تعامله مع الحرة والجارية من حيث نزول القرآن في الدفع عن عرض عائشة (الحرة) ولم يتنزل في حق مارية (الأمة) وكلهن زوجات رسول الله. وكذلك انتظار رسول الله في حادثة الأفك شهرا كاملا حتى جاءت براءة عائشة من السماء، بينما لم يكن ذلك مع مارية !!

وهذه الاسئلة تطرح سؤالا أخر هو مدى إمتثال رسول الله لقيم القرآن وإقامة حدود الله في أرض الواقع، حيث زعمت هذه الروايات في المذهبين السني والشيعي أن رسول الله أمر بقتل مأبور بدون إلتزام بمسالك القضاء من تبين الحالة، وإقامة الحجة، وإكتمال الشروط وإنتفاء الموانع. وكذلك عدم إقامته حد القذف على عائشة وحفصة وعمر كما جاء ذلك في الرواية والتأويلية الشيعية، أو كما جاءت به صيغة الاستمرارية (كان) في رواية السنة (‏أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله).وحاش لرسول الله إن يفعل ذلك ولكن يبدو أن المذهبين لم يجدا حرجا في المحافظة على هذه الاسانيد والروايات التي كانت وليدة انساقهما الثقافية وتدافعهما الإيدلوجي، وكان الأجدر بهم حذف هذه الروايات وإلغائها ولو من باب المحافظة على جناب رسول الله وأهل بيته الأطهار بدلا من الدفاع المستميت عن مدونات الأحاديث وجامعيها.