مقاربة نقدية لحديث خير القرون قرني (6)


عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن - العدد: 2962 - 2010 / 4 / 1 - 16:30
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مقاربة نقدية لحديث خير القرون قرني (6)

سادسا: مقاربة لاستباحة مدينة الرسول:

بعد جز وحز رأس ابن النبي وابناء الصحابة وكبار التابعين من أجل تثبيت ولاية يزيد بن معاوية تمرد أهل المدينة على يزيد وخلعوا بيعته (عام 63 هجريا)، فكانت وقعة الحرة الشرقية الشهيرة والتي استباح فيها جيش يزيد بقيادة مسلم بن عقبة ( وهو ممن أدرك النبي، انظر تمييز الصحابة) المدينة لمدة ثلاثة أيام حيث انتهكت فيها المحارم وأريقت فيها دماء المهاجرين والانصار وأبنائهم، وبلغ عدد قتلى أهل المدينة على يدي مسلمي الشام ما يقرب من ألفي قتيل. ذكر الزرقاني شارح موطأ مالك أن يوم الحرة كانت به الوقعة بين أهلها وبين عسكر يزيد بن معاوية وهو سبع وعشرون ألف فارس وخمسة عشر ألف راجل سنة ثلاث وستين بسبب خلع أهل المدينة يزيد وولوا على قريش عبد الله بن مطيع وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة وأخرجوا عامل يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان من بين أظهرهم فأباح مسلم بن عقبة أمير جيش يزيد المدينة ثلاثة أيام يقتلون ويأخذون النهب ووقعوا على النساء حتى قيل حملت في تلك الأيام ألف امرأة زوج وافتض فيها ألف عذراء وبلغت القتلى من وجوه الناس سبعمائة من قريش والأنصار ومن الموالي وغيرهم من نساء وصبيان وعبيد عشرة آلاف وقيل قتل من القراء سبعمائة ثم أخذ عقبة عليهم البيعة ليزيد على أنهم عبيده إن شاء عتق وإن شاء قتل وفي البخاري عن سعيد بن المسيب أن هذه الوقعة لم تبق من أصحاب الحديبية أحدا .. ( انظر المجلد الثالث للزقاني)

وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء، قال المدائني توجه إليهم مسلم بن عقبة في اثني عشر ألفا وأنفق فيهم يزيد في الرجل أربعين دينارا. فقال له النعمان بن بشير: وجهني أكفك. قال: لا ليس لهم إلا هذا الغشمة، والله لا أقيلهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة. فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين في عشيرتك وأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمه عبد الله بن جعفر. فقال: إن رجعوا فلا سبيل عليهم فادعهم يا مسلم ثلاثا، وامض إلى الملحد ابن الزبير. قال: واستوصي بعلي بن الحسين خيرا. وعن جرير عن الحسن قال: والله ما كاد ينجو منهم أحد لقد قتل ولدا زينب بنت أم سلمة، قال مغيرة بن مقسم أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثا وافتض بها ألف عذراء ...

ثم قال الذهبي: ...وأصيب يومئذ عبد الله بن زيد بن عاصم حاكي وضوء النبي، ومعقل بن سنان، ومحمد بن أبي بن كعب وعدة من أولاد كبراء الصحابة وقتل جماعة صبرا. وعن مالك بن أنس قال قتل يوم الحرة من حملة القرآن سبع مئة، قلت فلما جرت هذه الكائنة اشتد بغض الناس ليزيد مع فعله بالحسين وآله ومع قلة دينه فخرج عليه أبو بلال مرداس به أدية الحنظلي وخرج نافع بن الأزرق وخرج طواف السدوسي فما أمهله الله وهلك بعد نيف وسبعين يوما ... (انظر :سير أعلام النبلاء للذهبي المجلد الثالث)

وذكر ابن تيمية استباحة المدينة في مجموع الفتاوى، وفي المسائل والأجوبة وهذا نص عبارته في المسائل، قال: ...ولكن لم يقتل قتلة الحسين، ولم ينتقم منهم، فهذا مما أنكر على يزيد، كما أنكر عليه مافعل بأهل الحرة لما نكثوا بيعته، فإنه أمر بعد القدرة عليهم بإباحة المدينة ثلاثا.

كذلك جاء ذكر استباحة المدينة في فتح الباري وغيره من المدونات السلفية، قال ابن حجر في المجلد الثامن: قوله حدثنا إسماعيل بن عبد الله؛ هو بن أبي أويس. وقوله حدثني عبد الله بن الفضل أي بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي تابعي صغير مدني ثقة ما له في البخاري عن أنس إلا هذا الحديث، وهو من أقران موسى بن عقبة الراوي عنه قوله حزنت على من أصيب بالحرة هو بكسر الزاي من الحزن، زاد الإسماعيلي من طريق محمد بن فليح عن موسى بن عقبة من قومي وكانت وقعة الحرة في سنة ثلاث وستين، وسببها أن أهل المدينة خلعوا بيعة يزيد بن معاوية لما بلغهم ما يتعمده من الفساد، فأمر الأنصار عليهم عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، وأمر المهاجرون عليهم عبد الله بن مطيع العدوي. وأرسل إليهم يزيد من معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش كثير فهزمهم واستباحوا المدينة وقتلوا بن حنظلة وقتل من الأنصار شيء كثير جدا... (انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر)

وذكر المجد وابن الجوزي وغيرهما أن الرجل من أهل المدينة كان بعد تلك الواقعة المريرة إذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها ويقول: لعلها افتضت في وقعة الحرة. قال السمهودي: ذكر المجد وغيره إنهم سبوا الذرية واستباحوا الفروج وإنه كان يقال لأولئك الأولاد من النساء اللاتي حملن أولاد الحرة. ولأبن الجوزي عن هشام أبن حسان ولدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج وممن قتل من الصحابة يومئذ صبرا عبد الله أبن حنظلة الغسيل مع ثمانية من بنيه، وعبد الله بن زيد حاكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ومعقل بن سنان الأشجعي، وكان شهد فتح مكة وكان معه راية قومه وفيه يقول شاعرهم: ألا تلكموا الأنصار تبكي سراتها ... وأشجع تبكي معقل بن سنان.( انظر:خلاصة الوفاء بأخبار دار المصطفى لنور الدين علي بن عبد الله السمهودي،تحقيق د: محمد الأمين الجكني، كذلك البداية والنهاية لابن كثير)

تأمل ... سبوا الذرية .... واستباحوا الفروج... وانتهبوا الأموال... وقتلوا الرجال والصبيان... يبدو أننا أمام جريمة حرب مركبة، فاعتداء على الحرمات، وانتهاك للمقدسات، وتدمير للممتلكات، وإفساد للحرث والنسل، باختصار (هولوكوست المسلمين). وللاسف أن هذه الجرائم البشعة لم ترتكب بأيدي النازية ولكنها أرتكبت بايدي الجيل الأول، ودرات رحاها باسم الدين وطاعة ولي أمر المسلمين !!

سابعا: مقاربة لحرق الكعبة:

وبعد استباحة المدينة من أجل تثبيت شرعية سلطة يزيد الوراثية الكسروية خلع عبدالله بن الزبير ولاية يزيد ودعاء إلى إقامة خلافة حجازية في مكة بقيادته، فأمر يزيد قائد جيشه مسلم بن عقبة بعد الانتهاء من المدينة أن يتوجه إلى مكة ومحاصرتها والقضاء على ابن الزبير، وبعد موت قائد الجيش الأموي مسلم بن عقبة وهو في طريقه إلى مكة تولى قيادة الجيش بعده الحصين بن نمير فقام بمحاصرة مكة ورمي الكعبة بالمنجنيق وحرق سقفها.(انظر: البداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الطبري)

ويبدو أن موت يزيد بن معاوية وقت حصار مكة كان سببا رئيسا وراء عدم استباحة الحصين بن نمير نائب مسلم بن عقبة مكة كما استباح مسلم بن عقبة المدينة بجيشه، وذلك لأنهما قادا عملية استباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية القرار والتنفيذ !!

وحقيقة أن الكعبة قبلة المسلمين والمقدس المتفق عليه عند المسلمين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم لم تسلم من الاعتداء عليها بالهدم والتحريق، من أجل السلطان وتثبيت سلطة البيوتات الحاكمة، فبعد رميها وحرقها على يد بن نمير قائد يزيد، رمها وحرقها الحجاج قائد عبدالملك بن مروان، ومعلوم أن موت يزيد كان في (عام 64هـ)، وتولي بعده الخلافة عبدالملك بن مروان (عام65ه)، وفي (عام73هـ) قرر ابن مروان القضاء على خصمه اللدود عبدالله بن الزبير خليفة الحجاز، فأرسل إليه الحجاج ابن يوسف في جيش ضخم، حيث حاصر الحجاج مكة اشهرا لإجبار الناس على التخلي عن ابن الزبير،ثم بدأ بقصف الكعبة بالمنجنيق من أعلى جبال مكة كجبل أبي قبيس، وقعيقان وغيرهما. وانتهت المعركة بصلب ابن الزبير وقتل الكم الكبير من رجاله ومؤيديه والتمكين لسلطان بني أموية.

وهكذا توالت الحروب في القرن الأول وبداية القرن الثاني بين الأمويين والعباسيين، واندلعت حروب طاحنة بين السنة والشيعة، وبين الخوارج والسنة. كذلك ظهرت في القرن الأول وبداية القرن الثاني جل الفرق والمذاهب والطوائف الاسلامية والتي شبت بينها المعارك والحروب العقدية والفكرية، وبالتالي انتشرت روح التكفير والاقصاء والطائفية والتشرذم في جسم الأمة المنهوكة، ولا زالت تداعيات تلك الحقبة المسماة بالخيرية والموسومة بالافضلية تنخر في نسيج الأمة العاطفية بالتمزيق والتناحر والتشرذم، وتقف عائقا أمام محاولة فهم النص المؤسس وعقلنة التاريخ بغية الانفكاك من سلطة التاريخ وبالتالي المشاركة مع الأمم المتقدمة في تشكيل الحضارة الانسانية القائمة.

يتبع