تاريخية ليلة القدر (2)


عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن - العدد: 3109 - 2010 / 8 / 29 - 03:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

ليلة القدر في القرآن
جاء ذكر ليلة القدر في القرآن بصورة واضحة في سورة كاملة سميت فيما بعد بسورة (القدر)، ذكر فيها سبب تشريفها هو بدأ نزول القرآن على رسول الله، فقال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر. وفي سورة الدخان سميت ليلة القدر بالليلة المباركة كما في قوله: أنا أنزلناه في ليلة مباركة. وهذا السبب ينم عن تشابه كبير لدى الديانات الأخرى التي تعظم بعض ليالى السنة لديها، ولا غرار فإن الديانات السماوية مصدرها واحد. ولكن الاشكال يكمن في تسلل الحكايات والاساطير عبر الاسانيد والروايات حول هذه اليلة المقدسة، وهذا ما تجلى في اختلافات أهل الاسلام في تحديد معنى ليلة القدر، وعلاماتها، ووقتها.

فقد اختلف الفقهاء والمفسرين في تحديد دقيق لمعنى( القدر) منهم من قال العظيم، ومنهم من قال أن من يحييها يصبح ذا قدر عظيم، ومنهم من قال أن القدر بمعنى التضييق أي إخفاء الليلة وعدم تعيينها، ومنهم من قال القدر بمعنى يقدر فيها أحكام تلك السنة.( انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب فضل ليلة القدر )

كما اختلفوا في وقتها بحسب اختلاف الاسانيد والرواية المنسوبة للنبي، فقال بعضهم: أنها كانت على عهد رسول الله ثم رفعت أصلا. وقال بعضهم في ليلة من ليالي السنة. والجمهور على أنها في شهر رمضان، واختلفوا في تلك الليلة، منهم من قال هي أول ليلة من شهر رمضان، وقيل اليلة السابع عشر، وقيل العشرة الأخيرة من رمضان، ومنهم من جزم في ليالي الوتر من العشرة الأخيرة، ومنهم من أكد على أنها ليلة السبع والعشرين. كما قال الحافظ ابن حجر: وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا. وتحصل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولا...( انظر: الحافظ ابن حجر فتح الباري، وتفسير البغوي ، غيرها من كتب الاحاديث)

وذهبت الشيعة إلى أن ليلة القدر هي أول ما خلق الله من الدنيا، وفيها خلق أول نبي ووصي، ويهبط الوصي كل سنة في ليلة القدر بتفسير الأمور إلى مثلها من السنة المقبلة، فقد وروى الكليني بسند معتبر عن أبي جعفر قال: لقد خلق الله عزّوجلّ ذكره ليلة القدر أوّل ما خلق الدنيا، ولقد خلق فيها أوّل نبيّ وصيّ يكون، ولقد قضى أن يكون في كلّ سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأُمور إلى مثلها من السنة المقبلة ...(كتاب الحجة من كتاب الكافي) وفي رواية: انه ينزل في ليلة القدر إلى ولي الأمر تفسير الامور سنة سنة ، يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا . وفي رواية : انما يأتي الأمر من الله في ليال القدر إلى النبي صلى الله عليه وآله والى الأوصياء عليهم السلام : افعل كذا وكذا. (راجع: الكافي للكليني)

وبهذا المنطق المتعدد الاسانيد، وعبر مدارجه المتنوعة الطائفية والمذهبية، اختلفوا في علاماتها، منهم من قال تكون وضيئة مضيئة، ومنهم من قال لا تكون حارة ولا باردة، ومنهم من قال أنها ليلة مطر وريح، ومنهم من قال الشمس تطلع في صبيحتها من غير شعاع، ومنهم من قال تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة، ومنهم من قال لايحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ، ومنهم من قال ليلة لا تنبح فيها الكلاب، ومنهم قال تسجد فيها كل الكائنات، أو أنها ليلة طلقة بلجة، ومنهم من قال أن الاشجار في تلك الليلة تسقط إلى الارض ثم تعود إلى منباتها، ومنهم من قال لا يرسل فيها شيطان، ولا يحدث فيها داء. ومنهم من قال إن المياه المالحة تعذب تلك الليلة. ( انظر الحافظ ابن حجر فتح الباري، كتاب فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر)

ويبدو أن الغرابة في تحديد ليلة القدر تشكل نقطة إنطلاق في الفكر الاسلامي، فقد وصل الاختلاف بأهل التفسير إلى حد يمكن أن يوصف بأنه تمزق أولى في عقيدة ليلة القدر، حيث اضطربت أقوالهم في تحديد مكان نزول سورة (القدر) هل نزلت في مكة أم في المدينة( انظر: تفسير المحرر الوجيز لابن عطية،المتوفى 546)

أما عن أسباب نزول سورة القدر لم تكن أقل غرابة عن الأولى رغم وضوحه في القرآن، فقد ذهب فريق من أهل التفسير إلى أن سبب نزولها كان وراءه خلافة بني أمية، ولا يخفى أن الوضع السياسي والتدافع السلالي على سدة الحكم هو الدافع لصناعة هذا السبب. فقد جاء في كتب التفاسير أن سورة القدر نزلت في بني أمية كما روي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال حين عوتب في تسليمه الأمر لمعاوية: إن الله تعالى أرى نبيه في المنام بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاهتم لذلك فأعطاه الله ليلة القدر، وهي خير من مدة ملك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون الناس هذا القدر من الزمان.ا.هـ ( انظر: المحرر الوجيز لابن عطية، وتفسير ابن كثير)

بينما ذهب فريق أخرى إلى حشر نزول سورة القدر في صراع مليّ يحمل في طياته رسالة تميز للإسلام وتحقيرا للطرف الأخر، فقال: أنها نزلت في رجل من بني اسرائيل كان مرابطا في سبيل، عن مجاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر قال: فعجب المسلمون من ذلك، قال: فأنزل الله عز وجل: إنا أنزلنه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر. التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر.(راجع: تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير للرازي،المتوفى عام، 606 )

فإذا كانت ليلة القدر بهذا الحجم من الاختلاف بين المسلمين في تحديد مكان نزولها، وسببها ، ومعانيها، ووقتها، وعلاماتها، فإن القدر المحكم في هذه اليلة أنها ليلة نزول القرآن( أنا أنزلناه في ليلة القدر)، وأن نزول الملائكة والروح فيها كان وقت التنزيل، لأن جبريل الروح الأمين هو الموكل بالوحي وأنزال الرسائل على الرسل، وبموت الرسل تنتفي بالضرورة نزول الروح والملائكة معه ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين). (... تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم ). ولعل في المدارسة القرآنية بين جبريل والنبي في ليالى شهر رمضان حتى طلوع الفجر ما يشير إلى هذا الفهم، فقد جاء في البخاري(...وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن...).

إشكالات متعددة:
ويبدو أن تاريخ الاختلاف الدلالي حول (ليلة القدر) يشكل نوع من الانعطاف، وبداية خط منحن في تباين أولي بين وضوح ليلة القدر في القرآن وما اصطلح عليه رجال المخزن(= رجال الدين والسلطة)، يكشف عن عمق الخلط بين الدين المنّزل من رب العالمين، والدين الأرضي المؤوّل الذي صنعه رجال المخزن، فمثلا ثمة رواية عند البخاري تقرر أن ليلة القدر رفعت بسبب تخاصم أثنان من الصحابة. بينما هنالك روايات جاءت بضرورة تحريها في الليالى الوترية، وفي المقابل تؤكد مدونات الأحاديث أن لكل بلد رؤية هلال مما يعنى الليالى الوترية عند بلد تكون ليالى زوجية عند أخرى، ويبدو أن مرد هذا الاشكال يعود إلى الاعتقاد الخاطيء بأن الارض مسطحة وليست كروية؛ حيث كان يعتقد في وقت تدوين الروايات أن غروب الشمس يعني غروبها عن الارض كلها كما في رواية البخاري التي جاء فيها قال: النبي‏ ‏لأبي ذر ‏ ‏حين غربت الشمس ‏ ‏أتدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش. بينما الحقيقة العلمية والواقعية أن الشمس تغرب غروبا نسبيا؛ تغرب في بلد وتشرق في أخرى ولكنها لا تغيب، فالارض تدور والشمس ثابتة.

وهذا التوجه الاشكالي من قبل رجال الدين بدوره يفتح إشكالا أخرا مفاده: تعدد ليلة القدر بحسب اختلاف مطالع الهلال، مما يعني أن جبريل والملائكة في حالة نزول مستمر حتى طلوع الفجر لمدة ثلاثة ليالى أو أربعة يقدر فيها أجال وأرزاق الناس وما هو كائن وما سيكون خلال العام ، وهذا لا يستقم مع التصور الاسلامي، بل إنها شهادات كافية تنزع صفة القداسة عن تصور ليلة القدر، وتبين فكرة البدايات الاسطورية التي نسجت حولها من قبل رجال المخزن.

وبصورة لا واعية تقدم حزمة الاسانيد المؤسطرة عبر رواياتها المتضافرة اعتقاد خاطيء يرفضه منطق الوحي، مفاد هذا الاعتقاد المنحرف أن الانسان مسيّر وليس مخيّر، ما دامت الاجال والارزاق والصحة والعافية تقدر سنويا خلال ليلة القدر. ويبدو أن هذا الاعتقاد بقدرية الامور هو الذي حمل المخيال الاسلامي إلى صناعة حزمة الاسانيد التي تصور ليلة القدر بتلك الأساطير النويلية (بابا النويل)، والتي كانت المحفز الحقيقي للمتلقي التمجيدي لقيامها وتحريها. علما بأن تلك الاسانيد المزعومة تلعب في الحقيقة دور فلسفة الحياة ووسائل السيطرة على المصير حين يتفاقم القهر، ويستفحل عجز الانسان وتنعدم قدرته على التأثير في الأحداث.

هكذا يكتشف المرء درجات الالتباس والخلط بين الاحتفال بنزول القرآن في شهر رمضان ولياليه، وبين الاعتقاد بتكرار ولادة ليلة القدر كل عام ، فمثلا الاحتفال بمولد المسيح عند النصارى لا يعني ولادة المسيح كل عام، كذلك الاحتفال بنزول القرآن في ليلة القدر لا يعني بالضرورة تكرار نزول القرآن كل شهر رمضان من السنة، وإنما الاحتفال بتلك الليلة وما تضمنه القرآن من قيم وأخلاق تشيع السلام في الأرض والضمير، بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول تلك الليلة في أوهام العامة والخاصة.