النبوءة السياسية وتغييب الوعي (1-3)


عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن - العدد: 3017 - 2010 / 5 / 28 - 19:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

النبوءة السياسية وتغييب الوعي (1-3)

تناولت فيما سبق قراءة الاحداث الكبرى التي وقعت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، من سقيفة بني ساعدة، ومقتل عثمان الخليفة، ومعركة الجمل، والصفين، ومقتل الحسين، واستباحة المدينة، وحرق الكعبة، وذلك في مقالي (مقاربة نقدية لحديث خير القرون قرني).

وفي هذا المقال نحاول قراءة النبوءات السياسية الواردة في المدونات السلفية السنية والشيعية، بغية معرفة عمق الحضور السياسي في تلك المشاهد والوقائع الدامية، وفي صناعة حزمة من النبوءات كانت بمثابة حجر الزاوية في منع الوعي والتفكير الجمعي من قراءة تلك الاحداث واستنطاق دوافعها. ويبدو أن تلك الانظمة التي قامت بعد تلك الاحداث كانت تبحث عن شرعية دينية واستقرار سياسي، لأنها تأسست بالسيف على أساس عرقي أسري، ومن هنا كان سعيها لفتح مجالات التحديث وتدوين الاسانيد والروايات لتحقيق الشرعية الدينية، واستقرار الاجتماع السياسي، وذلك بتغيب الوعي الجمعي في معرفة أسباب ودواعي تلك الأحداث من خلال صناعة حزمة من الاسانيد والنبوءات المنسوبة لرسول الله (ص) تصور الاحداث، وتفصل المواقف، وتبرز المصيب من المخطيء، وتنزع عنها الدوافع الانسانية والمصالح السياسية والنزعات العرقية الجهوية(= الثوب المدنس)، وفي المقابل تضفي هذه النبوءات المزعومة ثوب المقدس على تلك الاحداث والوقائع المريرة حيث تغلفها بسلسلة نبوءات في إطار غيب الله وقدره وسنة ابتلائه لرفع أعراق، وإكرام أقوام دون غيرهم.

لا يخفى على مطلع في كتب الحديث والعلل وفنونه أن من أبرز اسباب ودواعي الوضع وصناعة الاسانيد وخلق المتون يكمن وراءه السبب السياسي، لأن الأنظمة الاسرية التي قامت بعد مقتل عثمان كانت بحاجة ملحة إلى شرعية دينية تتكيء عليها في شرعيتها السياسية والعسكرية في مقاتلة المخالفين والناقدين والمتمردين على سلطتها، فكان لابد من تأسيس الحلف الاسترايتيجي بين (السيف، والقلم) السلطة السياسية والسلطة الدينية. وهذا المنطق شمل سائر الانظمة التي تولت إدارة حكم البلاد والعباد في مرحلة تأسيس المؤسسات المودلجة والمدونات المذهبية والطائفية عبر تاريخ المسلمين؛ من أموية، وعباسية، وسنية، وشيعية وهلم جرا.

لا نقصد في هذا المقال نقد تأسيس المؤسسات والمدونات المودلجة، وإنما فقط الوقوف عند أثر مرويات النبوءات السياسية في تغييب الوعي وحجب العقل الجمعي، فمثلا عند ما يذكر حذيفة بن اليمان أنه قال: والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلائمائة فصاعدا إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته.( أبو داود في كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها) ، يعني أن هذه النبوءة فصلت كل الاحداث إلى يوم القيامة، من حيث اسم القائد وملفه الشخصي، مما يعني عدم حاجة المسلم إلى إعمال عقله في قراءة الاحداث وتحليلها، لأن النبوءة قد كفته معاناة التفكير والتحليل، وفك الاشتباك بين الحقيقة والخيال. واللافت للنظر أن اسماء قيادات الفتنة التي قتل فيها عثمان لم يرد ذكرها في ثنايا سجل نبوءة حذيفة ابن اليمان، والسبب لأن مقتل عثمان بسبب عدم خلع نفسه من الخلافة فقد كان متمسكا بنبوءة أخرى يبدو أنها كان أكثر أهمية في عملية التوظيف وتغييب الوعي الجمعي.

فقد تضافرت جهود صناع الاسانيد في زمن استقرار حكم بني أمية على انتاج حزمة من النبوءات السياسية لصالح عثمان (الخليفة) كفيلة بصرف نظر العقلاء عن قراءة الاحداث قراءة منطقية، فقد روى الراوي عن النبي (ص) أنه قال: يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصا؛ فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم. (سنن الترمذي وقال. هذا حديث حسن غريب). وفي رواية ابن ماجه: يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه. قال المباركفوري شارح الترمذي: (فإن أرادوك على خلعه) أي حملوك على نزعه ( فلا تخلعه لهم) يعني إن قصدوا عزلك عن الخلافة فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم لكونك على الحق وكونهم على الباطل. فلهذا الحديث كان عثمان ما عزل نفسه حين حاصروه يوم الدار. ( تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي،ابواب المناقب)، وفي رواية عن أبي سهلة قال: قال لي عثمان يوم الدار إن رسول الله قد عهد إلي عهدا فأنا صابر عليه. (الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح)

ويبدو أن اصرار عثمان (الخليفة) على البقاء في كرسي الحكم كان وفاءا لعهد رسول الله إليه بالخلافة ( إن رسول الله قد عهد إلي عهدا فأنا صابر عليه)، ورفضه من خلع نفسه من السلطة السياسية وبالتالي حرمان الأمة من حقها الأصيل في ممارسة عملية الانتخاب والتعيين والمحاسبة والعزل؛ كان أمرا إلهيا ( لا أخلع ثوبا ألبسنيه الله )، ما يعني بلغة السياسة تكريس لميدأ الثيوقراطية في الحكم، ومن ثم كان مقتله قدرا مقدورا وأمرا مقضيا كما ورد في نبوءة مزعومة ذكرها الحاكم النيسابوري عن ابن عباس أنه قال: كنت قاعدا عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ أقبل عثمان بن عفان، فلما دنا منه قال: يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة، فتقع قطرة من دمـك على( فسيكفيكم الله وهو السميع العليم)، وتبعث يوم القيـامة أميرا على كل مخذول، يغبطك أهل المشرق والمغرب، وتشفّع في عدد ربيعة ومضر. ( مستدرك الحاكم، كتاب معرفة الصحابة، قال الحافظ الذهبي في "التلخيص": كذب بحت، وفي الإسناد أحمد بن محمد بن عبدالحميد الجعفي وهو المتهم به. اهـ). ولا يخفى أن نقد الذهبي منصب على رجال الاسناد وليس على شذوذ المتن وغرابته، والدليل أنه قبل بخرافات صحيحة الاسناد كانت أكثر بشاعة من هذه الخرافة التي وصفها بأنها ( كذب بحت) ويمكن التحقيق من ذلك بمراجعة سريعة لسير إعلام النبلاء !!

ومن هنا فإن الاشكال المنهجي ليس في صحة اسانيد ومتون هذه النبوءات المودلجة من عدمها، وإنما يكمن في تغييب وعي المتلقي وأغتيال عقله، من حيث تقديم هكذا نبوءات سياسة في ثوب المقدس مما يشكل حاجزا منيعا بالنسبة للاتباع من قراءة الاحداث والوقائع قراءة منطقية عقلانية في إطارها الانساني، وسياقها التاريخي، ومساقها التدافعي، وهذا هو موطن الداء ومكمن الخلل.

وبالذات الميثية قدمت الاحداث التي جرت بعد مقتل عثمان ابن عفان وتوالت على الأمة، كالمعركة التي دارت رحاها بين علي ابن أبي طالب الهاشمي، ومعاوية ابن أبي سفيان الأموي المعروفة بمعركة صفين، أو خلافة معاوية ابن أبي سفيان، أو مقتل الحسين في كربلاء.

فمعركة صفين مثلا ورد ذكرها في نبوءة قبل مقتل عثمان وإيمان معاوية بسنين، وذلك من حيث صوابية أحد الفريقين وإدانة الآخر، فقد روى أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نحمل في بناء المسجد لِبنة لِبنة وعمار بن ياسر يحمل لِبنتين لِبنتين، قال : فرآه رسول الله فجل ينفض التراب عنه ويقول: يا عمار ألا تحمل لِبنة كما يحمل أصحابك ؟ قال: اني أريد الأجر من الله. قال : فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويحَ عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار. وفي البخاري: وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين فمرّ به النبي ومسح عن رأسه الغبار وقال: ويح عمار ! تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار. ( البخاري كتاب الجهاد والسير، باب مسح الغبار عن الرأس)

عن زيد بن أرقم عن النبي قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. ( الترمذي) وفي رواية عمران بن حصين قال بعث رسول الله جيشا واستعمل عليهم علي بن أبي طالب؛ فمضى في السرية فأصاب جارية فأنكروا عليه..... إلى أن قال، فأقبل إليه رسول الله والغضب يعرف في وجهه فقال ما تريدون من علي، ما تريدون من علي؟ إن عليا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي. ( الترمذي، مسند أحمد) وفي رواية (..... رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار) الترمذي. وفي رواية سعد بن أبي وقاص، أن النبي قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى. وفي رواية جابر بن عبدالله زاد فيها..... إلا أنه لا نبي بعدي. (الترمذي، الطبراني ، وأبو يعلى)

يتبع