أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - قاسم حسين صالح - المأزق الثقافي العراقي- تحليل سيكوسوسيولوجي لحالة الثقافة والمثقف -















المزيد.....



المأزق الثقافي العراقي- تحليل سيكوسوسيولوجي لحالة الثقافة والمثقف -


قاسم حسين صالح
(Qassim Hussein Salih)


الحوار المتمدن-العدد: 1917 - 2007 / 5 / 16 - 11:43
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يتفق الجميع على أن الثقافة والمثقف في العراق يعيشان الآن حالة مأزقية ، لكننا نختلف حول أسباب هذه الحالة وفي توقعاتنا لما ستؤول إليه . ونتفق أيضا على أن إنقاذهما مسؤولية وطنية وأخلاقية وإنسانية ، ولكننا نختلف بشأن أساليب أو وسائل هذا الإنقاذ .
لنبدأ التحليل بفرضية سيكولوجية نصوغها على النحو الآتي :
" اذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى ..شاع الخوف
بين الناس وتفرقوا الى مجاميع أو أفراد تتحكم في سلوكهم الحاجة الى
البقاء ..فيلجئون الى مصدر قوة أو جماعة تحميهم ، ويحصل بينهما ما
يشبه العقد ، يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة ".
كان هذا هو التحوّل السيكولوجي الأول الذي حصل للعراقيين بعيد مزاج الفرح الذي شاع
بين معظم العراقيين بالخلاص من الدكتاتورية. فبعد إن سقطت خيمة الدولة التي كانت تؤمن لهم " الحاجة الى البقاء " تفرّق الناس بين من لجأ الى عشيرة أو مرجعية دينية، أو تجمع مدني أو سكني، أو تشكيلات سياسية أو كتل بأية صفة كانت.
والذي زاد من مشاعر الخوف بين الناس، وتوزعهم على مرجعيات اجتماعية لا حصر لها، أن مزاج الفرح بسقوط الدكتاتورية امتزج بمشاعر الألم والمرارة التي تدمي القلب بتعرض بغداد الى النهب والسلب وحرق مؤسسات الدولة، وصار الوطن ينهب من قبل أهله*.
ــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ* بوصفي شاهد عيان، فأن مؤسسات الدولة تعرضت للنهب في 8/ نيسان / 2003 وليس التاسع منه. ففي صباح هذا اليوم كانت أربع دبابات أمريكية تربض في الصالحية بجوار تمثال الملك فيصل الأول، وجرى نهب ممتلكات وزارة العدل التي لا يفصلها عن هذه الدبابات سوى رصيف الشارع. .على مرأى و " تشجيع " من الجنود الأمريكان . فيما بدأت الحرائق في بغداد في 12 نيسان 2003، إذ شهدت اشتعال النار في الطابق العلوي من بناية البنك المركزي العراقي، وفي الركن الأيسر الأرضي من مبنى وزارة العدل في شارع حيفا، وفي مبنى الإذاعة والتلفزيون ومبنى وزارة الإعلام. وكنت أرى من على سطح العمارة التي اسكنها، الحرائق حيثما أدرت وجهي في سماء بغداد.



من هنا بدأت " ثقافة الاحتماء " وحدث تحوّل سيكولوجي خطير، وهو إن الشعور بالانتماء صار الى المصدر أو القوة التي تحمي الفرد. وتعطّل الشعور بالانتماء الى العراق وتحول الى ولاءات لا تحصى. ومما سهّل على العراقيين التخلي عن انتمائهم الى العراق، هو أن النظام السابق ساوى في الانتماء بين العراق ــ الوطن ، ورئيس النظام " صدام حسين هو العراق ". وثقّف الناس على مدى ربع قرن عبر قنواته الإعلامية ومؤسساته التربوية والكوادر الحزبية بهذه المعادلة. وانه عندما سقط رئيس النظام واختبأ في حفرة تحت الأرض، انهارت تلك المعادلة نفسيا". فتوزع الــ " 27 " مليون عراقي الى ما قد يزيد على المليون انتماء. وصاروا أمام واقع نفسي جديد، هو:
إن الولاءات المتعددة في المجتمع الواحد ، الذي ينهار فيه انتماؤه الذي يوحّده طوعا" أو قسرا" لا بد إن تتصارع فيما بينها على السلطة ، حين لم يعد هناك دولة أو نظام.


ثقافة الولاءات : من الشعبي الى الرسمي
مع أن العراقيين ، أو معظمهم ، كانوا مضطرين لا مختارين الى اللجوء الى الجماعة أو قوة تحميهم بعد سقوط خيمة الدولة التي كانوا يشعرون فيها بالأمان مدفوعين بــ " سيكولوجية الاحتماء " من خطر يتصاعد في حاضرهم، أو تهديد بخطر مستقبلي يتوقعونه بيقين، فأن تأسيس "مجلس الحكم" كرّس رسميا" حالة تعدد الولاءات الى طوائف واديان واعراق وأحزاب وتكتلات .... على حساب الانتماء الى العراق.
ومن هنا ،نشأ تحول سيكولوجي جديد لدى الناس. فبعد إن أطيح بالدولة ( وليس النظام فقط ) وافتقدوا الأمان، ودفعهم الخوف الى قوة تحميهم " العشيرة بشكل خاص ... اكثر الولاءات تخلفا" .. بدأ مجلس الحكم يأخذ في وعيهم أنه الوسيلة الى السلطة.. ثم الدولة. فتقدمت لديهم سيكولوجية " الحاجة الى السيطرة " التي تؤمن لهم بالتبعية " الحاجة الى البقاء " .
وكان الغالب في تشكيلة مجلس الحكم أنه قام على ثنائيتين سيكولوجيتين، هما:
1. المظلومون مقابل الظالمين.
2. عراقيو الخارج مقابل عراقيّ الداخل.

وكان أن نجم عن الثنائية الأولى : ( ثقافة المظلومية ) التي شاعت بين الشيعة : و" الكورد " مقابل ( ثقافة الاجتثاث ) التي استهدفت من كان محسوبا" على النظام السابق لا سيما في أجهزته العسكرية والأمنية والحزبية والمسؤولين الكبار في الدولة ، وغالبيتهم من السّنة.
وفي هذه الثنائية، كانت المعادلة النفسية تقوم على سيكولوجية " الضحية " و " الجلاّد " . وقد تجسّدت إرادة انتقام الضحية من الجلاد باستخدام مفردة " الاجثتات " التي تعني القلع من الجذور.
وعلى وفق المنطق السيكولوجي فأن انتصار " الضحية " على من تعدّه " جلادّها " يدفعها الى التعبير بانفعالية في تضخيم ما أصابها من ظلم، وشرعنة الاقتصاص حتى ممن كان محسوبا" بصفة أو عنوان على الجلاّد. والممارسة المضخّمة لأنماط سلوكية أو طقوسية كان " الجلاّد " قد منعهم منها. فشاعت " ثقافة الضحية " عبر صحف ومجلات صدرت في حينه بالمئات. وتولى هذه المهمة مثقفون أو من أخذ دورهم ممن لم تكن لهم علاقة بالثقافة، نجم عنها تهميش الولاء للعراق، وتكريس الولاءات الكبرى للطائفية والاثنية والدينية......
والولاءات الصغرى: حزب أو تكتل أو عضو نافذ في مجلس الحكم، أو شخصية اجتماعية مستقلة ومتمكنة ماديا"، أو مسنودة خارجيا". وكان اكثر تلك الولاءات تخلفا" ظهور ما يمكن أن نصطلح على تسميته بــ ( شيوخ التحرير ) الذي يذكرّنا بــ ( شيوخ أم المعارك ) .
وفيما يخص الثنائية الثانية ( عراقيو الخارج مقابل عراقيّ الداخل )، فقد نشأت فجوة نفسية بينهما . فمع أن عراقيّ الخارج لم يقوموا هم بإسقاط نظام الحكم بل جيء بهم الى السلطة ، مع الاعتراف بدورهم النضالي والتحريضي المشروع وتضحياتهم الكبيرة .. إلا انهم أوحوا لعراقيّ الداخل بأنهم أصحاب فضل عليهم بتخليصهم من الدكتاتورية ، وانهم يستحقون التمييز عليهم ، وانهم ألاحق بتولي المراكز القيادية في السلطة. وكان أن نجم عن ذلك شعور عراقيّ الداخل بالتهميش. فقد كان المعيار الذي استخدم في إسناد المسؤوليات المهمة في السلطة على أساس " الخارج مقابل الداخل " لا على أساس الكفاءة والنزاهة . وكان أن نجم عنها ثقافات متعددة الأسماء والعناوين مثل ( ثقافة التحرير ، ثقافة الغزو ، ثقافة العمالة ، ثقافة المقاومة ... ).

" ساحر " ... انتخابات الجمعية الوطنية والبرلمان
مع كل ما رافق الانتخابات البرلمانية من مآخذ، فإنها المرة الأولى التي مارس فيها العراقي حقه الانتخابي بحرية وديمقراطية . وكان " الساحر " الذي حسم الانتخابات هو العامل السيكولوجي، القائم على الحالة الانفعالية للولاءات الفرعية وليس الوطنية ، وعلى أساس هوية القائمة التي تمثله، وليس على أساس البرنامج السياسي أو الخدمي الذي تطرحه .
فقد منحت الغالبية المطلقة من جماهير الشيعة أصواتها لقائمتها الشيعية، ومنح الأكراد أصواتهم لقائمتهم الكردية، واعطى السنّة أصواتهم لقوائمهم السنية والكلدواشوريون لقائمتهم .....
وكان أن نجم عن تشكيل الحكومات الأولى والثانية والثالثة إن تراجعت الثقافة التقدمية والوطنية " الانتماء للعراق " لصالح ثقافات الولاءات الفرعية، على اختلاف عناوينها ومسمياتها.

بطلان سحر الساحر... والشعور بالخذلان.
إن تمتع المواطن العراقي في ممارسة حقه الانتخابي بالحرية لم يصاحبه الشعور بالمسؤولية . صحيح إن توافر " الحرية" حق إنساني، ولكن هذه الحرية قد ينجم عنها نتائج سلبية وأضرار ما لم تصاحبها " المسؤولية" في منح الصوت لمن يستحقه عن وعي لا أن يتحكم به المزاج الانفعالي... فكان ما كان من شعور الناخب العراقي بالخذلان وخيبة الأمل... وأظن أن معظم العراقيين يعظّون الآن أصابعهم ندما" على ما فعلوه بالانتخابات بعد أن خيّب ظنهم من كانوا يعتقدون انهم يمثلونهم حقا" ، وانكشف لهم أن سحر الساحر ( المزاج الانفعالي ) كان أشبه بالمنوّم المغناطيسي الذي شلّ أرادتهم.
وعليه ، فأن مستقبل الثقافة والمثقف في العراق، وإنقاذهما من المأزق الذي هما فيه يحسمه العامل السيكولوجي للحالة النفسية للناخب العراقي التي يكون عليها في الانتخابات المقبلة. فالمواطن العراقي يعيش الآن حيرة نفسية بين أن يبقى ولاؤه للقائمة التي انتخبها، لا حبا" فيها، إنما يرى إنها تحميه وتؤمن حاجته الى البقاء، وبين قائمة يرى فيها أنها تؤمن حاجته الى الأمن وحاجاته الخدمية والإنسانية الأخرى، ولكنه يفتقدها حتى اللحظة.





والمأزق الثقافي العراقي ناجم عن واقع سيكوسوسيولوجي معقّد ومركّب نلتقط منه المؤشرات الآتية :

مؤشر رقم (1)
في سيكولوجية السنّة والشيعة

برغم أن الدولة العراقية الحديثة نشأت بهوية سنّية بشخص ملكها المرحوم " فيصل الأول " . وبرغم أن السنّة كانوا في النظام الملكي والأنظمة الجمهورية اللاحقة يحظون بالنصيب الأوفر من المسؤوليات الكبيرة في الدولة ، فأنه لم تحصل مواجهات أو احتراب طائفي بين جماهير السنّة وجماهير الشيعة ، برغم أن ثقافة التعصب موجودة لدى الطائفتين وحتى بين فئات أو شرائح اجتماعية داخل الطائفة الواحدة ،كما هو الحال لدى "السادة " من الشيعة والعامة منهم .
واللافت أن الصراع بين الطائفتين كان يأتي من الخارج . ففي العام " 1508" فتح الشاه إسماعيل الصفوي بغداد وأعلن سبّ الخلفاء ، وقتل الكثير من أهل السنّة ، ونبش قبر أبي حنيفة .
وبعد أربع سنوات "العام 1512" تولى السلطان سليم عرش السلطة العثمانية واستحصل موافقة رجال الدين تجيز قتل الشيعة بوصفهم مارقين عن الإسلام . وقيل أنه قتل أربعين ألفا من أصل سبعين ألفا شيعيا في البلاد العثمانية .
وفي العام "1623" أعاد الشاه عباس سيناريو مشابه بهدم مرقدي أبي حنيفة والشيخ عبد القادر ، وقيل أنه وزع دفاتر لتسجيل أسماء السنة في بغداد بهدف القضاء عليهم .
وما يحصل الآن في العراق هو أن السيناريو يعاد نفسه مع تغيير في بعض الأدوار . فالاحتراب بين سنّة العراق وشيعته لم يكن أهل العراق هم السبب في إثارته ، إنما حدث بفعل أجنبي .
وفي التاريخ الحديث للعلاقة بين شيعة العراق وسنّته مفارقات نذكر منها :
• في ثورة العشرين توحّد الشيعة والسنّة في مواجهة احتلال بريطانيا للعراق . وتروى حادثة نفتقد أثرها البليغ الآن ، هي أن القائد البريطاني " لجمن " زار مرجع الشيعة الديني " الشيرازي " في النجف ، وعرض عليه تسليمه مفاتيح مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء " وهي بيد السنّة " لتكون بيد الشيعة ، فرفض الشيرازي وعاد " لجمن " خائبا فبعث بطلب الشيخ ضاري وقال له : كيف تطيعون فتوى الشيرازي وهو مرجع للشيعة ؟ . فأجابه الشيخ ضاري : والشيرازي مرجعنا أيضا !.
هذا يعني أن احتلال الوطن من قوى أجنبية يعمل على توحيد السنّة والشيعة .
ولهذا دلالات نفسية منها : أن خلافاتهم المذهبية ليست عميقة .
وأن الشعور بالانتماء للوطن أقوى لديهم من الشعور بالانتماء الى طائفة .
وأن العداء لو كان مستحكما بينهما لتعاون أحدهما مع المحتل للقضاء على الآخر .
• والمفارقة ، أن دخول قوات التحالف العراق في آذار 2003 جوبه بمقاومة قوية في المناطق الشيعية مثل : البصرة والناصرية والنجف ، فيما لم تجابه بمقاومة تذكر في المناطق ذات الأغلبية السنية . وكان المتوقع : ترحيب الشيعة بإسقاط النظام ، ومساندة السنّة للنظام .
• وكانت المفارقة الأكبر : تبادل الأدوار بين السّنة والشيعة . فلأول مرّة في تاريخ العراق يتولى الشيعة السلطة بفعل قوة أجنبية الذين كانوا في المعارضة عبر تاريخهم الطويل ، ويتحول السنّة الى دور المعارضة الذين كانوا في السلطة عبر التاريخ نفسه . ويعني تبادل الأدوار هذا في فعله الاجتماعي النفسي شعورا مشابها لتبادل دوري السيد والعبد .
• صاحب ذلك حقيقة سيكولوجية هي أن الإنسان يكون أشد ضراوة من الوحش عندما يتعرض الى " الإحباط" . اعني عندما يعاق أو يحرم من تحقيق أهداف أو إشباع حاجات يراها مشروعة ، مصحوبة بمشاعر الحرمان النفسي والنيل من الاعتبار الاجتماعي ، لاسيما حين يدرك أنه أو جماعته يحصل على أقل من استحقاقه ، أو أن جماعته تحصل على اقل مما تحصل عليه الجماعات الأخرى ..وهذا ما شعرت به جماهير السنّة بعد التغيير . وقد مال المتطرفون منهم الى استفزاز الشيعة ونعتهم بـ " الصفويين "،وردّ المتطرفون من الشيعة بنعت السنّة بأكثر من وصف . ولأول مرّة في تاريخ المجتمع العراقي يخترق الصراع العلاقات الأسرية الحميمة فيتم تطليق أم العيال بسبب طائفي.
• ومن علل القادة السياسيين عندنا أنهم يعزون الأزمات السياسية الى أسباب سياسية خالصة ، فيما نرى – نحن السيكولوجيين – أن اتساع العنف وتصاعده في أوقات الأزمات " الطائفية تحديدا " يعود الى أسباب نفسية في مقدمها : أن العقل المنطقي يتعطل عن التفكير ويحل محله " العقل الشعبي " الذي يتحكم به الانفعال في ساعة الأزمة ، ويجعل صاحبه بحالة لا يجد فيها الوقت للتوقف والتفكير بنتائج سلوك طائش وأفعال غير عقلانية يندفع نحو ارتكابها حتى لو كانت بربرية .
والغريب في الأمر أن الجمع من هذه الطائفة أو تلك يتصرف بإيقاع واحد لدرجة أنه حتى لو كان بين أفراده " مثقف أو متحضر " فأنه يتصرف وسط الجمع الذي هو فيه بطريقة بربرية أيضا ..لأن العقل الشعبي الساذج هو الذي يتولى توجيه سلوك الجمع في أوقات الأزمات ، ولأن الهوية الشخصية للفرد تختفي في السلوك الجمعي وتضيع فيه المسؤولية الفردية .
استحقاق
إن الشعب العراقي يرتّب على المجالس والتشكيلات العراقية للثقافة
استحقاقا ثقافيا يحلل ما ورد في هذا المؤشر من أفكار ...
يغنيها ويوظفها في خطاب يعيد التوازن النفسي لدى أفراد الطائفتين


مؤشر رقم (2)
في سيكولوجية الثقافة والمثقف

إن المعيار الحقيقي للثقافة ليس كم المعرفة التي يمتلكها الفرد إنما "السلوك ".ونذهب خطوة أبعد في تبيان كم هي خطيرة مهمة الثقافة فنقول : إن الثقافة تمتلك مجموعة آليات " ميكانزمات " للسيطرة تشبه تلك التي يضعها أو يصممها مبرمجو الحاسوب . فكما أن البرنامج الرقمي digital أو المعلوماتي هو الذي يتحكم بعمل الحاسوب ، فأنه يمكن وصف الثقافة بأنها البرنامج الذي يتحكم بالسلوك . بمعنى أنه في داخل كل واحد منا " مركز سيطرة ثقافي " هو الذي يوجه سلوكنا ويحدد أهدافنا . ولك أن تلاحظ ذلك في اختلاف سلوك رجل الدين والفنان والإرهابي ..في سبيل المثال .
وفي سياق هذا التشبيه فأن ما يربك عمل البرنامج في الحاسوب هو أن يتلوث بـ" فيروس " فتحصل عندها فوضى معلوماتيه . ومثل هذا يمكن أن يحصل للمثقف أيضا . وإذا كان مصدر هذا " الفيروس" قبل أربع سنوات هو النظام السابق الذي شطر المثقفين بين من هرب من هذا الفيروس ، ومن انكفأ على نفسه ، ومن أمسك بـ"شعرة معاويه" في تعامله مع الثقافة والنظام ، ومن تلوث بـ"فيروس " السلطة ..فأن سقوط النظام لم يفضي الى القضاء على مصادر "الفيروس " الملوثة للثقافة . فأذا كانت الثقافة في عهد النظام السابق قد تم " عسكرتها " لخدمته ، فأن الخطر على الثقافة الآن هو " عسكرتها " في صراع المذاهب والأعراق والأديان... وتوظيفها في خدمة السياسة . فالعنف الذي يمارس الآن "حتى في أبشع صوره – قطع الرؤوس " مصدره ثقافي ..لأن الثقافة كانت وستبقى هي الأصل التي منها "ولدت " السياسة . فالطائفية والإرهاب –مثلا- هي بذور أفكار زرعت في بستان الثقافة ، ونضجت في معتقدات مؤطرة بسيكولوجية تعصّب ،فتحولت الى سلوك يستهدف إفناء الآخر .
وكما أن السياسة لا تكون سياسة إلا بعد أن تتحرر من هيمنة الدين ، كذلك الثقافة لا تكون ثقافة إلا بعد أن تتحرر من هيمنة الأيدلوجيات عليها . وعليه فأن " وزارة الثقافة " العراقية لا يمكن لها أن تخدم الثقافة إلا حين يكون كبار المسؤولون فيها منتمين الى الثقافة ، يستوحون تعليماتهم من ضميرهم الثقافي لا أن يتلقوها من هذا الحزب أو ذاك .
وثمة " فيروس " يكمن في داخلنا ، ذلك أننا ورثنا من مئات السنين سيكولوجية مستقرة في لاشعورنا الجمعي هي أن " ثقافة الآخر خطر علينا " وكثيرا ما كنا ننعت الثقافات التي لا تساير أمزجتنا أو مصالحنا بأنها : هدّامة أو ملّحدة أو رجعية أو مسمومة..وأنه ما لم نقتل هذا " الفيروس " في داخلنا فأن تلك السيكولوجية تبقى ملوّثا خطيرا للثقافة.
ومسألة نفسية أخرى ، هي أن لدى السياسي والمثقف ترسبات سيكولوجية ذات محتوى " بارانوي " إزاء أحدهما الآخر . وأن عليهما أن يغتسلا منها . ولن تحصل بينهما علاقة موضوعية تطور كليهما إلا بأن يبادر السياسي الى إنهاء دوره الذي كان فيه يمنح رضاه وبركاته الى من يطريه ، ويهمل أو يحرم أو يعاقب من لا يساير هواه ويؤيد أفكاره ويبارك أفعاله .
. وهناك "فيروس " لعين أفرخته " ثقافة الضحية " أسمه " الانتقام " ينفرد بثلاث خصائص هي : سرعة العدوى ، وشدة الفتك ، والهوس العصابي ، الذي يدفع صاحبه قسرا الى أن يكون قاتلا أو مقتولا !. ولم يصب هذا الفيروس فقط العامة من الناس من ذوي جهاز المناعة الثقافي الضعيف ، بل أصيب به الكثير من المثقفين ، بين ظاهر عليه وكامن فيه .
إن الثقافة في العراق تنفرد بثلاث خصائص ، هي : تنوعها " عربية ..كوردية ..تركمانية .. كلدوآشوريه ..صابئية ..أزيديه....." وعمقها في التاريخ " بدءا من الحضارة السومرية والبابلية ..التي لم نعد نرتبط بها إلا في المكان فقط !". وقوة تأثيرها في الثقافتين الإقليمية والإنسانية .

استحقاق
أن إنتاج ثقافة بحجم تنوع مثقفي العراق ومبدعيهم ..وبعد أن أصبح العراق
رئة الشرق الأوسط في حرية التعبير ومنطلق رياح التغيير ...يحتاج الى :
• تعدد المؤسسات أو التشكيلات التي تعنى بالثقافة العراقية
• تعدد مصادر التمويل لاحتواء المنجز الثقافي العراقي وضمان ديمومته .


مؤشر رقم (3)
السياسة ..والبارنويا..والبرلمان

المحنة التي فيها العراقيون أن في قادتهم السياسيين من " الأفندية " و"المعممين " فرقاء مصابون بـ"البارنويا " ..كل فريق منهم يشك بالآخر ويعتقد أنه يتآمر عليه لإنهائه ، حتى وصل الحال بهم الى رفع شعار " لأتغدى بصاحبي قبل أن يتعشى بي " ..فتغدى الجميع بالجميع بوجبات من البشر تعدت المائة ضحية باليوم ..ودفعهم هوسهم الى الإيغال بأيهم يقتل أكثر ، وأيهم يتفنن بأساليب غير مسبوقة في بشاعة القتل والتعذيب.
وبوصفنا سيكولوجيين اجتماعيين ولسنا سياسيين " والسياسة تعني فن إدارة شؤون الناس بما يريحهم لا بما يضنيهم " فأننا نقول : إن البارنويا السياسية اذا طبخت على نار الطائفية والعرقية صار شفاء أصحابها قريبا من المستحيل ، فيما اتفاقهم هو المستحيل بعينه. وبالصريح المرّ فأن الكثير من السياسيين و قادة الأحزاب والكتل الدينية غير قادرين على أن يقتلعوا شكوكهم ويحسنوا الظن بالآخر ، لأن البارنويا برمجت خلايا أدمغتهم بثلاث عقد عبر الزمن : عقدة إعادة إنتاج الخوف الموروثة من الماضي ، وعقدة الرعب المعاش في الحاضر ، وعقدة توقع الشر والإفناء في المستقبل .
والمشكلة أن البارنويا السياسية بين الفرقاء سريعة العدوى والانتشار بين الأغلبية المأزومة والمتقبلة للإيحاء ، والمتطيّرين الذين أتعبتهم الاحتمالات المتناقضة . فيما " الغلابة " من ملايين أهل بغداد حيارى لا يعرفون ماذا يفعلون ، وما عادت تنفعهم حتى أساليب النفاق والازدواجية التي أضطر أجدادهم الى ممارستها مع السلطة من قبيل : " الياخذ أمي يصير عمي "و " قلوبنا معك وسيوفنا عليك " و " الصلاة مع علي أثوب والطعام مع معاوية أدسم "!.
ومن خبرتنا الشخصية ، فان المصاب بالبارنويا يتمتع بمهارة درامية في تجسيد دور " الضحية " وقدرة عالية في إقناع الآخر بأن أوهامه " حقائق " ثابتة . وراح كل فريق يبث أوهامه عبر وسائله الإعلامية ، فصدّق به أتباعه . وغاية ما يريده المصاب بالبارنويا أن يصدّق به أهله ..فكيف اذا صدّق به أيضا كبار القوم في دول الجوار ؟!...وكل الفرقاء لهم في دول الجوار حماة ومؤلبون! . . وقد أشاع التغيير في 9/4/2003 ثقافة جديدة أسمها " ثقافة الضحية " . فالشيعة والأكراد أشاعوا بين ملايينهم - بسيكولوجية المظلومية- أنهم كانوا ضحية النظام الدكتاتوري السابق . والسنّة أشاعوا بين ملايينهم أنهم صاروا ضحية النظام الديمقراطي الجديد!. واصبح الكل يرى في نفسه أنه " ضحية " ويرى في الآخر أنه " جلادّه " .
وتبين لي من متابعاتي " الفضائية " أن في البرلمان أفراد مصابون بعصابية مرضية . فمنهم من لديه ميول ساديه ، وآخر شعور حاد بالمظلومية ، وثالث يغلي في داخله برميل من الحقد ... وغالبيتهم يمارسون " الإسقاط " ..أعني ترحيل عيوبهم ورمي الفشل على الآخر ، والانشغال بالتنقيب عن رذائل من معه وتنزيه نفسه مع أن فيه من الرذائل ما لا يقل عن صاحبه . ولهذا أصبح البرلمان مصدر إحباط وتصعيد للتوتر بين الناس بدل أن يكون مصدر تطمين لهم . ومع أن العقلاء منهم والمتزنون نفسيا يدركون أنهم في "ورطه " فانهم لا يستطيعون بمفردهم عقلنة عمل البرلمان بالتركيز في القضايا التي تعالج الوضع المتردي للناس وتحسب لكل الفرقاء ، وترويض التعامل مع القضايا الخلافية الحادّة والهامشية المكبسلة بعبوات طائفية أو عرقية .


استحقاق
إن الثقافة الوطنية المسؤولة ينبغي أن تستهدف أيضا
مجلس النواب العراقي بتشخيص ما لدى المصابين منهم
بعقد نفسية يكون الخطاب فيها قريبا من الإرشاد والعلاج النفسي .

مؤشر رقم (4 )

الشباب ... وثقافة العنف.

إن الغالبية المطلقة من الذين أعمارهم (35 ) سنة فما دون، والذين يشكلون اكثر من 60% من المجتمع العراقي، ولدوا في حرب وعاشوا في حرب، ثم حصار، ثم حروبا" متلاحقة ومركبة، قد تشبعوا بثقافة العنف... وهم يحملون منظومات قيمية تختلف عن المنظومات القيمية التي يحملها الكبار من العراقيين . فــ ( قيمة الحياة ) مثلا" تحتل لدينا نحن جيل الكبار مكانة عليا، فيما تدنت مكانتها لدى جيل الشباب، وتراجعت ــ بالتبعية ــ قيم أخرى لديهم مثل قيمة الملكية العامة واحترام القانون والنظام.
وينفرد جيل الشباب من العراقيين بقسوة الإحباط والقلق من المستقبل والشعور بانعدام المعنى من الحياة. فضلا" عن انفراده بسيكولوجية أخرى هي :
إن النظام الدكتاتوري السابق مارس، ، على مدى ربع قرن، أساليب الترهيب والتخويف والإذلال والحرمان المادي والنفسي، والتلقين بالثقافة الواحدة … في محاولة منهجية لخلق جيل من الشباب بــ ( شخصية مازوشية ).والخطر أن الشخصية المازوشية، أو التي عانت جبروت السادي، إنها اذا تحررت من ( جلادّها ) تحولت الى شخصية متمردة انتقامية. والذي لا يضعه السياسيون في مقدمة حساباتهم أن الإحباط اذا صار حالة مزمنة لدى الشباب، في ظروف ينعدم فيها الأمان ويشل فيها دور السلطة القضائية، ويشيع الفساد المالي في مؤسسات الدولة، وتنهب ثروات بلده، ولا يجد قوت يومه، وان خرج ليبحث عنه في الساحات والشوارع يعود الى أهله أشلاء محترقة. وأنه عندما يخيب أمله في قادته السياسيين بتوفير فرص العمل له "الحل الأضمن لتوفير الاستقرار"، فانه سيفرض الحل الذي سيضطر إليه : الاحتراب، الذي يفضي الى الحرب الأهلية. ولن تنفع معه برامج المصالحة، ولا خطب الجوامع.. إلا تلك التي تعزف على أوتار احتياجات جيل امتلأت "حوصلته" بكل مرارة وجزع ما ينجم عن ضياع ربع قرن من عمره، ومن وجود يرى فيه أنه صار لا معنى له، فيندفع لا شعوريا الى تراجيديا الموت الجماعي..


استحقاق
على المجالس والتشكيلات المعنية بالثقافة ، التعامل مع الشباب
وفقا للتشكيلة التي تكونت بها شخصياتهم ، وخصائصهم
السيكولوجية التي ينفردون بها عن جيل الكبار .... والصيغة
التي تضمن لرافد ثقافة الشباب أن يصب في بحر الثقافة
العراقية ليزيده وفرا" ...لا أن يخلق برزخا" فيه.


ويبقى الاستحقاق العام

أن تنظر الدولة والأطراف الأخرى الى أن تعـدد
المجالس والتشكيلات التي تعنى بالثقافة العراقية
بنوايا صادقة هي حالة صحية ولها أن تحظى
بمصـادر تمويـل وطنـية.
ويترتب على المنظوين في هذه المجالس والتشكيلات
الاحترام المتبادل والتنافس الإيجابي في صناعة الثقافة العراقية
وسوقـها الاقتصـادي

مقدم الى
اجتماع المجلس العراقي للثقافة
مايو/ أيار 2007
عمّان – الأردن



#قاسم_حسين_صالح (هاشتاغ)       Qassim_Hussein_Salih#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السياسيون أصحاء .... أم مرضى نفسيا
- ضحايا الأنفال .. والحق النفسي
- كبار الشيوعيين ...أبناء معممين - الحلقة الأولى -!
- الحكومة والبحث عن يقين
- الشعر الشعبي... ندّابة المازوشيا الممتعة!
- العلم العراقي
- العرب.. وقراءة الطالع
- جيل الفضائيات
- أغلقي عينيك وفكّري في إنجلترا
- السيكولوجيون العرب وتحديات العصر
- الحزن المرضي ... والشخصية العراقية
- 10% فقط. ..نزيهون في العالم
- مرض الكراهية
- مصيبتنا ..فيروسات ثقافية!
- كردي ما اعرف ... عه ره بي نازانم !
- حصة العراقي بالنفط ... والدستور
- العراقي وسيكولوجية الرمز
- الشخصية العراقية تخطّئ علم النفس!
- العراقيون...وسيكولوجية الحاجة إلى دكتاتور!
- يا أعداء أمريكا ... اتحدوا لتدمير بغداد !


المزيد.....




- السعودية.. الشرطة تتدخل لمنع شخص بسلاح أبيض من إيذاء نفسه في ...
- فيضان يجتاح مناطق واسعة في تكساس وسط توقعات بمزيد من الأمطار ...
- إدانات ألمانية وأوروبية بعد تعرض نائب برلماني للضرب
- مقتل مراهق بأيدي الشرطة الأسترالية إثر شنه هجوماً بسكين
- مجتمع الميم بالعراق يخسر آخر ملاذاته العلنية: مواقع التواصل ...
- هايتي.. فرار عدد من السجناء ومقتل 4 بأيدي الشرطة
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل أحد حراس القنصل اليوناني أثناء مراس ...
- قتيلان في هجوم استهدف مرشحا لانتخابات محلية في المكسيك
- محلل سياسي مصري يعلن سقوط السردية الغربية حول الديمقراطية ال ...
- بيلاروس تتهم ليتوانيا بإعداد مسلحين للإطاحة بالحكومة في مينس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - قاسم حسين صالح - المأزق الثقافي العراقي- تحليل سيكوسوسيولوجي لحالة الثقافة والمثقف -