أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - قاسم حسين صالح - الحزن المرضي ... والشخصية العراقية















المزيد.....

الحزن المرضي ... والشخصية العراقية


قاسم حسين صالح
(Qassim Hussein Salih)


الحوار المتمدن-العدد: 1904 - 2007 / 5 / 3 - 11:43
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الحزن ( Grief ) من أقدم الانفعالات والمشاعر التي رافقت الحياة الإنسانية . ففي قصة تكوين الخلق، أغوى الشيطان حواء وآدم ليأكلا من ثمار الشجرة المحرمة، فأمرهما الله سبحانه بالخروج من الجنة، فتملكهما حزن شديد على ما حلّ بهما .
ويذكر لنا التاريخ أمثلة كثيرة مشابهة عن حالات حزن عميقة أنهكت أصحابها وجعلتهم في حيرة فلسفية أمام مآسي الحياة من بينها : حزن جلجامش على موت صديقه أنكيدو، وحزن النبي نوح على غرق ابنه، وحزن النبي يعقوب على ولده يوسف ، وحزن الخنساء على موت اخوتها . والأمثلة في ميدان الأدب لا تقل أهمية وعمقا وانفعالا، سواء في الدراما الإغريقية والشكسيبرية، أو في الروايات والقصص الإنسانية، أو في أشعار قيس ليلى والمتنبي والمعري والسياب .
غير أن الحزن يتخذ صفة أكثر تحديدا من الناحية المفاهيمية، إذ يعدّ انفعالا وعاطفة بشرية تنتاب معظم الناس في المجتمعات كافة حين يتعرضون الى أزمة أو فاجعة كفقدان شخص عزيز أو صدمة نفسية تسبب معاناة ذاتية، أو الشعور بمعاناة الآخرين حين تصيبهم الكوارث لاسيما الزلازل أو الأعاصير المدمرة، أو خسران لأشياء لها قيمة مادية كبيرة أو اعتبارية أو اجتماعية مهمة .
سنركز في هذا الموضوع على الحزن الناجم عن فقدان الفرد لأحبائه، بوصفه الحزن الأكثر تغلغلا في النسيج العراقي، والأكثر شيوعا في مآتمنا وحتى في أغانينا، نبدأه برؤية نظرية سيكولوجية للحزن، ثم في بحث ميداني لعيانات عراقية .
التشريح النفسي للحزن
يصنف الحزن واحدا من الانفعالات الرئيسة في الحياة الإنسانية . والانفعال Emotion – بتشريح سيكولوجي – إحساس أو مشاعر أو وجدان ينجم عن تفاعل عوامل متعددة أبرزها ستة،هي :
· التقويم المعرفي Cognitive appraisal . ويعني تفسير الفرد للحدث المسبب للحزن، وتقديره للمعني الشخصي المتعلق بالحدث، ولحالته الراهنة التي هو فيها .
· الخبرة الذاتية Subjective appraisal . وتعني الحالة الوجدانية ونوعية الأحاسيس التي تلوّن الخبرة الشخصية للفرد .
· التوجهات التي تحكم الفكر والفعل . Thought and action tendencies. وتعني الحاحات الفكر او الفعل للتصرف بطريقة معينة .
· التغيرات الجسمية الداخلية .Internal bodily changes . وتعني الاستجابات الفسيولوجية وبخاصة المتعلقة بالجهاز العصبي الذاتي من قبيل، تسارع نبضات القلب وزيادة النشاط الغدّي .
· تعابير الوجه . Self expression. وتعني ما يطرأ على الشفتين والعينين وبشرة الوجه من تغيرات .
· الاستجابة للانفعال . Responses to emotion. وتعني كيف ينظم الفرد ويتعامل مع انفعالاته في المواقف التي تقدح زنادها .
والانفعال، بوصفه حالة داخلية، تقرره – بدرجة أكبر – طبيعة الحياة النفسية والمزاجية للفرد، وسماته الشخصية، وتجاربه الحياتية عبر الزمن الذي عاشه، ووجود أو انعدام تجارب مماثلة عن الوفاة كانت قد مرّت به، ودرجة الصلة التي تربطه بالمتوفى، والأهمية الرمزية للوفاة لديه وتفسيره لها، وما يتوقع أن ينجم عنها في المجالين الأسري والاجتماعي .
أما الانفعال بوصفه حالة ظاهرية، فأن ما يقرره الى حد بعيد هو الواقع الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه الفرد . وما يحدده من تقاليد وطقوس حدادية متنوعة . فبالرغم من أن الكثير من مظاهر الانفعالات تكون متشابهة عبر الحضارات المختلفة، لأسباب بيولوجية، فأن الكثير منها أيضا يكون التعبير عنها مختلفا، لأسباب تتعلق بأن كل حضارة أو ثقافة تضع معايير بشأن متى وأين وكيف ينبغي التعبير عن الانفعال .
ولا يحدث الحزن دفعة واحدة إنما على مراحل . ففي المرحلة الأولى يشعر الفرد بعدم واقعية الحدث ( الوفاة )، ويصعب عليه قبول هذا الفقدان، فيوجه غضبه نحو أناس آخرين يعتقد بأنهم كانوا قادرين على منع حدوث الوفاة لكنهم لم يفعلوا ذلك . وينتابه في هذه المرحلة إحساس بالخدر يستمر لدقائق أو ساعات . بعدها يتحول الى المرحلة الثانية، وفيها يشعر الإنسان المفجوع بالفقدان بالانزعاج، ويواجه صعوبات في التركيز، وتضعف شهيته للطعام أو يفقدها تماما، ويعاني من اضطرابات في النوم من قبيل الأرق أو النوم المتقطع، المصحوب بأحلام مزعجة أو كوابيس يصحو منها مفزوعا أو هائجا. وبعدها تأتي المرحلة الثالثة التي يمكن تسميتها بمرحلة القبول، وفيها تنحسر تلك الأعراض تدريجيا، ويبدأ الشخص المفجوع يدرك أن الحدث ( الوفاة ) أمر واقع فيتكيف لقبول الخسارة ويعود بالنهاية الى حالته الطبيعية .
وتتباين الآراء بخصوص مدة الحزن، فمن الباحثين من يحددها بأربعة الى ستة أسابيع، ومنهم من يقدرها بـ ( 6-12 ) أسبوعا، تنخفض بعدها الأعراض ويعود الشخص المفجوع الى وضعه الطبيعي، وهذا ما يحصل لدى غالبية الناس، ويطلق عليه في هذه الحالة ( الحزن الطبيعي ) وهي حالة إنسانية لدى البشر عموما، ولا تعد اضطرابا نفسيا .


متى يصبح الحزن مرضيا ؟
يتفق معظم الاختصاصيين في الاضطرابات النفسية على أن أعراض الحزن اذا استمرت أكثر من ستة أشهر عندها يصبح الحزن اضطرابا ويعدّ حزنا مرضيا ( Pathological Grief ) . وتشير الدراسات الى وجود عوامل تؤدي دورا مهما في حدوث مضاعفات في الحزن تحوله من حالته الطبيعية الى حالة مرضية . ويمكن تحديد هذه العوامل من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية :
· ما المرحلة العمرية للفرد الذي فقد عزيزا عليه ؟
· هل توجد في حياة الفرد وفيات سابقة لأقرباء أو أعزاء ؟ وما الوسيلة أو الآلية التي تعامل بها مع تلك الأحداث ؟
· ما درجة القرابة مع الفقيد ( زوج / زوجة / أخ / أب / أم / أبن ...) ؟
· ما هي مشاعره نحو الفقيد ؟ وهل يحمل نحوه مشاعر وجدانية متناقضة...حب وكره في آن معا ؟
· عند حصول الوفاة، هل كان جميع أفراد الأسرة أو الأقارب موجودين ؟
· هل كانت الوفاة متوقعة أم غير متوقعة ؟
· ما حجم الفراغ الاجتماعي والعاطفي الذي تركه الفقيد ؟ وهل حدث تدهور اقتصادي تزامن مع الوفاة ؟.
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تقدم مؤشرات عن مضاعفات يمكن أن تسهم في حصول الحزن المرضي . فالوفاة غير المتوقعة، في سبيل المثال، تحدث تأثيرا انفعاليا أقوى من الوفاة المتوقعة .

تداعيات الحزن المرضي
تحدث تغيرات بيولوجية سلبية عند الإصابة بالحزن المرضي تكون على ثلاثة مستويات :
تغيرات في إفراز الغدد الصم، وتغيرات في نشاط مناعة الجسم، وتغيرات في نظام النوم .
أما على المستوى النفسي المباشر، فتشير الدراسات الحديثة الى أن المصابين بالحزن المرضي تظهر لديهم اضطرابات مصاحبة من قبيل : الاكتئاب، والوسواس القهري، والتحول الهستيري، وتوهم المرض، والنحول العصبي . وتظهر في بعض الحالات الأوهام والهلاوس السمعية والبصرية عندما يتركز تفكير أصحابها على ذكرياتهم مع الفقيد، فتغدو حية في مخيلاتهم . وقد يستعيدون مشاهد منها في أثناء نومهم أو في أحلامهم . كما يتوهمون أحيانا رؤية الفقيد أو المتوفى موجودا في البيت أو في الشارع، أو يسمعون صوت خطواته، أو ينادونه باسمه . وتذكر بحوث أخرى أن عددا من المصابين بالحزن المرضي تظهر لديهم اضطرابات سلوكية كالرغبة في الانتحار أو التجوال الليلي أو الفزع أو الخمول في النشاط اليومي . فيما يقوم آخرون ببناء أضرحة كبيرة للمتوفى ووضع حاجاته فيها كما لو كان حيا، ويكثرون من زيارة هذه الأضرحة . فيما يعتري سلوك آخرين نكوص يعود بهم الى مرحلة الطفولة، فيتصرف الواحد منهم في حديثه وسلوكه كما لو كان طفلا . هذا فضلا عما ينجم عن سلوك المصابين بالحزن المرضي من مشكلات أسرية واجتماعية وتقصير في الالتزامات الحياتية والعاطفية والمهنية قد تؤدي الى نفور الأسرة وفقدان الوظيفة وابتعاد الناس عنهم .

الحزن المرضي في السيكولوجيا العراقية
في ضوء ما توافر من معرفة فقد تنبهت المجتمعات المتقدمة الى أن الحزن المرضي ينبغي أن يولى من الاهتمام ما تحظى به الاضطرابات النفسية الأخرى، سواء من حيث البحث العلمي أو التشخيص أو العلاج . واذا كان علماء النفس يهتمون بدراسة الحزن في المجتمعات المستقرة، فأن دراسته في مجتمعنا العراقي تعدّ ضرورة ملحّة على الصعيدين الإنساني والعلمي . ذلك أنه ينفرد عن المجتمعات المعاصرة في أنه تعرض لثلاث حروب طاحنة خلال أقل من ربع قرن، بدءا من الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، مرورا بحرب الكويت عام 1991، فالحرب الأخيرة عام 2003، ثم حروب العنف والاحتراب الطائفي والإرهاب ومقاومة الاحتلال والتهجير والهجرة القسريين للأهل والأحبة .. فضلا على ثلاث عشرة سنة من الحصار تخللها انهيار النظام الصحي وعودة الامراض الوبائية، والموجات المتلاحقة من القصف بالصواريخ والطائرات الحربية، وما نجم عن ذلك من آلاف القتلى والضحايا في ساحات المعارك وفي البيوت والأماكن العامة . يضاف لها ما حصل في الأعوام الأربعة الأخيرة من العنف وحوادث الخطف والذبح وهتك الأعراض واغتصاب العذارى ... والتفجيرات اليومية التي طالت أرواح مئات الآلاف من المدنيين، وحرب المدن التي شنتها القوات الأمريكية ...
هذا يعني أن الحزن كان رفيقا يوميا لسبعة وعشرين مليون عراقي في سبع وعشرين سنة من تاريخه الدموي المعاصر، مما يستدعي التعرف ميدانيا ما اذا كان هذا الحزن قد تحول الى حالة مرضية أم أنه ما يزال ضمن دائرة العاطفة الإنسانية الطبيعية . وعليه قمنا ( الكاتب والباحث هيثم الزبيدي ) بتصميم " مقياس نفسي " يقيس درجة الحزن، وجرى تطبيقه على عينة واسعة من المواطنين العراقيين ممن فقدوا أناسا أعزاء عليهم ومضى على وفاتهم ستة أشهر فأكثر . وقد شملت العينة أفرادا من الجنسين، من مراجعي المستشفيات والعيادات الطبية النفسية، وأشخاصا آخرين تمت مراجعتهم في بيوتهم . وبعد تحليل البيانات تم الوصول الى النتائج الآتية :
· تعاني عينة الدراسة ( في مجملها ) من الحزن المرضي .
· الأفراد ( من الجنسين ) ممن خبروا فقدان عزيز عليهم منذ أقل من سنة، كانوا أكثر إصابة بالحزن المرضي من أقرانهم الذين مضى على وفاة فقيدهم أكثر من سنة .
· الإناث اللاتي خبرن وفاة فقيدهن الذي مضى عليه أقل من سنة، كن أكثر حزنا من الذكور للمدة نفسها .
· تبين أن أفراد عينة البحث الذين خبروا وفاة الفقيد بطريقة غير متوقعة، كانوا أكثر إصابة بالحزن المرضي من أقرانهم الذين كانوا يتوقعون الوفاة .
· وتبين أن الأفراد ذوي الصلة بالفقيد من الدرجة الأولى، كانوا أكثر إصابة بالحزن المرضي من الأفراد ذوي الصلة من الدرجة الثانية أو اكثر .

استشراف
إن هذه المؤشرات المأخوذة من واقع الحياة الاجتماعية للعراقيين، مضافا لها ما نلمسه يوميا من مشاهد الحزن والأسى والقنوط العميقة المرتسمة على وجوه العراقيين في حياتهم الخاصة والعامة، وهم يشهدون فقدان واندثار ما أحبوه من أشخاص ورموز وأماكن وذكريات، يجعلنا نجازف بالقول أن ( الحزن المرضي ) أمسى سمة ( نفستأريخية ) تلوّن أو تغلّف ملامح هذه الحقبة العصيبة من مسيرة التطور الاجتماعي في العراق . وبالرغم من أن هذا الحزن صار يعجن أيام وليالي العراقيين بالحسرة والألم واليأس، إلا أن دافعية النمو والبحث المتجدد عن البدائل هي الأخرى سمة مميزة في الشخصية العراقية المعاصرة، مما قد يجعل حزنها المرضي هذا اضطرابا عارضا وقابلا للشفاء التدريجي ، اذا تزامن ذلك مع النوايا الصادقة والعمل الحقيقي على القضاء أو التخفيف من العوامل المسببة لهذا النوع المرضي من الحزن .

العراقيون .. والتباهي بالحزن
من الشائع لدى البشر في كل المجتمعات أنهم يتباهون بما لديهم من مال وحلال أو جمال أو مكانة أو أولاد ... إلا العراقيون فأنهم على ما أرى مغرمون أو مهوسون بالتباهي بالهموم والأحزان . لاحظ ذلك في نفسك أو بين أصدقائك . فما أن يبدأ أحدهم بالشكوى من همّ أو ضيق حتى يبادره الآخر، بل يقاطعه قائلا : (يا أخي أنت زين ..لكن لو تشوف آني ..) ويروح مسترسلا يروي بألم أكثر ما حلّ به، وبدراما تصور للمقابل وكأن مصائب الدنيا وقعت كلها فوق رأسه !.
وفي ( الدارمي ) وهو أبلغ ألوان الشعر الشعبي، وراوية الحزن العراقي، حكاية تفي بإيصال المعنى، مفادها : أن امرأة ذهبت الى صديقتها تشكو حالها، فقالت لها :
( ما تدري بيّ الناس العلّة خفية
بالكلب سبع أزروف ويلاه يخيه )
أي : إن الناس لها الظاهر ولا تدري ياأخيتي بأن الهموم قد أحدثت سبعة ثقوب في قلبي .
وكان المفروض بصديقتها أن تواسيها وتهون عليها الأمور . لكنها أجابتها بالدارمي أيضا :
( نيالك بدنياك بس سبعة ازروف
الكلب منخل صار بيه العمى يشوف )
أي : سعيدة أنت بدنياك اذا كان في قلبك سبعة ثقوب فقط، فأنا قلبي صار منخلا يرى من خلاله حتى الأعمى ! .
ولهذه الحالة ( التباهي بالحزن )أسبابها النفسية . فالعراق يكاد يكون البلد الأكثر تعرضا للكوارث والحروب والفواجع والمحن .. بدءا من الطوفان وصولا الى ما هو عليه الآن . وأظن أن أول تراجيديا في العالم كانت في العراق .. أعني تراجيديا جلجامش وأنكيدو . وأظن أيضا أن أقسى تراجيديا كانت على أرضه.. أعني أحداث واقعة كربلاء . ومنذ ذلك التاريخ ( 61هج ) وإلى الآن حكمت العراق أربعة أنظمة ( الأموي والعباسي والعثماني والبعث ) كانت قاسية جدا في ظلمها للناس وبطشها بالخصوم . حتى أنه مرت أزمان على العراقيين ما خلا فيها بيت من كارثة . والأقسى أن السلطة كانت تمنع أسرة من تنهي حياته أن تقيم مجلس عزاء لفقيدها . وهذا يعني في فعله النفسي اشراط أو اقتران الحزن بالظلم والقسوة الذي يؤدي الى تكثيف التعبير عن الحزن بانفعال أشد.
وثمة مسألتين نفستين نوجزهما بالآتي :
إن المكّون السلوكي للأنفعالات يكون أما شفويا ..كلام، واما بلغة الجسد ..إشارة ..حركة. ويتفق علماء النفس على أن لغة الجسد تكون أصدق أحيانا من لغة الكلام، وأن تعابير الوجه هي الأكثر تعبيرا عن الحزن من اللسان . ويطرح آخرون فرضية اسمها ( التغذية الراجعة لتعبير الوجه ) مفادها أن عضلات الوجه وارتعاش الشفتين وسيلان الدموع على الخدود، أو مشهد العينين وهما تبكيان بصمت ...ترسل إشارات الى أكثر من مركز في الدماغ تعمل على تنشيط الجهاز العصبي الخاص بالانفعالات ( الهيبوثلاموس، الأمجدالا،... ) يؤدي بدوره الى تصعيد الانفعال لدى أطراف الحدث المشاركين في المشهد .
ومع أن تعابير الوجه عن الحزن تكاد تكون متشابهة عند خلق الله، إلا أن الملاحظ على العراقيين أنهم يضخمون أو يبالغون في التعبير عنها . وهذا ناجم في واحد من أسبابه النفسية عن هول ما أصابهم من فواجع ومحن وكوارث عبر أكثر من ألف سنة ..جرى التعبير عنها بمشاركة وجدانية اقتضى الحال أن تكون بمستوى الفجيعة. ثم تحول هذا التعبير، عبر تكرار الفواجع وما صاحبها من تعزيز، الى تقليد، حتى صار من غير اللائق اجتماعيا أن يكون الانفعال هادئا أو باردا في مواساة من كان انفعاله ملتهبا .
ولأن الفجيعة كانت بين العراقيين مثل كرة السلة، فأن العراقي كان يشارك بانفعال حار أخاه المفجوع، ليس من جانب أنساني فقط ، إنما أيضا – وهذا أهم – لأن الفجيعة ستحل بالآخر يوم ما، وعلى المقابل أن يردّ الفضل ساعتها . والغالب عند العراقيين أنهم يردون الفضل بأحسن منه . فأن كان الفضل بكاء ساعة مثلا، فأن ردّ الفضل يكون بكاء ساعتين وأن أمكن فبأكثر !. والمثل يقول ( دين بدين حتى دموع العين ) .
والشائع عن النساء في كل المجتمعات أنهن عاطفيات، يعبرّن عن انفعالاتهن بشكل أشد وأعمق، حتى صارت العواطف مرادفة لـ ( الأنوثة )، وتحديدا الانفعالات الرقيقة والحزن في مقدمها . فيما الانفعالات الخشنة مرادفة لـ ( الرجولة ) والغضب في مقدمها. ولو تمعنا في العواطف الرقيقة ( الأنثوية ) لوجدنا أنها مقتصرة على ما يمكن تسميته بـ ( الانفعالات العاجزة ) من قبيل : الحزن والقلق والخوف، وهي انفعالات تعمل على أن تجعل الفرد يبدو ضعيفا وعاجزا . والمسألة النفسية هنا، هي أن الإنسان يتعاطف أكثر مع الإنسان الضعيف العاجز، وأن هذا العاجز تدرب على تجسيد انفعال الحزن، بفعل تكراره، فصار ماهرا في تمثيل دوره، فكيف اذا كان هذا الإنسان هو المرأة !.
ولأن الحزن في المجتمع العراقي كان بحجم فواجعهم ، فأنه اختار المرأة لتكون بطلته . ولقد أجادت و ( أبدعت ) في تجسيد هذا الدور بدراما تراجيدية . فكما في المسرحية التراجيدية، فأن في مأتم الحزن النسائي العراقي أكثر من جوقة، تتصدرها جوقة النائحات اللاتي يجدن الصراخ والعويل، وجوقة اللاطمات على الخدود، وجوقة ناثرات الشعر وشاقات الصدور ...، تقودهن قائدة أوركسترا المأتم – ( الملاّيه )- في إيقاع يجمع هذه الجوقات ويوحدهّن في مباراة بينهن، في أيهما تجيد دور التعبير عن انفعال الحزن، وأيهما كان لها التأثير الأكبر بين الحاضرات المشهد .
وبعد أن تعلن قائدة الأوركسترا - ( الملاّيه ) - عن فترة استراحة، فأنه يتم فيها تقويم للمشاركات على وفق معايير ( موضوعية ) من بينها : شدة احمرار الوجه ، ولا بأس اذا كان مخرمشا بالأظافر، أو سيلان الدم على الخدود ، أو تقطيع شعر الرأس ، أو تمزيق الملابس ، أو شدة بحة الصوت ، أو من كانت قد أغمي عليها صدقا أو هستيريا .... وتحظى الفائزة منهن بالاهتمام والتعاطف والإطراء والمديح على وفائها وطيبتها وصدق مشاعرها .
والغريب عند العراقيين، والمرأة بشكل خاص، أنهم ماضون بالتباهي في التعبير عن أحزانهم وطول حدادهم ، بالرغم من أنهم جزعوا منها ، وفي أعماق كل واحد منهم صرخة تصيح :
أما لهذه الأحزان من آخر !! .



#قاسم_حسين_صالح (هاشتاغ)       Qassim_Hussein_Salih#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 10% فقط. ..نزيهون في العالم
- مرض الكراهية
- مصيبتنا ..فيروسات ثقافية!
- كردي ما اعرف ... عه ره بي نازانم !
- حصة العراقي بالنفط ... والدستور
- العراقي وسيكولوجية الرمز
- الشخصية العراقية تخطّئ علم النفس!
- العراقيون...وسيكولوجية الحاجة إلى دكتاتور!
- يا أعداء أمريكا ... اتحدوا لتدمير بغداد !
- تعدد مرجعيات الإرشاد لدى العربي بين العلم والخرافة
- الحقيقة ...عند الحاج غيلان !
- العراقي : هل صار مكروها عالميا ؟!
- هاملت شكسبير تحليل لشخصيته وتردده
- العراقي ... و الخوف
- كلب بافلوف !
- نظرية الوردي ...لم تعد صالحة
- مظفر النواب
- المرأة موضوعاً شعرياً في الابداع العربي - مشاعر وجدانية قدمت ...


المزيد.....




- فيصل بن فرحان يعلن اقتراب السعودية وأمريكا من إبرام اتفاق أم ...
- إيرانيون يدعمون مظاهرات الجامعات الأمريكية: لم نتوقع حدوثها. ...
- المساندون لفلسطين في جامعة كولومبيا يدعون الطلاب إلى حماية ا ...
- بعد تقرير عن رد حزب الله.. مصادر لـRT: فرنسا تسلم لبنان مقتر ...
- كييف تعلن كشف 450 مجموعة لمساعدة الفارين من الخدمة العسكرية ...
- تغريدة أنور قرقاش عن -رؤية السعودية 2030- تثير تفاعلا كبيرا ...
- الحوثيون يوسعون دائرة هجماتهم ويستهدفون بالصواريخ سفينة شحن ...
- ستولتنبرغ: -الناتو لم يف بوعوده لأوكرانيا في الوقت المناسب.. ...
- مصر.. مقطع فيديو يوثق لحظة ضبط شاب لاتهامه بانتحال صفة طبيب ...
- استهداف سفينة قرب المخا والجيش الأميركي يشتبك مع 5 مسيرات فو ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - قاسم حسين صالح - الحزن المرضي ... والشخصية العراقية