نبال شمس
الحوار المتمدن-العدد: 1807 - 2007 / 1 / 26 - 06:12
المحور:
الادب والفن
من ذاكرتي في ليلة صقيع
كانت تأتيني بشكل مستمر لأترجم لها بعض الأوراق إلى العربية التي هي عبارة عن مكاتيب رسمية. كنت أتوقع قدومها عندما يبدأ كلبي بالنباح الشديد, وكأنه يميز رائحة أقدامها, فنباح كلبي كان يزداد الضعفين عندما كان يرى تلك المخلوقة, أو عندما يحس بقدومها, كانه يميز رائحة أقدامها ورائحة جسدها وعطرها الصارخ, رغم إنها كانت لا تعيره اهتماما ولا تشعره بأنها تخافه أو تخاف نباحه, فدائما كانت تنهره بصوتها العالي وقدمها الكبيرة.
هذه المرأة الخمسينية, التي تدعى زهرة, كانت تأتي إلي كل صباح يوم خميس , يوم عطلتي, ومعها أوراقها المملة والمميتة, أحيانا استقبلها ببسمة مصطنعة جدا, وأحيانا اقفل الباب كي تظن أني ما زلت نائمة, لكنها لم تتنازل لي في اية مرة, فان فشلت في الدخول لبيتي صباحا تعود مساء, فرغم خياناتي الصغيرة لها إلا أنها كانت تقول لي دائما أنها تحبني جدا,لأني لست ثرثارة, عدا عن ذلك فهي تحب النساء البيضاوات البشرة وربما كان هذا سببا مقنعا آخرا بالنسبة لي.
اليوم هو يوم الخميس . بدأ كلبي بالنباح منذ الصباح, نباحه كان به بحة غريبة فربما السبب هو البرد والصقيع. تساءلت بيني وبين نفسي إذا كانت فعلا ستأتي هذا اليوم أو لم تأتي.فربما قدومها إلي اليوم سوف يعطيني سببا مقنعا لشرب فنجان قهوة ثقيل.
لكن لماذا اكتب لها اليوم؟فأنا لا أحبها ولا اكرهها, ولا أحب قدومها إلي. لا أستلطفها وأحيانا لا أطيقها فهي كثيرة الكلام , لا تصمت ولا تنصت سوى للترجمة, لكني وجدت قلمي ينثر حروفي عنها دون قصد أو تعمد مني على الكتابة إليها.
عندما اجلس لأكتب نصوصي , تكون الفكرة قد انطبعت في رأسي وتقلبت كثيرا, لكن الامور اليوم عكس ذلك معي. نهضت هذا الصباح على نباح المجنون رغم الجو البارد والجليد الذي تكون في منطقتنا, فقد ظننته انه لن يخرج من بيته.
مكتبتي كانت مبعثرة وأوراقي على الأرض وبعض الفناجين هنا وهناك. وبعض النصوص القديمة التي عزمت على مراجعتها كانت منثورة تنتظر الطباعة على الحاسوب, لكن ورقة واحدة هي التي لفتت نظري كنت قد كتبتها ليلة أمس, الورقة كانت كالتالي:"
1
طرق على الزجاج, أصوات غريبة لكنها مألوفة بالنسبة لي تقتحم فراغي, بابي ونافذتي. أعلن فشلي ونقصي علنا. محاولاتي في نسيج كرة مجنونة فشلت جميعها.
2
باب اخضر في الطابق الرابع, لم يبدّل منذ عشرات السنين ولم يدخله أي شخص سواي , ظنا من المارة أن هناك داخل الغرفة لؤلؤة معدية. باب مميز بلونه ومكانه وعبوري كل يوم عبره, فالكل هناك يعرفني من خلال دخولي هذا الباب. هذا الدخول وهذا الخروج, تلك الكرة الحقيرة التي أداعبها يوميا. أحيانا جميلة وأخرى قبيحة. أحيانا حزينة وأخرى مسرورة. أما لؤلؤتي الجميلة أحاول ترتيبها كل يوم. أحاول ضمها خوفا من البرد ومن الهواء ومن ثقوب الباب, الذي عملت كثيرا على تصليحها وعلى سد ثقوبه العتيقة, ألصقت عليه أوراق ملونه صممت بوسطه شجرة. وضعت بجانبه الأثاث الثقيل كي لا تدخل الرياح, وتكسر تلك اللؤلؤة, التي كنت أعيد إيقاعاتها كل دخول وكل خروج.
3
الباب الأخضر , الجميع كان يسخر منه ومن قبحه ومن رائحته العفنة, ففي حياتي كلها لم أرى عاملا للنظافة اقترب منه ونظفه كباقي الأبواب المجاورة, ذلك الباب الذي مرت منه نصوصي وأوراقي وفرحي وحزني , ذلك الباب الذي علقت به كلماتي ورائحة عطري . ذالك الباب الذي لمسته أصابعي يوميا مع شروق كل شمس ومع حلول كل مساء. وها هو اليوم يركن لي مكانا عاليا لأطبع بصمات أصابعي الخمسة وأقول لنفس: فشلت في نسيج كرة مجنونة.
4
كنت قد سالت يوما لماذا اكتب؟
كتب لأحرر البربرية.. العفوية, الشفافية والشغب الذي يسكنني. أن أكتب أن أجعل وجوهي تتحرر وتتقمص رائحة التراب وطعم الزيتون. اكتب لأغير لون ذلك الباب واجعله ابيضا مثل تلك الأبواب. فالبربرية والعفوية والشفافية والشغب الذي يسكنني هي نصوصي وبصماتي واعترافاتي بفشلي في نسيج كرة مجنونة في عالم به صدى شغب لئيم.
5
عندما كنت طفلة أرتل تراتيل الطفولة كان والدي يلملم صدى صوتي ويضعه في البوم ذكرياته.
عندما كبرت وكتبت نصي الأول جمعت امي صدى حروفي لتتباهى أمام صديقاتها . جدي الجميل كان يجمع رغباتي المقصودة وينثرها في فراغ جميل دون قانون.
6
اليوم دخلت الباب بعد أن أزحت الأثاث الثقيل. كان بي شوق رهيب لتلك اللؤلؤة الغالية الجميلة, فقد كانت في نفسي إيقاعات جميلة جدا أردت عزفها ا. كان المارة يسخرون مني ومن عرقي ومن تعبي ومن همومي الصغيرة, احدهم قال لي : هل ما زلت تحتفظين باللؤلؤة المعدية؟
أزحت الأثاث, أزلت الأوراق الملونة من على الباب , نظرت عبر الثقوب, مددت يداي ونثرت نصي عبر الثقوب لأنه لم يكن طرقا على الزجاج بل لؤلؤتي كانت من زجاج."
ما هذا الهراء الذي كتبته؟ولماذا تتداخل نصوصي في بعضها البعض؟ الباب الأخضر واللؤلؤة التي من زجاج؟ والدي, طفولتي, امي وجدي؟تداخلات كبيرة حدثت ليلة أمس. تداخلات أنا نفسي لا افهمها ولا أجرؤ على فهمها, تماما كما حدث لي هذا الصباح مع تلك السيدة
تخبط كان ولا زال قابعا في داخلي, فرغم الأصوات التي حطمتني ليلة أمس ورغم اعترافاتي بالفشل وآمالي التي خابت في اكتشاف تلك اللؤلؤة, إلا أني ما زلت أكتب وما زلت أتنفس. فالحبر هو مسّكن فظيع لانكساراتنا ومقو نادر استمد منه قوة خارقه.
صمت الكلب وعلت درجة الحرارة قليلا وبدأ الصقيع بالذوبان من الأمكنة, كم أردت شرب القهوة لكن زهرة لم تأتي بعد, وخصوصا أني ممنوعة من القهوة في هذه الفترة بسبب الصداع الذي يلازمني أحيانا. اكتفيت بحليب ساخن قرب كراتي المحروقة ولؤلؤتي المكسورة.
كان الوقت يمر مسرعا والزهرة لم تأتي بعد, ولم تقرع بابي. كنت أتساءل بيني وبين نفسي عما إذا حدث لها شيئا. هل يا ترى لم تصلها أي ورقة هذا الأسبوع, تريد ترجمتها؟ لماذا انتظرها وأنا لا أحب زيارتها؟ لماذا انتظرها وبالوقت ذاته اكره ثرثرتها ولغتها ولعناتها وقوتها الغريبة وتناغيها الغريب, وحركات يدها ألسمينه وهزات صدرها الكبير عندما تدعي على احد أو تلعن احد.
تلك السيدة مشهورة جدا بالمكان, بسبب قوتها الرهيبة وحركاتها وصوتها العالي وكلامها الملغز, فان كلمت أحدا غمزت للآخر, رغبة منها في استخراج مغزى آخرا لحديثها. أحيانا جنسيا وأحيانا سخرية وأخرى غير مفهوما.
الساعة اقتربت إلى العاشرة وزهرة لم تقرع الباب والكلب ما زال صامتا لا ينبح, فهذه هي المرة الأولى انتظر زهرة وانتظر أوراق زهرة.هذه هي المرة الأولى التي لم أتعمد بها إقفال الباب وهاتفي في وجهها.شيء غير طبيعي أن انتظرها , حتى أن انتظاراتي زادت لتشمل بائع الخبز رغم أن الثلاجة فيها من الخبز ما يكفي لأيام, هذه المرة هي الأولى التي انتظر بها ضوضاء بائعي الخضار, رغم عدم حاجتي للخضار.هذه المرة الأولى انتظر بها الذين اكره انتظارهم دائما.
كتبي ما زالت مبعثرة , لم أحبذ ترتيبها, ولا حتى تنظيف البيت والحجرة ففي ذلك أرى نفسي المتخبطة والمتعبة.
كل شيء كان يمر كالمعتاد إلا اليومي خاصتي أنا, كان مثقلا كأناملي التي خطت هذه الكلمات الآن, وانتظاري للهروب الذي ابحث عنه, وراء بائع الخبز وسيارات الخضار وعمال النظافة في الشارع والزبالين. انتظاري للهروب لأوراق زهرة وكلماتها وحركاتها وقوتها وعفويتها وخبثها المقصود, هذا ما انتظرته ولم انتظر أحدا من هؤلاء, بل انتظرت نفسي لأجرب ترميمها في عالم فوضي اخر.
انتظرت نفسي لأمسح بصماتي عن وجه تلك اللؤلؤة التي اكتشفت تركيبها الزجاجي.
انتظرت نفسي لتعترف في فهم بريق لؤلؤة الزجاج.
#نبال_شمس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟