أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - في باكورة أفلامها الوثائقية - أيام بغدادية -: المخرجة هبة باسم تدوّن سيرة الذات الحالمة على هامش المدينة المضطربة















المزيد.....


في باكورة أفلامها الوثائقية - أيام بغدادية -: المخرجة هبة باسم تدوّن سيرة الذات الحالمة على هامش المدينة المضطربة


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1669 - 2006 / 9 / 10 - 10:28
المحور: الادب والفن
    


ليس من قبيل المصادفة أن يفوز الفيلم الوثائقي القصير " أيام بغدادية " للمخرجة العراقية الشابة هبة باسم بأكثر من جائزة مهمة من بينها الجائزة الفضية لمهرجان الجزيرة للإنتاج التلفزيوني الثاني 2006، وجائزة " الصقر الذهبي " للأفلام الوثائقية القصيرة في مهرجان الفيلم العربي في روتردام 2006. ومن المؤكد أن هذا الفيلم سوف يفوز بجوائز أُخَرْ لأسباب تتعلق بمصداقية الثيمة التي دارت حولها القصة السينمائية، وزاوية النظر للمخرجة بوصفها سينارست أيضاً، وصاحبة الفكرة الأساسية للفيلم، وكاتبة للحوار المُنساب الذي تراوح بين الفصحى السلسة والمحْكية المعبّرة، إضافة الى أن تقنيات الفيلم من لقطات طويلة وقصيرة، وأخرى مُنفذّة بـ" عين الطائر " و " عين القط " التي أنقذت الفيلم من محنة الإيقاع الواحد. كما لعبت المؤثرات الصوتية دوراً كبيراً في إثراء الفيلم، وتعزيز فكرته الأساسية التي قدّمتْها للمتلقين في إطار حبكة فنية كلاسيكية مدروسة قائمة على البناء الأرسطي من جهة، ومنفتحة على المتلقي العضوي الذي يسهم في صناعة الحدث أو يشارك فيه الأقل، ولا يرضى بدور المتلقي السلبي الذي يتقبل النتائج والخلاصات التي يقترحها السينارست ومخرج الفيلم.
وإنطلاقاً من رأي لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة في مهرجان الفيلم العربي في روتردام والتي تألفت من الناقد السينمائي الهولندي بوب فيسر، والمخرج التونسي مصطفى الحسناوي، والناقدة السينمائية اللبنانية هدى إبراهيم الذين توصلوا الى إجماع في الرأي يقول: ( لقد مُنح فيلم " أيام بغدادية " جائزة الصقر الذهبي لشموليته في تصوير راهن وطن هو العراق عبر يوميات امرأة تحاول أن تجد عملاً وسكناً وحباً في أرض بات كل شيء فيها شبه مستحيل.). ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الفيلم الوثائقي الذي حاز على إعجاب النقاد والجمهور في أكثر من مهرجان هو أطروحة التخرّج في أكادمية الفنون الجميلة المستقلة في بغداد لعام 2005، وهو باكورة أفلامها الوثائقية والذي سيفتح أمامها آفاقاً جديدة تنطوي على إنجازات أصيلة، وعميقة، ومغايرة،.
أمنيات في زمن مضطرب
لقد نجحت المخرجة هبة باسم في رسم بداية موفقة لفيلم وثائقي يعزز " الذاكرة المرئية العراقية " ولا يمكن الإستغناء عنه لأنه يرتكز على حقائق دامغة صورت الواقع كما هو عليه من دون رتوش أو لمسات تجميلية، ولكن المخرجة أصرّت على أن يكون صوتها الخاص مسموعاً على وفق المفهوم الإنكليزي الذي لا يكتفي بتسجيل الحقيقة، وإنما يضيف إليها الرأي. وفي هذا الفيلم نتحسس بقوة رأي المخرجة هبة باسم في الأوضاع الاجتماعية والإقتصادية والسياسية، أي أنها عبّرت عن رأيها في نظرة الرجل الشرقي الى المرأة التي تعمل في المجال الفني والإعلامي على وجه التحديد، كما أنها أبدت رأيها الحاسم فيما يتعلق بالإنتخابات، والأسباب التي دفعتها للإحجام عن الإدلاء بصوتها لقائمة انتخابية محددة أو حزب سياسي معيّن، لأنها لم تعرّف المرشَّحين الذين وفدوا الى العراق من المنافي البعيدة. وجدير ذكره أن أغلب المخرجين العراقيين يتبنون المفهوم الإنكليزي في الفيلم الوثائقي ولا يميلون كثيراً الى المفهوم الفرنسي الذي يكتفي بتصوير الواقع، ولا يضمّنون الفيلم آراءهم الشخصية.
كانت الأمنية الأولى لهبة باسم أن تصوّر شيئاً ما عن حياتها، وعن الناس المحيطين بها من أصدقاء ومعارف وزملاء في الدراسة والعمل، غير أنها كانت تشعر بأن تصوير هذا الفيلم هو أشبه بالأمنية العصية في زمن مضطرب تتأجج فيه المشكلات والأزمات يوماً بعد يوم. فزمن الفيلم يبدأ قبل الاحتلال الأمريكي للعراق حيث تركت هبة باسم بغداد، وغادرت الى مدينتها كركوك حيث فضّلت البقاء بين أهلها وذويها في ذلك الوقت العصيب على العراقيين جميعاً. وحينما هرب الطاغية، وفرّ أزلامه من المواجهة العكسرية، إلتقطت بغداد بعض أنفاسها، وعمَّ أرجاءها نوع من الهدوء الحذر الذي تفسده المفخخات والأحزمة الناسفة وعمليات الدهم المفاجئة هنا وهناك، غير أن هبة قررت العودة الى بغداد لمواصلة دراستها في قسم السينما، لتحقيق حلمها الأول وهو الحصول على شهادة البكالوريوس من أكادمية الفنون الجميلة، لكنها فوجئت بأن أجزاءً كبيرة من بغداد قد دمرّتها القنابل والصواريخ الذكية، ومن بين البنى التحتية المدمرة هي الأقسام الداخلية للطلبة، فالقسم الذي اعتادت أن تسكن فيه قد بات محروقاً ومسروقاً ومقوّضاً، لذلك لم تجد حلاً سوى أن تؤجل دراستها لمدة عامل كامل، على أن تعاود دراستها في العام الذي يليه. وبالفعل عادت في مطلع العام الدراسي الجديد، وأخذت تبحث عن غرفة صغيرة متواضعة للسكن. وبعد جهد جهيد عثرت على هذه الغرفة " الحلم " في حي شعبي من أحياء بغداد صادف أن يكون قريباً من سكن جدتها. ومن هذه الغرفة على وجه التحديد بدأت أحداث الفيلم الذي أسمته بـ " أيام بغدادية " وكأنها لا تدوّن مذكراتها حسب، وإنما تدوّن يوميات بغداد في ظل الفراغ الأمني، وغياب سلطة القانون. ومن خلال هذه الغرفة تطل هبة على العالم الخارجي بكل أزماته وتناقضاته الحادة في ظل الاحتلال. فأم هبة تشد الرحال الى بغداد أيضاً لتجلب لإبنتها " المغامرة " بعض الأشياء الضرورية التي تحتاجها في السكن الجديد وما ينطوي عليه من مصاعب ومفاجآت قد لا تقوى على مواجهتها أو التصدي لها وهي ما تزال غضة العود، وحيدة إلا من صديقات عابرات بعضهن لم يجدن حرجاً في تهيئة فرص لعلاقات عاطفية شائكة وغير متوازنة بينها وبين رجال طاعنين في السن. وربما تكشف الحاجيات البسيطة التي جلبتها الأم لإبنتها عن حجم المحنة التي تعاني منها العوائل العراقية البسيطة التي تعيش على حافة الفقر المخيفة. كانت هبة تتصور أن إقامتها في هذه الغرفة مؤقتة وأنها ستغادر هذا المكان بعد بضعة أيام ما أن ترمم الأقسام الداخلية وتؤثث من جديد، غير أن إعادة الحياة الى هذه الأقسام المقوضة والمنهوبة قد باتت اشبه بالحلم المستحيل أيضاً. وكلما كانت تُراجع شخصاً ما في الأقسام الداخلية كان يلقي باللائمة على أناس آخرين أو ربما على أشباح لا وجود لها. ومن خلال الانغماس في المراجعات نكتشف حجم الضجر واليأس والعبث واللاجدوى التي تشعر بها هبة. وحينما تعجز تماماً في تشخيص المسؤولين عن هذه المعضلات الجدية تكاد تلقي باللائمة على نفسها بصيغة سؤال جاء على الشكل التالي: " هل أنا المسؤولة إذاً؟ " لقد تنقلت هبة حسب إدعائها الى أكثر من منزل، فقد عاشت بشكل مؤقت في بيت صديقتها " ميْس " بعدما فقدت الأمل في إيجاد سكن في الأقسام الداخلية. كما أقامت لمدة قصيرة في منزل صديقتها " فاتن "، ثم صادف أن تعود الى مدينتها كركوك، وفي أول يوم من أيام العيد تناهت الى سمعهم الحادثة المفجعة التي التي وقعت لإبن خالها " علي " الذي وجد " شاحنة موبايل " في حديقة المنزل في بغداد، وما إن وضعها في القابس الكهربائي حتى انفجرت عليه، لأن الشاحنة كانت ملغّمة بمسحوق الـ " TNT "، وبسبب هذا الحادث تركوا المنزل، ثم وجدت هبة نفسها بلا مأوى من جديد.
الرسّام الذي فقد بصره
مثلما كانت هبة ضحية من ضحايا الحرب بكل ارهاصاتها ونتائجها فإن علي هو ضحية أخرى تمثل شريحة واسعة من المتضررين الذين شوّهتهم الحرب، واجهضت أحلامهم وطموحاتهم الكبيرة. فلقد ترك هذا العوق والتشويه الذي أصاب علي جروحاً غائرة لا تندمل قلبت مزاجه، وغيّرت سلوكه الشخصي، وحوّلته الى كائن اجتماعي عاطل عن " الأمل والعمل ". وقبل هذا الحادث كان علي شخصاً مرحاً، مفعماً بالأمل، وهذا ما تتذكره هبة عن ابن خالها الذي التقته آخر مرة في بغداد، وسهرت معه في المنزل حتى ساعات الصباح الأولى حيث كان يمزحان، ويحلمان، ويتحدثان عن المستقبل الذي بات مجهولاً. فعلي كان يدخر النقود التي يحصل عليها من عمله على أمل أن يسافر الى الخارج إذا ما سنحت له الفرصة لإكمال دراسته العليا في مجال الرسم أو الفن التشكيلي عموماً، لكن هذه الأمنية سرعان ما أجهضت بعد أن فقد بصره، ويده اليسرى، وبعضاً من أطراف أصابعه التي يرسم بها!
امرأة خفيفة الظل
يبدو أن هبة قد إنتبهت الى هيمنة المواقف المأساوية على الفيلم، لذلك عمدت الى التخفيف من وطأة النَفَس التراجيدي للقصة السينمائية، فإستقدمت امرأة في منتصف العمر، تتخذ من الحلاقة النسائية مهنة لها، وهي سيدة خفيفة الظل، جريئة بعض الشيء، تناكد الرجال الذين لا يطرؤون على تفكيرها خلافاً لما تدّعي، لأن نبرة هذا الكلام تقول العكس تماماً، وتعكس مجازياً قوة التشوّف الى الرجال. وبعد هذه الجولة المعلوماتية التي توزعت بين الأهل والأصدقاء والأقارب عادت هبة لتصطحبنا الى غرفتها من جديد بحركة دائرية جميلة تناوئ من خلالها الوقوع في رتابة السرد. وعلى رغمٍ من قساوة الحياة التي تعيشها هبة في هذه الغرفة الجرداء إلا من بعض الأشياء الضرورية، إلا أنها لا تتورع عن القول بأنها مرتاحة بنسبة %50 بالمئة، والخمسين بالمئة الأخرى تحمل بين طياتها المشكلات اليومية التي تواجهها في العاصمة بغداد، وهي للمناسبة مشكلات جماعية مثل غلاء الإيجار، وإنقطاع الماء والكهرباء، وإنعدام الخدمات الصحية، وفقدان الأمن وما الى ذلك. ومن بين التفاصيل الصغيرة التي تذكرها هبة أنها تضطر للنزول من غرفتها الى الطابق الأرضي لكي تغسل يديها بعد أن تتناول الطعام، وإذا أرادت أن تستحم فإن عليها أن تخصص يوماً كاملاً لتهيئة مسلتزمات الإستحمام ولعل أبرزها الماء الذي تختزنه قطرة قطرة من صنابير المياه الواقعة في الطابق الأرضي. هذه المعاناة الجدية يعرفها العراقيون في الداخل، لأنهم يدركون ما معنى أن تنقطع الكهرباء في ساعات الظهيرة القائظة من أشهر حزيران وتموز وآب، كما أنها تحتاج الى الكهرباء كي تدرس على ضوء المصباح، فلقد ملّت ضوء الفانوس الباهث " تعبت من الفانوس، أريد كهرباء، على الأقل كي أشحن الموبايل أو أسشوّر شعري! ". هكذا تنتقل هبة من مشكلات الذات الى الموضوع والى الناس الآخرين المحيطين بها مثل القدر. فلقد تأقلمت حتى مع " منى " على رغمٍ من أن أوامر هذه الأخيرة قاسية ولا يتحملها كائن بشري متفتح يتخد من السينما مهنة له. كانت منى تمنع عليها زيارة أي رجل حتى وإن كان هذا الرجل أخيها أو أبيها أو أياً من معارفها. وذات مرّة اقترحت عليها أن تعرِّفها على رجل كان يتردد الى البيت في وقت متأخر، وهو من أقارب أحد نزلاء الدار، على أمل أن تنشئ هبة علاقة عاطفية معه على رغم من فارق السن. وهدف هذا التعارف هو أن تتطور هذه العلاقة الى إعجاب قد يفضي الى الزواج القائم على الإستغلال المادي، غير أن هبة أدركت اللعبة، وفكت أسرارها الغامضة، واكتشفت التناقض الصارخ بين تمسكها بالعادات والقيم والاجتماعية وبين هذه الدعوة التآمرية التي قد تسرق منها أعز ما تملك في المجتمع العربي والإسلامي. فرفضت الفكرة، وتخلّت عن صاحبتها، وإنسحبت الى قوقعة أحزانها الذاتية من جديد. وتأكيداً على نزوعها الذاتي المستقل، وإبراز بعض أفكارها وقناعاتها السياسية، يناقش الفيلم في بعض جوانبه موقفها السياسي من الانتخابات التي أجريت عام 2004. وعلى حد قولها لم تكن مقتنعة بالإنتخابات جملة وتفصيلاً. كما أنها لم تكن تعرف أي من المرشحين، ولم تطلّع على برامجهم السياسية، والأهداف التي يرومون تحقيقها للمواطن العراقي. ومع ذلك فإنها كانت تريد أن تتفاءل بمستقبل الانتخابات، ولا تحصر تفكيرها في دائرة اليأس المطلق. وفي أثناء الانتخابات غادرت الى كركوك، وكانت غير قادرة على استشراف ماذا سيحدث في هذه البلد الذي تتقاذفه المصائر المجهولة. كانت ضائعة بين أهوائها ورغباتها الدفينة وسط أوضاع أمنية مربِكة تنذر بما لا تُحمد عقباه، وقد وصل ترددها الى درجة أنها شعرت بالندم لعدم مشاركتها في الانتخابات التي شككت بها قبل قليل، ولكنها بالمقابل كانت تهنّئ كل من شارك في الانتخابات. ففي جانب من تفكيرها كانت تعتقد، كما يعتقد الكثير من العراقيين، بأن الانتخابات الحرة النزيهة قد تضع حداً للقتل والإرهاب الذي يفتك بالعراق والعراقيين معاً. وفي نقلة أخرى من العالم الموضوعي الى الذاتي تقول هبة " لم أستطع أن أنام منذ البارحة الى اليوم. الآن الساعة والنصف صباحاً، وعيوني متعَبة، وأريد أن أنام، لكن حرارة الجو تمنعني من النوم! " فثمة أشياء كثيرة تريد أن تقولها، لكنها نسيتها من شدة حرارة الشمس العمودية اللاهبة. كانت علاقاتها بصديقاتها عرضة للتدهور، فهي لم ترَ ميس منذ خمسة أشهر، وحينما هاتفتها جاءت الأخرى الى الكلية لكنهما لم يتجاذبا أطراف الحديث لأن علاقتهما كانت قد تقوّضت، بينما كانت ميس هي التي تساعدها في تصوير الفيلم، الأمر الذي دفعها لأن تأخذ على عاتقها مهمة التصوير أيضاً، فأصبحت هبة هي مصورة الفيلم ، وكاتبة السيناريو، ومخرجته، كما أنها لعبت دور الشخصية الرئيسة في الفيلم، وربما كانت هذه الأدوار مجتمعة هي التجربة الغريبة التي تركت بصماتها القوية في ذاكرة هبة وروحها اللائبة لإنجاز فيلم وثائقي لا يخرج عن إطار السيرة الذاتية، والسيرة المدينية في آن معاً.
لقد تعرفت هبة خلال سنوات الدراسة الأربع على نماذج مختلفة من الأصدقاء الذين تعلقت بهم، وهي تعتبر سنوات الدراسة نعمة ونقمة في آن معاً، نعمة لأنها حققت حلمها في الحصول على شهادة البكالوريوس في الاختصاص الذي تحبه، ونقمة لأنها كانت تتعرف على أصدقاء وصديقات تحبهم، لكنها تنقطع عنهم رغماً عنها فتشعر بالخسارة والخذلان.
كركوك وتجليات الذاكرة المستعادة
تشكّل كركوك محوراً مهماً من محاور هذا الفيلم على رغم من أن كركوك ظلت خلفية للأحداث الدائرة، إلا أنها ليست بعيدة عنها كلياً، فمن خلالها ومن خلال شقيقتها نعيد اكتشاف هذه المدينة متعددة الأعراق. تقول هبة بأنها عاشت في كركوك أغلب سنوات حياتها، وأنها تحب كركوك أكثر من أية مدينة أخرى، فهي مرتع لطفولها، ودراستها، وصداقاتها البرئية الأولى التي تجمع بينها وبين الفتيات الكرديات والتركمانيات والآشوريات، لكن الحرب الأمريكية غيّرت كل شيء فجأة، وكأن صدّام لم يسقط لوحده، وإنما سقطت معه منظومة كبيرة من القيم والعادات والتقاليد والأفكار التي كانت سائدة. فبعد الحرب مباشرة كما تؤكد هبة في حديثها العفوي السلس بدأ الصراع على هوية المدينة، وتأزمت العلاقات بين القوميات الأربع، وأصبح الوضع مخيفاً، ويهدد بالإنفجار في أي لحظة، لذلك فكرت العائلة كلها بمغادرة كركوك والإستقرار في بغداد لأن الأوضاع والظروف الاجتماعية تبدلت تبدلاً جذرياً لم تفهمه هبة وشقيتها. قبل الحرب كانت لهبة صديقات من مختلف القوميات الثلاث الأخرى، كما كانت هي الفتاة العربية الوحيدة بين طالبات شعبتها اللواتي كن يمحضنها حباً من نوع خاص، ويدللنها الى الدرجة التي كنَّ يدعْنها تجلس في أحضانهنَّ، ويقبِّلنها كل صباح ومساء، ولكن بعد احتلال بغداد مباشرة تغيرت الأمور تعيراً مهولاً، فتحوّل ذلك الحب الكبير الى حقد دفين لم تستطع أنه تفسّره هبة، ولكنها كانت تعزوه الى القوة المفاجئة التي حظي بها الكرد بعد سقوط النظام القمعي. ومنذ تلك الحادثة المؤسية قطعت هبة كل أمل سواء في البقاء في كركوك في العودة إليها مستقبلاً. لم يختلف موقف رنا عن موقف شقيتها هبة، فقد شعرت هي الأخرى بخسارة كبيرة لا تُعوّض، ولعل بكاءها لحظة توديع الصديقات كانت لحظات مؤثرة تخنق الأنفاس، لأن رنا لن تفقد الصديقات حسب، وإنما خسرت حشد كبير من الذكريات المنقوشة في تلافيف القلب الذي تفتّح بين جوانح هذه المدينة المطعّمة بكل الأطياف الأساسية للنسيج الاجتماعي العراقي.
خسارات متفاقمة
يُطل متلقي الفيلم من خلال هبة على عوالم أُخَرْ، فزياراتها المتكررة لابن خالها علي جعلتنا نتصوّر حجم المحنة الشخصية التي تتفاقم يوماً بعد يوم. وهذه المحنة لا تنحصر في الإطار الفردي، بل انها تتجاوز هذه الفردية الى الإطار الجماعي لتعكس هموم شريحة واسعة من الناس راحوا ضحايا للعمليات الإرهابية، ونيران الجنود الأمريكيين التي تُفتح بشكل عشوائي بحجة الدفاع عن النفس تارة، والاشتباه تارة أخرى. يحاول علي أن يكون طبيعياً على رغم من الجروح والآلام النفسية التي تجتاحه ليل نهار والتي حوّلت حياته الى كابوس ثقيل. لقد تضاءلت حركته بسبب فقدان بصره، وبتر ذراعه اليسرى، الأمر الذي أفضى الى معضلات كثيرة تبدأ بصعوبة المشي وتنتهي بغسل الوجه، وترتيب الفراش، وتأدية بعض المهام الضرورية في حياته اليومية. وفي إنعطافة نوعية أخرى نقلتنا هبة الى عالم أختها الجديد في ظل الحرب وما أفرزته من مستجدات طارئة على الحياة العراقية الجديدة. فحينما انتقلت العائلة الى بغداد وجدت رنا فرصة عمل في صحيفة " بين النهرين " الأسبوعية، وخلال الأسبوع الأول من عملها تعرضت، مع الأسف الشديد، الى حادث دهس، فتوقفت عن العمل لمدة معينة لغرض العلاج، وإجراء عمليات تجميل لوجهها الذي تشوّه بعض الشيء. ثم تفاقمت مشكلتها حينما سمعت بنبأ فصلها من العمل، وهذا الإجراء اللاإنساني يعكس مدى إنحطاط القيم المهنية التي تعرَّض لها المجتمع العراقي في ظل الإحتلال. وعلى رغم من أن هذه الحادثة قد أثرّت عليها نفسياً إلا إنها ما تزال تبحث عن فرصة عمل جديدة. كما أن شقيقتها هبة كانت تبحث هي الأخرى عن فرصة من أجل تحسين وضعهم المعاشي، وبالفعل وجدت هبة فرصة عمل كمساعد مخرج في مسلسل تلفازي. وقد أفادت من هذه التجربة على رغم من بعض المنغصات. فأغلب الكادر الذي تعمل معه هم من الرجال، وهي تشكو من مضايقات البعض منهم، وخاصة أولئك الناس الذين يعتبرون أنفسهم نجوماً لامعين في سماء الفن العراقي. كما انتقدت بقوة تفكيرهم الساذج الذي يهيئ لهم تصوراً خاطئاً مفادة أن عمل أي فتاة مبتدئة وجديدة على هذا الوسط سيجعل من الحصول عليها أمراً سهلاً. وهي تتساءل بمرارة قائلة: " لماذا يفكر الرجل الشرقي بهذة الطريقة تجاه المرأة؟ ". كما تطرقت من خلال ابن خالتها الى خطورة مهنة المترجم مع القطعات الأمريكية لأن القوى الظلامية والإرهابية تعتبر المترجم متعاوناً مع المحتل، لذلك حللت قتله، وأباحت دمه! ثم ختمت موضوع الأزمات المتفاقمة بالقول إنها تفكر بعلي كثيراً، وتتخيل كيف ستكون حياته بعد خمس أو عشرات سنوات وهو كفيف البصر، مبيتور اليد!
مسك الختام
مثل صانع أمهر فكرت هبة في النهاية الموضوعية التي تتناسب مع المشكلات التي تعاطت معها على مدار الفيلم الذي استمر لمدة " 35 " دقيقة. وإرتأت أن تستشف الخاتمة من سياق الفيلم، وبعض مفاصله الأساسية. وفي هذه النهاية الكثير من الشد والتشويق. فعائلة هبة التي انتقلت الى بغداد لا يحق لها الإستفتاء على الدستور في أي مركز من مراكز الإقتراع في بغداد لأنهم حديثو الانتقال، وما تزال مستمسكاتهم الأصولية تابعة الى مدينة كركوك لذلك فوّضوا الأب أن يستفتي عنهم جميعاً في يوم 15 أكتوبر. وكانت العائلة برمتها تأمل أن يكون هذا اليوم نهاية للعمليات الإرهابية ولكل الأوضاع السيئة، وبداية جديدة لهذا الشعب الصابر المحتسب الذي تحمَّل ما لم يتحمله أي شعب آخر في هذه المعمورة. لقد كان التساؤل الأخير الذي ورد على لسان هبة هو خير نهاية لهذه السيرة الذاتية والجمعية في آن معاً حيث قالت لكل منْ تسنح له فرصة مشاهدة هذا الفيلم: " إذا استفتى العراقيون بهدوء وسلام، ونجح الدستور فهنِّئونا، وإذا حدث أي خلل في هذا الاستفتاء فإقرؤوا علينا الفاتحة! ".
لقد نجح الاستفتاء، وكُتب الدستور على رغم من بعض هنّاته، ولكن أشباح الظلام تحتاج منْ من يقطع دابر تجلياتها الدموية المقيتة في " دار السلام ".



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عادت - العذراء - و - الصرخة - المسروقة الى جدار متحف مونش
- كتابة على الأرض للمخرج الإيراني علي محمد قاسمي إدانة الإرهاب ...
- درس خارج المنهاج: أخبرنا عن حياتك - للمخرج الياباني كيسوكي س ...
- غونتر غراس يعترف. . ولكن بعد ستين عاماً
- كاسترو يتنحى عن السلطة مؤقتاً، وراؤول يدير الدكتاتورية بالوك ...
- رحيل القاص والكاتب المسرحي جليل القيسي . . . أحد أعمدة - جما ...
- برئ - ريهام إبراهيم يضئ المناطق المعتمة في حياة الراحل أحمد ...
- الروائية التركية بريهان ماكدن: المحكمة حرب أعصاب، وعذاب نفسي ...
- تبرئة الروائية التركية بريهان ماكدن من تهمة التأليب على رفض ...
- المخرج السينمائي طارق هاشم ل - الحوار المتمدن -: أعتبر النها ...
- (المخرج السينمائي طارق هاشم ل - الحوار المتمدن-: أريد فضاءً ...
- المخرج السينمائي طارق هاشم للحوار المتمدن :أحتاج الصدمة لكي ...
- المخرجة الإيرانية سبيدة فارسي: لا أؤمن كثيراً بالحدود التي ت ...
- بيان قمة الدول الثماني الكبرى يُنحي باللائمة على القوى المتط ...
- المخرج الإيراني محمد شيرواني للحوار المتمدن: السينما هي الذا ...
- كولم تويبن يفوز بجائزة إمباك الأدبية عن رواية المعلّم
- العدد الثالث من مجلة - سومر - والإحتفاء برائد التنوير التركم ...
- الفنان طلال عبد الرحمن قائد فرقة سومر الموسيقية: الغربيون يغ ...
- باسم العزاوي الفائز بالجائزة الذهبية يتحدث عن صناعة الصورة ا ...
- اليميني المحافظ فيليبي كالديرون، زعيم حزب الحركة الوطنية


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - في باكورة أفلامها الوثائقية - أيام بغدادية -: المخرجة هبة باسم تدوّن سيرة الذات الحالمة على هامش المدينة المضطربة