أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - المخرج السينمائي طارق هاشم للحوار المتمدن :أحتاج الصدمة لكي أنعش عقلي من جديد الجزء الأول















المزيد.....


المخرج السينمائي طارق هاشم للحوار المتمدن :أحتاج الصدمة لكي أنعش عقلي من جديد الجزء الأول


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1627 - 2006 / 7 / 30 - 11:54
المحور: الادب والفن
    


وُلد الفنان والمخرج السينمائي طارق هاشم في بغداد عام 1960. درس الإخراج السينمائي والمسرحي في معهد الفنون الجميلة متخصصاً في " التصوير، والمونتاج، والإخراج المسرحي، والتمثيل ". ونال دبلوماً فنياً في الإخراج المسرحي من المعهد ذاته عام 1981. وحينما تلقفته عجلة المنفى واصل دراسة تخصصه الأول " الإخراج المسرحي " في المعهد العالي للفنون المسرحية والسينمائية في بلغاريا علم 1986، ثم نال درجة الماجستير في التخصص ذاته ومن المعهد ذاته عام 1992. أنجز طارق هاشم منذ تخرجه وحتى الآن نحو إثني عشر فيلماً من الأفلام الروائية والتسجيلية، الطويلة والقصيرة، نذكر منها " كاظم عبد " ، " كربلاء " ، " نشيد الإنشاد "، " أنيوتا "، " يوم القدر"، " تحت سماء نوربغوكذ "، " بين النمل والناس "، " زينب" هذا إضافة إلى فيلمه التسجيلي ذائع الصيت " 16 ساعة في بغداد "، وقد حاز هذا الفيلم جائزة " الصقر الذهبي " في مهرجان الفيلم العربي الرابع في روتردام عام 2004. كما نال الفيلم ذاته جائزة ة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان بغداد السينمائي لعام 2005 حيث جاء في قرار لجنة التحكيم التقييم الآتي: " ( تميّز فيلم " 16 ساعة في بغداد " للمخرج العراقي طارق هاشم، المقيم في الدنمارك، بحسه التسجيلي الواقعي لحياة شرائح من مجتمع مدينة بغداد بعد الإحتلال، وكونه قد توسع في تتبع المفردات الحياتية للشخصيات في أوقات وأماكن عديدة من وجهة نظر المخرج العائد من منفاه .). كما عُرض هذا الفيلم في مهرجانات عديدة من بينها مهرجان الفلم العربي السابع في ( باريس ) ومهرجان جرش للأفلام الحائزة على تقدير خاص خلال 2004. وقد سبق لطارق هاشم أن شارك في العديد من المهرجانات العالمية بوصفه مخرجاً يمثل العراق حيناً، وبلغاريا والدنمارك في أحايين أخر. ومن أبرز مشاركاته في هذا المضمار تمثيله لبلغاريا في مهرجان ميونخ السينمائي العالمي في ألمانيا عام 1992، ومهرجان غوتنبرج السينمائي في السويد عام 1996. وفي مضمار التلفزيون ساهم في إنتاج أعمال تلفزيونية مشتركة مع التلفزيون الدنماركي ، القناة الأولى" DR1 " وقناة " Copenhagen – NTV ". حيث أنجز حتى الآن " 26 " فيلماً تلفازياً قصيراً بمُدد تتراوح من خمس إلى سبع دقائق، عالج فيها تجارب عدد من الفنانين العراقيين والأجانب في الدنمارك وبعض البلدان الأوروبية. وفي مجال تخصصه الثاني المسرح شارك في تمثيل وإخراج العديد من الأعمال المسرحية منذ عام 1978 وحتى الآن نذكر منها " قضية رقم 1000 "، " الأنشودة "، " تألق سعيد محاد ومصرعه "، " الحصار "، " ثورة الموتى "، " الأسلحة والأطفال "، " ذوبان الجليد "، " القبر . . وأفياء المدينة " وعمله الأخير " الضاحك الباكي " الذي اثار زوبعة من الإنتقادات الحادة بسبب جرأته الفكرية، وقد قُدِّم في " غاليري مالمو " في شهر فبراير 2006. كما إنتهى من كتابة سيناريو لفيلم روائي طويل من المؤمل أن ينجزه في الأشهر القادمة بعنوان ( كم بدت السماء قريبة ) المأخوذ عن رواية تحمل العنوان ذاته بالإشتراك مع كاتبة النص، الروائية العراقية بتول الخضيري. وفي أثناء تواجده في مهرجان روتردام الدولي إلتقتاه " موقع الحوار المتمدن "، وحاوره في أبعاد تجربته الفنية، وفيما يلي نص الحوار:
* المدخل الصعب
* تزخر تجربتك السينمائية بعدد من الأفلام المثيرة للإنتباه. وثمة عناصر غائبة دائماً، ويجب عليك أن تستحضرها، وتحفّز المتلقي على التفكير بها بقصد المشاركة في صناعة العمل الفني. وذات مرة قلت لي أن أستاذك طلب منك إنجاز فكرة فيلم عن جريمة قتل، ولكن ليس هناك أداة قتل أو جثة أو شاهد عيان! كيف جسّدت هذه الفكرة، وما هي الصعوبات التي واجهتك؟
- ذات مرة قلت لك أن مهمة الفنان هي البحث عن طريقة جديدة لمخاطبة العصر، فعندما تعيش أنت الآن في مشهد قد إعتدت عليه، وتريد أن تنقله إلى الشاشة الكبيرة فإن هذا المشهد سيكون واقعاً إفتراضياً، لأن هذا الواقع الجديد حتى إذا كانت فيه محلية له علاقة بالواقع الذي أنت تعيشه، وتحيا فيه، لكن يبقى المشهد الذي تنقله هو مشهدك أنت، لأنك أنت الذي ألّفته من جديد، مثلما أنت تكتب رواية وتحاكي فيها محليتك أو واقعك لكنها لا تشبه الواقع بكل تفاصيله، وللمناسبة لا يوجد شيء يدخل في الرواية بالمصادفة. فعندما تكتب جملة بتكثيف عالٍ بحيث تكون فيها قادراً على أن تخلق حبكة سردية للواقع الإفتراضي الذي تؤسسه من جديد. وفي كتابة النص الروائي إذا كانت الجملة ركيكة لأنها ممطوطة فالسبب يعود لكونها غير مدروسة بشكل جيد، أو لأن المفردة لم تأت في مكانها الصحيح ضمن الجملة الروائية. وهذا الأمر ينطبق على السينما أيضاً، فهذا الجنس الفني فيه لقطات ومشاهد وتكوينات يجب أن تكون مدروسة بعناية فائقة لأن المشهد، أو التكوين يعبّر عن رؤية جديدة للواقع على رغم من أنك تعيد صياغته وترتيبه من جديد. أنا أعتقد أن السينما هي فن بصري أولاً، وبدأت مرئية، وصامتة من دون حوار. صحيح أن الحوار هو مفردة من مفردات العمل الفني سواء أكان في المسرح أو في السينما، ومادمنا نتحدث عن السينما فالحوار هو مفردة من مفردات العمل، ولكنه ليس الأساس في العمل السينمائي. أنا أتذكر جملة لدافنشي قال فيها بما معناه " أن الفن هو شيء ذهني " وهذا يعني أن العمل الفني يبدأ من لحظة التأمل التي تقود الفنان لاحقاً إلى عمل إبداعي ما. عندما تكتب سيناريو أنت لا تكتب الكلام في البداية أو الحوار، وإنما تكتب الفكرة أو الإطار العام للفكرة التي تجمع العمل ككل، بعد ذلك تبني العمل والمفردة والجانب المعماري للعمل كتكوين أو كصورة، وأين تتحرك هذه الشخصية، وبأي فضاء، وفي أي مكان، وبعد ذلك تبدأ بدراسة الشخصيات، والبحث في عالمها الداخلي، وعلاقاتها الأخرى مع كل تفاصيل العمل الفني. في الأفلام الروائية القصيرة التي أنجزتها، كنت أسعى وبقصدية واضحة إلى أن يكون الحوار نادراً وغير موجود لأنني أعتقد أن العمل السينمائي سيكون سهلاً عندما تقدم الحكاية من خلال الحوار. أنا أستطيع أن أروي لك قصة، وأستطيع أن أوصلها من خلال المدخل الصعب، أي من دون حوار، وهذا يعني أن أدخل لها بشكل بصري، وهذا لا يعني أنها صامتة، ففي داخل هذا الصمت يوجد الحوار. في بعض الأفلام هناك حكايات متوازية داخل العمل فأسعى وبشكل قصدي ألا أستعمل الحوار حتى يصعب العمل، وهذا الأمر يحرضني على الخيال وعلى خلق شيء ليس جديداً، ولكن له علاقه بالجانب البصري. وهذا ما دفعني ربما في العمل الروائي الذي أنجزته مع الكاتبة بتول الخضيري على رغم من أنه روائي وهناك شخصيات تتحرك، ولكن الحوار جاء بتكثيف عالٍ، أي جاء الحوار في اللحظة المناسبة فقط، وما عداها فليس هناك حوار. أنا أرى العمل السينمائي مثل القصيدة. والهدف من كتابة القصيدة هو تكثيف الفكرة لأنها ليست مثل العمل الروائي أو القصصي الذي يتوفر على صور كثيرة تحاول أن تقدمها في بضعة جمل، وحتى هذه العملية فإنها تحتاج إلى خبرة. إن السعي للعمل السينمائي بهذه الأسلوبية جعلني أقترب كثيراً من الفن التشكيلي، لأن الفن التشكيلي يعتمد في أساسه على العنصر البصري. وكل المفردات الموجودة داخل العمل من منظور، وضوء، ولون، وحتى الكادر موجودة في الفن التشكيلي وفي السينما أيضاً، والذي يدرس الفن التشكيلي يجب أن يدرس المنظور والتناظر والأبعاد الثلاثة. الفن التشكيلي ليس فناً مسطحاً كما يتخيل البعض لأننا عندما نشاهده في لوحة مربعة نتصوره بعدين، ولكنه في الحقيقة يحتوي على ثلاثة أبعاد. أنا أعتقد شخصياً أن السينما جاءت من رحم الفن التشكيلي، وهذا الإستنتاج ليس إستنتاجي أنا، وإنما هو خلاصة لدراسات فنية عميقة. قبل أن أدرس السينما، درست الفن التشكيلي أولاً، وتعرفت إلى مراحل تطوره الفنية، وأنا لا أتحدث هنا عن الفن التشكيلي المعاصر لأن هذا الأمر خاضع للنقاش، وأقصد به العمل التجريدي الذي يعتمد على اللون، لأن الفنان التشكيلي التجريدي جاء وفتَّت العناصر أو المفردات الأساسية للفن التشكيلي، لأن الفن التشكيلي بدأ تصويرياً، أي بدأ بمكان، بعمارة ، بحدث، بشخصيات، أي يمكن القول إن هناك حدّوتة داخل الفن التشكيلي. هذا هو الأصل في الفن التشكيلي، ولكن عندما جاء الفنان التشكيلي المعاصر فتت هذه المفردات داخل العمل الفني، أما السينما فقد أعادت كل هذه المفردات من جديد إلى أصلها، فصار هناك سعي إلى تطوير هذه العناصر والمفردات وليس إضعافها. فعندما يشتغل الفنان في الجانب البصري هناك أيضاً عناصر مهمة داخل العمل الفني مثل الإنسان، أو أي كائن حي تريد أن تتعاطى معه، كما أن هناك عناصر أخرى مثل الموسيقى، اللون، الضوء، الكونتراست. . كل هذه العناصر مجتمعة هي التي تقدم الحدث بحيث لا تبقى الموسيقى هي مجرد خلفية أو باك راوند، وإنما تكون هذه الموسيقى التي تسمعها كأنك قد سمعتها منذ البداية حتى إذا بدأت من الوسط، وكأنك أنت الذي تكمل البداية للعمل الموسيقي. وأحياناً نشاهد أفلام ونسمع فيها مقطعاً موسيقياً ثم ينتهي المشهد، وبعدها نشاهد مشهداً آخر تبدأ فيه الموسيقى من نفس المكان الذي بدأت به، ومن خلال هذا التكرار الذي يحدث بهذه الطريقة تكتشف أن هذا العمل غير متقن، وأن صاحبه تنقصة الدراية والرؤية والتقنية أيضاً. وهذا الأمر يعتبر خارج الحدث، أما الموسيقى، واللون، وحركة الممثل، والعالم الداخلي للشخصية، وغيرها فكل الأمور هذه تنبني ضمن نسيج متقن وعالٍ ولا مجال فيه للخطأ أو التكرار، وبالتالي فهو يقدم نفسه إن كان لقطة، أو حدثاً، أو مشهداً، أو فصلاً من رواية، أو من فيلم. أنا أعتبر أن دراسة العمل السينمائي بهذا الشكل التفصيلي هو الذي يجعل من العمل برمته صورة تضم كل هذه المفردات التي أشرت إليها. وإذا إكتشفت في يوم الايام أن الحوار هو عنصر مهم جداً في عمل ما فسأعتمد عليه، وسأعطيه أهمية كبيرة، ولكن ليس أكثر أهمية من العناصر الأخرى التي تدعم كل مفردة أساسية على حدة.
* تحريض المخيّلة
* تميل إلى إنجاز أفلام قصيرة مُلغزة، فيها تحديات كبيرة للمخرج مثل فيلم " كاظم عبد " هل لك أن تتوقف عند هذا النمط من الأفلام التي تحرض المخيلة، وتستفز الذهن، وتجعل المتلقي مشاركاً في صنع الحدث؟
- طبعاً هذه تجربة خاصة وإستثنائية، فعندما كنت طالباً كان يدرّسني بروفيسور مشاكس، ومتمكن في فنه، ويتوفر على خبرة واسعة ومثيرة في آن معاً، كنت محظوظاً، ومستمتعاً، لأن هذا الأستاذ لا يعلمك الحرفة تعليماً مدرسياً، وإنما يعطيك مفاتيح العمل الفني، ويحرّض عندك عنصر الخيال. ذات مرّة طلب منا هذا الاستاذ أن ننجز فيلماً وثائقياً عن شخصية مألوفة نعرفها، ولكن يجب ألا نعّرفها! كأن نقول ماذا تعمل هذه الشخصية، وما هو مصيرها؟ وما إلى ذلك، وعليك أن تقدمها من خلال الصورة، ومن خلال مفرداتك التي تستعملها بحيث يستطيع المشاهد أن يتعرف على هذه الشخصية، وما هو أصلها، أو ماذا تعمل، وما هو مصيرها؟ أنا أشتغلت على لاعب كرة قَدم عراقي إسمه " كاظم عبد " وحتى عنوان الفيلم أعطيته إسم " كاظم عبد " ولكن هل يعرف المتلقي الأوروبي منْ هو " كاظم عبد "؟، بالطبع، كلا. وكان شرط الاستاذ الأساسي في هذا الفيلم هو إنعدام الحوار، كتلك الحوارات الموجودة في الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن شخصية ما نتعرف عليها من خلال سيرتها الذاتية أو منجزاتها الفنية أو الفكرية أو العلمية. لقد إخترت " كاظم عبد " وهو لاعب كرة قدم مشهور في العراق، غير أنه لاعب غير محظوظ بسبب الأوضاع السياسية في العراق، لذلك قرر الهروب من العراق، وفي المنفى أصبح مربياً للخنازيز، بينما أصبح ملعب الكرة القديم زريبة للخنازير، وهذه الزريبة هي ملعبه الجديد على الصعيد المجازي. وفي لحظة من لحظات إعداد هذا الفيلم سألته عن المشكلات الشخصية التي تواجهة، وما هي طبيعة معاناته في تربية الخنازير، وللخنزير صفات ودلالات كثيرة يمكن توظيفها والإفادة منها. فقال إذا هرب الخنزير من الزريبة فلا يستطيع أحد أن يرجعه إلى هذا المكان. وأضاف أنا منشغل يومياً بسلوكيات هذا الخنزير، لأنني أخشى مثلاً أن يعبر على مزرعة الجيران، ويدمرها بالكامل. ( المعروف عن الخنازير أنها حيوانات خبيثة بحق فإذا ما أرادت أن تدمر مزرعة بالكامل فإنها تقف صفاً واحداً، ثم تنطرح أرضاً، وتبدأ بالتدحرج من بداية المزرعة وحتى نهايتها إلى أن تصبح المزرعة أثراً بعد عين. ). إخترت هذه اللحظة، لأنني أردت أن أعيد يوماً من أيامه من خلال إشارة تحتاج إلى شيء من الإنتباه. لقد ربطت بين معلق رياضي يعلق على مباراة لكرة القدم وهو يستمع من خلال الراديو إلى التعليق الرياضي، بينما تتوزع صوره الرياضية الملصقة على جدران غرفته، تلك الصور التي يعتز بها لأن هذه اللعبة الرياضية هي التي تهيمن على حياته. لقد ربطت بين لاعب كرة قدم شاب، قوي، وحيوي، وبين هروب الخنزير، ولكن بطريقة فنية مثيرة، فصوت المعلّق الرياضي في المذياع يرتبط مع هروب الخنزير من جهة، وصوت المذياع يرتبط ثانية معه في مكانه الجديد وهو يحاول أن يعيد الخنزير الهارب إلى الزريبة، كما يذكّره صوت المعلق الرياضي بجمهوره السابق، بينما يتألف جمهوره الجديد من الحيوانات المؤلفة من ديكة ، ودجاج، وخراف، وماعز، وكلاب. هذه المقارنة وحدها لا تكفي، فلا بد من لعبة فنية تلفت الإنتباه إلى سياق العمل الفني المركّب. فعندما ينجح في إعادة الخنزير إلى الزريبة يصرخ المعلق الرياضي " كوووول " وكأنه حقق هدفاً جميلاً لا يمكن للمشاهدين أن ينسوه. ومن خلال هذه المفارقة لا بد أن يعرف المشاهد بأن الشخص الذي أتحدث عنه هو لاعب كرة قدم، وليس سائساً في الزريبة كما هو حاله الآن. هذه المفارقة فيها مرارة، ولكن فيها نوع من التحدي الذي أريد من خلاله أن أكشف شيئاً غائباً قد لا يخطر من البال من خلال التركيز على شيء آخر بعيد تماماً، لكن شبكة الدلالات الداخلية هي التي توصلك إلى اللغز إن صح التعبير. هذا البناء الدلالي المعقد هو الذي مرّنني منذ البداية على ألا أعتمد على السرد أوالتقريرية. المدقق لهذا العمل سيكتشف أن هذه التفاصيل التي إعتمدت عليها في الفيلم موجودة في الواقع، ولكن الجانب الفني يكمن في الصياغة، وطريقة عرض المشكلة بآلية بصرية مرهفة تضع العمل كله في إطار الدراما السينمائية المتواشجة مع فن الصورة. فمادة فيلم " كاظم عبد " مأخوذة من الواقع، وقد تحولت إلى واقع إبداعي مختلف، لكنها في الأصل واقعية، وقد حولتها اللعبة الفنية إلى عمل فني شديد الجمال. العمل الآخر الذي طلبه مني هذا البروفيسور أن أنجزه كان فيلماً قصيراً عن عملية إنتحار، ولكن من دون وجود ممثل ينتحر، ومن دون حوار. وقد فرض عليّ من خلال هذه الشروط التي تبدو تعجيزية أن أعرّف المشاهد بثلاثة أشياء أو ثلاثة معطيات. الأول: من هو المنتحر، وهل هو رجل أم امرأة؟ وما هي طريقة الإنتحار؟ وما هو سبب الإنتحار؟ وقد أتاح لنا البروفيسور أن نعتمد على عناصر الإنارة والضوء والمكان والديكور من دون حضور الممثل. وهنا تكمن الورطة الصعبة. ومع أنني لن أكشف عن حل هذا اللغز، إلا أنني أقول بأن التمارين الأولى على التفكير بهذا اللغز وحلّه قد أوصلتنا إلى مقترحات معقولة تكشف عن دلالات مقنعة بأن هذا الشخص قد مات منتحراً. إن الوصول إلى نتالئج محددة تأتي من خلال التفكير المتواصل، والتأمل الدقيق، والمشاهدة التي لا تنقطع، والخبرة المتراكمة، وتحريك الذهن والمخيلة. وهذه الخبرة لا تأتي بشكل عفوي، وإنما تحتاج إلى تراكم وإطلاع واسع على أنجازات فنية كثيرة سواء في الفن التشكيلي، أو الموسيقى، أو الرقص، أو المسرح، أو العلوم الإنسانية بما فيها الجانب النفسي والإجتماعي والسياسي وما إلى ذلك مقترنة بالتجربة الذاتية للفنان نفسه. ومن دون هذه التجربة الذاتية لا يستطيع الإنسان أن يقدّم شيئاً ذا بال. في عالمنا الشرقي يطلبون منك أشياء غير مستحيلة، هم يريدون منك عملاً سينمائياً فيه قصة وحوار، بينما المثقف الشرقي أو الغربي يريد منك فيلماً فيه هذا التحدي الذي أشرنا إليه آنفاً. في الشرق تستطيع أن تنجز المئات من الأفلام التي لا تنطوي على تعجيز وتحدٍ كبيرين، بينما العالم الغربي، وأنا أعيش بين ظهرانيه، يطالبك بالأشياء المستحيلة التي لا تنجز بين ليلة وضحاها. في الغزب هناك حوار يومي، وهناك جدل غير عقيم، وهناك بحوث متواصلة هي التي تدفعك لخلق شيء جديد دائماً أو لا مُفكر فيه. وفي أوروبا يوجد شيء أساسي ومهم نحن نفتقد أجزاء كثيرة في عالمنا العربي، وهو الروافد الكثيرة الفنية والفكرية والتقنية للعمل الفني، ومن بين هذه الروافد هي المكتبات، ويمكنك أن تصل إلى كل ما تحتاج إليه من معلومات ومصادر أنجزتها البشرية في هذه المكتبات " والتي أصبحت الكثير منها أليكترونية ". وهذه المصادر المعرفية تزوّد الباحث بما يحتاج إليه وتدفعه لأن يكتشف قوانين جديدة، وحتى لو كانت جذور بعض ههذه القوانين موجودة سابقاً، وما من شيء يأتي من فراغ، فإن عظمة البحث تكمن في عملية البحث نفسها، أي الحراك ضد الجمود أو الموت. نحن حتى الآن في العراق أو العديد من بلدان العالم الثالث لا نتوفر حتى على هذا الجانب المعرفي، وما هو متوفر عن طبيعة الإنجازات العالمية ناقص ولا يفي بعشر الغرض المطلوب. ولهذا فإن تجاربنا الفنية تبقى فردية وإستثنائية ولا تؤسس لتقاليد سينمائية، أو أسلوبية محددة. يعني عندما ترجع إلى الشرق تستطيع أن تقول بأن هذا مخرجاً سينمائياً، وربما يكون متأثراً بتجارب وأساليب سينمائية أخرى موجودة ومطروقة، ولكنه يظل جديداً على الواقع الشرقي. من هنا يمكنني القول ومن دون تردد بأن مؤسساتنا الحكومية لم تؤسس أية تقاليد سينمائية أو أساليب ورؤى خاصة في الشرق مع أنني أؤمن تماماً بأن بالسينما الإيرانية هي الإستثناء الوحيد في الشرق الأوسط على الأقل، لأنها حققت إنجازات كبيرة ومدهشة تستدعي البحث والدراسة والتقييم، ولهذا فهي تخترق كل المهرجانات ليس لأنه فيها بعد سياسي، وإنما لأنها أسست من محليتها موضوعاً يسترعي الإنتباه بصرياً ومضمونياً، وبالتجاور مع التجربة العالمية خلقت شيئاً ثالثاً فيه خصوصية يمكن أن نطلق عليها " التجربة الإيرانية ".
* إمبراطورية الحلم والاسرار
* هل أخترقت السينما الإيرانية العالم الأوروبي بسبب موضوعاتها المثيرة للجدل، أم بسبب وجود تقنيات عالية جداً بحيث نقول هذا مخرج سينمائي حقيقي يعتمد على الصورة؟
- أنا أرى العالم الإيراني هذا عالماً مليئاً بالأسرار، ومثلما لدي حلم أن أزور الصين أو اليابان، فلدي الحلم ذاته لأن أزور إيران أيضاً، فهي من وجهة نظري إمبراطورية كبيرة فيها حضارة خاصة، ولا أعني هنا إمبراطورية سياسية، بل إمبراطورية الحضارة والحلم والأسرار. وهذا التنوع العرقي والعنصري والديني هو سبب من أسباب الثراء الإيراني على رغم من وجود نظام حكم ثيوقراطي، وديني بإمتياز، ولكن ما نشاهده شيء مدهش في إيران على الصعيد السينمائي. أحياناً أقول في نفسي: هل هناك علاقة توفيقية بين النظام الجديد والمثقفين الإيرانيين؟ لأن المنجز السينمائي الذي يصل إلى العالم متطوراً ومتناقضاً مع أطاريح النظام الفكرية المتشددة، فلا بد من وجود نوع من التواطئ بين السلطة الدينية والقائمين على الإنتاج السينمائي، بل أنني أتمنى دائماً لو أن هذه العلاقة التوفيقية كانت أو ما تزال موجودة بين السلطة السياسية والسلطة الفنية إن صح التعبير. أنا من وجهة نظري الخاصة أرى أن إيران فيها تقاليد فنية وثقافية قديمة، وهي ليست من صنع الأنظمة الحالية، وإنما جاءت من خلال تراكم خبرة وتجربة وإنجازات طويلة حدثت قبل هذه المرحلة، وفي إيران توجد دولة على عكس العراق الذي غابت دولته في لمح البصر، فالدولة في إيران لم تُخرَّب كما هو حال العراق الذي خربت في كل البنى التحتية، وحرقت فيه أغلب مؤسسات الدولة، كما هو حال مؤسسة السينما والمسرح التي تلاشت من الوجود تماماً. وعلى الرغم من الفكر السائد في إيران، وهو فكر عنجهي أو متسلط، ولكن يبقى العقل قائماً، ولا يمكن تخريبه، لأنه بحسب ظني ما يزال مُصاناً ويتحرك بشكل صحي في مكانه الحقيقي. كما يلعب العامل الذاتي دوراً مهماً في شيوع التجربة السينمائية الإيرانية التي نتحدث عنها بإعجاب. فالفنان الإيراني في الداخل والخارج يسعى لأن يكون موجوداً في المهرجانات العالمية، ويبذل جهداً كبيراً في سبيل الحصول على موطئ قدم لافلامه على رغم من كل الصعوبات التي تواجه عمل الفنان السينمائي الإيراني بعامة. كما يتوجب عليَّ أن أفرّق بين التجربة الإيرانية والتجربة الهندية في مضمار الإنتاج السينمائي، على رغم من أن الأخيرة هي البلد الأكثر إنتاجاً للأفلام بعد هوليوود، إلا أن هذا لا يمنع من أن تكون نوعية السينما الإيرانية أكثر عمقاً وجمالية وحضوراً.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المخرجة الإيرانية سبيدة فارسي: لا أؤمن كثيراً بالحدود التي ت ...
- بيان قمة الدول الثماني الكبرى يُنحي باللائمة على القوى المتط ...
- المخرج الإيراني محمد شيرواني للحوار المتمدن: السينما هي الذا ...
- كولم تويبن يفوز بجائزة إمباك الأدبية عن رواية المعلّم
- العدد الثالث من مجلة - سومر - والإحتفاء برائد التنوير التركم ...
- الفنان طلال عبد الرحمن قائد فرقة سومر الموسيقية: الغربيون يغ ...
- باسم العزاوي الفائز بالجائزة الذهبية يتحدث عن صناعة الصورة ا ...
- اليميني المحافظ فيليبي كالديرون، زعيم حزب الحركة الوطنية
- الفنان العراقي كريم حسين يخرج من عزلته التي دامت عشر سنوات ف ...
- عازف العود المنفرد أحمد مختار: الموسيقى من وجهة نظري عنصر أس ...
- أسبوع الموسيقى العراقية في لندن
- ظلال الصمت لعبد الله المحيسن وإشكالية الريادة الزمنية: هيمنة ...
- أضرار لاحقة للمخرج المصري الألماني سمير نصر: العربي ليس حزام ...
- شريط- ماروك - لليلى مراكشي: تقنيات ناجحة، وأداء متميز، ونهاي ...
- في فيلمه الجديد انتقم ولكن من أجل عين واحدة المخرج الإسرائيل ...
- المخرج رشيد مشهراوي يبدد قسوة الإنتظار الثقيل بالكوميديا الس ...
- اختتام الدورة السادسة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام
- تجليات الأسلوب اليوغند ستيلي في - أصابع كاووش - التعبيرية
- عدد جديد من مجلة - عمّان - الثقافية
- إعتقال المفكر الإيراني المعروف رامين جهانبكلو وإتهامه بالتجس ...


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - المخرج السينمائي طارق هاشم للحوار المتمدن :أحتاج الصدمة لكي أنعش عقلي من جديد الجزء الأول