أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - في فيلمه الجديد انتقم ولكن من أجل عين واحدة المخرج الإسرائيلي آفي مغربي يشكك في الأساطير المؤسسة للتاريخ اليهودي















المزيد.....


في فيلمه الجديد انتقم ولكن من أجل عين واحدة المخرج الإسرائيلي آفي مغربي يشكك في الأساطير المؤسسة للتاريخ اليهودي


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1583 - 2006 / 6 / 16 - 11:51
المحور: الادب والفن
    


لا يمكن الحديث عن تجربة المخرج الإسرائيلي آفي مغربي من دون الإشارة إلى بعض المخرجين الإسرائيليين المناهضين لإحتلال الأراضي الفلسطينية " في الأقل في الضفة الغربية، وقطاع غزة " ويقفون ضد مبدأ عسكرة البلاد، وتحويلها إلى ثكنات عسكرية مليئة بالمتاريس، والحواجز، والجدران العازلة. ومن بين أبرز هؤلاء المخرجين نذكر آموس غيتاي الذي أنجز حتى الآن نحو أربعين فيلماً روائياً وتسجيلياً، طويلاً وقصيراً، وقد أثار فيلمه الأخيرة " منطقة حرة " سجالاً حاداً في الصحف الإسرائيلية. ومن بين أفلامه التي أثارت جدلاً واسعاً في إسرائيل نذكر " أناناس " و " مذكرات ميدانية " وثلاثية " ديفاريم، يوم يوم، كادوش " و " الأرض الموعودة ". أما المخرجة الإسرائيلية كيرين يادايا فإنها لا تناهض فكرة الإحتلال حسب، وإنما تقف ضد فكرة إستعباد المرأة، وترفض التعاون مع التلفزيون الإسرائيلي " لأنه يقدّم أفلاماً ترتدي زيّاً عسكرياً " بحسب توصيفها. وقد ناقشت في منجزها السينمائي بعمق قضية الدعارة في المجتمع الإسرائيلي، وترى أن مناخ عسكرة البلاد يفضي بالضرورة إلى مشكلات خطيرة من هذا النوع كما في فيلمها الأخير " كنزي " الذي إشترك في الدورة " 57 " لمهرجان " كان " ضمن أسبوع النقد السينمائي، وتنافس مع الفيلم الإسرائيلي " عطش " لتوفيق أبو وائل، وفاز بجائزة " الكاميرا الذهبية " التي أهدتها كيرين يادايا بدورها إلى الشعب الفلسطيني في أثناء تسلّمها هذه الجائزة المهمة، حيث قالت: " "أهدي جائزتي هذه إلى كل الناس في العالم الذين لم يتحرروا حتى الآن، والذين يعيشون في ظل العبودية. "، وهاجمت المخرجة في الوقت ذاته الجيش الإسرائيلي بالقول: " إنه يستعبد بمهانة ثلاثة ملايين فلسطيني". وعلى رغم من أن هذا الفيلم يصوّر معاناة الأمهات تجاه الإضطرار إلى " عبودية العهر " إلا أنها ترى هذه العبودية هي " صورة مصغرة لما يمارسه الجيش الإسرائيلي من استعباد تجاه الشعب الفلسطيني.". ومن أفلامها الأخر التي لا تخرج عن هذا المضمار " ألينور " و " لولو " و " ملابس داخلية ". أما المخرج، وناشط السلام الإسرائيلي آفي مغربي فقد ألقى حجراً كبيراً في بحيرة " الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية " وشكك في أسطورتين مهمتين بالنسبة لهم وهما أسطورة " شمشون ودليلة " و " قلعة مسادا "، إضافة إلى إنتقاداته الحادة إلى السياسية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقبل البدء بدراسه هذا الفيلم، وتحليله، ونقده من الناحيتين الفنية والفكرية، أود التوقف قليلاً عند السيرة الذاتية للمخرج آفي مغربي. ولد آفي مغربي في إسرائيل عام 1956. درس الفلسفة في جامعة تل أبيب عام 1979-1982، وبعدها إكتشف حاجته المُلحة لدراسة الفن، فدخل إلى المدرسة الفنية رامات هاشارون. ثم عمل بوظيفة مساعد أول مخرج في بعض الأفلام الروائية المحلية والأجنبية قبل أن يبدأ بمشواره الإخراجي. ومن بين المخرجين الذين عمل معهم، كلود لولوش، موشيه مزراحي، إيتان غرين، دانييل فاكسمان، رينين شور وشاهار سيغال. أما سيرته الفلمية فتتلخص بالآتي: " ترحيل، 1989، إعادة إعمار، 1994، كيف تعلّمت أن أتغلّب على خوفي وأحب أريك شارون، 1997، عيد ميلاد سعيد ياسيد مغربي، 1999، إغاثة، 1999، لحظة قبل الإنفجار، 2002،، تفصيل،2004، إنتقم ولكن من أجل عين واحدة فقط، 2005." إشترك فيلم " إنتقم ولكن من أجل عين واحدة فقط " في العديد من المهرجانات من بينها " كان " و روتردام الدولي. وقد لاقى صدى طيباً لدى المشاهدين في كل مكان، غير أنه تعرض إلى إنتقادات شديدة داخل إسرائيل، ولم يرضَ عنه الإسرائيليون تماماً. كان مغربي، ولا يزال، يضع ثقته في أهمية الحوار بين الإسرائيليين الذين يمتلكون القوة والذخيرة، وبين الفلسطينيين المحاصرين الذي لا يمتلكون سوى الصبر والجلد والإرادة. ولكي يعزز آفي مغربي حواره ويقوّي جدله الفكري القائم على المعرفة، والمعلومة التاريخية الصحيحة، وغير المفبركة، فقد تناول المخرج أسطورتين هما أسطورة " شمشون ودليلة " و " قلعة مسادا " التي رسخّت في أذهان الإسرائيليين منذ وقت مبكر بأن الموت أفضل من الإستسلام.
شمشون أول إنتحاري في التاريخ
يناقش هذا الفيلم قضايا متعددة جديرة بالإهتمام، بعضها قضايا راهنة مثل العيش في ظل الإحتلال، وما يتعرض له الفلسطينيون من ذل وإهانة متواصلين يومياً على أيدي الجنود والإسرائيليين، ومنها قضايا تاريخية تتعلق بالأساطير المؤسسة للتاريخ اليهودي برمته. ولأن مسألة المضايقات والإهانات والإنتظار ساعات طوالاً عند الحواجز، ونقاط التفتيش، والجدران الفاصلة قد باتت مألوفة لأي مشاهد في العالم يمتلك الرغبة في متابعة الأخبار والريبورتاجات الإعلامية عبر القنوات الفضائية والأرضية، لذلك سأركز في هذه الدراسة النقدية على البعد الفكري لهاتين الأسطورتين، وما تنطويان عليه من تحريف واضح، وتشويه متعمد لا يفلت من عين القارئ الحصيف الذي يستطيع أن يضع الأمور في نصابها الصحيح. وقبل البدء بتسليط الضوء على البعد التاريخي لهذه الأسطورة لا بد من الإعتراف بأنني قد تساءلت غير مرة إن كانت العمليات الإنتحارية مقتصرة على المسلمين فقط، أم أن الأديان الأخر ليست بعيدة عن هذا الضرب من أسلوب مقاومة المحتل؟ وإذا كانت بقية الأديان السماوية قد عرفت هذا النوع من المقاومة التي تنطوي على إيذاء فظيع بالنفس البشرية بحيث تتبخر أشلاء المُنتحر في الحال، فإن هذا النمط من الإنتحار " الإسلامي " قد أصبح " ظاهرة " واضحة للعيان تستدعي الدراسة والتحليل والوصول إلى نتائج علمية تريح الأنفس والضمائر في كل مكان. فالبلدان ذات الأغلبية المسيحية أو اليهودية لم تشهد على مر التاريخ إلا حوادث متفرقة يمكن إحصاءها من دون عناء كبير، بينما خرج الإنتحار الإسلامي من إمكانية السيطرة على جدولته أو إحصائه إلا بعد بذل جهد جهيد. لنعد الآن إلى أسطورة " شمشون ودليلة " التي تروّجها دائرة المعارف اليهودية، ومفادها أن ملاكاً زار زوجة القاضي مانوح زورا، التي كانت عاقراً، ولم تنجب بعد سنوات طوالاً من الزواج، وبشرّها بغلام سيكون له شأن عظيم إن هي نذرته إلى الرب، وإلتزمت بسر واحد تحفظه، ولا تشيعه بين الأنام. عندما سمعت الملاك وهو يتحدث في طيفه الليلي أحجمت عن شرب النبيذ، وإمتنعت عن تناول المأكولات غير الطاهرة كي لا تندس هذا الجنين الذي يحمل سراً من أسرار الله. ويكمن هذا السر الذي أشرنا إليه في شعره، إذ إشترط الملاك على أمه ألا تحلق شعر رأسه مدى الحياة مهما كانت الأسباب والذرائع، وإلا فإنه سيفقد قوته، ويصبح كائناً مثل الآخرين لا يختلف عنهم بشيء. وبحسب دائرة المعارف اليهودية فإن دليلة هي زوجة شمشون، وقد كانت تواقة لمعرفة سر قوته، وحينما أخبرها ذات يوم، وعرفت هذا السر الدفين، أقدمت على قص جدائلة السبع وهو غارق في النوم، وحينما أفاق وجد نفسه كالآخرين لا يختلف عنهم بشيء، إذ فقد سر قوته التي أصبحت أثراً بعد عين، وحينما ألّبت دليلة الفلسطينيين عليه أسروه وأذاقوه مر العذاب لدرجة أنه فقد فيها بصره، ولم يعد يرى شيئاً. وبينما كان شمشون منهمكاً في خدمة أعدائه الفلسطينيين نما شعر وطال، فإسترد قوته العظيمة من دون أن ينتبه إليه أعداؤه. وذات يوم كان الفلسطينيون يحتلفون بعيد الإله " داجوان " في أكبر المعابد الموجودة آنذاك، إستفسر شمشون عن مكان العمود الرئيسي الذي يقوم عليه المعبد، وحينما وصل إليه دفعه بيديه القوتين فإنهار المعبد برمته على منْ فيه، ودفن تحت أنقاضه ثلاثة آلاف فلسطيني، ليسجل لليهود قصب السبق في أول عمل إنتحاري يفتك بهذا العدد المهول من البشر. والغريب أن دائرة المعارف اليهودية تصر على تسميه شمشون بالبطل القومي، وتنعته بالبسالة والإخلاص، وتعتبرة رمزاً للتضحية بالذات على رغم الثلاثة آلاف فلسطيني الذين لاقوا حتفهم من دون ذنب يُذكر! الأمر الذي يتيح للمدافعين عن العمليات الإنتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين بأن يصفوهم في الأقل بأنهم أيضاً رموز كبيرة للتضحية بالذات طالما أن نتيجة الموت واحدة، سواء الدفن تحت الأنقاض أو التشظي بسيارة مفخخة. والمشكلة أن هذه الأسطورة قد أخذت طريقها إلى الأداب والفنون العالمية، فلقد كتب عنها الشاعر الإنكليزي المعروف جون ملتون قصيدة أسماها " عذابات شمشون " وإعتبره رمزاً للوفاء والإخلاص والتضحية بالنفس. كما حرّضت الأسطورة ذاتها الفنان تشارلز كاميل ليؤلف أوبرا جميلة تحمل عنوان " شمشون ودليلة ". كما إستثمرها الفنان الشهير بيتر بول روبنز في عمله الشهير " شمشون ودليلة "، كما رسم الفنان الهولندي رمبرانت جانباً من القصة تحت عنوان " فقدان بصر شمشون ". وفي عام 1949 يتذكر البعض الفيلم الشهير الذي يحمل إسم " شمشون ودليلة " للمخرج الأمريكي الشهير سيسل. ب دومايل الذي أسند دور دليلة إلى الممثلة هيدي لامار، صاحبة أجمل وجه أنثوي مرّ على الشاشة العالمية. وتسربت هذه الأسطورة عبر الإسرائيليات إلى الذاكرة العربية التي تمجد البطل القومي الذي يعيش من أجل شعبه، وينتصر لقيمهم وتقاليدهم وأعرافهم التي توارثوها خلفاً عن سلف. من هنا، فلا غرابة أن يؤسس شارون تشكيلاً عسكرياً جديداً في الجيش الإسرائيلي ويطلق عليه إسم " شمشون " ليمارس العنف الدموي بأقصى أشكاله البربرية ضد الفلسطينيين، في صياغة جديدة تحمل الدلالات والأهداف ذاتها للأسطورة التوراتية القديمة. نخلص إلى القول بأن هذه الأسطورة التي ذاع صيتها بين الناس في مختلف أرجاء العالم إنما هي تمجّد فلسفة الإنتقام بأقسى أشكالها، وقد جاءت هنا بالصيغة المشهورة التي تقول " عليَّ وعلى أعدائي " أو " إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر " فلا أدري كيف يمجد بعض اليهود قاتلاً مع سبق الترصد والإصرار، خصوصاً وأن الجريمة ليست فردية وإنما جماعية يصل عدد ضحاياها إلى ثلاثة ألاف ضحية.
قلعة مسادا، الحلقة المفقودة في التاريخ اليهودي
تقع " قلعة مسادا " على قمة جبل صخري في النهاية الغربية لصحراء يهوذا المطلة على البحر الميت. كما تتميز هذه القلعة بحصانة طبيعية، فقمة هذا الجبل الذي تشغله القلعة حادة الجوانب، ومعزولة عن المناطق المحيطة بها بوديان عميقة، كما أن المقتربات الطبيعية إلى المؤدية إلى القلعة وعرة، ومعقدة جداً، وأن المصير الذي ينتظر الأعداء الذين يستهدفون الوصول إليها هو الموت الأكيد. وطبقاً للمعلومات التي أوردها المؤرخ جوزيفوس فلافيوس فأن الملك هيرود العظيم هو الذي بنى هذه القلعة بين سنتي 37 و 31 قبل الميلاد، ويعتقد بعض من المؤرخين أنها بُنيت قبل هذا التاريخ. وبعد 75 سنة من وفاة هيرود إندلعت ثورة اليهود ضد الرومان، أي في عام 66 بعد الميلاد على وجه التحديد، حيث سيطر المتمردون اليهود على قلعة مسادا بعد سقوط أورشليم وتهديم المعبد فيها. وقد إلتحقت عوائل المتمردين بالقلعة الحصينة، ولكي لا نذهب بعيداً في ذكر التفاصيل، فقد ضربت الجيوش الرومانية حصاراً مميتاً على هذه القلعة، ولم يستطع أحد الهروب منها. كان عدد اليهود المتطرفين، أو المتحمسين لعقيدتهم " 960 " مقاتلاً بينهم نساء وأطفال. وكان يقودهم أليعازر بن ياعير الذي ألقى خطبته الحماسية الشهيرة التي كان يحث من خلالها الجنود المتطرفين على الموت الجماعي بدل الإستسلام والسقوط في مهانة الأسر. وبعد سنتين من الحصار تمكنت الوحدات الرومانية من دك جدران القلعة. وحسبما ذكره المؤرخ جوزيفوس فلافيوس الذي نجى من الموت، وروت له إمرأتان وخمسة من الأطفال الناجين أيضاً بأن المتمردين اليهود قرروا إضرام النار في جدران القلعة، والإقدام على الإنتحار الجماعي كي لا يقعوا أسرى بيد القطعات الرومانية المهاجمة. وبعد خطبة أليعاز بن ياعير الحماسية التي قال في مطلعها " لا نكون أبداً خدماً للرومان، ولا لأي أحد غيرهم سوى الله نفسه، فهو الحق والعدل، وهو رب البشرية جمعاء. " وبحسب شهود العيان فإن الرجال قتلوا زوجاتهم وأبنائهم، ثم قتلوا بعضهم البعض، حتى وصل الأمر إلى آخر شخص يهودي فقتل نفسه قبل إجتياح القلعة بالكامل. إن أسلوب كتابة هذه الأسطورة، وطريقة ترويجها بين اليهود على وجه التحديد تُسهم في ترسيخ ذهنية التعنّت، ونبذ الحوار، ورؤية العالم من خلال نظّارة واحدة. ولهذا فقد أصرّ المخرج وناشط السلام، آفي مغربي على طرح وجهة النظر المقابلة التي تفنّد هذه الآراء التعسفية التي ترى في المتمردين أبطالاً قوميين، ورمزاً للبسالة والصمود والتحدي في حين أن آفي مغربي كان يرى فيهم العكس تماماً، إذ قال في واحد من تعليقاته على هذه الأسطورة " كان علينا أن نعلم أن قيمة الحرية أهم من قيمة الحياة، وحين قرأت " حرب اليهود " للمؤرخ جوزيفوس فلافيوس إكتشفت أنه أسبغ على من كانوا في نظرنا أبطالاً، أوصاف القتلة واللصوص والقوميين المتطرفين غير الجديرين بإحترامنا". لا شك في أن آفي مغربي يشكك في بطولات شمشون، وينتقد بقوة عملية الإنتحار الجماعي التي أقدم عليها متطرفو مسادا، حيث يقول: " لست على يقين بأن المدرِّسين الذين يدرسون للأطفال والمراهقين تاريخ قلعة مسادا يعرفون القصة الحقيقية تماما ". لذلك فإن فيلمه قد أُنجز خصيصاً لتوعية الشعب الإسرائيلي الذي ينتمي إليه. فـ " إسرائيل دولة ديمقراطية رائعة، لكن للإسرائيليين حصراً وليس للفلسطينيين". أراد آفي مغربي من خلال الفيلم أن يعقد مقارنة دقيقة بين اليهود الذين كانوا يعيشون في ظل الإحتلال الروماني، وقد وصل الأمر بهم إلى القبول بفكرة الموت الجماعي، وبين الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل الإحتلال الإسرائيلي ويقومون بالعمليات الإنتحارية حينما تُغلق بوجوههم كل المنافذ والطرق. الحكومة الإسرائيلية لا تعترف بهذه القصة، وتعتبرها من نسج الخيال، لأنها لا تريد أن تقبل بفكرة الإنتحار الجماعي، وأن اليهود قد مارسوا قبل المسلمين، الأمر الذي يضعهم في إحراج هم غنى عنه تماماً. وهنا ربّ سائل يتساءل عن أسباب إهمال التوراة لهذه الواقعة، وبالتالي غيابها عن ذاكرة اليهود طوال قرون من الزمان، ولعل الإجابة المقنعة هي أن الديانة اليهودية تحرّم الإنتحار في أعرافها وتقاليدها وقيمها الفكرية فكيف يستطيع التلمود أن يقنع الناس بالأسباب التي دفعت بـ " 960 " متطرفاً إلى الموافقة على الإنتحار الجماعي الذي تحرّمه الديانة اليهودية. ومن جهة أخرى فإن الحاخام يوخنان بن زاكيا هو نفسه قد هرب سرّاً من أورشليم لكي ينجو من القتل، أي من أولئك المتطرفين اليهود الذين يفضلون الموت على الهزيمة أو الإستسلام، في حين أن بعض الحاخامات كانوا يفكرون تفكيراً منطقياً في إمكانية إعادة بناء الدولة اليهودية، وإحياء التوراة من جديد حتى من دون وجود المعبد أو الدولة الرسمية نفسها، ولهذا فإن رجال الدين لم يمجدوا الإنتحار الجماعي. ظلت قصة " قلعة مسادا " أشبة بالحلقة المفقودة في التاريخ اليهودي لمدة خمسة عشر قرناً، ولم يتداول الناس الحكاية التي دوّنها جوزيفوس إلى أن جاء الكاتب اليهودي إسحق لامدان وكتب في عام 1920 نصاً شعرياً يجسد معاناة اليهود المعذبين الذين يقاتلون عالماً مليئاً بالأعداء. ووفقاً لما يذكره البروفيسور ديفيد روسكيز فإن قصيدة لامدان هي التي ألهمت أكثر من اي نص آخر إنتفاضة "غيتو وارشو". ثم بدأ الإسرائيليون يركزون على هذه الحلقة الضائعة من تاريخهم اليهودي، معززين هذا التأكيد بالمكتشفات الاثرية لعالم الآثار ياخائيل يادين الذي وجد عام 1969 " 25 " هيكلاً عظمياً لرجال ونساء وأطفال مدفونين بكامل زيهم العسكري، إضافة إلى مكتشفات عمرانية أخر تتعلق بقلعة مسادا نفسها. يعتقد آفي مغربي بأن المعنيين في إسرائيل لم يقرؤوا كتاب جوزيفوس جيداً، ولم يتمعنوا فيه، لكن خبراء التاريخ والميثيولوجيا الإسرائيلية إضطروا لإحياء هذه الأسطورة من جديد عندما غزا رومل بجيوشه الجرارة شمال أفريقيا، الأمر الذي اثار مخاوف اليهود في فلسطين من وصول الألمان، لذلك بدؤوا بصياغة حكاية قلعة مسادا من جديد لرفع معنويات اليهود. ويؤكد مغربي بأن هذه الآراء والأفكار التي وردت في الفيلم تعبّر عن وجهة نظره الشخصية، ولا تعكس بالضرورة ما يفكر به القادة والمسؤولون اليهود.
لو عدنا إلى بعض من لقطات الفيلم ومشاهده لوجدناها تنحصر في ثيمات محددة أولها الحوار المطول عن" ثقافة الموت في الإسلام" والذي يدور بين المخرج آفي مغربي وصديق فلسطيني نسمع صوته، ولا نراه، الأمر الذي يخرجنا من دائرة التخصيص إلى التعميم، وهذا ما خدم الفيلم بعامة لأن آفي مغربي أخرج هذه الآراء من إطارها الذاتي إلى الموضوعي، وأكد لنا بالدليل الدامغ بأن الانتحار موجود في الثقافة اليهودية أيضاً." وأسطورة " مسادا " هي خير دليل لما نذهب إليه. هناك عشرات اللقطات والمشاهد الطوال التي تعكس حجم الذعر الذي يعيشه المواطن الفلسطيني سواء خلال عمليات التفتيش التي ينفذها الجيش الإسرائيلي، أو في أثناء عمليات الدهم للمنازل والمزارع، أو المضايقات الشديدة عند نقاط العبور، ومنع الأطفال من الذهاب إلى مدارسهم. ويمكن الإستشفاف من تذمّر سيدة طاعنة في السن حجم معاناة الفلسطينيين بعامة، إذ لا تتورع هذه السيدة العجوز التي ظلت تنتظر ست ساعات متتالية عند نقطة حدودية من القول بأن " الموت أفضل من هذه الحياة " وهذا يعني أنها لم تعد تطيق هذا النمط من المضايقات القاسية والمُذلة للكرامة الإنسانية والتي رصدت أغلبها كاميرا هذا المخرج الشجاع الذي كان يتحدى الجنود الإسرائيليين ويتهمهم علانية بأنهم " يهرفون بما لا يعرفون " ويتخذون قرارات شخصية ظالمة من دون العودة إلى المرجعيات العليا التي يفترض أن تتعامل مع الناس بالحسنى، وأن تحترم إنسانيتهم في الأقل. لقد بذل هذا المخرج الشجاع جهوداً مضنية في تصوير أحداث هذا الفيلم الذي إستغرق مائة يوم من التصوير في الأراضي الفلسطينية حيث قال: " رأيت كيف أنه لا توجد قوانين ولا قواعد لفتح وإغلاق البوابات، أو جعل الناس يمرون... الأمر مرهون بمزاج الجندي". وقد توصل المخرج في نهاية المطاف إلى أن الطلبة الإسرائيليين يتعرضون إلى عمليات غسيل دماغ مروّعة بحيث تدعهم يؤمنون فعلاً بأن الموت أو الإنتحار الجماعي هو أفضل من الإستسلام والخضوع للمُحتلين. وقد عُرض هذا الفيلم في بلجيكا، وإيطاليا، وسويسرا، وكندا، ولاقى أصداءً طيبة. كما نال جائزة " منظمة العفو الدولية " التي يمنحها مهرجان روتردام الدولي للأفلام الوثائقية الطويلة التي تناصر حقوق الإنسان في كل مكان من هذا العالم، ولكن بإعتراف المخرج نفسه فإن هذا الفيلم لم يرَه غير جمهور ضئيل من الإسرائيليين لأنه يفنّد أساطيرهم المؤسسة للتاريخ اليهودي.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المخرج رشيد مشهراوي يبدد قسوة الإنتظار الثقيل بالكوميديا الس ...
- اختتام الدورة السادسة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام
- تجليات الأسلوب اليوغند ستيلي في - أصابع كاووش - التعبيرية
- عدد جديد من مجلة - عمّان - الثقافية
- إعتقال المفكر الإيراني المعروف رامين جهانبكلو وإتهامه بالتجس ...
- مهرجان الفيلم العربي في روتردام يحتفي بربيعه السادس
- بنية الإنسان المكبوت في مسرحية - الصفعة - لإيخون فان إنكْ: ا ...
- إستذكارات - كاميران رؤوف: تتأرجح بين الأداء الكاريزماتي وتأج ...
- مُلوِّن في زمن الحرب لكاظم صالح ينتزع جائزة الجزيرة الخاصة: ...
- في شريط - قطع غيار - لجمال أمين: كائنات معطوبة، فقدت الأمل ب ...
- وفاة الكاتب الهولندي المثير للجدل خيرارد ريفه: موضوعاته المف ...
- الفيلم التسجيلي - السجين رقم 345 - والإنتهاكات المروّعة لحقو ...
- راشيل كوري.. ضمير امريكي ليحيي بركات: شريط تسجيلي يوثق لسياس ...
- مهرجان الجزيرة الدولي الثاني للإنتاج التلفزيوني يعلن عن: ولا ...
- إختتام الدورة الثانية لمهرجان الجزيرة الدولي للإنتاج التلفزي ...
- المخرج الأردني محمود المسّاد: تجربة التمثيل مهمة بالنسبة لي، ...
- في الدورة الثانية لمهرجان الجزيرة للإنتاج التلفزيوني
- مجلة المصير في عددها المزدوج الجديد: ملف خاص عن مهرجان روترد ...
- الأبعاد الرمزية وترحيل الدلالة في فيلم - أحلام - لمحمد الدرا ...
- عدد جديد من مجلة - الألوان الكونية - المتخصصة في الفن التشكي ...


المزيد.....




- نيكول كيدمان تصبح أول أسترالية تُمنح جائزة -إنجاز الحياة- من ...
- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - في فيلمه الجديد انتقم ولكن من أجل عين واحدة المخرج الإسرائيلي آفي مغربي يشكك في الأساطير المؤسسة للتاريخ اليهودي