أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامى لبيب - الحياة لاتحتاج لإله فالطبيعة العشوائية تُفسر















المزيد.....


الحياة لاتحتاج لإله فالطبيعة العشوائية تُفسر


سامى لبيب

الحوار المتمدن-العدد: 6600 - 2020 / 6 / 23 - 21:08
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


- الحياة لا تحتاج لإله فالطبيعة العشوائية تفسر - جزء أول .
- نحو فهم الحياة والوجود والإنسان (100) .

- هذا المقال يأتى ضمن مجموعة من المقالات سأنشرها فى سلسلة "نحو فهم الوجود والحياة والإنسان" تتناول فكرة أن الحياة والطبيعة لا تحتاج لوجود إله فالطبيعة المادية العشوائية تكفى للتفسير .

- أستهل هذه المقالات بمواجهة أكبر وهم راود البشرية منذ القدم وحتى الآن , عندما يُعزى الغموض والألغاز فى الحياة والطبيعة بوجود إله خلق وصنع وصمم هذا , فالإيمان بوجود إله جاء دوماً من الجهل والعجز عن تفسير الحياة والوجود من غموض كظاهرة الشروق والغروب وسقوط الأمطار إلى ألغاز تكون المادة الحية .

- أنا عاشق للتأمل فى جمال وأسرار وألغاز وغموض الطبيعة لأجمع فى مكتبتى الفيديوية مئات الأفلام الوثائقية التى تتحدث عن طبيعة الكائنات الحية وتنوعها وطبيعتها وحيلها فى التغذية والإفتراس والتخفى والتأقلم والتكيف والتكاثر والبقاء , لتزداد حيرتى بسؤال كيف تتم هذه الأمور على هذا النحو ؟! ولكنى لا أريد الإستسلام لحلول ورؤى متهافتة لا تقدم شيئا سوى تخدير العقل وقتل السؤال والبحث , ليكون موقفى فكرى فلسفى , فليس معنى أننا عاجزين وجهلة فلنا أن نَزعم ونُقدم ونُصدر أى إجابة بدون دليل , أضف لذلك أهمية منطق إثبات أن هذا السَبب جاء من ذاك المُسبب , كما أن الطبيعة مادية أى أن الإجابة فى محتواها المادى بدون إضافات أشياء ليست منها , وهذا ما أثبته تاريخ العلم وإنجازاته عندما قدم تفسير مادى للأشياء وظواهر كنا ننسبها لآلهة .

- نظرية التطور لتشارلز داروين قدمت لنا تفسير لتنوع الكائنات الحية وأصلها المشترك لأرى أن داروين قدم لنا فكرة عامة وخطوط عريضة ليؤصلها مئات العلماء بعد ذلك بإكتشافاتهم العظيمة للحفريات والمستحدثات , ثم يأتى علماء بإكتشاف سر الحياة المتمثل فى الجينات ليصير التطور حقيقة واقعة مفهومة وليس مجرد رؤية .

- نظرية التطور واجهت هجوم ورفض وحروب عبثية من السادة الدينيين , فهم يرونها تحدى ونفى الإله بفكرة الأصل المشترك للكائنات الحية بينما إيمانهم يعلن عن القدرة الإلهية فى الخلق المستقل .
فى الحقيقة إن الغوص فى موضوع التطور والإنتخاب الطبيعى سيطرح إشكالية أكثر ضخامة من قصة الخلق المستقل , فكما سنرى لن نكون بحاجة لفكرة الإله , فالحياة فى تطورها وحراكها وطفراتها لا تحتاج لإله صانع ولا مصمم كما يتوهمون , فالحياة تسير بشكل عفوي طبيعى عشوائى بلا خطة ولا تصميم ولا تنظيم ولا غاية .

- بالرغم من شيوع نظرية التطور وإعتمادها من كافة المؤسسات والأكاديميات العلمية , وبالرغم من ثبوت حقيقتها ووجود آلاف الشواهد على صحتها إلا أننى كنت متحفظ على بعض الكلمات الشائعة كالإنتخاب الطبيعى والتكيف والتأقلم والصراع من أجل البقاء والبقاء للأقوى !

- الإنتخاب الطبيعى يُعتبر حجر الزاوية فى نظرية التطور لداروين ولكن هذه الجملة لمن لم يفهم فلسفة التطور أن الطبيعة تختار وتنتخب الأصلح للبقاء وهذا يعنى أننا أمام وعيّ وغاية للطبيعة تختار وتنتخب على أساسه !

- كذلك مقولة تكيف وتأقلم الكائنات مع الطبيعة فهذا يعنى وعيّ الكائنات الحية بالمستجدات وإمتلاكها الإرادة والقوة على تغيير ذاتها , وهذا يستحيل أن يحدث كون الطبيعة والكائنات الحية ليست عاقلة وليست صاحبة فكر وإرادة وغاية وخطة , لأعتبر تلك المقولات خاطئة ولكن يشفع لها أن هذه هى طبيعة اللغة وليسقط الإنسان ذاتيته على الأشياء أو قل هى طريقة تعبيرنا لفهم الأشياء وتبسيطها لنلجأ إلى إستخدام معانى وفكر إنسانى كقولنا عن وظيفة الأشياء مثلاً فلا يوجد فى الواقع العلمي شئ إسمه الوظيفة .

- كذلك لى تحفظ على مقولة الصراع من أجل البقاء , فالمفهوم الشائع هو إحتدام التناحر والقتال بين الكائنات من أجل البقاء , بينما التفسير العلمى يفسر الصراع من أجل البقاء كما سيأتى شرحه لاحقاً فى وجود خصائص للكائن الحي تختلف عن غيره تعينه على البقاء والتكاثر .

- فهمت الإنتخاب الطبيعى كوجود كائنات ذات مواصفات وخصائص محددة توافقت مع الطبيعة المحيطة لذا أمكن لها البقاء , كذا وجود كائنات لم تستطع العيش بخصائصها ومواصفاتها مع البيئة المحيطة فإنقرضت وماتت وإندثرت , وهذا هو المقصود بالإنتخاب الطبيعى , فمن يتوافق مع ظروف الطبيعة سيعيش ويتغذى ويتكاثر , فالطبيعة هنا لا تختار ولا تنتخب وليست منحازه لأحد ولا رافضة لأحد كونها غير عاقلة ولاصاحبة وعى ولا غاية ولا خطة لتتولد فى داخلى مشكلة تبحث عن حل لم يقدمه داروين عن ما الذى دفع الكائنات الحية لحالة التغيير والتطور ؟!

- رؤيتى وفهمى وأسئلتى جاءت متوافقة مع العقل والمنطق والعلم مؤكداً لنظرتى وفلسفتى بأن المعنى والغاية والتخطيط هى مفاهيم إنسانية حصرية ولا وجود لخطط وترتيبات ونظام خارج الإنسان بل الإنسان ذاته خاضع لحتمية الطبيعة , لتبقى مقولة التكيف والتأقلم معضلة فى ذهنى , فهل الكائنات توقفت أمام مشكلة تواجهها لتقرر من أن تُغير من ذاتها وتتكيف وتعقد العزم على التغيير ؟! فهنا نحن أمام إشكالية القدرة والغاية والخطة والترتيب بينما الكائنات الحية تفتقد لهذا .. فعلى سبيل المثال حياة الفئران فى البرارى والصحارى , فالفأر الأبيض الذى يعيش على تربة غامقة سيكون فريسة سهلة للنسور والجوارح , كذلك الفأر ذو الجلد الداكن الذى يعيش فى الصحارى سيكون فريسة سهلة للجوارح بحكم تميز لونه وسهولة إكتشافه , فهل قرر الفأر أن ينجب فئران غامقة اللون لتعيش فى البيئة الغامقة فيصعب إكتشافها , كذا قرر فأر آخر إنجاب فئران بيضاء لتعيش فى الصحارى ؟!

- فى الحقيقة أن داروين قدم لنا أفكار عريضة عن التطور ولكنه عجز عن تفسير آلية وميكانيزم التطور والتغير وذلك لضآلة الإكتشافات العلمية البيولوجية حينها , ليأتى علم الجينوم الحديث ليفسر لنا الأمور بجلاء لتزول حيرتنا عن التطور والطفرات والإنتخاب الطبيعى والتأقلم ولتتبدد كل المفاهيم المثالية المغلوطة عن تكيف الكائنات الحية كفعل إرادى غائى فتفسر كل الأمور بالجينات كفعل طبيعى غير منظم ولا واعى ولا مريد .

- علم الجينات يفسر لنا لماذا هناك فأر أبيض وآخر غامق , فعند التناسل لا تكون النتائج متطابقة من الأبوين ليحدث إختلاف فى نسخ الجينات ليعطى لنا إختلافات , فنحصل على فئران متباينة مابين الأبيض والألوان الداكنة وهذا الأمر يتم عبر أجيال عديدة لتبدأ مهمة الإنتخاب الطبيعى , فالفئران ذات الجلد الفاتح فى البيئة الصحراوية ستنجو من الإفتراس مما يوفر لها فرص البقاء والتغذية والتكاثر , بينما الفئران الغامقة اللون ستكون فريسة سهلة للجوارح فى البيئة الصحراوية مما يعنى أن فرص نجاتها قليلة ومصيرها للإندثار والإنقراض .

- كذا مشهد رقبة الزرافة الطويلة ليهيأ لنا أن الزرافة فى سعيها للحصول على أوراق الشجر مدت رقبتها حتى إستطالت مع محاولاتها العديدة , وهذه رؤية "لامارك" بينما الحقيقة أن أسلاف الزرافة أنتجت زراف ذو رقبة أطول بفعل طفرة جينية ليمارس الإنتخاب الطبيعى دوره لتبقى الزرافات ذات الرقبة الطويلة عن الزرافات الأخرى لتستمر وتتكاثر مُصدرة جيناتها .
من هذان المثالان نفهم آلية التطور والإنتخاب الطبيعى التى لم يفسرها داروين , كذا نفهم معنى التكيف والتأقلم , فليس هناك غاية ولا إرادة ولاخطة ولا ترتيب بل سلوك طبيعى عشوائى خضع لصرامة وعشوائية الطبيعة فى النهاية .

- علم الجينات يفسر لنا التغير والتنوع فى الكائنات الحية , فالطبيعة لا تنتج كائنات متطابقة فشكل العين والأذن والأنف والفم والنمش والغمازات ولون البشرة وطبيعة الشعر وألوان الفراشات والأسماك والعصافير هى من فعل الجينات , كذا مواصفات الكائن الحى من القوة والشراسة والسرعة والضخامة هى جينات , كذا وسائل التخفى والخداع والمهارات هى جينات , ومن هنا نفهم سر ولغز الحياة فليس هناك شئ متحكم فى الطبيعة يحمل إرادة وغاية إلا فعل الجينات الذى يأتى عشوائياً , وعندما أقول عشوائى أو صدفة فى مفهومها اللاغائى اللامخطط فهذا يعنى إنعدام الغاية والتخطيط والإرادة والترتيب والقصد , لأرى أن حشر فرضية فكرة إله ليس لها أى معنى وليست بذات جدوى بل على العكس تضللنا عن فهم الحياة والطبيعة , علاوة أنها تصيب فكرة الإله بالتهافت والتناقض .

- حوض المورثات هو وحدة الدراسة الأساسية وليس صفات فرد معين.فلا يهمنا في هذا المجال تغير صفات فرد بعينه مع مرور الزمن كما لا تهمنا صفاته إن لم تنتقل إلى الأجيال التالية, كذلك من الممكن أن ينقل مورثات لا تظهر صفات ظاهرة مؤثرة إلى الأجيال التالية.. أحيانا تتم دراسة حوض المورثات لنوع بكامله مثل نوع معين من العصافير ولكن الأهم هو دراسة مجموعة من الكائنات الحية بذلك النوع من العصافير في غابة معينة .

* أمثلة .
- هناك لونان مختلفان لفراشة العت (العثة) البريطاني ذات لون فاتح ولون داكن , ففي عام 1848 لاحظ العلماء أن نسبة اللون الداكن لا تزيد على 2% من مجموع العت في المدن البريطانية الكبرى والبقية لها اللون الفاتح , وفي عام 1898 كانت نسبة اللون الداكن تزيد على 95% بينما في المناطق الريفية كانت نسبة اللون الداكن أقل.. وهذا يعنى أن المجموعة السكانية للعت تغيرت من أغلبية ذات لون فاتح إلى أغلبية ذات لون داكن , ونظرا لأن اللون هو خاصية وراثية يتم نقلها إلى الأجيال التالية فهذا المثال هو عبارة عن تغير في حوض المورثات , فحوض مورثات اللون يحتوي على تفريعتين فاتح وداكن لتتغير نسبة توزعهما وهذا التغير هو التطور البيولوجي .

- إزدياد نسبة اللون الداكن من العت كانت بسبب ما نطلق عليه "الانتخاب الطبيعي" ففى نهاية القرن التاسع عشر كانت عصر الثورة الصناعية في بريطانيا.فأدى دخان المعامل وتلوث البيئة إلى تغطية كل شيء بلون داكن من هباب الفحم, وهذا أدى بدوره إلى عدم مقدرة العت ذي اللون الفاتح على الاختفاء أمام خلفية داكنة اللون فكان ضحية سهلة للطيور التي تفترسه , بينما استفاد اللون الداكن من العت من تلوث البيئة فكان فريسة أصعب بالنسبة للطيور وبذلك نقص اللون الفاتح وازداد اللون الداكن بين العت .

- نتيجة هذا الانتخاب الطبيعي استطاعت السلالات الداكنة من العت من التكاثر بشكل أفضل بكثير عن السلالات الفاتحة اللون , فالطيور اصطادت أعدادا أقل منها واختفاء اللون الفاتح قلل عدد المنافسين على الغذاء.. وهذا أدى إلى تغير نسبتها في الحوض الوراثي , وكل هذا تم بتغير غير متعمد وبشكل عشوائى عند نسخ الجينات .

- حوض المورثات هو أحد المفاهيم الجوهرية في التطور البيولوجي ولكى نستوعبه بشكل جيد من المفيد أن ننظر إلى الكائنات الحية على أنها "حاويات" أو "ناقلات" للمادة الوراثية الـ DNA في معظم الحالات , فمجموع المادة الوراثية في مجموع الأفراد هو ما نطلق عليه اسم "حوض المورثات" والآن عندما ندرس صفة معينة مثل اللون في المثال السابق , فاللون يتحدد عبر مورثة أو أكثر في الحالة العامة, ولكن عند هذا النوع من العت هناك مورثة واحدة تحدد اللون بشكل شبه كامل , والمورثة هي منطقة معينة على شريط الـ DNA تحدد صفة أو أكثر من صفات الكائن الحي , ويمكن أن تتواجد أكثر من "سمة" واحدة لهذه المورثة .. ومجموع هذه السمات في الحوض الوراثي مع نسبة انتشار كل من هذه السمات هو مجال التغير الرئيسي.

- نعود إلى مثالنا , في البداية كانت لدينا السمتان (فاتح وداكن) وفي النهاية أيضا, الأمر الذي اختلف هو نسبة انتشار كل منهم , ليرجع السبب وراء ذلك كما استنتج العلماء بظروف البيئة التى ساعدت الحالة الجينية للون الداكن على التكاثر أكثر مما ساعدت اللون الفاتح وهذا ما يسمى بالاختيار الطبيعي , وهناك أسماء أخرى لهذه العملية مثل "صراع البقاء" أو "بقاء الأفضل" أو "بقاء الأقوى" أو "التأقلم مع الطبيعة".ولكل من هذه المفاهيم مشاكله اللغوية فى التعبير إذا بسطنا الأمور أكثر من اللازم.

- من المهم توضيح الخطأ الدارج في فهم "التأقلم مع البيئة" نعم العت يبدو أنه تأقلم مع البيئة ولكن كيف؟! اللون وراثي وبالتالي فليس باستطاعة العتة أن تغير لونها لتتأقلم , واللونان موجودان في حوض المورثات ولكن حوض المورثات ليست لديه "إرادة" وغاية ليتأقلم , وليست لديه آليات ليوعز للون الداكن بالتكاثر ,التأقلم هنا بالمعنى الأدبى التراجيدي, أي أن من لا يتأقلم يختفي ولكن بمعناه العلمى أن صاحب الصفة الوراثية المتوافقة مع الطبيعة بقى والمغاير إنقرض .

- "صراع البقاء" يفهم كثيرا بشكل خاطئ بمنظور مع من وكيف صارعت العتة لتبقى؟ الذي حدث هو أن اختفاء اللون الفاتح أعطى للون الداكن فرصة لتتكاثر أكثر من السابق أي أن الذي حدث هو أن "منافس على الغذاء" قد اختفى ,ومن بقي من تمكنت حالته الجينية على المناورة ليحصل على الغذاء والتكاثر , والمناورة هنا ليس فعل واعى حتى لا نخطأ فى المفاهيم بل حالة صدفة غير غائية إنتايت العتة .

- الصورة التي تخطر على الكثيرين عند سماع عبارات "بقاء الأفضل" أو "بقاء الأقوى" تستحضر صورة الأيائل المتناطحة أو الأسد الذي يفترس الغزال , ولكن العتة الداكنة ليست أقوى ولا أفضل من الفاتحة وليست متصارعة معها , ومن هنا يجب الإستعاضة عن مقولة البقاء للأقوى بمقولة البقاء للأنسب .
في مفهوم التطور البيولوجي "صراع البقاء" هو بشكل أساسي بين أبناء الحوض الوراثي الواحد على الأنسب للحصول على غذاء رغم وجود التأثيرات المتبادلة بين الكائنات , ثم على سرعة التكاثر ومن ثم على تأهيل الجيل التالي ليتكاثر بدوره والنجاح في هذه الأمور لا علاقة له بالقوة المتناحرة في معظم الأحيان .

- ولكن ما تعريف الأنسب ؟ هو الذي يتم اختياره عبر الإختيار الطبيعي ,أى الطفرات التلقائية المفيدة التى تتوافق مع ظروف الطبيعة المحيطة بالكائن الحى , ليزداد حظوظ البعض في التكاثر ويقل حظوظ الآخرين ,فتتغير بذلك نسب توزع السمات في حوض المورثات

- الطفرات المفيدة بالنسبة للانتخاب الطبيعي لن تحصل بالتوقيت المناسب للبعوض مثلا لينجو من المبيدات الحشرية ولكن كانت هناك طفرات سابقة أدت إلى وجود أفراد بين البعوض ذوي مناعات مختلفة , وعندما يتم استخدام المبيد يموت الأفراد الذين ليست لديهم مناعة بينما يعيش ويزدهر القليلون أصحاب المناعة ليورثوا مناعتهم للأجيال القادمة .. وكما أسلفت فالذي يتطور هو المجموعة السكانية عبر تغير المورثات في حوض المورثات بينما الأفراد هم "وحدة" الاختيار الطبيعي.

- كما رأينا في مثال العت فهناك تنوع في السمات الموجودة في حوض المورثات , أي أن بعض البكتريا أو الحشرات لديها مناعة ضد المبيد المستخدم ولكن نسبة هذه الأفراد قليلة في المجموعة السكانية وعندما نستخدم المبيد أي نطبق الاختيار الـلاطبيعي لنقتل الأفراد الذين ليست لديهم المناعة , فيبقى هؤلاء أصحاب المناعة ليتكاثروا , لنرى في الجيل القادم معظم أفراده حاصلين على مناعة , وهذه ورثوها من أسلافهم الذين نجوا من هذا "الهولوكوست" .

- يمكن ملاحظة عملية التطور والطفرات والإنتخاب الطبيعى بسهولة فى رصد تطور البكتريا والفيروسات فى مدة بسيطة وليس لملايين السنين وذلك بمقاومتها للمضادات الحيوية كفيروس الإنفلونزا الذى يتطور دائما لتفشل بعض المضادات الحيويه فى وأده .

- نقص عدد المنافسين على الغذاء هو سبب مهم جدا لتكاثر النوع الذي لم تتم تصفيته بالانتخاب الطبيعي , فمن المهم توضيح ثانية سوء الفهم الدارج لمفهوم "صراع البقاء" أو "بقاء الأقوى" , فالصراع قد يكون بسيطا جداً ولا يرتبط بالتناحر وإراقة الدماء التي تخطر عادة عند ذكر هذا المفهوم , فكل كائن حي يؤثر في بيئته ويغيرها , وفي كل الحالات هو يأخذ مواد غذائية كان يمكن لغيره أن يستخدمها، وهذه العملية الأساسية للتغذية والاستقلاب هي أساس ذلك "الصراع".

* الطفرات .
- الطفرة هي خطأ في نسخ المورثات من جيل إلى آخر. فكما نعلم أن المورثات هي عبارة عن شريط طويل لمادة الـ DNA, والمعلومات الوراثية مشفرة فيه على شكل أزواج من جزيئات يطلق عليها اختصارا الأحرف A, T, C, G , وهناك أيضا الـ RNA، حيث تختلف بنيته بعض الشيء وإن كان مبدأ عمله مشابها , ويأتى الخطأ في النسخ بأن سلسلة الجزيئات تختلف بعد النسخ عن السلسلة الأصلية , ليمكن القول بإستحالة الحياة بدون تغير ونسخ فى الطفرات فالحياة حينئذ ستكون نسخ كربونية .

- هناك أنواع مختلفة من الطفرات ,فهناك مثلا "الاستبدال" حيث يحصل الخطأ عبر نقل حرف عوضاً عن حرف آخر , وهناك "المضاعفة" حيث يتم خطأ نسخ سلسلة من الحروف أكثر من مرة , وهناك "المعاكسة" حيث يتم خطأ نسخ سلسلة من الحروف بالاتجاه العكسي .. و تزيد الطفرات التنوع عبر إدخال مورثات جديدة إلى الحوض الوراثي .

- عملية نسخ الـ DNA عالية الدقة ولكن دوما يوجد أخطاء في النسخ تتراوح بين خطأ واحد من مليار حتى واحد من بليون حرف.. وحسب ما نعرف الآن فأجزاء كبيرة من شريط الـ DNA عاطلة وراثيا أي أنها تنسخ من جيل لآخر ولكنها ليست "فعالة" أي لا يتم تركيب البروتينات بناء على معلوماتها , وبالتالي لا تدخل في تحديد صفات الكائن الحي بينما جزء كبير من الطفرات يحصل في الأجزاء العاطلة من المادة الوراثية التي لا تحتوي على مورثات فعالة والطفرات تكون طفيفة لتحدث تغيرات طفيفة فى الشكل والأداء و لتتراكم مع الزمن لتحدث تغير فى النوع .
عدد الطفرات هو المحدد الأساسي لسرعة التطور , لأن الطفرات هي ما يدخل التنوع إلى الحوض الوراثي ولكن على المدى القصير ويمكن للحوض الوراثي أن يتطور بسرعة نسبيا من الطفرات "المخزنة" في المادة الوراثية العاطلة .

- الكثير من الصفات الوراثية يتكون من زوج من الصفات , واحدة مسيطرة والأخرى ضعيفة وكثيرا ما تكون الطفرة في الصفة الضعيفة , وبالتالي لا تتفعل الطفرة في حياة الكائن الحي في هذا الجيل وتبقى الطفرة كامنة حتى يصبح هناك عدد كاف من الأفراد يحملون الصفة الضعيفة قبل أن يتشكل أفراد يحملون الطفرة بشكل مضاعف حتى تظهر حالة طبيعية تستدعى ظهور الطفرة الكامنة أو الجين الكامن .

- معظم الطفرات التي تظهر بشكل مورثات فعالة تؤدي إلى حصول أخطاء في عمل المادة الوراثية أمراض أو تشوهات وراثية , وبالتالي فالأفراد الذين يحملون هذه الصفات تتم تصفيتهم عبر الانتخاب الطبيعي , فيموتون في عمر مبكر دون أن يورثوا تلك الطفرة للأجيال القادمة .

- النشوء والارتقاء : هذا المفهوم ينطلق من أن الانسان هو قمة الموجودات بينما الكائنات الأخرى أدنى منه , ولكن لا يجب أن نغفل بأن هناك "سلم" تطوري عبرته الكائنات حتى وصلت إلى الانسان , فمن وجهة نظر بيولوجيا التطور فجميع الكائنات الحية التي تعيش اليوم على الأرض هي متطورة بالدرجة نفسها فجميعها عاشت عددا هائلا من الأجيال والطفرات والانتخاب الطبيعي .

- حقيقة حصول التطور واضحة من السجل المستحاثي ومن التشابه مع الكائنات الأخرى كالتشابه التشريحي, السلوكي, المكروبيولوجي في بنية الـ DNA وارتباط ذلك مع التوزع الجغرافي..الخ ليبقى السؤال المطروح عن تفسير التطور التاريخي لنوع معين بناء على هذه العوامل.عادة يبدأ بعض العلماء بفرضية حسن تأقلم الكائن مع محيطه ووظائفه وخصوصا وظيفة التكاثر فلولاها لما بقيت هذه السلالة على قيد الحياة ثم وظائف التنفس والتغذية..الخ وذلك رغم وجود أعضاء ضامرة , تفسيرها هو أنه كانت متأقلمة في مرحلة زمنية سابقة وأعضاء أخرى تخدم اليوم وظيفة غير تلك التي كانت مفيدة بالنسبة لها سابقا..الخ

- هناك الانتخاب الجنسي فمفعوله غير مباشر حيث أنه لا يظهر عبر التأقلم مع "البيئة"، ولكنه يظهر عبر تفضيل الاناث لصفات معينة لدى الذكور .. والأمثلة الشهيرة هي ذيل الطاووس حيث أنه يعيق الطاووس في معظم حركته ويلفت الانتباه إليه بحيث يجعله فريسة سهلة نسبياً , بينما الأنثى لا تلفت الانتباه بحيث أن فرصتها في البقاء على قيد الحياة أكبر من الذكور بما لا يقاس , ولكن هذه الإناث تفضل الذكور ذوي الذيل الملون الكبير مما يزيد من فرص هؤلاء على التكاثر ويجعل هذه الصفة أكثر انتشارا في الأجيال التالية , ولكن من أين جاء تفضيل الاناث لهذه الصفة ؟
تتراوح التفسيرات هنا بين الصدف الوراثية ارتباط بين مواقع المورثات على الشريط الوراثي أثناء تصالب الصبغيات وبين نظرية "العائق" أي أن الأنثى تختار الذكر الذي يحمل هذا العائق لأنه إذا بقي على قيد الحياة رغم العائق فهذا يدل على أنه أب جيد للأولاد..الخ

- هذا المقال بمثابة طرح لفكرة جوهرية تحتاج للمزيد من التأصيل وستجد إعتناء فى مقالات لاحقة فى سلسلة " نحو فهم الحياة والوجود والإنسان" راجيا من حضراتكم مزيد من النقد والإضافة والدعم العلمى حتى نصل لفهم حقيقى للحياة والطبيعة بعيدا عن أوهام وفرضيات بائسة لا تقدم شيئاً .

- مازال هناك أشياء كثيرة جديرة بالدهشة طالبة البحث والفهم ومازلت أجتهد فى تقديمها بشكل علمى مبسط , ولعل هذه هى متعة الحياة أن يعترينا الدهشة والغموض , وكلما بددنا دهشة ظهرت دهشة أخرى , فبئس الحياة إذا كانت بلا دهشة وبلا فهم حقيقى لها .. بئس الحياة إذا كانت مقولبة فى مفاهيم بلا وعى ولا بحث .

- فى الحقيقة هناك مواضيع كانت جديرة أن تكون فى مقدمة طرحنا قبل هذا المقال , كموضوع كيف تشكلت الكائنات الحية من البنيات الفيزيائية , وكيف ظهرت المكونات العضوية من مكونات غير عضوية , وكيف ظهرت وتشكلت الخلية الحية ألخ وسيأتى تناولها لاحقا ولكنى أردت أن أتناول هذا الموضوع عن التطور والإنتخاب الطبيعى لأنه يخدم فلسفتى وكونه الأكثر متعة وتشويقاً للمعرفة .

- ختاما هذا كان عرض لعملية التطور والإنتخاب الطبيعى والطفرات فى الجينات والتى تتم بشكل طبيعى عفوى عشوائى بلا خطة ولا تنظيم ولا تصميم خارجى , فما حاجتنا لفرضية الإله ؟! لنحشرها فى طبيعة لا تحتاج لهذه الفرضية , ولتكن بداية الإستفاقة من أوهامنا العبثية .

دمتم بخير وعذرا على الإطالة .
- أجمل ما فى الإنسان هى قدرته على مشاكسة الحياة فهو لم يرتقى ويتطور إلا من قدرته على المشاكسة ومعاندة كل المسلمات والقوالب والنماذج , وأروع ما فيه هو قدرته على السخرية من أفكاره فهذا يعنى أنه لم يخضع لصنمية الأفكار فكل الأمور قابلة للنقد والتطور .. عندما نفقد القدرة على المشاكسة سنفقد الحياة .
-"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " أمل الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع.



#سامى_لبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإله كما يجب أن يكون إذا كان موجوداً
- تأملاتى أثناء التوقف .
- تأملاتى وأفكارى وخواطرى
- من رحم العشوائية جاء النظام
- العشوائية اللاغائية الغير مخططة تصنع الحياة والوجود
- الطبيعة العشوائية تصنع الجمال وفهمنا ووعينا
- الكورونا يفضح بشاعة النظام الراسمالى العالمى
- الكورونا وثقافتنا البائسة , فمتى نستفيق
- إنه الترويض والتقديس..لماذا نحن متخلفون
- هل هى أخطاء إلهية أم نصوص بشرية يا أحمد
- أوهام البشر .. الجن والعفاريت والأشباح
- إنها نصوص دليفري حسب الطلب يا أحمد
- بشرية وتهافت الأديان فى حوارى مع أحمد
- أنا وأحمد فى حوار حول الفنتازيا الإلهية
- تأملات فى أسئلة
- رحمة الله عليك يا صدام
- حل إشكالية التردى بمناهضة الإسلام السياسى المؤدلج
- الحب بين فعل كيمياء الهرمونات ووهم الوجدان
- تأملات فى الحب والجنس - جزء أول
- فوقوا بقى..الأديان بشرية الفكر والخيال والتهافت


المزيد.....




- مؤلف -آيات شيطانية- يروي ما رآه لحظة طعنه وما دار بذهنه وسط ...
- مصر.. سجال علاء مبارك ومصطفى بكري حول الاستيلاء على 75 طن ذه ...
- ابنة صدام حسين تنشر فيديو من زيارة لوالدها بذكرى -انتصار- ال ...
- -وول ستريت جورنال-: الأمريكيون يرمون نحو 68 مليون دولار في ا ...
- الثلوج تتساقط على مرتفعات صربيا والبوسنة
- محكمة تونسية تصدر حكمها على صحفي بارز (صورة)
- -بوليتيكو-: كبار ضباط الجيش الأوكراني يعتقدون أن الجبهة قد ت ...
- متطور وخفيف الوزن.. هواوي تكشف عن أحد أفضل الحواسب (فيديو)
- رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية -لا يعرف- من يقصف محطة زا ...
- أردوغان يحاول استعادة صورة المدافع عن الفلسطينيين


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامى لبيب - الحياة لاتحتاج لإله فالطبيعة العشوائية تُفسر