أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - -خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (17)















المزيد.....


-خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (17)


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6574 - 2020 / 5 / 26 - 23:52
المحور: الادب والفن
    


اغْتَصب منهُ البحر الدنيا وهو مازال مَيْعَة عمرهُ، اخْتَلسَ في غفلة روحه الغميقة، تركه مُسْتَلباً لغربان الغروب المنكوبة، تُرَدّد صداها صوارٍ بدون أشرعةً، إذ مزقتها الريح، أَخَذ منهُ البحر زهرة زَعْفَرانه، لم يَبْقَ معه وقت، فقد عبرت الغيوم راكضة من فوق صحرائه، حل الجفاف، يَعْرجُ الزمن بلا عكاز، بطيئًا لا يكاد يمضي حتى يرجع للوراء رغم أن العقرب لا يتوقف، مسكونًا في جوف قاع، حين يغمض عينيه يرى مزيجاً من الحوريات الجميلات أَسْدَلنَ شعورهن عند قدمه المبتورة، رأى نجوم الماء يضئن القاع بألوان المرح، زالت في طرفة عين شوكة المخاض، عند شرفة المَنُون، خرج من رَدى وغاص يسبح مع النجوم الساطعة تحت الماء.
"صَل الصبح واسْتعذ بالله،أَنْتَ في ظلّ الدنيا ما زلت حياً ترزق.
كانت نجوماً تتساقط من السفح إلى الأعلى في الماء، لم يسبق أن رأى النجوم بقربه، هل حان الموعد؟ هُمُود النَفَسْ بدأ ينزل شراعه، سار نحو النجمة الأكبر سْنّاً بين النجوم وفيما هَمَّ بالقبض عليها انْبَجَست بين يديه وغَدَت أسراباً من ضوء.
كان صوت أذن الفجر قد انْشق من طرف المسجد القديم شبه المهجور والذي لا يَئِمه سوى ثلاثة أو أربعة من سكان الحي أحدهم أعمى والآخرون أصابتهم الكهولة بمقتل، فلم يكن لهم خيار سوى هذا المسجد العتيق الذي هجره المصلون من سكان الحي لقربه من دار دلال، وتهاوت جدرانه، حين رفع رأسه وجد نفسه غارقاً في ظلمة أحلك من ظلمة ذاته المكسورة.
"يا ذروة الله، لِمَ أَيْقَظتني من رُؤْيا خَلاَّبة؟
تلفت حوله تلك اللحظة، صَمْت، عتمة، سكون مُروْع له رنين الكَبت، تَحامل على نفسه واتكأ على الجدار ثم سار نحو الفناء متحسساً طريقه عبر الحائط ، حتى بلغ عتبة الفناء، تدثر ببطانية كانت على كتفه، وجلس يتأمل السماء التي اخْتفت منها النجوم وبدت قاحلة إلا من هَجسْ بدا له كالصوت الذي سبق انْقضاض سمكة القرش عليه، كان وجهه قد خدر من شدة البرد، وأطرافه ارتعدت ليست بفعل البرد وإنما من هول الحلم المدوي الذي صحا منه، كان قد أغمض عينيه عند الغروب، ونَجْواهُ تَوقفت عند سكة جوري التي غابت منذ يومين عن الدار بعد أن ملأت البيت بالطعام والشراب والزيت، جَنَّتْ كل الكائنات الحية من حولها والجماد الساكن من غيابها، أَشاعت المرارة حتى عند العجوز الكفيفة التي ما فَتِئت تقتات من سرد الأخبار عنها، في غَفْلة من ذات غروب مَضَت كالريح تروي المسافات التي تعبرها، تركت وراءها شغاف قلبه وقد اكْتوى بجمر لم يعد يحتمله، ليس الحب الذي يُحركه بل وجودها حوله في الدار، كالرئة التي بدونها لا يتنفس الجسد، فالعاهة القاطنة جسمه لا ترغمه على تحمل غيابها عن الدار، لا رائحتها ولا همسها ولا طيفها، لا يحتمل البيت بدونها، حتى وهي بعيدة، يسمع رائحة نفسها، حتى رائحة البصل وهي تقطعه تفوح منه نكهتها، كأنها هي من تُضْفي على الأشياء رائحتها.
عندما نادى المؤذن إقامة الصلاة، ود لو تسعفه ساقه في هذه اللحظة كطرفة العين، لو يفر من الدار، بحثاً عنها، لو يقتفي أثرها بين الناس يسألهم، لو يمر بدار دلال قد تملك إجابة، يومان كأنهما دهران.
"في البحر، كنْتُ أعْرف أَنها تَنْتظرني، أما الآن فالله أعلم.
كانت العجوز رقية تزحف عند الباب وقد بدا نور الشمس الباهت كأنهُ اسْتَيقظَ للتو بعد سبات، أَطل من فوق جدار الدار وانْسَكب على الفناء، جاء رَده على كلماتها التي وَبَختهُ على جلوسه هنا يلعق جرحاً طالما نَبَهَتهُ بأنه على موعد معه طال الوقت أم قصر.
"العشق الذي يَشْقِيك، بِيعه لِغَيرك، تعرف من أَعْني بكلامي؟
كانت تجلس وراءه، فيما عَلَت أصوات زقزقة العصافير على الشجرة في صحن الدار، كأنها تصحو هي الأُخرى من سباتها "لقد سَبَقتُها في الصحو" ابتسم لدى مرور الخاطرة بباله، وكانت هذه أول ابتسامة تشرق منذ أشهر.
"القسط هو دَين نَدفعه مقابل شراءهم.
رد عليها، قهقهت فيما بدا عليها أنها لن تتركه.
"مشاعر الحب لا يتقبلها قلبك إذا لم تُصدقها بنفسك.
هذه المرة هو من قَهْهه رغم إِحْساسه بالوهن والإحْباط وقد تَيَبَّس جسمه منذ طلوعه للفناء عند الفجر.
" لا تُوجد جنة من غير أن يُوجد على طَرفها نار.
ثم استطرد.
"حتى في القرآن ذُكر ذلك.
ردت العجوز.
لو قَرَأت القرآن، ما سَحَرتكَ عاهرة الجن.
من دون وعي أَطلق صرخة مُدَوية فَرّت عندها الطيور من فوق الشجرة، سَرت في المكان تتردد كأنها زلزال، على إثرها تَسَلقت رقية الأم ساقها، كما لو كانت تتهيأ للنهوض، اعتادت الحركة تلك حينما تود الزحف سريعاً للمغادرة، وَلّت تنزلق للداخل مرددةً.
"هِي من رمتك للبحر ثانيةً.
بصوت هادئ هذه المرة، رد عليها، وهو بذات الوقت يعتذر للطيور، فقد سمع صوتها حين طارت هاربة مذعورة.
" كمال المرء في قوله وفعله.
****
موسم الرياح الخبيثة، لا تعرف متى تشتد؟ ترافقت مع موسم حرقة القلب، كل القلوب المثقوبة بالوله، تغادر، مع بدايات البرد والغبار، واحتفاء الجوع بالناس وقد استنزفهم حتى أضْنَت أجسادهم وانْخَرقَت أَسْمالهم، كان موسماً أنهكت فيه الحرب الضروس الطاحنة على أطراف المنطقة أحياءهم، ورغم أنها لم تترك دماراً ملموساً على الأرض لكنها أمحت سيماتهم التي كانوا عليها قبل الحرب وحولتهم إلى كائنات تبحث عن وجه للدنيا، كانت الحرب على الطرف من اسوار الضياع، والجوع على الطرف الآخر تهْذي بهم، والمحظوظ منهم هو الفالت من سياج المدينة ومن يجني شيئاً من فتات جيش الاحتلال، كان الإنجليز مرات كرماء يلقون بأطلال مخلفاتهم ثم ينقلبون بغتةَ إلى بُخلاء يقتصدون حتى النخاع، بدت دنيا الناس مليئة بالنزوح من بيوتهم وأحيائهم وهَجْر أقربائهم وافْتِراق أزواجهم، عند الليالي الغائمة وعصف ريح ديباجة الشتاء يُسمع صوت الريح كأنها صلاة العابد عند الفجر، كان صوتها أجْوَف وخاوياً يسكب مرارة على نفوس سكان المدينة وضواحيها، هذا ما أبقى راشد زوج جوري ووالدته العمياء الغائرة في ظلمتها الأبدية يترنحان وحدهما حين غابت جوري، لم يعبآ بالجوع والخوف منه، بل بصوت المرأة التي إن غابت حتى العجوز افتقدتها رغم وجودها اللدود بجانبها.
موسم الصمت في البيوت والمقاهي الذي اناخ بظله، شمل جوري التي اخْتَفت كما الغيم حين يسبح، لم يترك غيابها لراشد خياراً سوى الخروج من صومعته الذاتية، على الأقل لرعاية الأم التي زاد ثقلها، أصبح غياب جوري مُسَوْغاً للإفلات من عزلته الاختيارية، فيما رأى فيها هو ذريعة للفرار من سأم الدار وهو الباعث الذي فسر له اختباءها الذي مر عليه أكثر من أسبوعين، كان تخمينه قائماً على لجوئها للعشيق المَسْتُور وزاد من يقينه بأنها معه بعدما تركت لهما هو ووالدته من مال وطعام وشراب وترتيب لا يقوم به سوى من رتب أموره بدقة، وقد أوحت له بذلك ذاكرته منذ ليلة تعرت له وطارحته من دون أن يقدر على مجاراتها، لم تكن سوى قطعة خشب مصقولة باللون البرونزي، وحرارة تفوح بنهكة تفوق رائحة الزعفران أدرك متأخراً بأنها ليست من النساء بشيء، صرعته برودتها، وفهم لغز هذا البرود منذ ليلة دخلته عليها، إذ سايرته وانْسَجَمت معه وبعدها مضت بهذا الاتجاه الذي لم يكتشفه سوى تلك الليلة إثر هفوة صدرت منها لم تسعفه الأيام السالفة على سقوطه في قاع العزلة، في رؤية النور الذي يشع من حقيقة الأمور"حقاً الدنيا أسرار" لم يكن سوى دمية بين يديها أو بين يديه، أستغفر الله رددها أكثر من مرة، ومازال عالقاً في تلك الليلة، وظل نهباً للأفكار السوداء التي تشبه تَغير الرياح الموسمية.
"لا أحْتَمل إنعدام صوتها، البيت من دونها حجارة صماء.
وردت العبارة على لسان العجوز، عند المساء حين اشْتد البرد وحمى الصقيع وتساقط المطر وساد الصمت الدار لأيام، حتى صوت المؤذن اخْتفى ولم يعد يُسْمع، مما دعا العجوز الكفيفة، للتخمين.
"لعل المسجد انْهار؟
رد عليها راشد.
"أو المؤذن توفَّى.
تساءلت العجوز، بنبرة آمرة، من يفتقد أمرًا اعْتاد عليه.
"اخرج مَرّةً وافهم بنفسك ما يجري، الدنيا ليست هذه الدار فحسب.
سبقته الصدمة قبل أن يخرج ويفهم ما جرى، حينما سمع طرقاً على الباب أثناء عصرٍ شديد البرودة وأَلْفَى نفسه أمام شابٍ في ذات سنه، وجه وردي، حَدَسَ، سببه البرد، وأدرك من ملابسه لِوَهلة، بأنه قريبٌ من ظَنّه، كان يرتدي ثوباً صوفياً نظيفاً ذا لونٍ بني و سُترة هي الأخرى من الصوف كحلية اللون، مفتوحةً من الأمام وتغطِّي نصفه الأعلى، وقف أمامه ولَفَت نَظره حينما حدق في ساقه، كما لو كان على دِراية مسبقة بعاهته.
"إعْذرّني على تطفلي.
توقف وقد خانته العبارة، كان يبحث عن مخرج لتقديم نفسه، كما ساهم الطقس المُتقد برداً في إخْفاقه بالتعبير، أدرك راشد بأنه أمام من يُدْعى تقي المرجاني، وبدافع الفضول الشديد لمعرفة التفاصيل، ومن باب الرأفة به وقد وجده يرتعد صقيعاً، أَفَسَح له الباب وأَدْخَله بعد أن خمن أولاً عن اسمه، فأكده الآخر وقد زال عنه عبء تقديم نفسه، كان ثقلاً على كاهله حمله معه من العاصمة حتى الدار التي ما أن اقتحمها حتى عادت به الذكريات للأيام الخوالي التي كان يصول ويجول فيها رغم وجود رقية الكفيفة، التي ما زال يظن أَنها كانت على علم بوجود شخصٍ ما في المكان.
كان الوقت عصراً لكنه بدا كمنتصف الليل، ظُلمة لولا ضوء المصباح الساكن برتابة عند باب صالة الدار، وصوت العجوز تنادي على ابنها لدى سماعها جلبة بالمكان، أجابها ودعاها للهدوء لكنها بدأت تزحف نحو المكان، فما كان منه إلا دعا الآخر لصحبته نحو غرفته وهو يستند على الحائط، فيما راح تقي يراقبه بحذر وقد بدا مصدوماً من الاحتفاء المباغت به، لو كان يعلم بأن الآخر فضوله هو ما دفعه لاستقباله والترحيب به.
سكب له الشاي، كانت هناك مَنْقَلة دائرية عتيقة مضاءة بجمرات مشتعلة بعضها والبعض تحول لرماد، أما الآخر فبرغم أن عينيه ظلتا معلقتان براشد لكنه من وقت لآخر راح يغافله ويجول بالمكان، تذكر أن هذه الغرفة نفسها كانت موقعه هو طوال شهور من السنة يضاجع فيها زوجة هذا الرجل المعاق بالذات، لم ينبس بكلمة، بدت عيناه حمراء واسعة توشك على الانْبِجاس، وبشرته متوردةً من الاحمرار أيضاً، ظهر له كما لو أن الرجل لم ينم لأسابيع مضت.
"إعذرني مرة أخرى، أنا كنت أعرف جوري، فقد كانت تعمل لدى الوالدة في أوقات الغوص، والوالدة اليوم ليست بعافية، أرى إن كان ثَمَة وسيلة للعودة للعمل، جئت أسال عنها فحسب، كما أوصتني الوالدة.
أدرك راشد أن اللعبة خَرَجت من يَدَّي الإثنين، وجد أكثر من برهان اليوم، وَضَح له كل شيء، أنوثة جوري المشكوك بها، عشق هذا الوقح لزوجته المعطوبة للتو، وقد جاء مخادعاً يَرْشِيه لاستعادتها، مستغلاً حاجته وفقره وعاهته، أَدرك بحسهِ البحري المنطوي على فَهم أسرار البحر وطلاسمه، أن القدر وضعه أمام حقائق تَرَسَخت، لم يكن سيدركها لولا هذه العاهة التي وُلِدَت منها حكمته "ماذا أُجِيبه الآن؟ هل أَدّعهُ يَنْعم بها بعد أن أَدْرَكتُ لغزها؟ رغم حبي وعشقي لها، بماذا أُجِيبه؟"
قطع خيط أفكاره صوت العجوز وقد خرجت لدى سماعه، وجدها قد هَوَت على الأرض وتَداعت إلى كُتْلة مُتكورة، أطرافها تًرتَعش كدجاجة مذبوحة للتو، وجهها في الأسفل، وفخذاها وَلَجا أسفلها، توقفت عن النداء، أدركها على هذه الحال وعجز عن اطلاق صوت أو تعبير، انكب عليها وحملها للغرفة، كانت كالريشة خفيفة بين يديه، إذ لم تكن سوى جلد على عظم، حين أرخى بها على فراشها وجده رطباً مبللاَ، فهم لماذا كانت مُسْتَبردة طوال الوقت، أحس باللوم عندما يطول غيابه عنها، لم يخطر بباله طوال الوقت أنها بدأت تتدهور من غير أن ينتبه، كانت تعاني من دون أن تشتكي، لم تعبر رقية الكفيفة يوماً في حياتها عن ألم أو وجع أو معاناة من شيءٍ حتى ظن الجميع أنها لا تعرف المرض، هذه أولى سقطة لها يراها فيها منذ فتح عينه عليها، تركها للحظة ثم عاد ومعه منقلة الجمر، وضعها بجانبها وراح يُدَثرها مرة أخرى، بعد أن غير بطانيتها المبللة بالبول، لا يعلم ماذا يفعل أكثر من ذلك، حار في كيفية تنظيفها من الأسفل، لو كانت جوري الآن بالدار لَحُلَ الأمر، هذا وقتها، لم ينتبه للوقت إذ ظل يناجيها بكلمات الأمومة ويوقظ فيها الوعي، حتى بدت تفتح عينيها وتشعر بيده فوق جبينها، باغَتَهُ صوتها من نَبْرَة مَهْزوزة كأنها آتية من أسفل قاع بئر غزير.
"من عندكَ بالغرفة؟
عَجَبَ من بَأْس وَعْيها وهِمَّة ذاكرتها، ذَهَل من شَكِيمة جسدها المقاوم للسَقَطات، وفيما هو يوضب فراشها ويُضْفي بطانية أخرى عليها، رفع رأسه على صوت خطوات تدنو منه قرب باب الغرفة الذي ظل مفتوحاً منذ أَتى بها، كانت مفتوحة العينين تنظر للسقف، فيما وقف تقي على رأس راشد وسألهُ بنبرة عَطوفَة.
" سلامتها، هل أحضر طبيباً؟ أعرف واحداً يمكنني جلبه بعد ساعة.
مَكَثَ راشد حائراً بين عرض تقي وهو يقف على رأسه، ونظرة المرأة العجوز بين يديه، باليةً تكاد تذوب عظامها في جلدها، وبين جرأته في القدوم بقدمية للدار باحثاً عن زوجته التي زاد من حيرته أنها ليست معهُ، أين وَلَت؟ ظل حائراً بين كل هذه الخيارات ألمُرة، ماذا يفعل؟ تضاعفت التساؤلات في سره، أين جوري إذ لم تكن معه؟ هل يقبل بعرض من خطف منه امرأته؟ وسط هذه الدوامة التي لفتهُ في بوتقتها، جاءت النبرة المهزوزة مرة أخرى وسط دهشة الاثنين.
"صَوْتهُ يَرنُ، ليس غريباً، سمعته دائماً وأَنْتَ في الغوص.
كأنه خرير السماء يتدفق حابساً الأنفاس، ناشراً الوجوم بين المَصْدوم والمُسْتَلَب، نطقت الأخبار بالمَكْنون وأنبأت بما حَوتهُ السنين من خفايا الدار، انشطرت الوجوه وبانت السجايا، وانكشف المستور، خيم هذا الشعور على اللحظة التي كانت فيها العجوز المتداعية تُفْشي المستور وتٌجْلي المشكوك، بدا كأنه موسم هبوب أسرار الدنيا وعَرَتهُ رياح الدوَّاميَّة.
"بان البعيد عن الأعين، لابد من عاصفة تقتلع الحي.
قالت ذلك وأغمضت العجوز عينيها تستريح، وقد تركت الرجلين وحدهما يهتكان ما تبقى من الكلام غير المباح، استدار الأعرج مستندا على الجدار، ركع وحمل قطعة خشب استند عليها بعد أن ترك الحائط، لحق به الآخر نحو الفناء، التفت راشد وقال هامساً كما لو ثمة من يسمع.
"هي ليست معك إذن؟
تطلع للأعلى هارباً من النظرات، ورد مقترحاً
"لنبحث عنها، لعلها في محنة، أو كُرْبة من يعلم؟
"الواحد الأحد يعلم.
ثم استطرد
"بِصفَة من كلٍ منا؟
رد تقي وما زال هارب النظر.
"الزوج و....
توقف عن نطق الكلمة ثم استأنف وبدت ملامحه وكأن نازِلَة حلت بها.
"لعل مكروهاً لا قدر القدير حل بها.
رد راشد ضاحكاً بمرارة.
"في أَيَّ زمن نعيش نحن؟
"مَنِيَّة الحرب أَوَشْكت، كل شيءٍ مباح، صدقني.
كانت السماء في الخارج قد بدأت تمطر، وبدا الوقت كأنه شارَف على حافة الفجر، الصمت والجلبة يتناغمان، صَمْت الكون وغوغاء الكائنات المتخفية بفعل الطقس، وجَلْجَلة السماء وهي تزمجر بما هو آتٍ من جوف الغيوم الخرساء الداكنة، نظر تقي لساعة سوداء ذات سوارٍ فضي في معصمه وتَلفَّظ بهمسات مبهمة، أغمض عينيه وتطلع للسماء.
"زال الالْتباس، هي ليست لَكَ وليست لِي.



****


عندما أدى الصلاة جالساً، دعا العليَّ القدير، أن يُسامحه ويغفر له، لأنه لم يَصْن دينه وعرضه، لكنه من أجل أمه رجع لسورة الأنعام" إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" رأى في انقادها من الموت على يد طبيب أمراً مباحاً، ولم يبع عرضه بقدر ما أدى لوالدته بر الوالدين "المسكينة كم كانت تعاني" لا يملك إلا الانهزام أمام غريمه الذي سرق منه زوجته، وبدوره فقدها فتجرع ذات الكأس، أراحه أن يرى في عين تقي ذلك الانكسار والهزيمة، فمثلما فشل هو في حراسة زوجته، فشل الآخر في ادْخارها "ضاعت منهُ كما ضاعت منَّي" عَزى النفس ومضى يؤدي الصلاة وشعور مريح بانزياح اللوم الذي أحس به، رأى أنه انْتَهَج طريق الحق في شفاء رقية الكفيفة جزئياً واستعادتها توازنها رغم أنها ما زالت لا تستطيع الحركة إلا بصعوبة وفي مكانها، لكن راعه خلال الأيام التالية تردد تقي على الدار بحجة الاطمئنان على العجوز والبحث عن جوري التي مضى على اختفائها أكثر من شهر، في غُضون تلك الزيارات المتلاحقة كان تقي يأتي معه ببعض الأدوية للعجوز، كما اشْتَرى له عُكَازاً يتكأ عليه، في البداية رفض راشد بشدة وإصرار تَسلُّم تلك العطايا، لكنه أمام لغة تقي الودية وقَسَمه، وحلفه بوالديه أَذْعَن الآخر، فيما صمتت العجوز ولم تعلق بأي من عباراتها الاعتراضية، ربما وجدت في إستعادة صحتها مبرراً لتجاهلها الامر، لكنها بعد فترة حينما صادفها تقي وسألها عن صحتها ودعاها "بوالدته" حَيّتهُ وعلقت باقْتضاب وهو يستدير خارجاً.
"لقد خَدَعتكَ هي عاقر لا تحمل.
تذكر أن جوري اعترفت له قبل فترة بأنها أَجْهضت حَمْلَها بنفسها بعد سبعة أسابيع وكان بحجم حبة اللوز البحريني، كانت تلك العبارة بمثابة غيمة عبرت فوق رأسه كواحدة من الغيوم التي عادةَ ما تعبر فوق سمائه في خضم العلاقة مع جوري، كانت تَصْدق مرات، ومرات تكذب، وزاد من حيرته، أين يَكْمن كذبها وأين يكمن صدقها؟ لكن ظلت كلمة عاقر عالقة في ذهنه لفترة طويلة حتى بعد انتهاء الحرب وعودته من دراسته في الخارج، وافْتضاح أمرها فيما بعد.
إِنْصاع راشد واسْتَكان لإرادة تقي الذي تولى مهمة رعاية الإثنين، الأم والابن، حتى أنه راح يشاركهما وجبات الطعام مع مرور الوقت الذي لم ينقطع خلاله في البحث عنها لإجلاء الحقيقة، كان يَخشى أن تكون تعرضت لاعتداء من جنود الاحتلال خاصة وأنها عرضة للانتهاك لهيئتها الإغوائية وجاذبيتها، وسبق أن تعرضت لمحاولات اعتداء، ظل قلقاً من هذه الناحية ولم يَفْتَرض أي سبب آخر، سوى أَنَها عَلَّقَت مع أحدهم في علاقة "تفعلها بنت الذين" ردد في سره ولكن سرعان ما إسْتبَعد تلك الاحْتمالية، لسببين، حُبها لَهُ وولعها بِهِ رغم اضْطهاده لها، وحرصها على رعاية زوجها المُعاق ووالدته الكفيفة العاجزة، عَزّاه ذلك عن فرضيه هروبها مع جندي من جنود الاحتلال.
" سَنَعرف الحقيقة، أَعِدُك.
كان يَنْتَظر إنْتهاء الحرب والسفر لبلاد الإنجليز كما خطط له والده المرجاني الذي تمكن من تدبر علاقات تجارية مع إدارة الاحتلال خلال وساطة حكومية، إذ كان يستورد سلعاً مختلفة لا يربط بينها رابط، من الأصباغ والمقاعد الخشبية إلى أعواد الثقاب والسجائر، حتى بدأ يفاوض على استيراد سيارتين جديدتين من أسواق السعودية، بَرَعَ في نسج رابطة مع الإدارة البريطانية وأَتْقَن تصريف البضائع حتى وقت الكساد خلال شهور انهيار الجيوش البريطانية في الشرق، كان حذقاً وحاول غرس مهارته في ابنه تقي الذي ظل هو الآخر يتقن الأمور رغم شغفه بالعاهرات وهو بسن لا يناسب عمره.
خلال الزيارات المسائية لدار راشد، وقت بَلَغ البرد ذروةً الزمهرير، عَمَد إلى جلب الفحم والزيت والطعام والدواء، ومنه دواء السعال الذي خدر العجوز وابنها وجعلهما يتساءلان عن ماهية الدواء الذي سقاهما، ظل يضحك على تَرَّنحهما، إذ بدا لهما أن الرجل جاء بهدية من السماء، وذات مساء حصل على قنينة صغيرة من مُسَكر عبر أحد عملاء والده الأجانب، دفعته الثمالة لكسر التعهد وتوجه لدار دلال التي اسْتَقبَلته بوابل من القُبلات على خديه وسط تجمع بعض الفتيات، لم يتعرف سوى على واحدة تدعى بدور، بدا له أن القوادة إمَّا إسْتَبدلت المجموعة القديمة أو سرحتهن لسبب ما، مسح المكان بعينيه، الفناء والنوافذ العليا التي عادة ما يتطلعن منها فتيات الهوى فيما تَرْدَعهن القوادة وهذا محور شجارها معهن، حيث ظلت تكبح فضولهن وهنَّ يقبعن عند النوافذ العليا، وهن معذورات بسبب حَبْسَهن في الدار، تواردت تلك الخواطر في باله وهو يجول النظر في المكان، كان يشعر بترنح رأسه في الهواء فما كان منه إلا أن أطلق عبارته بنبرة ساخرة للمرأة التي مازالت ممسكة بيديه مرحبةً.
"هل أنا أترنح أم مَنْزلكِ دلال؟
ضحكت قائلة، ومازال الهواء البارد يلفح وجهه من دون أن يشعر به.
"منزلي يترنح تقي أفندي لكن أنت من تَفوح منه رائحة الويسكي، تعال ندخل، الطقس ثلج تقي.
أخفته في الغرفة الصفراء المخصصة لنوم الزوار المهمين، بدا الترحيب به كأنما قادم من سفر، أو من وراء الغيوم، أُعْتُبِرَت تلك الغرفة الزرقاء بمستوى نجمتين بحسب تصنيف دلال، فيما بقية الغرف نَجْمةً واحدة، يعرف تقي تلك الدرجات منذ قبل، وهذا ما دفعه للتعليق.
"ألم تَرْتَقي نجوم غرفك دلال؟
دفعت كوب الشاي بالحليب الذي جلبته إحدى الفتيات، كانت بيضاء وصغيرة وذات صدر بارز، وعينين خضراوين بدا من هيئتها فارسية الهوية، تطلع نحوها بنظرة فاحصة حتى غادرت مع ابتسامة رهيفة بإشارة من دلال، وقد توقعت المرأة تعليقاً منه حيث سبقها بالقول.
"زادت مَرْتَبة الجمال في الدار,
"وقَلَّ الإقْبال عَلَيْهن، هذه المفارقة تقي أفندي، لَم يعد الرجال يأتون اجْتَثهم الفقر وهَرَستهم الفاقة، ومَحَقَهم العَوَز، إنها الحرب والاحتلال وزيادة السكان، وقلة المال.
قالت العبارة بحسرة ثم بَدلت دَفة الحديث مع نبرة جادة متسائلة.
"أي هَوى أتى بك تقي؟ ألا تخشى انْفضاح أمرنا، لقد حذرتك من يومها، أخشى حتى من الصبية أو الفتيات يَشُونَ بكَ.
صمت، تطلع للمرأة ثم تسلقت نظراته السقف فوق رأسه، أطلق زفرة حادة والتقط نفسه، وقال كمن ارْتَاح للعبارة التي انْتَقاها.
"صَبابَة جوري يا دلال، جور ما أخبارها؟ ماذا وراء اختفائها؟ شَغَف مَن أَهْوَى أَتى بي.
تغيرت ملامح المرأة، قطبت وجهها وعَلَت سيمات الكدر ملامحها وبدا عليها التأثر، حتى ترقرقت عيناها.
"حرقة تقي أفندي، حرقت قلوبنا جميعاً، أنتَ تعرف تقي أفندي كانت لؤلؤة الدار، شمعتها، لا أعرف، منذ ساعتها البنات يَخْشَين الخروج من الدار، بعضهن تَرَكن بعدها، لقد لاحظتَ بنفسك.
صمتت لحظة، التقطت أنفاسها واستطردت.
"حتى نرجس التي ظلت ساعدي اليمنى، على إثرها لم تأتِ إلا نادراً عندما تدفعها الحاجة ويَنْضُب ادْخارها.
دفعت بكوب شاي الحليب نحوه وهي تقول.
"أنْصحك تقي لا تكرر زِيارتك، أخْشى عَليكَ من العيون والآذان.
"أمْركِ دلال.
حين بَرَح، وقبل أن يبتعد عن الباب، وقف فجأة، كأن شوكة حادة وخزتهُ، ثمة قوة مباغتة شدته للوراء، تلفت حوله خشية أن يرى تلك الوقفة المفاجأة أحد المشاة، أو من جنود الاحتلال في المنطقة، قفل أدراجه واقتحم الدار حيث فوجئت به دلال التي ودعته للتو وقد بدا عليها الفضول والذهول.
"خير تقي؟
"أَينَّ يقع سَكَن نرجس؟



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (16)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (15)
- PDF الرواية والمثلث المُحرم...!
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (14)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (13)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (12)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (11)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (9)
- -خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (9)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (8)
- هل يكون الكاظمي بوابة الساعدي القادم أم يصبح أتاتورك العراق؟ ...
- ثورة كورونا في طور التشكل...
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج(7)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج 6)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج 5)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (4)
- المحظور الخلاق في الرواية...
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (3)
- -خريف الكرز- الرواية التي مُنعت في بعض الدول. ج (2)
- -خريف الكرز- الرواية التي مُنعتْ في بعض الدول. ج (1)


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - -خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (17)