|
عصفور الغفلة
سوزان خواتمي
الحوار المتمدن-العدد: 1482 - 2006 / 3 / 7 - 11:18
المحور:
الادب والفن
ليست كثيرةٌ تلك الأشياء التي يمكنها أن تقطع رتابة الأيام المتشابهة . لكن الذي حدث تفصيلاً ، أنها كانت طفلة تلعب مع ظلها في الحديقة القريبة ، حين داهمها ملل مفاجئ جعلها تتثاءب ، فكآبة غامرة حاصرت ظلها الأثير حتى اختفى . تنهدت بعمق ثم توارت خلف شجرة صفصاف عملاقة ، لتخبئ في صدرها برتقالتين صغيرتين . اعتقدت الصغيرة التي سكبت عيناها شقاوتهما ، وتقاطرت قسماتها بحلاوة الدلع أن أحداً لم يرها . لكن الفتى الصياد الذي يقبع بين أغصان شجرة الصفصاف .. رآها ، وراح يختلس النظر إليها ، ويراقبها بعين واحدة فيما يراقب بالأخرى العصافير التي تحط فوق حبوب الذرة ، فتطبق عليها شبكته المخادعة ، بعضها : المحظوظ فقط كان يفلت من فخ الغفلة ، فيصفق بجناحيه ، ويرفرف بعيداً عن الوليمه الشهية . لم يشأ ذاك الصياد إخفاء رغبته في اللعب ، ناداها وقد اختلطت بحة صوته بهديل التوسل ، معترفاً لها دون خجل ، بأنه كان يتمنى اللعب معها منذ أن تسلق الشجرة أول مرة . رفعت رأسها إليه . باغتها صحو وجهه ، فقد غمرته أشعة الشمس بتلألئها الفريد . بجسارة لم تخف تأثرها بجلسته الرشيقة المتوازنة كفارس يمتطي غصناً . اقترحت عليه أن يهبط إليها ليلعبا الكرة . وافقها . صارا يضربان الكرة بالأرض لترتفع كالأحلام عالياً نحو السماء ساعةٌ من الوقت انقضت وهما في هناء غامر . بدأ يغني .. لم يكن صوته رخيماً ، لكن أغنيته العاطفية أطربتها . " لاشيء أمتع من الغناء بصوت عال " قال لها . كادت تنطلق معه ، لولا تذكرت : أنها تخجل . فجأة ثبت قدميه في الأرض و صالب ذراعيه فوق صدره ، معلناً بصوت أجش أن دوره في اختيار لعبة جديدة تسليهما قد حان . أومأت إليه موافقة وصدرها يخفق بسعادة لم تعرفها حتى في تلك الأيام التي كانت تلعب بها مع ظلها . اقترح عليها أن يتسابقا ، مؤكداً أن كل ما عليها فعله محاولة الإمساك به ، وهو أمر في غاية المتعة مثل اختلاس قبلة تحت شجرة صفصاف ..أوالغناء بصوت عال .. أوصيد العصافير . " إنها لعبتي المفضلة " صاح بها قبل أن يركض خارج سور الحديقة . لحقت به ، كانت تريد أن تمسكه ، لكن سيقانه الطويلة كأعواد القصب أتاحت له خطوات أوسع .. سبقها كثيراً فلم تعد تميز منه إلا قميصاً أبيض ممتلئاً بالهواء ، يكاد يغيب عن عينيها . لم تدرك أنها ابتعدت عما كان مسموح لها به إلا بعد أن ابتلعت المسافة نداءات أمها الهلعة . أوغلت بعيداً خارج سور المدينة ، فنبهها الحارس العجوز محذراً ومشفقاً عليها من لهاث يكاد يقتل عصفور صدرها الخافق .. منحته أذناً صماء فيما تابعت جريها بتصميم قاطع . كانت رغبتها في ملامسته تسيطر على حواسها كاملة . تمنت وقد نال منها التعب لو ينتهي السباق ، ويعودا معاً ، إلى قذف الكرة والإمساك بها . ابتعد هو أكثر فأكثر ، دون أن يلتفت ولو مرة واحدة إلى الوراء ، ثم لم يعد في متناول نظرها الحسير . ذهلت بالطريق الموحش أمامها ، وحين تأكدت أنه اختفى تماماً ، وأنها فقدت بوصلة اتجاهها ، كادت تبكي ، تبدى لها أن احتمال الضياع ممكنٌ ، وأن الرجوعَ إلى الوراء كما التقدمَ إلى الأمام : مغامرةٌ غير مضمونة النتائج . رغبةً بشيء قد لا يحدث ، أغمضت عينيها واتبعت حدس قلبها ، تابعت في جري عابث بقدمين متورمتين فقدتا الحافز . لخوفها المتزايد توسلت إلى الله كي لا يأتي الليل أبداً ، وهكذا راوحت الشمس الطيبة في مكانها ، مما أفقد الأرض اتزانها وجعل الناس في الجهة الأخرى من العالم يستسلمون لسبات طال أكثر من المعتاد ، أما العشاق منهم فقد ساورتهم الشكوك . حين وصلت إلى نهاية المنحدر، قفز من صدرها نزق عابث ، وبالكاد استطاعت ابتلاع شهقتها ، واستعادة هدوء أنفاسها ، فقد ظهر أمامها . كان يمارس طقوس الصيد نفسها ، مسنداً ظهره إلى صخرة كبيرة ، وقد فرش على بعد مناسب شبكته ، فيما لمعت فوقها حبوب الذرة الصفراء . كان مبتسماً ، وكانت متعبة . حاولت أن تفرد تقطيب حاجبيها ، وتكشف له لمعان أسنانها .. لكنها فشلت . بدا لها غريباً وبعيداً كأنها تراه لأول مرة ، فهي لم تميز في ذاك المتبجح أمامها فارسها الرشيق . لتتأكد من أهميته جست قلبها .. خذلها بنبض بطيء متكتم . لما مد إليها يداً متلهفة ، شعرت بأنها فقدت رغبتها الطفولية في الإمساك به . وحدها ألقت ساقيها إلى الريح متابعة ، وقد استولى عليها حمى السباق .
#سوزان_خواتمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قبلة أنيقة لموتٍ محتمل
-
تعال كثيراً مادمت أورطك بجنوني
-
كتابة بالأحمر الرديء
-
عشر خيبات لمولود
-
طين يبتكر ضلوعه
-
كفن من ضجر
-
ِمن يعثر على وجهي؟
-
زهر البرتقال
-
منذ زمن لم تضحكك طفلة
-
أسميك حبيبي
-
زمن يشتعل في النسيان
-
فانتازيا الحب
-
ابتهجوا أيها الرجال : المرأة تؤيد ضربها
-
إليك تزحف المسافات يا وطن الزجاج
-
مناصفة نتقاسم الحب عتبات وعرائش
-
صلاة
-
أزمة شعوب
-
الوطن والمواطنة - بين الحلم والممكن
-
كمشة ياسمين تحت أقدام التعب
-
مأزق العقل العربي والحدود المتاحة
المزيد.....
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
-
العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
-
-من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
-
فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
-
باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح
...
-
مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل
...
-
لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش
...
-
مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|