نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 5466 - 2017 / 3 / 20 - 12:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قراءة في الوجود – 7 – عن الوعي، الإرادة و المسؤولية – 1
في سلسلة "قراءة في الوجود" نحاول تتبـُّع الوجود كحالة ٍ قائمة ٍ بذاتها، مُتفاعِلة ٍ مع نفسها، تصدر ُ عنها أنماط ٌ من الكائنات، يتَّسم جزء ٌ منها بخاصية "الوعي" على درجاته. و في المواضيع التي نتطرق فيها للوعي نحاول ُ أن نفهم ماهيَّته على قدر الاستطاعة، عن طريق دراسة خصائصه التي تظهر في سلوك الأفراد و الجماعات المُتَّسمين به، و العاملين بما يُتيحُه لهم من قدرة ٍ على التفاعل ِ مع أنفسِهم و مُحيطهم.
الوعي: كمفهوم، ظاهر ٌ سلوكيَّا ً، يُستدلُّ عليه من الأقوال ِ و الأفعال ِ و التفاعلات ِ و الجدلية ِ مع الواقع بكل ِّ ما يحتويه الأخير من شخوص ٍ تتَّسم بدورها بدرجات ٍ منه (أي من الوعي)، و من مؤسَّسات ٍ مُختلفة: أسرة، مدرسة، جامعة، كيانات اقتصادية (أعمال خاصة، حكومية)، كيانات خدماتية (للدولة، للمجتمع، للأفراد)، كيانات سياسية، الى آخر ما يُمكن أن ينتج عن المجتمع البشري،،،
،،، و لذلك فإن دراسة َ: السلوك ِ نفسِه، و بواعثِه، و المراحل ِ التي يمر ُّ فيها سيقودُنا بالضرورة إلى التَّعرُّف ِ على الخاصية ِ الفريدة ِ التي يتميِّزبها الأحياء و التي تتيح لهم الإتيان بذلك السلوك، و التي يصحُّ وصفها بأنها: "قُدرة ٌ على" أو "إمكانيَّة ٌ لـ"، و التي نسمِّيها: الإرادة.
في ما يُتصوَّر ُ عن الإرادة
---------------------------
ترتبط ُ الإرادة ُ بالسلوكِ، و هو فعل ٌ ما، يقع ُ على فرد ٍ أو جماعة ٍ أو شئٍ غير حي، يقوم ُ به: فرد ٌ حيٌّ واعٍ، و بالتالي يرتبط ُ بمفهوم: المسؤولية، أي َّ أن الفاعل يؤثِّر ُ في بيئة ٍ تستجيب، و تتفاعل ُ معه ُ بدورها، و يصير ُ مُلزما ً بدوره بتلقي تفاعُلِها الذي هو في حدِّ ذاته: فعل ٌ أو أفعال موجهة ٌنحوه. هذا الإلزام بتلقي رد الفعل و عدم إمكانية تحيده هو: المسؤولية، و التي ينطلق ُ منها المجتمع لتشريع ِ قوانينه و تحديد استتباعات الأفعال، و واجبات الأفراد و المؤسسات.
تفترضُ المسؤولية ُ مُسبقا ً وجود عوامِل تكوين ٍ للسلوك هي:
- الإدراك: بمعنى أن الفاعل يفهم ُ و يعي: وجوده كفرد، و وجود مُحيطِه، و علاقته مع هذا المُحيط، و ما يُسمح له أن يأتيه من تفاعلات، و ما يُمنع عنه، و النتائجَ التي يستتبعُها ارتكابُ المسموح أو الممنوع.
- الخيار: بمعنى أن الفاعل كان يمتلِك ُ مساحة ً ما أتاحت لهُ أن يتحرَّك َ فيها ليأتي بسلوك ٍ أو أكثر َ، يُعتبرُ كل ُّ واحد ٍ فيها إمَّا بديلا ً عن الآخر، أو رديفا ً لَهُ.
- الإرادة: بمعنى انتقاء خيار ٍ أو أكثر من المُتاحات، برضى فردي داخلي، بدون ضغوطات ٍ خارجيِّة ٍ تنفي الرضى.
و لقد غدت من المُسلَّمات ِ و البديهيات ِ و اللاتي لا يُدقَّق ُ فيهنَّ و لا يُفحصن َ إلا نادرا ً مُصطلحات ٌ تسرَّبت إلى كل ِّ طبقات الفكر ِ و درجاتها، مثل: "حُرِّية ُ الإرادة" و "تعمُّد الفعل" و "الإصرار و الترصُّد" و "المسؤولية ُ التَّامة"، حتى صار َ استخدامُها دارجا ً بكل ِّ أريحيّة و من قبل ِ عموم ِ الأفراد، على الرغم مما تحملُه ُ من محتوى ً خطير ٍ و ثقيل، لا يستقيم ُ: التَّسليم ُ بالمُتعارَف ِ عليه من معناه، أو - على الأقل ِّ – تعميمُه، أو استدعاؤه حُكما ً في كل ِّ مُناسبة.
لقد أصبحت ِ الإرادَة ُ في التَّصوُّر العام ِّ المُتعارف عليه ِ و الشَّائع: مُطلقة ً، و بالتالي استتبعت: مسؤولية ً مُطلقة ً، تطلبُ بدورها: حُكما ً واضحا ً صريحا ً على السلوك، يقود ُ إلى تصوُّر خطير بأن َّ ما يظهر ُ من دافع هو التفسير ُ الشامل للحدث، و الأساسُ الذي يُنطلقُ منه لتحديدِ المسؤولية بعد تحديد مساحة الخيارات المُتاحة لمُرتكب ِ الفعل، وبالتالي لتثبيت ِ و استدامة ِ و الترويج لـِ مفهوم: العدالة، كبديل ٍ للظُلم و أداة ٍ لاسترجاع الحقوق، , بصفتِها هي الأُخرى: مُطلقة (في نطاق الحدث).
هذا المفهوم ُ المُطلق الذي يُسحب ُ على: المسؤولية الناتجه عن، و اللاحقة لـِ، إرادة ٍ مُطلقة غير مُقيَّدة، تمتلك خيارات ٍ مُتاحة، و يقومُ عليها: وعي ٌ و إدراك ٌ نقيّـان قويَّان ِ غيرُ مشوبان ِ بضعفٍ مُعجِز عن امتلاكِ الخيار و إرادة ِ الاختيار،،،
،،، ما هو َ إلّا عين ُ ما تُبطلُه ُ علوم النفس و الأمراض العقلية (النفسية إن شئنا)، لأننا بتنا اليوم ُ نعلم ُ يقيناً أن َّ الوعي مشوب، و الإدراك َ مُقيَّد، و الخيارات ِ محدودةٌ أو معدمة، و الإرادة َ موضِعُ تنازُعٍ و تجاذُب ٍ و تأثير ٌ، و أن َّ لا شئ في ثلاثية: الوعي الخيار الإرادة: مُطلق، إنَّما جميعُها: نسبية ٌ في أحسن ِ أحوالها، معدومة ٌ أو شبهُ معدومة ٍ (بدرجات) في أسوأ تلك الأحوال، لكنَّها لا يمكن ُ أن تكون ُ أبدا ً خاضعةً لتحكُّم ٍ تام ٍّ و سيطرة ٍ كاملة من مُرتكب ِ الفعل.
نسبية ُ الإرادة
--------------
إن الإرادة َ كمفهوم ٍ و قُدرة ٍ على اتِّخاذ الفعل، نتيجة ٌ و إصدار، أكثر َ منها: تخليق ٌ آنيٌّ كرد ِّ فعل ٍ على حاجة للفعل، أي إنَّها الناتج ُ عن تفاعلات ٍ في الذات الإنسانية، بين تكوينات ٍ نفسية ٍ مُختلفة تتصارع ُ في حيِّزين اثنين: الشعور و اللاشعور، حيث ُ يعرض ُ الأوّل ُ نفسه ليصبحَ ما نسميه الإدراك، بينما يبقى الثاني عاملاً دون أن يُدرَك أو بالأصحِّ "حتى" يُدرك.
ينطلق ُ كلا: الشعور و اللاشعور من الحالة ِ العقلية ِ التي نسميها: الوعي، و هي مُدركة ٌ في شقها الشعوري، و غير ُ مُدركة ٍ في شقها اللاشعوري. و يتفاعل الإثنانِ مع بعضهما بشكل ٍ دائم ٍ بدون ِ توقُّف، بصفتهما: محتويات ٍ للعقل للبشري تشكِّل ُ ما يُعرف ُ بـ "النفس البشرية" و التي أستخدمها كمُصطلح ٍ يمثل ُ نواتِج َ العمليات الكيميائية ِ و البيولوجية ِ و الكهربائية المُختلفة للدماغ، و التي ينتج ُ عنها: العقل بكل ِّ تجلياتِه التي منها: المشاعر و الدوافِعُ و الحاجات الإنسانية.
و حينَ نفحصُ مُنطلـَـق َ الإرادة، لا بُدَّ أن نصل إلى النتيجةَ الواضحة ِ بأنها من: الوعي ِ المُدرَك، أي الوعي الذي نعلمُ عنه و نُحسُّ به، أي من: حيِّز ِالشعور، لكنَّـنا بنفس الثقة ِ في النتيجة، مدعومين بعلوم ِ النفس و الأمراض العقلية (النفسية)، نصل ُ إلى نتيجة ٍ رديفة (لا بديلة) بأن َّ منشأها: حيِّزا الشعور و اللاشعور، و بهذا تتكوَّنُ الصورة ُ الواضحة ُ للإرادة من جزئيها: المنشأ و المُنطلق، فيكون الأوَّل ُ ما نُدركُ بعضه و يحتجب ُ عنَّا بعضُه، و الثاني ما نُدركه بدون احتجاب،،،
،،، و من هنا بالذات ينشأ ُ الحُكم الخاطئ على الإرادة بأنَّها: مُطلقة، و بالتالي على المسؤولية بأنها كذلك: مطلقة، و على حريِّة الاختيار بأنها هي الثالثة أيضا ً: مُطلقة.
أصل ُ هذا الخطأ هو إغفال: اللاشعور، كـ: محتوى ً، و عاملِ تشكيل ٍ للبنى النفسية، ومؤثِّرٍ خفي في صياغة: الإدراك، و الأفعال الناجمة عنه.
في المقال القادم سأعرض ُ أمامكم مثالا ً حيَّا ً على تأثير ِ اللاشعور على تكوين ِ الإرادة، و تحديدِ المُعطيات المُتاحة للإدراك ليتعامل َ معها، و بالتالي على تحديد ِ السلوك، و سنصل ُ للاستنتاج بأن َّ الإرادة َ ليست فقط: مُدركة مرغوبة، إنما هي أيضا ً: غير مُدركة و غير مرغوبة، و أنَّ ما يتحصَّل ُ عنه السلوك إنَّما هو: مُحصِّلة ُ الإرادات المختلفة الشعورية ِ و غير ِ الشعورية و المرغوبة ِ و غير المرغوبةِ، و بالتالي بأن ّ كلمة: الإرادة، ليست المُرادف أبدا ً لوصف ِ قرار ِ الفعلِ الناتجِ عن: الرغبة و الرضى و القناعة و الارتياح ِ و الطُمأنينة،،،
،،، و سأستخدم لهذه الغاية كتاب َ مؤسس علم النفس التحليلي: "سيجموند فرويد"، المُعنون: Psychopathology of everyday life ("الاضطرابات العقلية في الحياة اليومية": العنوان ترجمتي الخاصة و هي ترجمة غير رسمية لغرض تبسيط التقديم).
أشكركم لوقتكم و اهتمامكم، و أرحِّب ُ بملاحظاتكم.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟