آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 5360 - 2016 / 12 / 3 - 15:20
المحور:
المجتمع المدني
يوم الثلاثاء, في السابع والعشرون من أيلول من هذا العام لبيت دعوة قدمت لي من قبل منظمة العفو الدولية في مدينة استوكهولم عاصمة مملكة السويد للحديث عن الاعتقال السياسي في سوريا, لكوني كنت شاهدًا على الفظائع التي ارتكبت بالمعتقلين السياسيين في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.
حجزوا لي تذكرة قطار ذهباً واياباً. عند وصولي إلى المحطة المركزية كان بانتظاري صديقي عمر شقودر في سيارته, ومن هناك اتجهنا إلى مقر المنظمة.
كانت القاعة كبيرة ومنورة كما هو الحال في أغلب مؤسسات هذا البلد الغني والمنظم والدقيق في حساباته وعلاقاته. وعدد الحضور يناهز الخمسون فرداً. هذا يعتبر رقماً كبيراً في السويد في يوم دوام رسمي.
كنت سعيدا بهذا الحضور الكبير الذي جاء ليسمع ما حدث ويحدث في وطننا المنكوب.
قدمني الصديق عبد عطا لله كما يليق بإنسان عانى من قسوة تجربة سجن تدمر.
تحدث عن الاعتقال السياسي في سوريا, عن النظام الاستبدادي الذي جثى على رقاب شعبنا مدة نصف قرن من الزمن. عن العذابات التي عاناها شعبنا وخاصة المعتقلين في السجون وذويهم في خارجه مدد طويلة من الزمن. وبحضور الصديقة ابتسام زينو التي تطوعت لترجمة المحاضرة إلى اللغة السويدية.
بدأت الحديث بالترحيب بالموجودين والشكر لمنظمة العفو التي تطوعت لفسح المجال لنا لتسليط الضوء على الاعتقال السياسي الجاري حالياً في ظل التدمير الشامل لسوريا. قلت:
عملياً, الإرهاب هي صناعة الدولة في المقام الأول.
إن شعبنا في سوريا هو ضحية السلطة التي عملت على توظيف الدولة لمصلحتها لتنفرد بالقبض على الحياة العامة والخاصة, وبكل المفاصل والتحكم بوظائف الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ العام 1958 وإلى اليوم. وقلت:
ثلاثة أجيال عاشوا في هذا البلد الجميل محرومون من الحرية ومن الحياة الطبيعية. ولم نر أو نتمتع بأجواء الديمقراطية والمشاركة الفعالة في شؤون بلدنا ووطننا. ولم نعرف ماذا يعني حقوق المواطنة والمجتمع المدني, ولم يسمح لنا المساهمة في أي فعالية اجتماعية أو اقتصادية.
لقد مارست السلطة وصايا على الدولة والمجتمع وحرمت المجتمع من التفاعل الاجتماعي الطبيعي بين المكونات السياسية, بله جرى العمل على تجفيف العقل السياسي إلى أن تم إلغاءه وإزاحته من التداول لمصلحة سلطة جافة, ميتة لا حياة فيها.
عندما تتحول الدولة إلى صنم, تموت الحياة وتتصحر وتجف المياه في الينابيع ومجاري الأنهار.
إن الإرهاب المنظم بدأ من السلطة, عندما سمحت لنفسها أن تقتحم المجال العام والعلاقات العامة والخاصة وتفرض نفسها كوصي شرعي على كل شيء:
تدخل بيوت الناس دون سابق إنذار أو احترام لحرمته أو كرامته. تفتش وتعتقل من تشاء بناء على وشاية أو تقرير من مخبر معتمد لديها. ولا تضع في حسبانها الآثار المدمرة الذي تتركه على الأفراد أو المجتمع, بله تعمم الخوف والإرهاب في النفوس من أجل نكوص هذا الأخير والارتهان لإرادتها ورغباتها.
يحول الحاكم المستبد أو رأس السلطة, الوطن أو المجتمع وفعالياته إلى مجال خاص به, يزنره ويسوره على مقاسه ومقاس مصالحه ورغباته, ثم ينفصل عنه ليتحول إلى شيء متعال وبعيد, بله إلى مقدس أو صنم يدور الناس في فلكه يطلبون رضاه. فقوانينه وأفكاره وآراءه وسلوكه مقدسة لا يمكن مناقشتها أو المساس بها أو الاعتراض عليها ليتحول المجتمع كله إلى صنم ورموز ودلالات تدور حوله.
عندما يتم اعتقال فرد ما من المجتمع يعمل المستبد المدمن في إيقاع الألم بالضحية عبر تحويل هذه الذات إلى موضوع, إلى شيء يمكن تشكيله, تمثال من صلصال مرن معجون في يديه.
يضع هذا الفرد الذي يراد تشكيله, المأخوذ من الجسد العام, المجتمع, على المشرحة أو على طاولة المشرحة لعرضها على العموم كفرجة عامة, ليتشرب كل واحد هذا التشوف ويتمثله بالكامل:
ـ إن هذا الكائن معاق وجب الحجر عليه وتأديبه وعزله.
هذا المشهد الاحتفالي يتحول إلى آلية حاضرة, مرآة يراها الجمهور ويأقلم نفسه مع هذا السلوك ليجنب نفسه العقاب.
يدرك المجتمع المستلب, شعوره الجمعي, غاية المستبد وما يريده منه. فيقوم الرعايا سلوكهم ليتناسق أو يتناغم مع ما يراد منه, فتتشكل علاقة بين السلطة والمجتمع علاقة مستلب ومستلب وعزل وانفكاك وانكسار لا يمكن ترميمه إلا بكسر رأس المستبد ثقافيا وفكريا وسياسياً عبر عزله عن المجال العام بالكامل. ثم قلت:
لم يكن التعذيب قاسياً في فترة الاعتقال الأولى, بيد أن الخزان الكامن في لا وعييّ هو الذي انفراد في الخروج مني بالرغم عني.
من اللحظات الأولى انبهق ذلك الخوف الراسخ في داخلي إلى السطح ومضى يعبر عن نفسه دون قدرة مني على لجمه أو القبض عليه. أضحى ذلك الخوف الدفين كشلال نهر جارف لا يمكن إيقافه أو صده. خرج من موضعه وحولني بيد السجان إلى كتلة مقهورة قبل أن يبدأ في تناول جسدي أو يدخل الألم فيه.
جاء البوليس السري محملاً في ثلاثة سيارات بيجو طويلة في أيديهم بواريد آلية مخنصرة, ملقمة. أغلقوا الشوارع والهواتف وعطلوا حركة سير السيارات ومنعوا الناس من الاقتراب منهم. كما فتشوا مكتبي في العمل ونشروا جو من الرعب بين زملائي وأصدقائي هناك.
الناس وقفوا على مبعدة يتابعون المشهد, على نواصي الشوارع, عبر النوافذ القريبة من بيتنا يمتصون لذة الألم لحظة بلحظة ليتمثلوه . إنه تماهي أو متلازمة استوكهولم. تتحول العلاقة بين السلطة والمجتمع إلى دلالات ورموز, خضوع لجبروت القوة في حضورها الطاغي والمبجل.
هذه الفرجة السلطوية ترسل إشاراتها ورموزها إلى الوسط الاجتماعي كله:
ـ إن هذا العاق, المحجور لا حصانة له. إنه تحت الوصايا وسيأخذ إلى ركن أخر, سيعزل.
في العزل تدخل السلطة على السجين أو المعتقل من خلال جسده عبر طرائقها لإعادة تشكيله وفق مقاساتها.
إن إخضاع الذات الفردية ليست إلا رسائل مملوءة بالإشارات والرموز إلى الجميع أن عليهم الامتثال للمستبد وأن لا يسمح لكأن من يكون أن يكون بمنأى عن التعذيب.
في سؤال الصديقة نادية دريعي عن أن التعذيب أقسى مما وردته, قلت:
ـ إن التعذيب له علاقة بالحركة الاجتماعية وشدتها وقدرتها على تهديد مرتكزات السلطة. تسترخي قبضة هذه الأخيرة أو تشتد تبعاً لحيوية المجتمع ونشاطه وقدرته على إيجاد بديل حقيقي.
أنا اعتقلت في فترة السيطرة المحكمة على الدولة والمجتمع. أما في وقتنا هذا, بعد أن ثأر شعبنا وحول الساحات والمدن في بدايتها إلى احتفالية تحدي لراهنية وجوده, امتشق المستبد بدعم من حلفاءه الدوليين والأقليميين سيفه من غمده ومضى يضرب بمنتهى القسوة.
لقد شرع الإرهاب المنظم على أوسع نطاق وتحول إلى:
أما قاتل أو مقتول.
لا تجدي الأدوات السابقة التي كان يمارسها في اخضاع الضحية بعد قيام الثورة. وأنما تحولت ساحة صراعه إلى تدمير المجتمع بمن فيه لإعادة الناس إلى الحضيرة السابقة.
في الفترة التي اعتقلت فيها في النصف الثاني من الثمانينيات من القرن العشرين كانت حركة المجتمع خامدة واستطاعت السلطة أن تحسم الصراع لمصلحتها ومضت تشكله وفق ما تريد, أما اليوم فالوضع مختلف تماماً
اليوم يقبع في السجن مئات الآلاف من المعتقلين من مختلف الشرائح الاجتماعية في ظل أقسى الظروف النفسية والعذابات الجسدية والحرمان من أبسط الحقوق, كالنوم والأكل والزيارة.
نحتاج إلى رفع الصوت من أجل انقاذهم من براثن هذا الوحش القابع على جسد الوطن السوري.
لنرفع الصوت عالياً ليتوقف الاعتقال في سوريا وليرحل هذا النظام إلى غير رجعة.
الحديث كان طويلاً, هذا موجز لما ورد فيه.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟