آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 5277 - 2016 / 9 / 6 - 18:45
المحور:
الادب والفن
رواية, ابن سينا أو الطريق الى أصفهان, للروائي الفرنسي جيلبيرت سينويه, ترجمة آدم فتحي, تقع في أربعمائة وأربعة وثمانون صفحة من القطع الكبير عبر منشورات دار الجمل.
رواية ساحرة, شيء مثل الخيال, ابداع ما بعده ابداع. اتخيل أن المترجم اضفى على هذا العمل سحر ألف ليلة وليلة وجمال الخيال الأدبي والفني والتحليق في فضاء البحث عن المجهول, في محاولة أكتشاف العوالم الخفية لهذا الكون الخفي وعوالمه وأبعاده وتكوينه.
مستحيل أن يكون النص الفرنسي بهذا الجمال الآخاذ الذي عمل على ترجمته آدم فتحي. الترجمة نص أخر فيها روح المترجم, فضاء الشرق, روحه وسحره وغرائبه, توازناته وتناقضاته, موسيقاه الخاصة وايمانه ورغباته في دمج المطلق في النسبي, خاصة إذا كان أديباً متمكناً من أدواته الفنية وصنعته الأدبية.
هناك كم هائل من المعلومات تحتاج إلى التوقف عندها, شخصيات تاريخية فاعلة في ذلك الزمن, دول وشعوب اندثرت, اسماء أدباء وأطباء وعلماء.
الرواية جميلة فيها حرفنة عالية جداً, فيه توظيف موفق للتاريخ بأسماء مدنه القديمة وعلماءه ودوله وصراعاته السياسية والاجتماعية.
أخذتني هذه الرواية من لبي بعيداً عن هذا العصر الجاف والقاسي في ممارساته. أخذتني إلى الماضي إلى حيث الصمت المقدس الذي نفتقده في حضارتنا المعاصرة الصاخبة. كل شيء في تلك الفترة بسيط وطبيعي, الطعام, الثياب والعلاقات وخاصة الطب, فهو يعتمد على الأعشاب في معالجة الأمراض .
ما يثير الاهتمام أن الدولة العباسية الثانية كانت منقسمة إلى إمارات مستقلة عمليا عن بغداد, وكل أمير لديه طاقم يحكم من خلاله.
الغريب أن كل أمير كان محاطاً بكوكبة من الأدباء والعلماء والأطباء والمبدعين في كل المجالات, كأبن سينا والبيروني والرازي والفردوسي, وابو سهل عيسى بن يحي المسيحي الجرجاني, والمتنبي وأبو الفراس الحمداني وعمر الخيام والفارابي وغيرهم, وكوكبة كبيرة من الباحثين.
حقيقة شيء مثير للاهتمام أن تكون الدولة المركزية تفتقد للتماسك, بله متناحرة وكل أمير يحارب الإمارة المجاورة له ولديهم كل هؤلاء المبدعين الكبار الذين سطروا القرون الوسطى بأسطر من ألماس.
ابن سينا, حكاية الإنسان الباحث عن الخلود, عن ذاته في البحث عن خفايا الوجود, ذلك الإنسان الموهوب التي حبته الطبيعة بقدرات خارقة وذكاء استثنائي قياساً لزمانه وأدوات عصره واشتغالهم على البحث من موقع جهد فردي دون أن يكون هناك مركز أبحاث أو علوم.
لم يكن ابن سينا محرجاً من القول أنه كان يستند على فكر ارسطو في الفلسفة وأبقراط وجالينوس في الطب وعلم التشريح واقليدس في علم الرياضيات او لفلك وغيرهم.
ولم يكن هناك حرج أن يأخذ ابن سينا أو غيره من علماء العرب والمسلمين من علوم الاغريق واليونان ويضيف ويطور لتتحول الثقافة إلى إله محب للإنسانية وفي خدمة الإنسانية.
لقد كان ابن سينا ذا حضور طاغي على الذين حوله وعلى عالمه في تلك الأزمان الغابرة, رجلاً مجتهداً استفاد من عبقريته وتعب على أفكاره ومبادئه في الحياة واكتشف علاج الكثير من الأمراض الخطيرة عبر الأعشاب واستخدم الجراحة في خطوة لم يسبقه إليها غيره من الأطباء السابقين عليه كفتح الرغامة وإجراء العملية القيصرية لإخراج الجنين من بطن امه عبر تخدير المرأة بالافيون أو الخشخاش وتعقيم الأدوات الطبية المستخدمة بالعملية بالنبيذ أو الكحول المركز. كما عالج الالتهابات والأمراض المعدية كالملاريا وداء الصدف التي يقشر الجلد واستطاع الدخول في تجاويف النفس الإنسانية وحل الكثير من القضايا النفسية العميقة لمعرفته العلاقة الجدلية بين البدن والعقل.
يبدو أن المترجم آدم فتحي تناغم قلبه مع أجواء العمل فحلق مع الكلمات وسكر أو كأن النبيذ كان جالساً إلى جوار الكلمات يشربان من بعضهما وطارا في السماوات البعيدة. وضع الشموع على الطاولة والقلم والتاريخ والناس والأفكار والأمال والبشر ومضى يرسم الزمن والشخصيات. أخذ من جيلبيرت سينويه الخطوط العامة أو كلها في رسم معالم الطريق الذي خطته الرواية, ولون الأحداث بلغة عذبة, جذلة, آخاذة. إنها اللغة العربية المفتوحة التي تكلم عبرها عن بريق الخيزران والصفصاف ولا زورد السماء والشهية على نثر الفرح وتعرية تناقضات الزمان والمكان, ولمعان الحجارة ووقع حوافر الخيل والبغال والحمير وصياح الدواجن وأصوات هامسة تنبئ أن العشق في طريقه إلى القلوب, وخروج الجمال من مكمنه كصدى لصور وأصوات لم تبارح مكانها في الذاكرة الملتهبة, تجعل المرء يتراقص على وقع الخيل والليل والمرأة والفن والحب والجنس, كأننا في أجواء ألف ليلة وليلة أو استعارة من أجوائها في وصف الحدائق والمرأة والبيوت والقصور والأضواء والشمعدانات والثياب والسجاجيد ورائحة العطور المشربّة برائحة مر الصبر المدوخة الملتهبة في محاجر الطيب أثناء التجوال في ساحات البازار الكبير في بخارى أخرى أو"مدينة الري, مدينة الألوان السبعة والأسوار السبعة والحدائق الألف".
وبرع في أدخال كلمات عربية قلما تستخدم هذه الأيام كالكاغذ والعيًار والمصاقبة والكفل.
في الرواية لم يخلوا ابن سينا من الجنون في العشق وممارسة الجنس وفي الشراب وفي الذهاب إلى الغايات إلى أقصى حدود امتهان الوصول إلى اللذة في الأشياء القابعة في الذواكر الأخرى, والشعور بالدونية والخجل لكونه من أم يهودية كان يعير بها من قبل البعض وإن ضغطهم عليه دفعه باتجاه التبحر في دين إبراهيم لساعات طوال ولطالما كرر هذه الآية: ومن يرغب عن دين إبراهيم إلا من سعة نفسه.. وقد أضحت حقيقة ايمانه أشبه بريح الشمال التي تنضح في الدروب دون أن يراها أحد.
هذه الرواية تستحق القراءة والنهل منها لتكوين رؤية عامة أو صورة لصور الحياة في القرن العاشر والحادي عشر.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟