أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجواد سيد - تاريخ البابوية القبطية المبكر-ستيفن ديفيز-ترجمة عبدالجواد سيد















المزيد.....



تاريخ البابوية القبطية المبكر-ستيفن ديفيز-ترجمة عبدالجواد سيد


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 5224 - 2016 / 7 / 15 - 03:16
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تاريخ البابوية القبطية المبكر- ستيفن ديفيز-
-الفصل الثالث - الخلاف اللاهوتى-
ترجمة عبدالجواد سيد

ومع نهاية الإضطهاد الكبير ومع صعود الإمبراطور قسطنطين إلى الحكم (312-337م) سرعان مابدأت حظوظ الكنيسة االمسيحية فى مصر وفى باقى الإمبراطورية الرومانية فى التغير. فمع إنتصار قسطنطين الحاسم على منافسه الإمبراطورى - مكسنتيوس - فى موقعة جسر ميلفيان خارج روما سنة 312م ، يُقال أنه قد رأى المسيح فى رؤية وأنه وبناء على ذلك فقد أمر جنوده برفع علامة المسيح ( اللابروم) فوق دروعهم .( بالمصادفة البحتة تتشابه علامة اللابروم تلك – أى علامة رابطة الأباطرة - مع علامة الصليب ومع ذلك فقد إعتبرت الأجيال التالية أن المقصود برفعها ذلك اليوم كان هو رفع علامة صليب المسيح). وبعد إنتصاره والإعتراف به كحاكم أعلى من قبل مجلس السناتو(مجلس الشيوخ الرومانى) أصبحت الكنيسة فجأة هى المستفيد الغير متوقع من الحماية الإمبراطورية وذلك رغم حقيقة أن قسطنطين نفسه إستمر فى إظهار التبجيل العلنى للإله سو إله الشمس الرومانى.
كانت رعاية قسطنطين للكنيسة واسعة النطاق. فقد أيد إسترداد الكنيسة لممتلكاتها والتى كانت قد ُصودرت اثناء فترة الإضطهاد كما أمر بهبات من الخزانة الإمبراطورية من أجل بناء وترميم وزخرفة الكنائس بالإضافة إلى نشر مخطوطات الكتاب المقدس. وبالإضافة إلى ذلك فقد أسبغ على رجال الدين المسيحيين حقوقا ومميزات خاصة وقد حصلوا – بشكل خاص – على إعفاءات من الخدمات الحكومية العامة ومن الضرائب. وأُدخل كثير من الأساقفة المسيحيين إلى دائرة المقربين من قسطنطين فى البلاط الإمبراطورى ومُنحوا سلطة ترأس إدارة المنازعات القانونية التى تحتوى على أطراف مسيحية. وأخيرا فقد قام قسطنطين أيضا بإصلاحات قانونية عكست حمايته للقضايا المسيحية ، فألغى الصلب كشكل من أشكال العقاب وإعترف بيوم الأحد كيوم مقدس فى الإمبراطورية يُمنح فيه الجنود فى الجيش أجازة رسمية لأجل العبادة.
وحيث لم يعدوا يشعرون بتهديد خطر الإضطهاد مرة أخرى فقد بدأ كثير من المسيحين يحتفلون بحكم قسطنطين على أنه عصر ذهبى أخروى نزلت فيه مملكة الله إلى الأرض. ويكتب المؤرخ المسيحى يوسيبيوس( إن إمبراطورنا - صديق الله والذى يحمل صورة الملكية المقدسة - وعندما يدير دفة الحكومة ، فإنه يحكم تبعا لمشيئة الواحد فوق جميع الأشياء على الأرض). ومن جانبه فقد دعى قسطنطين نفسه( الأسقف الذى عينه الله على جميع الأشياء الخارجة عن نطاق الكنيسة). وبالنسبة لكتاب مثل يوسيبيوس وبالنسبة لقسطنطين أيضا فإن وحدة الكنيسة ووحدة الإمبراطورية مضت جنبا إلى جنب ، علامات مؤكدة على نعمة الله وعلى مجد روما المتجدد.
ومع ذلك ، ففى بعض الأماكن ، فإن هذه الرؤية الخيالية عن كنيسة وإمبراطورية موحدة قد بدأت تُظهر علامات خلل مُقلقة. ففى كنيسة شمال إفريقيا بدأت الأخبار عن الإنشقاق الدوناستى تصل إلى مسامع قسطنطين فى سنة 313م . وسوف تشتعل تلك الحرب الأهلية الكنسية برغم محاولات الإمبراطور المتكررة لفرض إرادته على الكنيسة الدوناستية المنشقة. وبعد نصف عقد من الزمان سوف يُضطر قسطنطين إلى التدخل فى نزاع لاهوتى نشأ فى الإسكندرية حول تعاليم كاهن يسمى آريوس. وسوف يمتد ذلك الخلاف الذى إستغرق ستين عاما وسمى - فتنة آريوس – إلى خارج حدود الإسكندرية وسوف يدوم لفترة طويلة بعد حكم قسطنطين.
كانت فتنة آريوس هى الأولى فقط فى سلسلة من النزاعات اللاهوتية التى ضربت الكنيسة المصرية وحوض المتوسط خلال الفترة الباقية من القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس. وحيث لم يعدوا يواجهون أى تهديد بخطر الإضطهاد بدأت الكنيسة الأكبر – وبشكل متزايد – تجد نفسها تُشغل وتُقسم بسبب إنقسامات داخلية حول مسائل عقائدية. وكما سوف نرى ، فقد وجدت القيادة الكنسية المصرية نفسها – وبشكل قوى - فى مركز ذلك الإضطراب اللاهوتى والسياسى.
وفى هذا الفصل سوف أركز – بشكل خاص – على ثلاثة عواصف من النزاعات اللاهوتية أثناء تلك الفترة وهى الخلاف الآريوسى بين السنوات 318-381م و الخلاف الأوريجينى بين السنوات 390-410م. و الخلاف النسطورى بين السنوات 428-451م. ففى كل من هذه البدع أو الخلافات اللاهوتية وضع البطاركة السكندريون أنفسهم فى موقف المدافعين المخلصين عن الأرثوذكسية اللاهوتية( يُقصد بالأرثوذكسية المواقف والمفاهيم الدينية التقليدية التى إصطلح على العمل بها فى الكنيسة المسيحية الأولى) والتى غالبا ماأصبحت كمانعة الصواعق ضد نقد خصومهم. وكثير من الأدب الذى أنتجه البطاركة أثناء تلك الفترة كان أدبا جدليا وهو كتابات سجلت حروب الكلام التى كانت تُشن بين الجماعات الدينية المتصارعة. وعلى هذا فأثناء الخلاف الآريوسى قام البطريرك إسكندر( 312-328م) بتوزيع سلسلة من الخطابات ضد تعاليم آريوس. وسوف يقوم خلفه أثناسيوس( 328-373م) بكتابة إعتذار فى شكل (تاريخ وثلاثة مقالات رسمية ) ضد أتباع آريوس بالإضافة إلى العديد من الخطابات والمقالات الأخرى. وحتى الترجمة التنسكية الشهيرة لأثنايوس (حياة القديس أنطونيوس) تحتوى على أجندة ضمنية ضد آريوس. وأثناء الخلاف حول لاهوت أوريجن فى نهاية القرن الرابع إستخدم كبير أساقفة الإسكندرية الأسقف ثيوفيلوس (385-412م) نفس أسلوب الخطابات العامة والعظات لمواجهة هؤلاء الذين تبنوا آراء أوريجن. وأخيرا وأثناء الخلاف حول طبيعة المسيح فى القرن الخامس وُظفت تكتيكات مماثلة من قبل كيرلس ، أسقف الإسكندرية ( 412-444م) وخلفه ديوسقوروس ( 444-454م). وبين الإنتاج الأدبى الكبير لكيرلس – على سبيل المثال - يمكن لنا أن نجد العديد من المقالات الكاملة ضد النسطورية بما فى ذلك قائمة من إثنى عشر لعنة تدين نقاط معينة من عقيدته عن المسيح.
ومع ذلك ، فلم تكن أهمية البطاركة السكندريين قاصرة ببساطة على إنتاجهم الأدبى ولا فى الدور الذى لعبوه فى التحديد والدفاع عن عقيدة الكنيسة المصرية فقد كان لهم أيضا دورا إجتماعيا وسياسيا متداخلا – بشكل لايمكن فصله - مع بعض المبادئ والأفكار اللاهوتية. فعلى مستوى دولى ، كان بطاركة القرن الرابع والخامس لاعبين أساسيين فى أولى المجامع المسكونية ( العالمية) التى بحثت عن حل للنزاعات اللاهوتية ولكنها فى الواقع وعلى العكس من ذلك فقد زادت من تلك الخلافات اللاهوتية الشائكة التى كانت تقع فى أساس تلك النزاعات. وفى الواقع ، فقد كان فى تلك الفترة أن بدأ البطاركة المصريون يفترضون لأنفسهم صورة عالمية حقا ، ممارسين لتأثير قوى فى المجامع المسكونية ومتابعين لمنافسة ساخنة مع بطاركة روما والقسطنطينية من أجل التفوق والسلطة داخل الكنيسة العالمية.
وعلى الجبهة الداخلية حيث كانت الخلافات اللاهوتية تتحرك فى الغالب على نطاق أضيق بين الجماعات المتصارعة فى الكنيسة المصرية كان البطاركة السكندريون يواجهون المهمة المعقدة فى كسب التأييد للمواقف اللاهوتية التى يؤيدونها. كانت تلك العملية تحدث على عدة مستويات – بين الطبقات الإجتماعية الحضرية المختلفة الممثلة فى مدينة الإسكندرية وأيضا عبر الحدود الإقتصادية والجغرافيا واللغوية فى المدن والقرى فى صعيد مصر. كانت الوسائل التى إستخدمها البطاركة للحصول على مثل ذلك التأييد اللاهوتى مرتبطة بشدة بالعادات الإجتماعية لتقاليد الرعاية الرومانية القديمة والتى كان يتوقع فيها من الطرف الراعى توفير الدعم المالى أو الحماية مقابل الولاء والخدمات التى يقدمها الطرف التابع. وفى حالة بطريرك سكندرى فإن التأييد الذى كان يقدمه لتابعيه كان يمكن أن يأخذ شكل منافع إقتصادية ومدنية – مثل منح الناس دخولا أكثر حرية إلى صدقات القمح أو تمويل بناء كنائس أحدث وأكبر بالإضافة إلى منافع أكثر تقليدية لاهوتية وروحية كتعيين الكهنة الجدد وضمان الدخول المنتظم إلى طقس (القربان المقدس). ومقابل مثل هذه الأشكال من الرعاية كان على تابعى الأسقف أن يقدموا ولائهم المستمر أحيانا فى شكل تجمعات عامة أو مظاهرات ضد خصوم الأسقف اللاهوتيين.
وبين أهم أماكن ممارسة مثل هذه الرعاية البطريركية كانت جماعات الرهبان التى كانت قد بدأت فى الإنتشار مثل الزهور البرية فى المشهد الإجتماعى المصرى فى بدايات القرن الرابع . ظهرت الديرية ( حركة الرهبنة) أخيرا – وبشكل جزئى على الأقل – كرد فعل أو إعتراض على التوافق الإجتماعى للكنيسة فى حقبة السلام التى أطلقها قسطنطين . فعلى أطراف المجتمع ، وأحيانا فى المراكز الحضرية ، أسس الرهبان المصريون نوعا بديلا من الحياة ، بإدارة كهنوتية مستقلة مثلت تحديا واضحا للحياة العامة للكنيسة ولحكم الأسقف. إجتهدت القيادة الكنسية والرهبان أنفسهم لتحديد كيف يجب أن ترتبط الأديرة – بشكل مناسب – بالمجتمع من جهة وبالكهنوت الكنسى من جهة أخرى. ومن جانبهم فغالبا ما حاول البطاركة والأساقفة المحليون أن يمارسوا تأثيرا على الرهبان كى يتم رسمهم ككهنة وذلك لإحضارهم بشكل أكثر مباشرة تحت السلطة الأسقفية. وقد رفض العديد من الرهبان – بإصرار- هذا الضغط الكنسى لتعيينهم ضد مشيئتهم. أصبح الموقف أكثر تعقيدا بوجود رجال دين معينيين بين الرهبان والذين وجدوا أنفسهم مدينيين لكل من رؤسائهم الديريين ولأساقفتهم على السواء . وهكذا وفى منتصف النزاعات اللاهوتية للقرنين الرابع والخامس وجد البطاركة السكندريون أنفسهم فى مواجة مهمة شديدة الحساسية – مهمة محاولة إخضاع الحركة الديرية شديدة الإستقلال إلى توافق أقرب لسياساتهم الدينية والسياسية.
وفى هذا الفصل سوف نستكشف كيف بدأ بطاركة هذه الفترة – وفى خضم ذلك الخلاف الدينى - فى تشكيل روابط هامة مع جماعات الرهبان المصريين ، تلك الروابط التى مازلت مستمرة حتى اليوم. وكما سوف نرى ، فإن محاولة البطاركة لكسب تأييد الرهبان خلال القرنين الرابع والخامس قد شكل – وبشكل يتعذر محوه – الهوية التاريخية للبطريركية المصرية ولعب دورا حاسما فى تأسيس العقيدة الأرثوذكسية القبطية.

الإسكندر وأثناسيوس وفتنة آريوس فى مصر.

فى زمن قريب من سنة 318م بدأت تعاليم كاهن يسمى آريوس تجذب الإهتمام العام فى كنيسة الإسكندرية. كان آريوس – وهو من أصل ليبى - قد عُين كاهن أبرشية فى منطقة بوكولو بالضاحية الشرقية للإسكندرية ربما أثناء فترة الولاية القصيرة ذات الستة أشهر للبابا أخيلاس خلف البابا بطرس سنة 312م أو ربما خلال السنوات الأولى من حكم البابا الإسكندر(312-326م). كان آريوس واعظا بليغا وقد جذبت عظاته كثيرا من الأتباع ولكن تعاليمه المميزة قد أثارت أيضا - فى النهاية - رد فعل إنتقادى من البابا الإسكندر والكهنوت الكنسى. ورغم أن الإسكندر كان فى فترة ما يكن لآريوس تقديرا كبيرا فإن الخلاف اللاهوتى المتنامى بينهما سرعان ماآذى هذه العلاقة وهدد بدفع الكنيسة السكندرية إلى الإنشقاق.
كانت نقطة الخلاف فى ذلك النزاع اللاهوتى المتنامى هى طبيعة المسيح ككلمة مقدسة أو – وبمعنى آخر - هى طبيعة المسيح الإبن فى علاقته بالإله الأب . ولسوء الحظ فقد فُقدت معظم كتابات آريوس الأصلية أو دُمرت وكنتيجة لذلك فإن كتاباته فى ذلك الموضوع كان يجب أن يعاد بنائها من قطع ومقتطفات متناثرة عاشت من كتاباته فى مقالات ورسائل كتبت ضده من قبل خصومه. وفى أحد خطاباته الباقية وهى عبارة عن دفاع موجه إلى متهمه - البابا المبارك الإسكندر- يوضح آريوس وجهة نظره عن طبيعة المسيح فيقول :

( إن عقيدتنا ، التى أخذناها عن أجدادنا ، وتعلمناها منك أيضا ، هى هكذا. نحن نعرف إله واحد أحد غير مولود ، دائم أبدا وحده ، ليس له بداية وحده ، حقيقيا وحده ، خالدا وحده ، حكيما وحده ، خيرا وحده ، سيدا وحده ، والذى أنجب إبنا وحيدا قبل الأبدية والذى من خلاله صنع العصور وصنع كل شئ . لقد خُلق الإبن بمشيئة الله قبل الزمان وقبل العصور وقد إستقبل الحياة والكينونة والأمجاد من الله لإن الله قد أشركه فيها معه. وكون الله كان سبب كل ذلك بدون بداية ، واحدا أحد ، و كان الإبن وقد أنجب من قبل الله ، وخلق ووجد قبل العصور، فإنه لم يكن موجودا قبل أن يُخلق. ولكن الله كان موجودا قبل كل شئ كسبب وجوهر ، ولهذا ، فهو أيضا قبل الإبن ، كما تعلمنا منك عندما كنت تعظ فى كل أنحاء الكنيسة).

كان تأكيد آريوس على أن الإبن قد خُلق قبل الزمن وأنه يأتى فى مرتبة تالية للأب قد تأسس على تفسيره لبعض نصوص الكتاب المقدس ثم حُفز ببعض الإهتمامات اللاهوتية واللاهوتية الخلاصية. فمن جهة وفى وصفه للإله الأب على أنه الواحد الأعلى وأنه بلا بداية يبدو آريوس وكأنه كان معنيا بتأمين الكمال الفردى وتفرد الإله الأعظم – والذى يُعرف هنا بالأب. كان ذلك إهتماما لاهوتيا وجد منذ زمن طويل فى مصر بين اللاهوتيين المسيحيين من ذوى التقاليد الأفلاطونية والذين يتشاركون فى إلإفتراض القائل بأنه يمكن أن يكون هناك ذات واحدة كاملة عليا فقط. وتبعا لتطبيق آريوس لذلك المنطق فإذا ماكان الأب قد عُرف على أنه الإله الأعلى فكل الكائنات الأخرى– بما فى ذلك الإبن- يجب أن تأتى - وبالضرورة - فى مرتبة تالية له.
ومن جهة أخرى، فإن عقيدة آريوس يبدو أنها قد تأسست أيضا على إهتمام لاهوتى خلاصى خاص ، أى إهتمام بطبيعة الخلاص الإنسانى. فبالنسبة لآريوس ولأتباعه الأوائل فإن قداسة الإبن قد مُنحت له من قبل الأب – وذلك كنوع من الترقية المسبقة أو التبنى الإلهى و بتوقع تطوره فى الفضيلة والكمال . وهذا التصور بأن الإبن كان يمكن أن يتغير – ولو إلى الخير - كان نقطة الخلاف الأساسية بالنسبة للأسقف الإسكندر وخصوم آريوس اللاحقين والذى لعب ثبات طبيعة المسيح دورا أساسيا بالنسبة إليهم فى دراما الخلاص الإنسانى. ومع ذلك ، فبالنسبة لآريوس وأتباعه الأوائل فإن التقدم الناجح للإبن نحو الكمال فى هذه الحياة - بالإضافة إلى ملكيته لبنوة مقدسة بموجب التبنى – قد قدم نموذج للفهم الآريوسى للخلاص الإنسانى من خلال تقليد فضائل المسيح.
وقد حدد رد الإسكندر على تعاليم آريوس ظروف المرحلة التالية من الصراع اللاهوتى. ففى خطاب كُتب إلى سميه الإسكندر السالونيكى ، رفض الأسقف المصرى كل من موقفى آريوس اللاهوتى واللاهوتى الخلاصى . فبالنسبة للإسكندر فإن الأب والإبن كلاهما مماثل للآخر ، كلاهما كامل ومتساو فى المشاركة فى الإلوهية. وفى الواقع ، فقد تساءل – فى ذلك الخطاب - كيف كان يُمكن للإله كأب أن يوجد أبدا بدون الإبن ؟ ( أنه من الضرورى أن الأب كان دائما أبا، ولكنه أبا للإبن الموجود دائما ، والذى وبناء على وجوده فقد دُعى بالأب ).

ومن الواضح أن صياغة الإسكندر لهذه الفكرة تعتمد على التقليد الثيولوجى السكندرى ، وخاصة على أوريجن ، والذى كان قد قدم فكرة (جيل الإبن الأبدى) قبل قرن من ذلك التاريخ.
وبالإضافة إلى رفض فكرة آريوس عن مرتبة الإبن التالية للأب ، فقد عارض الإسكندر أيضا فهم آريوس للخلاص الإنسانى كأنه إختيارنا المشترك مع المسيح كأبناء لله. وبدلا من ذلك فقد أصر الإسكندرعلى أن بنوة المسيح كانت من طبيعة مختلفة تماما عن طبيعة بنوتنا. فبينما مانزال نحن أبناء وبنات لله بالتبنى فإن المسيح هو إبن الله تبعا لطبيعته الغير متغيرة.

( وهكذ فإن سيدنا المسيح ولكونه إبن الله بالطبيعة ، فإنه يُعبد. وأن هؤلاء الذين وضعوا روح العبودية جانبا ، بدافع الفضيلة والإرتقاء، والذين إستقبلوا روح التبنى كأبناء ، فقد أصبحوا أبناء بتبنى يوضح فضل الإبن ، الذى هو إبن بالطبيعة ).

إن التمييز الذى كان الإسكندر يقوم به هنا كان يحتوى على العديد من التضمينات عن فهمه للخلاص الإنسانى ، فقد كان فقط من خلال فضل الواحد الذى هو إبن الله بالطبيعة أن يمكن للبشر أن يصبحوا أبناء الله بالتبنى ويحصلون على الخلاص. إن خط الدفاع هذا هو الذى أصبح شعارا لأثنانسيوس وآخرين من الذين سيتبعون الإسكندر فى معارضة تعاليم آريوس .
لقد أصبح ذلك الجدل الثيولوجى العنيف المشار لخطوطه العريضة هنا حافزا لسلسلة من الإحداث هددت وحدة الكنيسة المصرية وفى النهاية هددت حتى وحدة الإمبراطورية الرومانية نفسها. وبفترة قصيرة بعد إدراك تضمينات تعاليم آريوس عقد الإسكندر مجلسا محليا من الأساقفة فى الإسكندرية لمعالجة تلك المسألة حوالى سنة 318م. وعندما رفض آريوس التوقيع على ( إقرار بالأرثوذكسية ) صاغه الإسكندر فى المجلس فقد إتخذ البطريرك إجراءات حرمانه من الكنيسة مع عدد من أتباعه. ومن هذه النقطة فقد تصاعد الخلاف بين الجانبين ووصل إلى مرحلة عالمية.
ومن جانبهم ، فقد بدأ آريوس وأتباعه فى كتابة الرسائل والسفر إلى أسقفيات مختلفة فى أنحاء الجزء الشرقى من الإمبراطورية آملين فى الحصول على التأييد لوجهات نظرهم تلك. (أصبحت مصر تتبع الجزء الشرقى من الإمبراطورية الرومانية بعد إصلاحات الإمبراطور دقلديانوس الإدارية فى أخريات القرن الثالث والذى قسم فيها الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين إداريين كبيرين ، شرقى وغربى ، ثم أكد قسطنين الكبير ذلك التقسيم بنقل عاصمته من روما إلى بيزنطة الواقعة على شاطئ خليج البسفور فى الجزء الشرقى من الإمبراطورية سنة 325م والتى ظلت مصر تابعة له حتى غزو العرب لها سنة 641م). وبدا أن مجهوداتهم قد لاقت بعض النجاح. فقد أعلن آريوس فى خطاب مبكر كُتب إلى يوسيبيوس النيقوميدى( نسبة إلى نيقوميديا بآسيا الصغرى) عن عدد من ألأساقفة الشرقيين الآخرين على أنهم من مؤيديه بما فى ذلك أساقفة لادوشيا ( اللاذقية) وصور وأنازاربوس وليديا وأيضا المؤرخ الشهير يوسيبيوس القيصرى فى فلسطين. وقد كان يوسيبيوس النيقوميدى نفسه - الموجه إليه الخطاب - والذى إعُتبر نصير آريوس الرئيسى ، أسقفا ذا تأثير قوى فى البلاط الإمبراطورى ويبدوأنه قد إستضاف آريوس لفترة من الوقت أثناء أسفاره. وتمدنا قرارات مجمعين مختلفين عُقدا أثناء تلك فى الفترة ، مجمع بيثينيا فى آسيا الصغرى حوالى سنة 320-321م ومجمع قيصرية فى فلسطين حوالى سنة 321-322م بالدليل على التأييد القوى التى نالته آراء آريوس فى بعض الأماكن . فقد أيد كلا المجمعين أرثوذكسية لاهوت آريوس وطالبا البطريرك المصرى(الإسكندر) بإعادته إلى الكنيسة. ومتشجعا بتلك القرارات فقد قرر آريوس العودة إلى الإسكندرية فى نهاية الأمرعازما على تأسيس كنيسته الخاصة هناك .
وفى نفس الوقت كان الإسكندر نفسه يبحث عن التأييد من قادة الكنائس الآخرين من خلال حملة من كتابة الخطابات قام بها بنفسه. وفى معارضة آريوس ويوسيبيوس النيقوميدى فقد كتب منشورا حوالى سنة 319م موجها إلى العديد من الأساقفة فى أنحاء إقليم البحر المتوسط وخاصة إلى هؤلاء فى سوريا وفلسطين حيث كان آريوس وأتباعه نشيطين. وقد أرسل نسخا أيضا من ذلك المنشور العام إلى رجال الكنيسة بالإسكندرية وضواحيها مرفقا بخطاب إفتتاحى محذرا إياهم من الخطر الآريوسى الجديد وحاثا إياهم على إضافة توقيعاتهم كعلامة على تأييدهم له فى حملته على آريوس. أصبح كتابة مثل تلك المنشورات العامة أسلوبا تقليديا كان البطاركة المصريون – من خلاله – يقوون من روابطهم مع المراكز الكنسية الأخرى ويؤكدون قيادتهم الرعاوية على دائرتهم فى مصر.
وفى النهاية سبب النزاع المستمر بين آريوس والإسكندر رد فعل من الإمبراطور قسطنطين الذى كتب خطابا رسميا إلى الإسكندر وآريوس حوالى سنة 324م حاثا كل منهما على البحث عن تفاهم. وعندما أصبح من الواضح أن ذلك الخطاب لم يأت بالنتيجة المرجوة منه ، دعى قسطنطين إلى عقد مجمع كنسى عام فى نيقية بآسيا الصغرى لحل ذلك الخلاف مرة وإلى الأبد. وفى النهاية أدان تجمع الأساقفة هذا فى نيقية سنة 325م موقف آريوس صراحة وأيد موقف الإسكندر اللاهوتى بالتأكيد على أن الإبن كان من نفس جوهر أو من نفس ذات الأب. وتحت وطأة الضغط الإمبراطورى ، إنشق عدد قليل فقط. ومع ذلك فإن كلمة جوهر أو ذات (هوموسيوس) والتى ربما يكون قسطنطين قد إقترحها بنفسه ، كانت - إلى حدا ما - إصطلاحا جديد مفتوحا للعديد من التفسيرات والتى لم تكن تضميناته بالنسبة للاهوت تعليل طبيعة المسيح قد إتضحت بعد للمشاركين بشكل تام. وقد خرج كثير من الذين وقعوا على هذه العقيدة وهم غير متأكدين عن ماذا تعنى أو كانوا غير راضين عنه كتعبير فلسفى ليس له سابقة فى الكتاب المقدس.
وهكذا وبدلا من وضع حد لفتنة آريوس فقد أعلن مجمع نيقية عن فتنة أخرى - فى الواقع - وسعت من مرحلة الجدل الذى إختلفت خلاله الجماعات اللاهوتية المتعددة حول إمكانية تطبيق تلك الكلمة فى ذلك السياق. وسوف يُعرف مجمع نيقية الأول بعد ذلك على أنه المجمع المسكونى الأول فى تاريخ الكنيسة القديمة كما ستعتبر قرارته بمثابة الأساس للتقليد اللاهوتى الأرثوذكسى فى مصر وفى أماكن أخرى ولكن ذلك سيستغرق أكثر من خمسة وخمسين سنة قبل أن تصل كل من الكنيسة الشرقية والغربية إلى أى نوع من أنواع الإجماع الحقيقى على القرارات التى تم التوصل إليها هناك. ولايجب أن يحجب تصاعد فتنة آريوس إلى مستوى عالمى خلال السنوات التى أدت إلى مجمع نيقية سنة 325م ، حقيقة أن تلك الفتنة قد ظلت مشتعلة على مستوى محلى فى الإسكندرية خلال نفس الفترة. وبعد أن أشرنا إلى الأساس اللاهوتى لذلك النزاع وإلى مجرى الأحداث التى أوصلته إلى مرحلة عالمية فإننى أرغب فى أن أعود إلى نقطة بدايته السكندرية لأُطرح بعض التساؤلات عن العوامل الإجتماعية التى حركت ذلك الخلاف اللاهوتى هناك. فكيف تفاعل الخلاف حول تعاليم آريوس فى المشهد الحضرى للعاصمة المصرية ، وبمعنى آخر ، كيف تفاعل فى المسرح العام للحياة الإجتماعية السكندرية. وماهى التحديات القديمة والجديدة التى أثارها ذلك الخلاف لسلطة البطريرك المصرى ؟
فعلى مستوى محلى ، فقد كانت الأزمة الآريوسية بوتقة لعملية تخمر طويل لتوترات إجتماعية ترتبط بحياة الكنيسة وقيادة بطركها. ومثل سلفه البعيد - ديمتريوس - الذى تصارع مع أوريجن من أجل السيطرة على المركز التعليمى فى الكنيسة ، فقد وجد الإسكندر نموذجه الأسقفى للسلطة التعليمية فى تعارض متزايد مع النموذج السكندرى الأكاديمى القائم منذ زمن طويل و الذى إحتلة آريوس آنذاك. ففى أخريات القرن الثالث كانت مدرسة الإسكندرية التعليمية قد اصبحت – عمليا – مرتبطة بمركز الأسقف ، ومع ذلك فقد إستمر عدد من الحلقات الدراسية المسيحية فى العمل ، مسترشدة بتقليد أكاديمى قائم منذ زمن بعيد ، جذب فيه عدد من المعلمين الفرديين جماعات من الأتباع من ذوى الفضول الثقافى. وفى زمن الأسقف الإسكندر كان كثير من هذه الحلقات الدراسية قد إسُتوعبت – فعليا - فى النظام الوليد لكنائس الأبرشية فى الإسكندرية الحضرية والتى غالبا ماكانت تتكون حول سلطة الكهنة المحليين المعروفين الذين كانوا يقدمون لأعضاء الكنيسة المعرفة المتخصصة بالكتاب المقدس. وككاهن من كنيسة الأبرشية فى بوكاليس يبدو أن آريوس قد فهم نفسه على أنه مدرس فى ذلك التقليد الأكاديمى. والواقع ، وفى عمله اللاهوتى المسمى ( ثاليا ) المكتوب شعرا ، فقد وضع نفسه فى سلسلة طويلة من المعلمين الحكماء. يقول آريوس :

( إنه تبعا لعقيدة هؤلاء المختارين من قبل الله ، أصحاب المعرفة من أبناء الله ، الأرثوذكسيون المقدسون الذين إستقبلوا روح الله المقدسة ، فقد تعلمت هذه الأشياء من هؤلاء الذين يتشاركون الحكمة ، أذكياء الناس ، الذين يعرفون الله والحكماء فى كل طريق ، وعلى خطى هؤلاء قد مشيت ، وسوف أمضى معهم فأنا ، المعروف ، والذى قاسيت الكثير من أجل مجد الله ، والذى تعلمت الحكمة من الله ، فأنا أعرف عن داخل المعرفة ).

إن مثل هذه الإدعاءات عن المعرفة المقدسة المميزة قد أدخلت آريوس – وبشكل حتمى - ليس فقط فى صراع مع السلطة المؤسسية للإسكندر ولكن أيضا مع كهنة محليين آخرين كان لديهم مثل تلك الإدعاءات. والواقع أن كاتب الكنيسة – أبيفانيوس - قد قدم الدليل على منافسة قد تطورت أثناء تلك الفترة بين العديد من الكهنة السكندريين على دورهم كمعلمين ، وأشار إلى أن مثل تلك المنافسة داخل طبقة الكهنة قد أصبحت مصدرا للخلاف الإجتماعى واللاهوتى فى الكنيسة. فيقول :

( إن هناك العديد من الكنائس فى الإسكندرية ، وقد خدم كاهن يسمى كولوثوس فى واحدة من تلك الكنائس ، وخدم كاربونس فى أخرى وخدم سارماتس فى أخرى كما كان آريوس مسئولا عن واحدة منها. وكل من هؤلاء قد سبب بعض الخلاف بين العامة بسبب تفسيراته عندما كان يُدرس للناس المعهود بهم إليه فى الخدمات الرهبانية. فالبعض كان يميل إلى آريوس ولكن آخرين كانوا يميلون إلى كولوثوس وآخرين إلى كاربونس وآخرين إلى سارماتاس . ولإن كل منهم كان يترجم الكتاب المقدس بشكل مختلف فى كنيسته ، وبسبب تفضيلهم وتقديرهم لكاهنهم الخاص فقد دعى بعض الناس أنفسهم الكولوثيون والبعض الآخر دعى نفسه بالآريوسيين).

وفى مواجهة مثل ذلك الموقف ، كان الإسكندر متحمسا لإعادة تأكيد سلطته المؤسسية كبطريرك ضد المزاعم الأكاديمية المنافسة للكهنة المحليين شبه المستقلين. وفى معارضة عقيدة آريوس كان البطريرك يهدف أيضا إلى قمع روح أكاديمية عميقة الجذور فى الإسكندرية مثلت تهديدا واضحا للأرثوذكسية الأسقفية التى كان يرعاها. كان الخلاف حول نماذج التعليم الأكاديمى خلافا قديما فى كنيسة الإسكندرية ولكن الأزمة ألآريوسية قد أثارت أيضا تحديات إجتماعية جديدة للقيادة البطريركية فى الكنيسة المصرية. فلم يتفاعل الخلاف الثيولوجى ببساطة فى قاعات المحاضرات فى الكنيسة أو فى الحجرات الخاصة فى مقر الإقامة الأسقفية فقط ولكنه تفاعل أيضا فى الشوارع العامة وأزقة الإسكندرية. وقد كشفت الخطابات التى كتبها آريوس والإسكندر عن البعد الشعبى للخلاف – وبشكل خاص - فقد كشفت عن الوسائل التى كان الطرفان يحاولان من خلالها كسب التأييد لوجهات نظرهما بين الطبقات الإجتماعية الحضرية المختلفة وذلك من خلال إستعمال شعارات لاهوتية قوية. ففى كتاباتهم إشتكى كل من آريوس والإسكندر بدوره عن كيف كان الآخر يستخدم مثل هذه الشعارات كى يستميل العامة. وقد كتب آريوس عن كيف كان الإسكندر يحاول إثارة العامة ضده قائلا :

( لإننا لانتفق معه عندما يصرح علانية ، دائما الله دائما الإبن ، فى نفس الوقت الأب وفى نفس الوقت إلإبن ، يتواجد الإبن مع الأب بشكل لابد منه ، فدائما الله دائما الإبن ، لإن الإبن هو من الله نفسه).

ومن جانبه ، فقد عبر الإسكندر عن شكوى مماثلة عن كيف كان آريوس يحاول صرف الناس فى الكنيسة عن قيادته الأسقفية من خلال عظات شديدة الإقناع رديئة النوعية. ويمضى الإسكندر ليذكر عدد من الشعارات اللاهوتية التى إستخدمها آريوس و أتباعه فى تدريسهم العام فيقول :

( ولهذا السبب ، وبدون تأخير ، فقد أقمت نفسى أيها الأحباء ، كى أوضح لكم عدم إيمان هؤلاء الذين يقولون ، لقد كان هناك زمنا لم يكن إبن الله موجودا فيه ، وأن ذلك الذى لم يكن موجودا من قبل قد جاء إلى الوجود بعد ذلك ، وكما يقولون ، فقد خلق الله كل الأشياء من لاشئ ، ثم يقررهؤلاء التعساء ، أننا أيضا قادرين على أن نصبح أبناء الله ، مثله تماما ).

وفى حالة آريوس فقد سُجل أيضا أنه قد نظم شعرا دينيا جعله على وزن الأغانى الشعبية التى كانت تغنى فى مواقع العمل من قبل البحارة وعمال الطواحين. فمع الشعارات الدينية كان من شأن مثل هذه الأغانى أن تعمل كشكل فعال من الدعاية لوجهات نظر آريوس بين الطبقات العاملة فى الإسكندرية. وربما كان آريوس ماهرا فى توصيل رسالته بين الطبقات العاملة الحضرية كما كان بين النخبة المثقفة وكان الإسكندر – وكبطريرك – مُجبرا على التنافس من أجل كسب الولاء الدينى لنفس تلك المجموعات. وفى خضم ذلك التحزب الإجتماعى والدينى فى الإسكندرية أثناء أزمة آريوس ، برزت مجموعة واحدة بسبب الدور الحاسم الذى لعبته فى هذا التنافس على كسب التأييد وأقصد بذلك المسيحيين النساك أو الرهبان .
كان هناك أعضاء من حركة الرهبنة بين كل من أنصار آريوس و أنصار الإسكندر. كانت جاذبية آريوس بالنسبة لهؤلاء الذين إختاروا نمط حياة تنسكى – ربما وجزئيا على الأقل – من عمل الجغرافية الحضرية. فقد كانت كنيسته الأبرشية فى ضاحية بوكولو تقع فى منطقة إلى الشرق من المدينة لاتبعد كثيرا عن شبكة من المقابر حيث إختار عدد من الرهبان المسيحيين الأوائل مسكنهم. ولربما كان قرب أبرشية آريوس من موقع إستشهاد القديس مرقس – وكان موقعا شهيرا للحج – أيضا عاملا فى قدرته على توظيف الرهبان الذين كانوا يزورون ذلك المقام. ومن الواضح أن الراهبات قد شكلت نسبة كبيرة من أتباع آريوس بحيث إدعى الكاتب إبيفانيوس أن آريوس قد كسب ولاء مالايقل عن سبعين عذراء( راهبة). وبينما لايمكن تأكيد ذلك العدد فإن الوضوح العام لجماعة الراهبات تلك قد ألقى عليه الضوء من قبل الإسكندر نفسه عندما كان يشكو فى أحد خطاباته عن نشاط الشابات التخريبى الواضح فى معسكر آريوس والذين كانوا يتحركون فى كل شارع . وربما كان بعض من هؤلاء النساء قد جُذب بإمكانية المشاركة فى أحد حلقات آريوس الدراسية والإختلاط بإعضاء آخرين من أصحاب نفس الميول التنسكية فى مناقشة فلسفية مفتوحة.
لم تكن أهمية تأييد الرهبان غائبة عند الإسكندر أيضا والذى جذب كادره الخاص من الراهبات المرسومات كمؤيدين وكطلاب. وفى الواقع فإن خلفه المباشر - أثناسيوس - قد أعاد ذكر مناسبة كانت قد حضرت فيها بعض من هؤلاء الراهبات إلى الإسكندر للبحث عن التوجيه. وتبعا لرواية اثناسيوس فقد إستجاب الإسكندر إلى سؤالهن بعظة طويلة عن أرثوذكسية طبيعة المسيح والتى حذر فيها هؤلاء الراهبات ضد دعاية آريوس الدينية بشكل خاص والتى كانت تهدد بإبعادهم عن عريسهم المسيح وأيضا عن نعمة أسقفهم.
وهكذا وخلال العقد الأخير من بطريركيته أصبح الإسكندر منهمكا فى صراع ضد آريوس على كسب تأييد الرهبان لمواقفه الثيولوجية . والواقع أنه قد كان ذلك الصراع هو الذى ورثه أثناسيوس عندما اصبح بطريركا بعد موت الإسكندر فى سنة 328م ، بثلاثة سنوات فقط بعد مجمع نيقية. ومثل سلفه فسوف ينشط أثناسيوس فى مداعبة جماعات الرهبان الحضريين فى الإسكندرية منافسا أتباع آريوس على كسب ولائهم الدينى وتأييدهم السياسى. وفى النهاية فإن نجاح أثناسيوس فى الحصول على تأييد الرهبان سوف يميز ميراثه - بشكل قاطع - ويعيد تشكيل المعالم الإجتماعية للسلطة البابوية المصرية.

من الإسكندرية إلى الصحراء / أثناسيوس ومحاولة كسب تأييد الرهبان :

فى حرم الكنيسة القديمة لدير القديس أنطونيوس على البحر الأحمر يصور رسما جداريا من القرن الثالث عشر هيئة ملتحية للأب أثناسيوس - البطريرك الرسولى للإسكندرية- جالسا على عرش ومرتديا لردائه الكنسى – وكلاهما علامتان على مركزه كبطريرك - حيث يبتسم أثناسيوس برقة لمشاهده وهو يحتضن إنجيلا بين ذراعيه. وحوله تمتلىء جدران وكوات الحرم بصور أساقفة مصريين آخرين بما ذلك القديس مرقس. وعلى بعد عدة مئات من الكيلومترات فى جزء آخر من مصر ، يقدم لنا تصوير من القرن العاشر من منطقة تيبتونيس فى الفيوم لمحة أخرى عن كيف كان أثناسيوس يُُّذكر ويُبجل من قبل الأقباط اللاحقين . ففى هذا التصوير الثانى – المؤرخ فى سنة 953م - يأتى أثناسيوس مباشرة تحت الرسم المركزى للمسيح ، وهو مكان بارز كانت تحتله فى العادة مريم العذراء فى التصوير الأيقونى القبطى . وتماما كما هو الحال فى التصوير الجدارى فى دير القديس أنطونيوس ، تبدو هيئة اثناسيوس فى الرداء الأسقفى جالسة على عرش ، محدقة فى المشاهد بوجه هادئ. ومع ذلك ، فبعكس تصوير البحر الأحمر فإنه فى تصوير تيبتونيس لايبدو محاطا ببطاركة آخرين ولكن بالرائدين الرهبانيين الشهيرين فى التاريخ المصرى ، القديس أنطونيوس والقديس باخوميوس .
إن هذين التصويرين – واحد من البحر الأحمر والآخر من الواحة الأرضية للفيوم – تصادق نظريا على المكانة المتميزة التى نالها أثناسيوس العظيم فى التاريخ القبطى اللاحق كبطريرك وكراعى للحياة الديرية. ففى كلا التصويرين يصور أثناسيوس كأب مؤسس للكنيسة المصرية وكان يُقصد بهيئته المسالمة أن توحى للمشاهد بالتأمل الربانى. ومع ذلك فإن مؤرخ أخريات العصور القديمة لايمكنه سوى أن يرى هذين التصويرين بعينين مختلفتين لإن هذه الأشكال الهادئة لأثناسيوس تحجب فى الواقع تاريخ صراعات عنيفة وخلافات أحاطت به خلال حكمه الطويل كبطريرك للإسكندرية والبالغ خمسة وأربعين سنة ( 328-373م).
والواقع أن حكم أثناسيوس قد أحاطت به الصراعات منذ بدايته الأولى . ففى السنوات القليلة الأولى من ولايته بدأ خصوم أثناسيوس – أولا أتباع ميليتوس ثم أتباع آريوس بعدهم – فى تحدى سلطته كبطريرك. وقد وجهت مثل تلك التحديات ضد أثناسيوس على جبهتين ، فأولا قام بعض من خصومه بتحدى شرعية إنتخابه كخلف شرعى للأسقف الإسكندر. وكثير من المراجع القديمة- بما فى ذلك كتاب الإعتذار الثانى لأثناسيوس نفسه - يصادق على حقيقة أن الأساقفة الميليتيين (أتباع ميليتوس ) قد ألقوا بإتهامات ضد ماتصوروا أنه عدم نظامية فى إنتخاب أثناسيوس ، حيث إتهموه – بشكل خاص – أنه قد أُنتخب سرا بواسطة جماعة مرتدة من الأساقفة. وتبعا لأحد المصادر القديمة ، فقد قام الميليتيون - نتيجة لعدم رضاهم – بإتخاذ خطوة إنتخاب أسقف منافس ليكون أسقفا للإسكندرية وكان رجلا يسمى ( ثيوناس ). وقد نشأ مجرى الأحداث ذلك - وبالإضافة إلى إتهاماتهم ضد أثناسيوس – من حقيقة أن أثناسيوس وأتباعه قد حاولوا إقصاء الأساقفة الميليتيين من التصويت فى الإنتخاب . وفى أى الأحوال فإن فهرس لمجموعة كتابات أثناسيوس المعروفة بإسم (خطابات العيد) يكشف أنه قد كان هناك فترة تأخير حوالى شهرين تقريبا بين موت الأسقف الإسكندر فى 17 إبريل 328م وإنتخاب أثناسيوس فى 8 يونيو 328م. وبينما تعزو إحدى الروايات ذلك التأخير إلى حقيقة أن أثناسيوس كان بعيدا فى عمل خاص بالكنيسة فى وقت موت الإسكندر فإنه ليس مما يثير الدهشة إذا كان خلافا حول إجراءات الإنتخاب قد لعب دورا أيضا فى هذا التأخير.
وثانيا وبالإضافة إلى عدم رضاهم عن إنتخاب أثناسيوس فقد إتهم الآريوسيون أيضا - والذين سرعان ماإنضموا إلى الميليتيين - الأسقف الجديد بإتباع تكتيكات قيادية قهرية فى تعامله مع الجماعات الصغيرة داخل الكنيسة. وفى السنوات الأولى من أسقفية أثناسيوس – ربما فى صيف سنة 330م – تجمع الميليتيون والآريوسيون حول معارضتهم لأثناسيوس كقضية مشتركة وكونوا تحالف بقيادة يوسيبيوس النيقوميدى. وقاموا معا بتقديم سلسلة من الإتهامات ضد الأسقف المصرى إلى الإمبراطور قسطنطين. وفى النهاية أدى إصرارهم على دفع هذه الإتهامات إلى محاكمة كنسية لأثناسيوس فى مجمع صور سنة 335م.
وتبعا لسوزومن – مؤرخ القرن الخامس – فقد إدعى متهمو أثناسيوس أنه قد عاقب الميليتيين بالضرب وسجن قادتهم وحرق كنائسهم. وبينما ثبت أن بعض من هذه التهم كان ملفقا – بما فى ذلك تهمة لاحقة ملفقة بالقتل – فإن إكتشاف أدلة وثائقية جديدة فى القرن الأخير قد أعطى المصداقية لحقيقة أن أثناسيوس لم يكن ضد تكتيك إستعمال القوة فى مجهوداته لمنع الإنشقاق الكنسى. ويتكون الدليل الجديد الذى تم إكتشافه سنة 1922م من خطاب خاص على ورق البردى كُتب بالإغريقية بواسطة مسيحى ميليتى يسمى كاليستوس. وفى ذلك الخطاب يحكى كاليستوس لصديقه أن أثناسيوس قد سجن أو نفى إحدى عشر قائد ميليتى على الأقل – وأن رجل منهم يسمى هيراسكوس - قد جُلد عندما كان مسجونا. وقد أخذ عدد من الباحثين إكتشاف هذا الخطاب على أنه مناسبة لإعادة تقييم شخصية أثناسيوس كقائد كنسى . وفى تلك العملية غالبا ما كان يصور فى مفردات سلبية للغاية.وقد حاول آخرون إعادة تحسين صورة أثناسيوس بتقديم قراءات أكثر إيجابية للمصادر المتاحة عنه وذلك بإعادة تركيز الإنتباه على إنتاجه الدينى والرعاوى أو من خلال إدراك كيف أظهرت وسائله وسائل خصومه ومن ثم فقد عكست ببساطة الروح الجدلية لذلك العصر. وليس هذا هو المكان المناسب للدخول فى ذلك الجدل حول أثناسيوس وإنه يكفى أن نقول أن شخصية أثناسيوس لايمكن أن تُفسر فى مفردات بسيطة. إن الأكثر أهمية فى دراستنا للإتجاهات الأكبر فى تطور البابوية القبطية هى حقيقة أن وسائل أثناسيوس فى ذلك الصراع – وكذلك وسائل خصومه – تعكس تطورات أساسية فى الطريقة التى كان قادة الكنيسة- فى مصر و فى أماكن أخرى – ينظرون بها إلى العلاقة بين السلطة الكنسية والسلطة العلمانية. فبتوظيف أدوات القانون المدنى الرومانى- وخاصة السجن والنفى – فى محاولة لتعطيل قيادة وتنظيم الكنيسة المحلية بين المنشقين الميليتيين ، كان أثناسيوس يوسع – علانية - حدود السلطة البطريركية إلى المجال المدنى . وبفعله هذا فقد أرسى سابقة سوف يعمل بها خلفائه ، وبحماس شديد فى الغالب .
ومن جانبهم فإن الأحزاب الآريوسية والميليتية المتحالفة قد حاولت بشكل متزايد ربط قضيتهم المشتركة بآليات القانون والسلطة الإمبراطوريين مقدمة تصرفات أثناسيوس على أنها خيانية متوسلة إلى الإمبراطور قسطنطين بالتدخل إلى جانبهم. وعلى المدى القصير ، فقد لقيت إتهاماتهم وتوسلاتهم نجاحا. وفى مجمع صور الذى سيطر عليه الآريوسيون سنة 335م أُدين أثناسيوس وأُرسل إلى المنفى بأمر الإمبراطور قسطنطين. وقدر لأثناسيوس أن يقضى 23 سنة من السنوات التالية منفيا أو مختبأً بينما كانت القضية الآريوسية تزداد قوة مستفيدة من الدعم الإمبراطورى. وعلى العموم ، فقد أدى أثناسيوس خمسة فترات عقاب منفصلة ، كانت الأولى فى غالة بفرنسا (335-337م) والثانية فى روما و شبه الجزيرة الإيطالية (339-346م) والثلاث الأخيرة فى صعيد مصر بين السنوات (356- 362) ثم (362-364) ثم (3665-366م).
وسوف يكون من الصعب أن نبالغ فى تقدير المدى الذى أثرت به تجربة أثناسيوس فى المنفى على الدور الإجتماعى للكنيسة القبطية وعلى هويتها.؟ ففى شكل أثناسيوس المنفى ، أُعيد رسم صورة البابوية القبطية كأيقونة للمقاومة و قد إكتمل إعادة رسم الهوية البابوية القبطية هذا - وإلى حد كبير – من خلال تمثيل أثناسيوس الشخصى لنفسه فى علاقته مع السلطة الإمبراطورية. ففى كتاباته يصور أثناسيوس نفسه كنموذج لهذه المقاومة ، مقدما نفسه أُحيانا فى دورالشخصيات الإنجيلية التى واجهت الحكم الظالم للسلطات الزمنية. ويظهر أحد النماذج على ذلك فى رسالة أثناسيوس ( تاريخ الآريوسيين) والتى هى عبارة عن هجوم مرير ضد الإمبراطور الآريوسى قسطنطين الثانى (2337-361م) إبن قسطنطين الكبير وخليفته. وأثناء فترة نفيه الثالثة( حوالى سنة 357م) كتب أثناسيوس مصورا قسطنطين كأنه فرعون عصرى والذى نكث بعهوده لحلفاء أثناسيوس - أى للشعب . وفى إشارته النصية الضمنية إلى سفر الخروج يُمثل أثناسيوس نفسه كأنه موسى الجديد ، القائد المؤمن لشعب منفى . كان لإستراتيجية أثناسيوس فى التصوير الذاتى تأثيرا عميقا على الأجيال التالية من البطاركة ، وسوف يبرر البابوات المصريين فى أخريات القرن الخامس والقرن السادس وبدايات القرن السابع – بشكل دائم - مقاومتهم المبادئية لمشيئة الإمبراطور على أساس من نماذج الكتاب المقدس وعلى أساس من سابقة أثناسيوس (أنظر الفصل الرابع).
وبنفس الأهمية فقد وفرت تجربة النفى لأثناسيوس الفرصة لتعميق وتقوية روابطه مع الجماعات الرهبانية المحلية فى وادى النيل وفى الصحروات الشرقية والغربية. ولقد كان أثناسيوس قد بدأ بالفعل فى خلال السنوات الأولى من بطركيته يضع نفسه كحامى لحركة الرهبنة المصرية. وفى سنة 329-330م كان قد قام بزيارات للكنائس والأديرة فى صعيد مصر وفى العقود التالية وجه العديد من الخطابات والرسائل إلى جماعات النساك من الرجال والنساء الذين كانوا يعيشون فى الإسكندرية وضواحيها ، بالإضافة إلى القادة الديرين البارزين من الرجال فى الوجه القبلى. ومن تاريخ مبكر فصاعدا كانت حماية اثناسيوس للشئون الديرية مرتبطة إلى حد كبير بأجندته الأكبر ضد الآريوسية. ففى مراسالاته مع إمرأة من الراهبات – على سبيل المثال – إجتهد فى محاولة إظهار كيف أن عقيدة طبيعة المسيح المتمخضة عن مجمع نيقية قد أرضت الإنشغالات الديرية – بشكل فريد - عن الإمكانية الإنسانية فى الحياة البتولة – وفى نفس الوقت – كيف أن التعليم الآريوسى المنافس قد أحبط هذه الإنشغالات بشكل تام . ويتضح ذلك بشكل حى للغاية فى أولى كتاباته ( رسالة إلى العذارى) المكتوبة تقريبا بين السنوات ( 337-339م) حيث يقتبس بشكل كبير من تعاليم سلفه البابا الإسكندر ويقدم نفسه على أنه خلف الإسكندر الشرعى سواء فى الدفاع عن أرثوذكسية طبيعة المسيح أو عن حماية الرهبنة النسائية.
وقد دشنت فترة نفى أثناسيوس الثالثة فى سنة 356-362م مرحلة مكثفة جديدة فى محاولاته لتأمين مزيد من الولاء الرهبانى الأوسع لقضية مجمع نيقية. وبعد إدانته من قبل مجمع ميلان الذى سيطر عليه الآريوسيون فى سنة 355م إضطر أثناسيوس إلى الإختفاء بعد أن هاجمت قوة عسكرية كنيسته فى الإسكندرية وقضى معظم السنوات العشر التالية يعيش مستترا بين جماعات الرهبان فى الوجه القبلى وهى الفترة التى شغلت فترات نفيه الثلاث الأخيرة والتى بدأت سنة 356 وإنتهت سنة 366م. كانت الحماية التى قدمها هؤلاء الرهبان – بما فى ذلك نجاحهم فى تسهيل هربه المبدأى – تقدم الدليل على نجاح محاولاته المبكرة لكسب ولاء ثابت بينهم. ورغم أن نشاطات أثناسيوس وأماكن تواجده خلال هذه الفترة ظلت غير معروفة فمن الواضح أنه قد إستخدم وقته فى المنفى كفرصة لتقوية الولاء الرهبانى للبطريركية السكندرية ولعقيدة نيقية. ويأتى الدليل من كتابات أثناسيوس نفسه ، فإن عددا من أعماله خلال تلك الفترة - وتشمل العديد من الخطابات والرسائل التاريخية وسيرة تنسكية عن حياة القديس أنطونيسوس – كانت إما موجهة إلى الرهبان أو مكرسة للقضايا الديرية. وخلال هذه الأشكال الأدبية المتنوعة ، شن أثناسيوس حملة دعائية ضد الآريوسية بين مضيفيه الرهبان.
وفى أحد خطاباته الموجه إلى الرهبان المصريين خلال هذه الفترة يكشف أثناسيوس عن أحد أسباب إهتمامه المفرط بالتأثير الآريوسى فى الأديرة. وهو يحذر قرائه من (بعض أشخاص محددين يتضامنون مع آريوس ويتحركون فى الأديرة بلاهدف سوى حجة زيارتكم) ويتأسف على حقيقة أن هناك رهبان لاتؤنبهم ضمائرهم من العبادة مع نظرائهم الآريوسيين. ويستجيب أثناسيوس إلى هذا الخطر المتصور بحث أتباعه على عدم إستضافة زوارهم الآريوسيين وأيضا عدم إستضافة زملائهم الرهبان ممن يسمحون لأنفسهم بالإختلاط مع الآريوسيين فى العبادة. لقد كان التأثير الإجتماعى لتوجيهات أثناسيوس تلك كبيرا جدا ، فهنا كان الأسقف السكندرى يطلب من الرهبان ترك أحد أهم فضائل الحياة الديرية – وهى إستقبال الضيوف - وذلك من أجل أن يحدد قداسة بعض الحدود الدينية.
وقد حاول أثناسيوس أيضا تقوية تماسك أتباعه الديريين ضد المتعاطفين مع الآريوسية من خلال وسائل خطابية أخرى. كان أحد تلك الوسائل هو نشر بيانات - - مع تسليط الضوء عليها - عن الفظائع المنسوب إرتكابها إلى الآريوسيين ضد مؤمنى الرهبان من أتباع أثناسيوس . وعلى سبيل المثال ، يصف أثناسيوس فى كتابه (تاريخ الآريوسيين ) وفى تفصيل رهيب ، كيف إقتحم الآريوسيون الظالمون الأديرة وقيدوا وعذبوا الرهبان وأذلوا العذارى(الراهبات) بالسب القبيح والرجم والجلد والضرب بأعواد الجريد التى تركت أشواكها فى أطرافهن. وفى مكان آخر من نفس العمل ، يروى أثناسيوس كيف قام مسئول آريوسى بالبصق حتى على خطاب أُرسل إليه من قبل الناسك الشهير القديس أنطونيوس . ولم يتردد الأسقف المنفى أن يسجل أن هذا الرجل قد إستحق عقاب الله بعد ذلك بفترة قصيرة عندما مات بعد أن َعضه حصانه ورماه عن ظهره. ويبدو أن هذه الروايات المثيرة عن البربرية الآريوسية كانت موجهة إلى الرهبان المتعاطفين مع المؤلف ، وأنها على هذا النحو قد كانت مصممة كى تثير غضب الرهبان ضد القيادة الآريوسية فى الإسكندرية والتى كانت قد نجحت فى إقصاء أثناسيوس عن السلطة مؤقتا.
وفى القصة المذكورة عن القديس أنطونيوس هنا يستخدم أثناسيوس تفصيلة أسطورية من حياة الناسك الشهير كى يروج حملته ضد الآريوسية بين الرهبان المصريين. ويُمثل كتابه (حياة القديس أنطونيوس ) والذى كتبه أيضا أثناء فترة منفاه الثالثة نفس تلك الأجندة ولكن على نطاق أوسع. وقد أصبحت تلك السيرة التنسكية الكتاب ألأكثر رواجا فى أخريات العصور القديمة. وكانت قد كُتبت بعد فترة قصيرة من وفاة أنطونيوس سنة 356م وفى خلال خمسين سنة من تاريخ وفاته اصبحت قصته معروفة للقراء الرهبان والعلمانيين على السواء فى كل أنحاء عالم البحر المتوسط. والواقع أن عددا من قادة الكنيسة البارزين فى القرن الرابع والخامس قد قدموا روايات عن إعتمادهم على ( حياة القديس أنطونيوس ) سواء فى كتاباتهم أو فى ممارستهم التنسكية بما فى ذلك جريجورى النازيانزومى فى آسيا الصغرى وجيروم فى روما وفلسطين وأغسطين فى إيطاليا وشمال إفريقيا. وهذا العمل ليس سيرة حياة تقليدية بالمصطلح الحديث فلم يكن إهتمام أثناسيوس منصبا على تأريخ تفاصيل حياة أنطونيوس بقدر ماكان منصبا على ربط رسالة أنطونيوس الديرية بأرثوذكسية عقيدة نيقية.( أى القرارات التى خرج بها مجمع نيقية المسكونى الأول من أن الأب والإبن من نفس الجوهر زمن الإمبراطور قسطنطين الكبير سنة 335م).
ومن الواضح أنه قد قام بتصوير الراهب أنطونيوس كأنه نشطا من أجل قضية نيقية . وفى الفصل رقم 68 – على سبيل المثال - وعندما قدم المدعو أريومانيكس لزيارته فى صومعته فى الصحراء يقال أن الرجل التقى قد طردهم من الجبل قائلا أن كلماتهم كانت أسوء من سم الأفعى. وبالنسبة للقراء المصريين القدامى فقد نقلت تلك الحركة المكانية رسالة إجتماعية ودينية حية. ففى مصر كان الجبل يُفهم على أنه تضاريس الصحراء العالية التى ترتفع عن مستوى وادى النيل والواحات المحيطة به. إنها المكان الذى اصبح مرتبطا – بشكل متزايد - بمستوطنات الرهبان المتناثرة والذين إنسحبوا من حياة القرية من أجل متابعة حياة العزلة. وهكذا فإن أثناسيوس وفى التأكيد على تصرف أنطونيوس فى مطاردة زواره الآريوسيين إلى خارج الجبل كان فى الواقع ينكر المزاعم الآريوسية المنافسة حول الحماية الديرية وحول الفضاء الديرى. وهكذا فقد كان من شأن القصة أن تقوى من عتاب أثناسيوس فى رسائله إلى الرهبان عن الضيافة الذين يقدمونها للزوار الآريوسيين .
أما الفصل التالى مباشرة من حياة القديس أنطونيوس ( رقم 69) فإنه يستخدم الفضاء الجغرافى مرة أخرى ليؤكد على معارضة أنطونيوس للعقيدة الآريوسية (التى كانت ترى أن مرتبة الأب أعلى من الإبن). فهى تروى تفاصيل قصة كيف أن أنطونيوس نزل من أعلى الجبل ودخل إلى الإسكندرية من أجل أن يدحض المزاعم الآريوسية فى أنه كان يشاركهم آراءهم الدينية. وتظهر رواية أثناسيوس لهذه الأحداث كيف كان الراهب أنطونيوس شخصية خلافية إلى حد كبير فى الجدل الآريوسى الأثناسيوسى حتى أثناء حياته نفسها. فمن جهة فإن القصة تقدم الدليل على أن الآريوسيين كانوا يدعون أن أنطونيوس كان واحدا منهم. ومن جهة أخرى يظهر كيف إستخدم أثناسيوس نفسه أنطونيوس كمتحدث رسمى بإسم عقيدة نيقية إذ يصور أنطونيوس وكأنه يقوم – وعلى وجه التخصيص - بشجب الشعارات الدينية الآريوسية ومدافعا – بشكل واضح – عن عقيدة أثناسيوس ومجمع نيقية فى الشخصية الغير مخلوقة والخالدة للإبن ككلمة الله. وفى مكان آخر من ( حياة القديس أنطونيوس ) يعارض تشخيص أثناسيوس لأنطونيوس المزاعم الآريوسية فى طريقة أكثر براعة. فبالإضافة إلى تصوير الراهب كأنه مؤيد صريح عالى الصوت لعقيدة نيقية فإن أثناسيوس أيضا يفسر تصرفات أنطونيوس – وخاصة مواجهته للشياطين - بطرق كان المقصود منها أن تظهر كيف أن التقوى الرهبانية كانت منسجمة فى نهاية الأمر مع معتقدات أثناسيوس – وليس آريوس – عن الخلاص الإنسانى. فبعكس الفهم الآريوسى للخلاص كعملية يتقدم فيها المؤمن – مقلدا للمسيح - فى نعمة الله ويحصل على بنوته بالطاعة لمشيئته ، فإن أثناسيوس يصور إنتصار أنطونيوس على الشياطين كعلامات على نعمة الله الذى يمكن للمسيح وحده ان ينالها بالطبيعة وهى نعمة يمكن للمسيح فقط أن يسبغها على المؤمن . وهكذا فعندما هاجم الشيطان أنطونيوس أولا بالأفكار الكريهة كى يصرفه عن نظامه التنسكى ، يعلق أثناسيوس ( أنه قد كان السيد المسيح هو الذى كان يعمل مع أنطونيوس – السيد المسيح الذى إكتسى باللحم لأجلنا وأعطى للجسد القدرة على هزيمة الشيطان – بحيث يمكن لأى من هؤلاء الذين يجاهدون حقا أن يقول ( ليس أنا ولكنها نعمة الله التى بداخلى ( سفر الكورونثيين الإصحاح 15 الآية 10). وكمؤلف (لحياة القديس أنطونيوس) يبدو أثناسيوس وكأنه كان مهتما بشكل خاص بمقاومة المفاهيم الآريوسية بأن نجاحات أنطونيوس الروحية كانت تعود إلى تقدمه الشخصى فى الفضيلة . وهكذا وبملاحظة أن تجربة الغواية تلك كانت ذكرى أول إنتصار لأنطونيوس فى صراعه مع الشيطان ، فإن أثناسيوس يصحح نفسه ليتجنب سوء الفهم ويضيف (ولكن ذلك –وبالأحرى - كان نجاح المخلص فى أنطونيوس ( أى نجاح المسيح فى أنطونيوس). وبهذه الطريقة فإن ترجمة أثناسيوس لسيرة حياة أنطونيوس تقف فى تمييز مضاد للآراء القديمة الأخرى عن الراهب الشهير والتى رأت فيه أساسا راعيا روحيا ذا قدرات شفائية وكمعلم للحكمة أو كمؤسس لحياة العزلة الرهبانية.
وبالنسبة لأثناسيوس فإن الأحداث فى حياة أنطونيوس قد أُعيد صياغتها – وبدلا من ذلك - فى مفردات رواية دينية أكبر- وبشكل خاص - فى قصة كلمة التجسيد التى شكلت الأساس بالنسبة لتفسير أثناسيوس لعقيدة مجمع نيقية.
كانت الفترة الطويلة التى قضاها أثناسيوس مع الرهبان المصريين أثناء فترة نفيه الثالثة ومراسالاته معهم عن الخطر الآريوسى المتصور وتأليفه ( لحياة القديس أنطونيوس ) كبيان ديرى ورواية دفاع عن عقيدة نيقية ، وحتى أيضا محاولاته التالية لتحديد – وبشكل أكثرعناية – حدود قانون الكتاب المقدس وتطوير أسلوب متشابه بين الرهبان في إستخدام الكتاب المقدس ، كان كل ذلك عوامل رئيسية فى محاولاته لربط الرعاية الديرية بالمواقف الدينية لبطركية الإسكندرية.
وقد نجحت مجهودات أثناسيوس فى هذه الميادين إلى حد كبير. ورغم حقيقة أن بعض الجماعات الديرية فى مصر إستمرت فى الإحتفاظ بشكل من أشكال ألإستقلال تجاه القيادة الأسقفية فإن زيارات أثناسيوس ومراسالاته قد أحضرت كثير من الأديرة – بما فى ذلك إتحاد الأديرة الباخومى المؤثر- (نسبة إلى باخوميوس مؤسس ذلك النظام الديرى ) - إلى توافق مع السلطة البطريركية السكندرية. وبمثل ذلك الدعم الرهبانى المحلى عاد أثناسيوس إلى الإسكندرية فى سنة 366م من منفاه الخامس والأخير كسياسى عجوز إشتهر بدفاعه البطولى عن أرثوذكسية عقيدة نيقية. لم يشهد أثناسيوس نهاية الصراع الآريوسى ولم يغرق نفسه مرة أخرى فى مناقشات دينية عالمية ومع ذلك فخلال السنوات السبع الأخيرة من حياته حتى وفاته فى سنة 373م فقد ظل أثناسيوس الرهيب وبشكل تام- غير منازع فى الأسقفية المصرية. وبعد أن أنقضت سنوات المنفى وأصبحت خلفه فقد أصبح حرا فى قضاء سنواته الأخيرة فى نشر أعماله الخاصة آمرا بإخراج تاريخ رسمى للكنيسة السكندرية يؤيد روايته للأحداث ومشرفا على بناء كاتدرائية تحمل إسمه. إن مثل هذه الرعاية لأعمال أدبية ومعمارية كانت مصممة لكى تضمن أن فترة ولايته العاصفة فى قيادة الكنيسة لن تنسى.
حصد خلفاء أثناسيوس المباشرون - بطرس الثانى وتيموثى - بركات ولعنات ميراثه المثير للجدل. فعند خلافتة لأثناسيوس سنة (373-380م) واجه بطرس الثانى إعتداءا متجددا من الجماعة الآريوسية والتى رشحت مطالبا مضادا من أجل عرش الأسقفية السكندرية - وهو رجل يسمى لوسيوس الأنطاكى - ووظفت مساعدة عسكرية محلية للهجوم على كنائس بطرس الثانى . ومثل سلفه فقد أُُجبر بطرس الثانى على الرحيل إلى المنفى فى روما حيث ظل هناك من سنة 373 إلى سنة 378م. و معه أُرسل أيضا عشرات من الرهبان إلى المنفى ، بعضهم إلى المناجم والبعض إلى الجليل فى شمال فلسطين والبعض الآخر إلى جزر نائية. إن المصير المشترك الذى تشارك فيه كل هؤلاء الرهبان المخلصين يظهر أن الروابط التى خلقتها حملة أثناسيوس الديرية قد إستمرت فى البقاء خلال حكم بطرس الثانى كبطريرك.
لم يكن حتى وقت مبكر من ولاية تيموثى – أخو بطرس الثانى - ( 380-385م) أن حُل الخلاف الآريوسى أخيرا. ففى سنة 381م أعاد مجمع القسطنطينية تأكيد العقائد الدينية التى كانت قد صيغت فى نيقية ودافع عنها أثناسيوس على مدى عقود من الزمن . ومع ذلك ، وفى نفس الوقت ، فإن بعض قرارات ذلك المجمع قد غرست بذور للنزاع بالنسبة للبطريركية السكندرية فى المستقبل القريب. وبشكل خاص فقد منح المجمع بطريركية القسطنطينية حقوق الشرف المميزة بعد أسقفية روما وهو قرار سرعان ماأصبح مصدرا للتوتر بين القسطنطينية وبين أسقفية الإسكندرية ألأكثر قدما. وسوف تنفجر هذه المنافسة بين الكنائس إلى نزاع مفتوح خلال حكم ثيوفيليس الطويل - خلف تيموثى – (385-412م).

ثيوفيلوس والحملة على الوثنية والمعركة على ميراث أوريجن :

يسجل التاريخ الذى وضعه الأسقف القبطى حنا النقيوسى فى القرن السابع أسطورة عن كيف كان ثيوفيلوس وأخته قد فقدا والديهما عندما كانا طفلين و كيف أنهما سرعان ماأصبحا تحت رعاية وحماية أثناسيوس. وتروى تفاصيل مبكرة فى القصة أن ثيوفيلوس وأخته عندما كانا فى رعاية عبد أثيوبى من عبيد والديهما ، كانا قد أُحضرا إلى معبد مكرس إلى الإلهين أرتيميس وأبولو. ومع ذلك فعندما دخل الطفلان إلى ذلك المعبد سقط الإلهان على الأرض وتحطما. وقد كشف الله هذه المعجزة للبطريرك أثناسيوس فقام بتعميد الطفلين – مع العبد النادم - ثم وضع الأخت فى دير حتى أصبحت مستعدة للزواج وأقام ثيوفيلوس كقارئ فى الكنيسة. وتخبر القصة بعد ذلك كيف وصل ثيوفيلوس إلى عرش القديس مرقس الإنجيلى فى مدينة الإسكندرية وكيف أنجبت أخته - كيرلس - خلف ثيوفيلوس التالى كبطريرك. وهذه الأسطورة التى لاتبدو تاريخية فى تفاصيلها فهى مع ذلك ذات هدف خطابى خاص وهو تقوية روابط الوراثة البطريركية السكندرية - وحتى بشكل أكثرتخصيصا – لتربط ثيوفيلوس وكيرلس بسلفهم الشهير( ولبعضهما البعض ) بوسائل الرؤى المقدسة والروابط العائلية.
وبصرف النظر عما إذا كان ثيوفيلوس قد تمتع برعاية اثناسيوس أم لا عندما كان شابا فمن الواضح أنه قد ورث عباءة سلفه كمجادل بارع . ففى بداية سيرته - وأثناء تسعينيات القرن الرابع - قام بشن حملة عنيفة ضد الوثنية فى مصر ، وهى الحملة التى تُنبأ بها فى أسطورة طفولته بالسقوط الدرامى للأصنام فى حضوره. وفيما بعد فقد قام بشن الحرب على ماعرفوا بالأورجينيين ( مؤيدو أفكار أوريجن اللاهوتية ) والذين رفضوا التصورات التجسدية للإله. وكما سوف أوضح فيما يلى ، فإن هاتين الحملتين الإجتماعيتين كانتا – فى أكثر من ناحية – متعارضتا المقاصد دينيا ولكن كلاهما كان ذا تضمينات عميقة عن العلاقة المتطورة - والخلافية مع ذلك - بين البطريركية السكندرية والرهبان المصريين . كان لولع ثيوفيلوس بالجدل وسياسته تجاه تنظيم المعتقدات الرهبانية داخل مصر ، عواقب عالمية أيضا وقد أدخلته فى نهاية الأمر فى نزاع مفتوح مع كنيسة القسطنطينية وأسقفها جون كريسوستوم. وقد عجل التوتر الذى تطور بين الأسقفيتين فى هذه الفترة – وبأشكال عديدة – بالإنشقاق النهائى بين الأسقفيات المتنافسة فى القرن الخامس .
وقد سُجلت شهرة ثيوفيلوس كبطريرك وكمجادل – وبشكل حى للغاية – فى رسمين وجدا فى حواشى ورقة بردى مزخرفة من القرن الخامس. وفى الشكل الأول تقف شخصية حُددت على أنها شخصية القديس ثيوفيلوس تحت شكل جسدى مستطيل ملفوف فى شرائط من قماش هو الجسد المحنط لسلفه تيموثى. وكما ورد فى الأسطورة التى سجلها حنا النقيوسى فإن الوراثة الرسولية للقديس مرقس هى مؤكدة وفى هذه الحالة فقد رسمت حفرا كأنها إنتقال للسلطة بين المتوفى تيموثى وخلفه الحى ثيوفيلوس الذى يرتدى الرداء الأسقفى. وفى الرسم الثانى يقف ثيوفيلوس على قاعدة تمثال يزينها تمثال نصفى للإله المصرى سيرابيس وكجزء من حملته ضد الوثنية فقد حطم معبد السيرابيوم الشهير فى الإسكندرية وبنى مكانه كنيسة مسيحية. وهنا يحتفل الفنان – بصريا – بإنتصار ثيوفيلوس الوليد على عبادة سيرابيس والعقائد الوطنية الأخرى فى مصر.
وفى هذا السياق ، فإنه من المثير أن شكل ثيوفيلوس فى كلا الرسمين يقف مرتديا ردائه الأسقفى ويحمل نسخة من الكتاب المقدس محفورا عليها صليب ، بشكل يشبه إلى حد كبير الطريقة التقليدية لتصوير أنبياء الكتاب المقدس فى نفس المخطوطة. إن هذا التفصيل الفنى يعبر ببراعة عن الطريقة التى كان يصور بها ثيوفيلوس نفسه فى كثير من كتاباته. أما فى أخذه جانب المجادل فى الصراع ضد الوثنية وضد الأفكار الأورجينية فإن ثيفيلوس يصورنفسه فى دور أنبياء العهد القديم والذين يقفوا بثبات فى وجه الأوثان.
وتبعا لكتاب روفينوس ( تاريخ الكنيسة - حوالى سنة 402—403م) فإن أصل صراع ثيوفيلوس مع العبادات الوثنية فى الإسكندرية يكمن فى الإكتشاف التصادفى لحرم وثنى جوفى أثناء ترميم إحدى الكنائس المسيحية فى المدينة. وفى إجراء قُصد به إذلال أتباع هذه العبادة فقد إستعرض ثيوفيلوس أشيائهم المقدسة فى الشوارع . وفى غضبهم من تصرف ثيوفيلوس الإستفزازى قام الوثنيون المحليون بمهاجمة المسيحيين فى المدينة. وكانت النتيجة إنتشار عنف طائفى والإنسحاب النهائى للجماعات الوثنية إلى السيرابيوم. إستجاب الإمبراطور ثيودوسيوس لهذا الموقف بإصدار مرسوم منح فيه الوثنيين المحاصريا عفوا عاما - ولكن وفى نفس الوقت – فقد خول قمع العبادات الوثنية وإحتفل بالمسيحيين الذين ماتوا فى القتال كشهداء. وبناء على ذلك ، قام المسيحيون ، يقودهم ثيوفيلوس بإقتلاع حجارة معبد السرابيوم حجر حجر ثم قاموا بتهشيم تمثال سيرابيس الرئيسى بالفؤوس وأحرقوا ماتبقى من آثار وثنية فى باقى أجزاء المدينة.
وتكشف المصادر القديمة عن أن الرهبان المصريين قد لعبوا دورا رئيسيا فى هذه الحملة ضد الوثنية. وتبعا لقول من( أقوال آباء الصحراء ) فقد وظف ثيوفيلوس – بنشاط – تأييد الرهبان بإستدعائهم إلى المدينة للمساعدة فى هدم المعابد. وقد دعم المؤلف الوثنى ليبانيوس هذا الدليل – والذى حدد الرهبان بأنهم هؤلاء الرجال المتشحين بالسواد – وعلى أنهم الملوم الأكبر على تحطيم أحد أهم الأماكن المقدسة للوثنية السكندرية. وفى حالة السيرابيوم فقد ذهب ثيوفيلوس إلى أبعد من ذلك إذ شجع الرهبان على أن يتخذوا مساكنهم فى المواقع الخربة بعد هدمه. كما أنه مول وسهل بناء كنيسة جديدة فى الموقع الجديد. وقد كان إهدائه الكنيسة إلى يوحنا المعمدان والنبى إيليا وحصوله على آثارُهم أعمال رعاية من شأنها أن تدعم - بذكاء – مزاعمه لإن يكون وريثا جديرا للأنبياء فى طيرانه ضد الديانة الوثنية ( نُسب الصعود إلى السماء إلى النبى إيليا) .
وفى نفس الوقت ، وخاصة فى سياق تأييده لمقر إقامة رهبانى فى خرائب معبد السيرابيوم فإن إهدائه للكنيسة الجديدة ربما كان مصمما أيضا لتدعيم صورته كراعى للرهبان المصريين - والذين كان الكثيرون منهم يرون يوحنا المعمدان وإيليا على أنهما نموذجين مثاليين للحياة التنسكية. وقد وظف ثيوفيلوس سياسة مماثلة فى كانوبوس وهو موقع إلى الشرق من الإسكندرية كان معروفا بأنه احد جهات الحج الوثنى. وقد بنى إحدى كنائسه هناك وأقنع الكهنة من أورشليم وكذلك رهبان من الطريقة الباخومية (كانت النظم الديرية فى المسيحية المصرية القديمة تتبع تقليدين رئيسين أحدهما ينسب إلى القديس أنطونيوس والآخرإلى باخوميوس وكلاهما كان من أبناء الصعيد ولكن نظمهما الديرية إختلفت فقد إعتمد أنطونيوس على العزلة والتوحد بينما إعتمد باخوميوس على العبادة والعمل بشكل جماعى) بتأسيس جماعات فى مجاورات المعبد. وقد إشتكى أحد المؤلفين الوثنيين من تلك الفترة من كيف أن ثيوفيلوس والمسيحيين الذى معه قد أقاموا هؤلاء الرهبان فى موقع كونوبوس أيضا وأنهم قد جمعوا عظام وجماجم المجرمين الذين كان قد حُكم عليهم بالإعدام لجرائم مختلفة( يقصد الشهداء المسيحيين) وصنعوا منها مزارات يُحج إليها. وفى حالة كل من السيرابيوم السكندرى وكانوبوس يمكن لنا أن نرى كيف أن رعاية ثيوفيلوس للمستوطنات الرهبانية فى المواقع الوثنية السابقة كان مرتبطا بهدف سياسى ودينى أكبر هو جعل المشهد المصرى مسيحيا من خلال مشاريع البناء الواسعة وتقديس الآثار المقدسة.
لم تكن علاقة ثيوفيلوس بالرهبان المصريين علاقة تعاون أو ود بشكل دائم فسرعان ماظهرت تعقيدات أدخلت البطريرك فى نزاع ليس فقط مع قيادات الرهبان المصريين ولكن أيضا مع الكنيسة فى القسطنطينية. وقد شهدت أخريات القرن الرابع وبدايات القرن الخامس إمتدادا سريعا للنفوذ الرهبانى فى مصر. كانت الأديرة فى نيتريا( وادى النطرون الآن) وسيتيس تزداد وقد تأسست جماعات جديدة عند المعلم الميلى الخامس والتاسع والثامن عشر على طول الطريق إلى الغرب من الإسكندرية. أما فى صعيد مصر فقد كان الأب شنودة يشرف على إتحاد الأديرة البيضاء فى أتريب ) بالقرب من سوهاج الحالية ) خلال فترة من النمو غير المسبوق. وقد إزدهرت أيضا شبكة الأديرة الباخومية و يؤكد الدليل الأثرى من أخريات القرن الرابع وبدايات الخامس على غنى وشهرة الدير الباخومى فى باو حيث تأُسست كاتدرائية جديدة بلغ طولها 56 مترا وعرضها 30 مترا وكانت من أكبر الكنائس فى مصر فى ذلك الوقت.
مثل العدد المتزايد للرهبان المصريين ورؤاهم الدينية المتباينة أحيانا تحديات جديدة لثيفيلوس فى محاولته للإحتفاظ بسلطته وتوفير التوجيه الرعاوى لهذه الجماعات الوليدة. والواقع ان جذورهذه التعقيدات فى علاقة ثيوفيلوس بالرهبان ربما يمكن تتبعها فى أحد خطاباته الفصحية السنوية. ففى كل سنة كان الأسقف السكندرى قد إعتاد على كتابة خطاب رسمى لإشعار البلاد بالتقويم السكندرى عن تاريخ عيد الفصح وبداية الصوم الموسمى الكبير. وفى خطابه الفصحى لعام 399م - والذى كان يوزع على الأديرة كالعادة فى مثل تلك المناسبة- دافع ثيوفيلوس بحرارة عن روحانية الله ضد تصورات الرهبان – وغيرهم فى الكنيسة - الذين تمسكوا بالتصورات البشرية للذات الإلهية. ويعكس موضوع خطابه دينه للاهوت أوريجن كما أنه كان يتسق أيضا مع أجندتة الأكبر ضد الوثنية ، حيث يحث فيه قرائه على تجنب الصور البشرية أو القياس المتشابه عند التفكير فى الله خشية أن يقعوا فى شرك الوثنية.
كان هناك راهب من سيثيا ( رومانيا الحالية ) يزور الرهبان فى سيتيس عندما وصل خطاب ثيوفيلوس. وقد سجل هذا الراهب على أثر ذلك – وكان رجل يسمى جون كاسيان – الغضب الذى نشأ بين الرهبان من الذين لايتفقون مع وجهة نظر ثيوفيلوس تلك. يقول الراهب :

( والآن قد وصل - وكما هو معتاد - الخطاب الرسمي للأسقف ثيوفيلوس. وفى هذا الخطاب قد أعلن عن الفصح وضمن الخطاب مناقشة طويلة عن الهرطقة السخيفة لأتباع مذهب التصور البشرى للذات الإلهية ( الأنثروبومورفيتس) تلك الهرطقة التى دحضها ببلاغة شديدة. ولكن ذلك قد إستقبل أسوء إستقبال من كل راهب من رهبان مصر تقريبا ، هؤلاء الرهبان الذين كانوا – ولبساطتهم – قد وقعوا فى شرك ذلك الخطأ. والواقع فإن غالبية الرجال الأكبر سنا بين الإخوة قد أكدوا أنه فى الواقع كان لابد من إدانه الأسقف كشخص أفسدته أسوء وأخطرهرطقة ، شخص يعارض أفكار الكتاب المقدس وينكر أن الله العلى القدير كان فى شكل إنسانى ، وذلك رغم دليل الكتاب المقدس أن آدم قد خلق فى صورته. وهؤلاء الذين يعيشون فى صحراء سيت والذين كانوا أكثر الرهبان المصريين كمالا ومعرفة قد أنكروا خطاب ثيوفيلوس أيضا. وبين جميع الكهنة فقط كان كهنة ديرنا بافنتيوس إستثناءا. أما هؤلاء الذين كانوا مسئولين عن الثلاثة كنائس الأخرى فى الصحراء فقد رفضوا السماح بقراءة الخطاب أو بعرضه علانية فى تجمعاتهم.
ومضى كاسيان يروى قصة أحد الرهبان فى دير بافينتوس والذى - وبعد أن أقنع بترك معتقداته الأنثربومورفيتية ( التى تتصور الذات الإلهية فى شكل إنسانى ) - إنفجر باكيا عندما إجتمعت الجماعة للعبادة لإنه شعر أن الصورة البشرية للإله والذى إعتاد أن يرسمها أمامه عندما كان يصلى قد ذهبت الآن من قلبه. وأخذ ذلك الراهب يصيح وقد ألقى نفسه على الأرض ( لقد أخذوا إلهى منى ). لم يعد لدى من ألجأ إليه ولم أعد أعرف من أعبد أو أخاطب. إن نواح ذلك الراهب الموجع للقلب يصور بشكل حى كيف أن التصورات الأنثروبومورفيتية كانت قد تشابكت بشدة مع النشاطات اليومية لصلاة وعبادة الرهبان.
أما الرهبان الآخرون فى صحراء النطرون فلم يكونوا مستعدين أن يذعنوا ببساطة ويسمحون لإن يُجردوا من تصوراتهم الذهنية عن الإله. والواقع أن عددا من الرهبان قد اخذوا موقفا فوريا فتركوا أديرتهم وسافروا إلى الإسكندرية حيث قاموا بتنظيم مظاهرة ضد الأسقفية. ويقال أن البعض منهم قد تآمر حتى على حياة ثيوفيلوس. وعندما واجه ثيوفيلوس ذلك تغير قلبه فجأة ففكر أولا فى ملاطفة الرهبان الغاضبين من خلال الترحيب بهم فى لغة تتضمن الموافقة على الصفات إلإنسانية للإله. قائلا لهم ( أراكم كأنكم وجه الله). ثم وبعد أن ضغط عليه الرهبان أكثر وافق على شجب لاهوت أوريجن( كان لاهوت أوريجن ينكر التصوير البشرى للذات الإلهية) والذى كان قد إ تخذه أخيرا على أنه الأساس المنطقى لخطابه الفصحى. كان لتغير موقف ثيوفيلوس أثر أليم على رهبان النطرون الذين كانوا يؤمنون بمعتقدات أوريجن وكانوا قد أيدوه من قبل فى تعليمه عن الذات اللامادية للإله. وبين هؤلاء الرهبان كان هناك رجل يسمى إزيدور و كان قد خدم قبل ذلك كمسئول عن الضيوف فى كنيسة الإسكندرية وأربعة رهبان آخرين كانوا يسمون ( بالإخوة الطوال) وهم ديسقوروس وأمونيوس ويوسيبيوس وإيثيوميوس وكانوا موضع ثقة ثيوفيلوس سابقا حيث كان قد وظفهم لأداء الخدمة الدينية فى الإسكندرية وهيرموبوليس ، إحدى مدن الصعيد. وحتى قبل قرار ثيوفيلوس بتحويل تأييده إلى الأنثروبومورفيين فإن هؤلاء الرهبان كانوا قد أصبحوا خائبى الأمل من جراء سياسات البطريرك الإقتصادية - وخاصة إستثماره المبذر فى مشاريع بناء الكنائس – فإنسحبوا إلى الصحراء مرة أخرى. والآن كان التوتر المتزايد فى علاقتهم بثيوفيلوس قد تفاقم بالعوامل اللاهوتية. وبعد أن كانوا حلفاءً فى تأييد لاهوت أوريجن وجد البطرك وأصدقائه السابقون أنفسهم الآن على جوانب معاكسة من الإنشقاق الدينى.
وبدا أن تصرفات ثيوفيلوس من هذه المرحلة فصاعدا أصبح يحركها مزيج متفجر من الدوافع الدينية والسياسية. وقد عكست محاولاته التالية لفرض وحدة دينية بين رهبان النطرون إهتمامه الأكبر لتدعيم الولاء الديرى خلف السياسات المقررة للبطريركية. كان تنفيذ سياسة ثيوفيلوس الجديدة المضادة للأرجونية سريعة وقاسية. فقد أصدر قرار الحرمان على إزيدور وأرسل خطابات إلى الأساقفة المحليين آمرا بطرد القادة الأرجونيين فى الأديرة التى تدخل فى نطاق سلطتهم. وعندما حضر الإخوة الطوال إلى الإسكندرية كى يتوسلوا العفو طردهم ثيوفيلوس بخشونة ثم عقد مجلسا كنسيا كى يدينهم رسميا. و قام بتعيين خمسة رهبان من الموالين له من رهبان النطرون فى مكانهم. وأخيرا قام بإرسال قوات عسكرية إلى النطرون لطرد الرهبان بالقوة وليخمد المقاومة.
وفى كتابته إلى جيروم بعد ذلك فى نفس السنة صور ثيوفيلوس تصرفاته مرة أخرى فى تواصل مع تلك الخاصة بأنبياء العهد القديم فيقول ( إن بعض الرجال عديمى القيمة فاقدى العقل الذين رغبوا فى أن يزرعوا وينثروا هرطقة أوريجن فى أديرة النطرون قد تم تقطيعهم بمنجل النبى الخاص بى ). وهنا يمكن أن نرى كيف حاول ثيوفيلوس أن يقلب خطابه السابق ضد الوثنية على رأسه من خلال إعادة تكييف تطبيقه لنماذج الكتاب المقدس بشكل جذرى. وكما ذُكر سابقا فإن معارضة ثيوفيلوس الأصلية لعقيدة تشبيه الذات الإلهية بالإنسان (الأنثروبومورفيتزم) قد إرتبط بقوة بأجندة الحملة على الوثنية. وبتصوير نفسه فى تضامن مع أنبياء الكتاب المقدس فقد دعم معارضته للإستخدام الوثنى للصورالإنسانية فى عبادة الله. ومع ذلك ، ومع تغير رأية الآن ، فقد وظف ثيوفيلوس نفس خطاب الكتاب المقدس لكى يجادل بعكس ذلك. وهكذا وبتوصيف أفعاله ضد الرهبان الأورجينيين فى مفردات نبوية فقد كانت يقترح أن إعتناق أفكار أوريجن اللاهوتية كان مساويا للوثنية رغم أنها تتحاشى إستخدام كل الصور الإنسانية فى تأمل الذات الإلهية. وقد إنغمس حليفه جيروم فى نفس الخطاب إلى حد كبير عندما دعى الرهبان الأورجينيين ( بالأرواح الشيطانية) التى حطمتها قوة وفصاحة ثيوفيلوس . وفى حالة كلا الكاتبين فإن التماسك المنطقى للتماثل الموظف كان أقل أهمية من قوته البلاغية فى المناقشات العامة حول ميراث أوريجن. وسرعان ماأوصلت أفعال ثيوفيلوس ضد الرهبان الأورجينين النزاع إلى مستوى عالمى فبسبب الهجوم المسلح على أديرة النطرون أجبر الإخوة الطوال الأربعة على الهرب من البلاد – إلى فلسطين أولا ومن هناك رحلوا إلى القسطنطينية.
وفى تلك الأثناء شغل ثيوفيلوس نفسه فى حملة مكثفة من كتابة الخطابات حاول فيها طلب التأييد من أجل قضية محاربة الأورجينية كما أمر أساقفة الشرق الآخرين ( فلسطين وقبرص وآسيا الصغرى) بأن لايستقبلوا النساك الهاربين. وإختار البطريرك المصرى بعض من المعينيين الجدد فى أديرة النطرون كمراسلين له. كانت تلك وسيلة أبعد دعم بها ثيوفيلوس من سلطته بين القيادة الديرية – وفى نفس الوقت – أعلن علانية عن دوره كراعى أول للرهبان المصريين. والواقع أن كراهيته المتزايدة لإيزيدور ربما كانت تكمن فى منافسة على الرعاية الديرية. ففى أحد خطاباته يشجب ثيوفيلوس إيزيدور لإستخدامه ثروته الكبيرة لكسب تأييد الرهبان ولمساعدة تسهيل هروب الإخوة الطوال.
وبمجرد وصولهم إلى العاصمة الإمبراطورية إلتمس الإخوة الطوال من أسقف المدينة – جون كريسوستوم - أن يوفر لهم الحماية وأن يقوم بالدفاع عن قضيتهم ضد هجوم ثيوفيلوس. وفى إستجابة لإلتماسهم هذا كتب كريسوستوم لثيوفيلوس مشعرا إياه أن الرهبان المنفيين يفكرون فى رفع قضايا ضده حاثا إياه – وبدلا من ذلك – أن يُرحب بعودتهم إلى بلادهم بسلام. ولكن تدخل أسقف القسطنطينية فيما كان ثيوفيلوس يراه شأنا كنسيا مصريا داخليا قد زاد فقط من غضب البطريرك السكندرى. وربما كان سوء الظن بين كلا البطركين قد نشأ قبل ذلك التاريخ بسنوات قليلة وبالتحديد فى سنة 397م عندما عارض ثيوفيلوس إنتخاب كريسوستوم و إقترح – لسخرية القدر – صديقه آنذاك إيزيدوا كمرشح منافس . والآن وبعد أن دُعى إلى القسطنطينية للدفاع عن نفسه ضد شكاوى الرهبان قرر ثيوفيلوس أن يلقى بإتهاماته الخاصة ضد كريسوستوم متهما إياه – ولسخرية القدر مرة أخرى - بإنتهاك شريعة نيقية بالتدخل فى شئون تقع خارج حدود أسقفيته. ساهمت دعوة ثيوفيلوس المضادة مع تدبيره السياسى الحاذق عندما كان فى العاصمة - فى النهاية - فى إدانة كريسوستوم فى مجمع أوك سنة 403م فى خلقدونية ونفيه إلى بيثينية فى آسيا الصغرى.
وفى حدود ذلك الوقت كان النزاع بن ثيوفيلوس والرهبان قد تراجع إلى خلفية المشهد. والواقع أنه بعد وفاة إثنين من الإخوة الطوال فإن الرهبان المنشقين الآخرين قد تصالحوا مع ثيوفيلوس فى مجمع أوك المذكور. ومؤقتا على الأقل إستطاع البطريرك السكندرى – ومن خلال القوة اللامحدودة لإرادته الجبارة - أن يعيد ممارسة إشراف محدود على رهبانه المصريين.
لم يعد هناك أى تذمر رهبانى أثناء العشر سنوات الباقية من بطركيته. ومع ذلك ، وبعد نفى ووفاة كريسوستوم فإن التوتر بين أسقفيتى الإسكندرية والقسطنطينية سوف يستمر فى الغليان حيث إستمرت كلتا المدينتين فى الصراع من أجل المكانة المتفوقة فى الكنيسة مع روما. وبإشتعال فتنة طبيعة المسيح فى القرن الخامس خلال حكم خلفاء ثيوفيلوس ، كيرلس (412-444م) وديسقوروس (444-454م) فإن هذه التوترات الكنسية الداخلية سوف تعود مرة أخرى إلى غليان عنيف .

كيرلس وديسقوروس والخلاف حول طبيعة المسيح :

وبعد إنتخابه كأسقف للإسكندرية فى سنة 412م بدأ كيرلس فى تنفيذ سياسات تحمل تشابه قوى مع تلك الخاصة بسلفه ثيوفيلوس. ومثل ذلك التواصل فى السياسة لايجب أن يدعو للدهشة لإنهما كانا يرتبطان برباط عائلى ، فقد كان كيرلس إبن أخت ثيوفيلوس الصغرى. وكقريب قريب للأسقف السكندرى تمتع كيرلس بنشأة تعليمية متميزة. وبعد ذلك فى حياته ، وأثناء مجمع إفسوس سنة 431م سوف يحتفل بحقيقة أنه قد تربى على يدى الآباء المقدسين الأورثوذكس. وبينما كان ذلك – جزئيا - دفاعا عن أصله الدينى الأرثوذكسى فربما كان يعكس أيضا إدراكه لكيف كان قد إستفاد بطرق ثابتة من الرعاية الحميمة لثيوفيلوس. وربما حتى من أثناسيوس ، معلم ثيوفلوس نفسه. ولم تغُفل مؤثرات الرابطة العائلية لكيرلس بثيوفيليس بالنسبة لمعاصريه. فقد أدرك الراهب المشهور إزيدور البلسيومى – على سبيل المثال - كيف كان كيرلس إبن أخت ثيوفيليس ، ليس فقط بالدم ولكن أيضا فى شخصه الإجتماعى المقاتل .
وقد تبع كيرلس ثيوفيلوس - بشكل خاص – فى مجالين . الأول هو نشاطه المستمر ضد الوثنية والأشكال الهرطقية من المسيحية فى مصر. وثانيا فى معارضته الدينية والسياسية لأساقفة القسطنطينية فى كلا من عقيدتهم حول طبيعة المسيح وطموحهم لتوسيع سلطة أسقفيتهم. وفى كل من هاتين الحالتين كان تمثيل كيرلس لنفسه فى تواصل مع ثيوفيلوس متسقا مع سياسته الديرية. وسوف تثبت مجهوداته فى ممارسة سلطته بشكل كامل على الرهبان المصريين والإحتفاظ بولائهم جدواها بشكل خاص أثناء السنوات الأخيرة من بطركيته وخلال بطركية خلفه ديسقوروس عندما أصبحت أسقفيتا الإسكندرية والقسطنطينية متورطتين فيما أصبح يعرف بالخلاف حول طبيعة المسيح.

ضد الوثنيين وضد الهراطقة / التعصب الدينى وبناء هوية الجماعة المسيحية فى أسقفية كيرلس السكندرى:

فى سنة 415م أى فى السنة الثالثة من أسقفية كيرلس ، قام جمع من غوغاء الإسكندرية المسيحيين بالتربص بمركبة الفيلسوفة الأفلاطونية السكندرية الشهيرة – هيباثيا – و جروها إلى الكنيسة المجاورة لمقر إقامة كيرلس( معبد القيصرون القديم) ونزعوا ملابسها وقتلوها بكسرات الفخار. ويواصل المؤرخ سقراطيس الرواية فيقول ( وبعد أن مزقوها إربا ، جمعوا أجزاء جسدها فى مكان يسمى سينارون وأحرقوه فى النار). ويؤخذ هذا الإغتيال الوحشى لهيباثيا فى العادة من قبل المؤرخين على أنه علامة على التوترات الدينية الداخلية ومناخ التعصب الدينى الذى ساد فى الكنيسة تحت ولاية كيرلس. فخلال السنتين الأولين من ولايته كان كيرلس قد عمل بالفعل على الإستيلاء على العديد من المعابد بعد أن نشب العنف الطائفى الداخلى بين اليهود والمسيحيين والآن سقط فيلسوف وثنى شهير قتيلا ومُزق جسده وأحرق على يد المسيحيين.
جادل الكتاب القدماء والمحدثون كثيرا حول جذور الأسباب الإجتماعية لمقتل هيباثيا وإلى أى مدى يمكن نسب ذلك الحادث المأساوى إلى كيرلس وسياسات البطركية السكندرية فى مناهضة الوثنية. ويذهب كاتب وثنى من القرن السادس بعيدا ويلوم كيرلس مباشرة عن قتل هيباثيا وقد تبنى هذه الإتهام بعد ذلك مؤرخ القرن الثامن عشر إدوارد جيبون. ومع ذلك فإن أقدم المصادر التاريخية المتاحة إلينا – وهو سقراطيس المذكور – لا ينسب لكيرلس أى دور خاص فى الأحداث التى أدت إلى مصرع هيباثيا. وهو فقط يلاحظ أن ذلك العمل العنيف قد جلب العار على كيرلس وكنيسته بعد ذلك. وبينما يمكن إعتبار كيرلس ملوما على تنمية مناخ التوتر والتعصب الدينى بين السكان المسيحيين السكندريين فليس هناك أى دليل مباشر أو أى دليل يمكن الإعتماد عليه لإثبات أنه قد أمر بقتل هيباثيا بأسلوب المافيا ذلك.
وبدلا من ذلك ، يبدو مقتل هيباثيا وكأنه كان نتيجة – جزئيا على الأقل - لصراع القوى الكنسى القانونى بين كيرلس وأوريستس الحاكم الرومانى فى الإسكندرية. فمنذ وقت إنتخاب كيرلس فى سنة 412م وجد الأسقف نفسه فى نزاع حاد مع الذراع المدنى لحكومة الإسكندرية. و كان قد إنتُخب بالرغم من المعارضة الشديدة للقيادة العسكرية المحلية. وقد تطور نزاع كيرلس مع الحكومة – وخاصة مع أوريستس – بسرعة شديدة أثناء الإضرابات التى إشتعلت بين المسيحيين واليهود فى المدينة. وفى عشية إندلاع تلك الإضطرابات كان أوريستس قد أخضع واحدا من أهم مؤيدى كيرلس للتعذيب بتهمة التجسس. ثم وبعد أن طرد كيرلس اليهود من بعض أجزاء المدينة أرسل أوريستس خطابا إلى الإمبراطور يشكو من تصرفات كيرلس. وعندما رفض أوريستس بعد ذلك محاولات الأسقف للمصالحة قامت جماعة كبيرة من الرهبان المؤيدين لكيرلس - ربما خمسمائة راهب من النطرون من الذين كانوا جزءً من فرقة ثيوفيلوس قبل عقد من ذلك الزمان - وتقدموا من الحاكم عندما كان يستقل مركبته وصاح عدد منهم عليه بألفاظ مهينة داعين إياه بالوثنى ، وذلك رغم هويته المعترف بها كمسيحى معُمد . وقام راهب غلبه الإنفعال يسمى أمونيوس برمى أوريستس بقطعة حجارة جرحت رأسه. ومرة أخرى كان رد فعل أوريستس الرسمى هو القبض على الجناة وتعذيبهم. و عندما مات أمونيوس نتيجة لمعاملته القاسية قام كيرلس على الفور بتسجيل الراهب فى سجل الشهداء المسيحيين السكندريين. وفى أخريات العصور القديمة ، كان يُعتقد أن الشهداء وآثارهم ومقاماتهم هى قنوات للقوى الإجتماعية والروحية. وبتسجيل قوائم رسمية للشهداء والإحتفاظ بتلك القوائم فى رعايتهم كان الأساقفة المسيحيين الأوائل ، مثل كيرلس ، يبحثون عن السيطرة وإعادة توجيه وقيادة قوة الشهداء فى خدمة السياسة الأسقفية.
ولكن فى هذه الحالة لم ينل تصرف كيرلس بتسجيل إسم أمونيوس فى سجل الشهداء القبول العام من المسيحيين الذين كانوا يعيشون فى المدينة وقد رأى البعض منهم أنه كان بادرة إستفزازية غير ضرورية. ومع ذلك فقد كانت محاولته لتقنيين إتهام أمونيوس ورهبان وادى النطرون لأوريستس بالوثنية إيماءات محملة بمغزى إجتماعى. فكلاهما كان يوضح كيف أنه فى خضم تلك الأزمة كان البطريرك ومؤيديه من الرهبان يبحثون عن تشكيل الهوية الذاتية للكنيسة السكندرية. وقد فعلوا ذلك - بشكل خاص- بمناشدة ميراث الشهداء المصريين – هؤلاء الذين كانوا قد إشتهروا بالوقوف فى ثبات فى وجه الإضطهاد الحكومى والوثنية.
ولذلك فربما يمكن إرجاع قتل هيباثيا فى نهاية الأمر إلى إلتقاء عاملين إجتماعيين ، هما الإتجاهات الإنعزالية المتزايدة للذات المذهبية فى الكنيسة السكندرية ، والظروف الخاصة بنزاع كيرلس مع أوريستس. كانت هيباثيا من المقربين إلى أوريستس وكانت تتمتع بحرية التعبير مع الحاكم وبالمميزات المصاحبة للرعاية التى كان يتمتع بها قلة مختارة فقط . وحتى أهم من ذلك فإن مدخلها إلى الحاكم خاصة فى دورها كفيلسوفة فى ألأكاديمية قد أصبح معرفة عامة بين مسيحى الإسكندرية. وفى مركزها العام فقد كانت تُرى على أنها منافسة لكيرلس فى إمتيازات الحكومة. وربما كان كيرلس نفسه وقد حُرم من مثل تلك المميزات مع أوريستس قد ساهم فى ذلك الإدراك بتصويرها –وبشكل خاص – على أنها خطر على سلطان الكنيسة فى الإسكندرية كأثر من نظام الماضى. كان مقتل هيباثيا النهائى نتاجا لتلك البيئة الإجتماعية المتفجرة. وهنا فإن تفاصيل إغتيالها تبدو معبرة بشكل خاص. لقد كان تمزيق جسدها وحرقه هو فى الواقع عمل طقسى عام بمثابة إعادة تمثيل درامى لتحطيم معبد السيرابيوم بقيادة ثيوفيلوس. فبتنفيذ فعل العنف على جسد هيباثيا فقد مُنح المسيحيون العامة تعبير قوى لشعورهم الإنعزالى المتزايد بهويتهم المدنية والدينية. وبينما كان كثير من الباحثين منشغلا بالسؤال عما إذا ما كان مقتل هيباثيا هو نتيجة طبيعية لسياسة منظمة ضد الوثنية من جانب كيرلس – وهو سؤال قد تمت الإجابة عليه الآن بالنفى بشكل عام بالنظر إلى تعقيدات صراعه مع أوريستس- فإن قليل - إن وجد أحد - قد لاحظوا كيف أن هذا الحدث المبكر جدا فى حكمه ربما يكون قد عمل بالتساوى كحافز ساعد على بلورة سياستة اللاحقة تجاه العقيدة والممارسة الوثنية. وإذا ماأدرك مقتل هيباثيا بالفعل كإعادة تمثيل درامى لتحطيم معبد السيرابيوم وكإيماءة طقسية وحشية من التأييد العام لسياسات ثيوفيلوس فربما يكون قد خدم بالمثل كدافع شعبى لكيرلس من أجل أن يتبع نموذج سلفه بشكل قريب وبذلك يختبر عمق الرأى المعادى للوثنية بين بعض مسيحى الإسكندرية ورهبان الصحراء المصرية. إن هذا الإندفاع فى المشاعر المعادية للوثنية قد عُبر عنه بشكل حى من قبل مؤرخ القرن السابع حنا النقيوسى. فعندما يصف رد فعل الناس على مقتل هيباثيا فهو يكتب ( وأحاط كل الناس بالبطريرك كيرلس ودعوه بثيوفيلوس الجديد لإنه قد حطم آخر بقايا الوثنية فى المدينة).
ويمكن أن نرى إذا ماكان كيرلس مدينا لنموذج ثيوفيلوس فى صناعة سياستة التالية بشكل أكثر وضوحا فى رد فعله على حضور عقيدة إيزيس بالقرب من مينوثيس. فبرغم مجهودات قادة الكنيسة فى قمع الأشكال الوطنية من الديانة المصرية القديمة فإن الممارسة الدينية المحلية إستمرت فى الإزدهار خلال القرن الخامس وحتى القرن السادس والسابع أيضا.كانت ديانة إيزيس إحدى تلك الديانات المصرية التى ظلت حية وكان لها مركز حج نشط فى مينوثيس على ساحل البحر المتوسط إلى الشرق من الإسكندرية. وهناك كان معبدها مركزا للعلاج والعرافة التنبؤية. كان الحجاج يأتون إلى مينوثيس للبحث عن علاج لأمراضهم وكانوا غالبا مايبيتون ليلة فى المقام على أمل أن يحلموا وتأتى إليهم الإلهة فى الأحلام وتعالج مرضهم . ظل مقام إيزيس جهة حج مشهورة أثناء فترة ولاية كيرلس كأسقف ويبدو أنها وبالنسبة للوثنيين قد ملأت مكانا إجتماعيا ظل شاغرا نتيجة لتحطيم ثيوفيلوس لمعبد السيرابيوم.ٍ
وفى وقت ما قبل سنة 429م كانت شهرة ديانة إيزيس فى مينوثيس قد بدأت تثير قلق كيرلس الذى لاحظ أن المسيحيين كانوا بين هؤلاء الذين يقومون بالحج إلى ذلك المقام. وفى رد فعله على ذلك لم يقم كيرلس بقيادة جمع من المتعصبين لتدمير المعبد كما فعل ثيوفيلوس لإن الشهرة الواسعة لديانة إيزيس والجو المشحون بعد مقتل هيباثيا كان من شأنه أن يمنع ذلك بلاشك. وبدلا من ذلك فقد إتخذ مدخلا غير مباشر وأكثر حكمة فى محاولة جعل طبوغرافية المكان مسيحية فأسس مقام لشهيد مسيحى فى الجوار كى ينافس مقام إيزيس كمركز للعلاج ومقصد للحج. وكان ذلك هو مقام القديسيين سيروس وجون فى مينوثيس. إن القصة خلف تأسيس مركز الحج هذا توضح كيف أن كيرلس قد واجه الممارسة الوثنية فى العرافة بإدعائه الخاص فى الإلهام المقدس وكيف أن سياسته اللاحقة قد تشكلت على ضوء نموذج ثيوفيلوس. وتبعا للكاتب سوفورونيوس فقد أعلن كيرلس عن رؤية أمره فيها أحد الملائكة بنقل الرفات من الإسكندرية إلى مينوثيس. وعندما أحضر رفات القديسين فى النهاية إلى مينوثيس – والذين عرفتهما الكنيسة بأنهما كانا من شهداء دقلديانوس - فقد تركهما كيرلس فى رعاية الرهبان الباخوميين والذين كان ثيوفيلوس نفسه قد أقامهما هناك بالقرب من كانوبوس قبل عقدين من الزمان . وربما كان تأسيس كيرلس لمقام حج فى مينوثيس ليضم تلك الرفات قد تضمن أيضا الإختيار المعمارى لبناء كنيسة كان ثيوفيلوس قد بناها أصلا هناك. وفى أى ألأحوال - فمثل سلفه فقد إستخدم كيرلس – إستراتيجيا – قطعا فنية ومعمار مقدس بالتنسيق مع الوجود المحلى للجماعات الرهبانية لمنافسة الفضاء الدينى الوثنى كى يعيد المشهد المصرى كإقليم مسيحى. وفى ترويجه لديانة الشهيد المسيحى وفى كتاباته كان كيرلس يبحث عن تحديد هوية الكنيسة القبطية مقابل المعتقدات والممارسات الوثنية ، كما إرتبطت الخطابات والرسائل العديدة التى كتبها كيرلس ضد أشكال من المعتقدات المسيحية التى رآها هرطقية أو إنشقاقية ، بنفس روح أجندته ضد الوثنية. وفى تقديمه لخطابه ( إلى رهبان سيتس ) شكل كيرلس - بإدراك – إدانته للمعتقدات الأورجينية والآريوسية فى مفردات خطاب الحملة على الوثنية وكما قال ( هؤلاء الذين يتشيعون لأوريجن ، إنهم يتبعون ضلال الوثنيين وجنون الآريوسيين). وفى هذا الخطاب يمكن لنا أن نرى مرة أخرى كيف أن كيرلس قد بارى ثيوفيلوس فى معارضة بعض الأفكار الأورجينية وبحث عن فرض أرثوذكسية لاهوتية بين الرهبان الذين كانوا يعيشون فى المنطقة المحيطة بوادى النطرون وصحراء سيتيس. وفى هذه الحالة - مع ذلك - فلم يكن قلق كيرلس بخصوص تأثير أوريجن بين الرهبان يتعلق كثيرا بالدفاع ضد الأفكار الأنثروبومورفيتية عن الإله ، ولكن عن الدفاع عن قيامة الجسد ضد الأفكارالأورجينية عن ذوبان الجسد والروح عندما إتحدا فى الله. وفى الواقع ، وحتى بينما كان يتمسك بخط عام متشدد ضد بعض أشكال المعتقد الأوريجينى فى المنطقة حول صحراء سيتيس ، ففى مراسالاته مع بعض الجماعات الرهبانية الأخرى فقد عكس الإتجاه فى الواقع وأدان المعتقدات الأنثروبومورفيتية المتطرفة. ويمكن لنا أن نرى ذلك من مراسالاته مع جماعة رهبانية فلسطينية كان يرأسها راهب يسمى تيبرياس وأيضا فى خطابه القصير إلى (كالوسيريوس) والذى يركز إهتمامه فيه على المعتقدات الهرطقية المتداولة بين رهبان جبل كالمون فى منطقة الفيوم المصرية.
كان الخطاب الموجه إلى كالوسوريوس تثقيفى بشكل خاص لإنه كان يعطى صورة عن الآليات التى ظل بها كيرلس على علم بالأحوال الداخلية فى الأديرة المصرية وكيف أنه قد إستخدم الخطابات الشخصية ليلح فى إعادة رسم الحدود الثيولوجية . ومن الواضح أن البطريرك قد إستخدم الواشين الديريين الذين كانوا يمدونه بمعلومات عن هؤلاء من أصحاب الآراء الدينية والكنسية المغايرة فى دير جبل كالمون وليس فقط عن هؤلاء الذين كانوا يتبنون الآراء الأنثروبومورفيتية المتطرفة ولكن عن الرهبان الميليتيين أيضا ( أتباع ميليتوس).
والصورة المرسومة هى لدير لايتمايز- بشكل حاد- بالإختلافات العقائدية أو الطائفية. وتتأكد هذه الصورة عن الحركة الديرية فى الفيوم من خلال مصدرآخر من نفس الفترة هو ( أقوال آباء الصحراء ) والذى يحكى قصة كيف أن راهب أرثوذكسى شهير يسمى سيسيوس كان مستقرا ويعيش فى الفيوم فى سلام بين جماعة من الزهاد الميليتيين. كان إهتمام كيرلس بكتابة ذلك الخطاب إلى كالوسيروس – أسقف المنطقة - هو أن يحثه على أن يوقف هؤلاء الذين كانوا يصرحون بمعتقدات ضالة وأن يمنع هؤلاء الذين يدرك أنهم أرثوذكس من الإختلاط بالمليتيين. وبرغم حقيقة أن إهتماماته الدينية الخاصة كانت تختلف تماما فى هذه الحالة فقد تبع كيرلس ثيوفيلوس فى محاولاته لإخضاع القيادة الرهبانية إلى سلطته بشكل أكثر مباشرة. وقد فعل ذلك من خلال حثهم على رسم خطوط أكثر خصوصية وثباتا لهوية الجماعة وذلك بفصل أنفسهم عن الرهبان الذين يرعون آراء دينية وكنسية تختلف عن تلك الخاصة به.

النزاع حول طبيعة المسيح مع القسطنطينية ( الجزء الأول).

وعلى الجبهة الدولية تبع كيرلس أيضا ثيوفيلوس فى علاقته المضطربة مع كنيسة القسطنطينية وقيادتها. وفى بدايات أسقفية كيرلس كان ذلك أشد وضوحا فى الخط المتشدد الذى أخذه فيما يتعلق بميراث جون كريسوستوم ، أسقف القسطنطينية السابق. كان نزاع ثيوفيلوس مع كريسوستوم قد إنتهى بإبعاد الأخير عن منصبه ثم وفاته على أثر ذلك سنة 407م. وفى وقت إبعاده ، تم حذف إسم كريسوستوم من ألواح كنيسة الإسكندرية التى كانت عبارة عن السجلات الكنسية الرسمية التى تسجل أسماء الأساقفة من ذوى المواقف الجيدة. والآن وبعد أكثر من عقد من الزمان فقد كان هناك حركة تجرى فى بعض الأسقفيات لإسترجاع إسمه إلى قائمة الأساقفة الرسمية. والواقع أن أسقفية روما والقسطنطينية وأنطاكية كانت قد فعلت ذلك بالفعل. ومع ذلك فإن كيرلس الذى كان حاضرا بنفسه مع ثيوفيلوس وشهد إدانة كريسستوم فى مجمع أوك سنة 403م قد رفض ذلك بإصرار ، وظل مصمما على رفضه حتى بعد أن كتب له أتيكوس – أسقف القسطنطينية الجديد والخلف الثانى لكريسوستوم - خطابا يناشده فيه الرأفة فى تلك المسألة. وعلى مدى فترة ولايته البالغة ثلاثة وثلاثين سنة أخذ كيرلس يخفف من موقفه تدريجيا تجاه كريسوستوم ولكن التوترات بين الإسكندرية والقسطنطينية ظلت كما هى.
وقد إنفجرت هذه التوترات إلى حرب ثيولوجية كاملة بعد أن تولى رجل يسمى نسطوريوس مركز أسقف القسطنطينية سنة 427م. بدأ الإنفجار المفاجئ لهذا النزاع المتجدد بإعلان نسطوريوس على الملأ رفض معتقد أن العذراء مريم كانت أما للإله بالمعنى الحرفى أى أن تكون هى التى حملت به. كان نسطوريوس يرفض تلك العبارة لإنها كانت – فى رأيه – تثير سلسلة من المشاكل الخطيرة. فكيف يمكن لمريم وهى مجرد كائن بشرى أن تلد الإله العلى القدير؟ ألم يكن ذلك مجرد لغط لغوى؟ ألم يكن من الأفضل أن نقول أن مريم قد أنجبت الكائن البشرى ، يسوع المسيح؟ وعلى هذا فقد إقترح نسطوريوس لقبا بديلا لمريم هو ( أم المسيح). وعلق على ذلك قائلا ( أنه فيما يخص أن الإله قد مر من خلال مريم العذراء فقد تعلمت ذلك من الكتاب المقدس ولكن أن يكون قد ولد منها فلم أتعلم ذلك من أى جهة). وفى محاضراته عن ذلك الموضوع ، فقد ذهب إلى حد إدانة هؤلاء الذين إستمروا فى تسمية العذراء بأم الإله.
أثار رفض نسطوريوس لمعتقد أم الإله غضبا فوريا بين قيادة الكنيسة المصرية. فقبل القرن الخامس كان لذلك الإصطلاح تاريخ طويل من الإستعمال فى مصر والواقع أنه قد كان أحد الملامح المميزة للاهوت السكندرى. وقد إستخدم كل من أوريجن وبطرس والإسكندر وأثناسيوس وديديموس الأعمى – وسواء أكانوا بابوات أو معلمين دينيين بارزين - هذا اللقب لمريم العذراء فى كتاباتهم. وبالنسبة لكيرلس نفسه فقد إستخدم هذا الإصطلاح – بشكل إضافى – كأداة دينية حاسمة فى مجهوداته فى محاربة ديانة إيزيس فى مصر. لقد كانت إيزيس تُعرف بإسم العذراء العظيمة وكأم للإله بين عبادها. و قد نسب إليها فى ألأساطير المصرية إنجاب إله الشمس المصرى حورس. وبتمثيل مريم كأنها العذراء وأم الإله فى الأدب والطقوس الدينية والفن حاول كيرلس والكنيسة المصرية فى القرن الخامس التودد إلى مشاعر عباد إيزيس وإعادة توجيه مثل ذلك الإيمان إلى المعتقد المسيحى لمريم العذراء. ولذا فلايجب أن يكون مدعاة للدهشة أن كيرلس وبمجرد أن سمع عن تعاليم نسطوريوس بشأن العذراء فقد شعر على الفور بالحاجة للدفاع عن ذلك المعتقد - عميق الجذور فى الديانة المسيحية السكندرية – كتابة.
إن طبيعة رد فعل كيرلس هام لفهم الدور الذى ظلت الحركة الديرية المصرية تلعبه بالنسبة للبطركية السكندرية. ففى مواجهة نزاع دينى آخر مع القسطنطينية إتجه كيرلس إلى الأديرة المصرية فى محاولة لتدعيم قاعدة التأييد التقليدية تلك. وهكذا وحتى قبل بداية الكتابة إلى نسطوريوس مباشرة فقد كتب ( خطابا عاما إلى رهبان مصر). وفى ذلك الخطاب كان إهتمامه الأول هو أن يستأصل أى بذور محتملة للشك أو الإنقسام قد تكون تعاليم نسطوريوس قد زرعتها ، فكتب يقول :

( ولكنى قد تكدرت إلى أبعد الحدود لإننى قد سمعت أن بعض الإشاعات المزعجة قد وصلتكم وأن بعض الرجال يحاولون تحطيم عقيدتكم البسيطة ، يتقيأون سيل من العبارات السيئة عديمة الجدوى ، يتسائلون ويقولون أنه من الضرورى أن نحدد بوضوح إذا ماكان يجب أن ندعو العذراء مريم أم الإله أم لا؟).

وإجتماعيا ، كان هدف كيرلس هو أن يقوى روابط ولاء الجماعة تحت قيادته الشخصية. وقد فعل ذلك بتحديد مثل هذا الولاء على أساس الإنتماء الدينى ، محاولا فصل جماعته عن التعاليم التى تبدو باطلة. وفى مقابل مزاعم نسطوريوس بأن معتقد أم الإله غير كتابى ( أى لم يُذكر فى الكتاب المقدس) فقد إستشهد كيرلس بالتقليد الرسولى وبآباء العقيدة المقدسين – هؤلاء الذى يُعتقد أنهم قد فسروا الكتاب المقدس بشكل صحيح – وذلك من أجل الدفاع عن إستخدام ذلك اللقب لمريم. وهنا يدرك ( تاريخ البطاركة ) - بشكل صحيح - كيف أن أجندة كيرلس الخطابية كانت مرتبطة ببناء هوية كنسية مصرية. فقد إستفاد كيرلس من أسلحة الآباء – الإسكندر وأثناسيوس - وإرتدى رداء العقيدة الذى تركه له أسلافه فى كنيسة القديس مرقس الإنجيلى.
وفى خطابه ( إلى رهبان مصر) يسترشد كيرلس - وبشكل خاص – بسابقة أثناسيوس ، ضاربا المثل بمكانين أشار فيهما أثناسيوس نفسه إلى مريم بإسم ( أم الإله). وفى مستهل ذلك النزاع الناشب مع نسطوريوس بشأن طبيعة المسيح فقد كان من شأن إستحضار كيرلس لمثال أثناسيوس أن يعمل على مستويين على الأقل . الأول كان كيرلس - وبوضع نفسه فى موقف خلف أثناسيوس الروحى فى مراسلاته مع الرهبان المسيحيين - يطرح مزاعمه فى دور راعى الحركة الديرية وفوائد تلك الرعاية الديرية التى كان أثناسيوس قد أسسها قبل نحو مائة عام من زمن كيرلس. وثانيا فبإستحضار إسم أثناسيوس فقد طرح كيرلس أيضا زعما فى عبائته كالمدافع الأرثوذكسى عن عقيدة نيقية وفى خطابه إلى رهبان مصر ومباشرة بعد أن إستشهد بأثناسيوس فقد إقتبس كيرلس نص العقيدة الشهير – بشكل بارع ( أى قرارات مجمع نقية سنة 325م التى أكدت على أن الأب والإبن من جوهر واحد). وبعد ذلك وعندما حاول نسطوريوس أن يربط نفسه أيضا بعقيدة نيقية فقد إشتكى كيرلس بأن أسقف القسطنطينية لم يفهم ولم يفسر عقيدة ذلك المجمع بشكل صحيح.
وقد ساعد إعتماد كيرلس على أثناسيوس أيضا فى تفسير الأسباب الدينية العميقة لمعارضته لنسطوريوس. ففى نهاية خطابه إلى رهبان مصر يؤكد كيرلس على وحدة المسيح ( ككائن بشرى وكائن مقدس) وذلك كتبرير لتسمسة مريم بأم الإله. فيقول:

( ولهذا ، فهو إله حقا وملكا تبعا للطبيعة ولإن الذى صُلب قد دعى بسيد المجد فكيف يمكن لأى إنسان أن يتردد فى أن يسمى العذراء المقدسة بأم الإله ؟ إعبدوه كواحد بدون أن تقسموه إلى أثنين بعد الإتحاد).

وفى مكان آخر يصف كيرلس هذا الإتحاد للمقدس والبشرى فى المسيح بأنه إتحاد لحقيقيتين أساسيتين فى شخص المسيح.

( نحن لانقول أن طبيعة الكلمة قد تغيرت عندما أصبحت لحما. ولانقول أن الكلمة قد تغيرت إلى إنسان كامل من روح وجسد. ولكنا بالأحرى نقول أن الكلمة و بإتحادها به نفسه فإن اللحم المجرد وقد نشُط بروح عاقلة قد أصبح إنسانا كاملا بشكل لايمكن فهمه أو تفسيره).

وبالنسبة لكيرلس فقد كان ذلك الإتحاد الكامل للإلهى والإنسانى فى المسيح هو الذى جعل من الممكن أن نسمى مريم بأم الإله. وتبعا ( لإقتصاد التجسيد ) فما كان يُنسب إلى إنسانية المسيح كان يُنسب أيضا إلى ألوهيته وبالعكس. لقد كان لطبيعة ذلك الإتحاد أيضا تضمينات عميقة بالنسبة للخلاص الإنسانى. وهنا يعتمد لاهوت كيرلس عن طبيعة المسيح و بشكل كبير على نظرية أثناسيوس فى التجسيد. فتبعا لأثناسيوس فإن الكلمة المانحة للحياة وبتوحيد نفسها مع جسد إنسانى وبجعل ذلك الجسد إلاهيا فإنها تحول كل الطبيعة البشرية بشكل خلاصى. وبالنسبة لكيرلس كما هو بالنسبة لأثناسيوس فإن المدخل الإنسانى إلى الخلاص قد أصبح ممكنا فقط من خلال المشاركة فى الجسد الإلهى للمسيح.
إن ذلك المنطق المتعلق بلاهوت طبيعة المسيح - والمرتبط للغاية باللاهوت الخلاصى - يساعد على شرح ماكان هاما بالنسبة لكيرلس فى معارضته لنسطوريوس. كان كيرلس يشكو من أن نظرية نسطوريوس تُقسم المسيح إلى شخصين أو أنها على الأقل تقترح إتحاد ضعيف لشخصين فى المسيح. كان قلق كيرلس الأساسى أن مثل ذلك اللاهوت قد يقوض الوحدة الأساسية للمسيح ومن ثم يهدد المدخل الإنسانى إلى الخلاص.
دافع كيرلس عن قضيته ضد نسطوريوس فى خطابات عديدة و مقالات أرسلها إلى ليو - أسقف روما- وإلى آخرين من الأساقفة الشرقيين وإلى البلاط الإمبراطورى وإلى نسطوريوس نفسه أيضا. وسرعان ماأخذ هجومه على أسقف القسطنطينية يزداد عنفا وقد تضمن خطابه الثالث والأخير إلى نسطوريوس- والذى كان مؤيدا من قبل مجمع سكندرى - سلسلة من إثنى عشر تقريرا قاسيا يدين آراء نسطوريوس إشتهرت بإسم ( اللعنات الإثنى عشر). وسرعان مادفعت إعتراضات كيرلس الشديدة الإمبراطور ثيودوسيوس الثانى لعقد مجمع لحل تلك المسألة فى مدينة إفسوس فى يونيو سنة 431م. وفى ذلك المجمع تقرر إدانة نسطوريوس ولكن الجلسات لم تتم بدون تعقيدات. وبصفته الأسقف الأكبر فقد ترأس كيرلس المجمع وقد وصل فى صحبة حاشية من الموالين بما فيهم الراهب القبطى شنودة رئيس الدير الأبيض فى صعيد مصر. كما فوض بعض الرهبان المصريين حتى كمندوبين لكيرلس فى القسطنطينية حيث حاولوا حشد المعارضة ضد نسطوريوس. ومرة أخرى إستفاد بطريرك سكندرى من تأييد الرهبان المصريين فى زمن من الأزمة الدينية.
و بسبب الدعم الناتج عن حماس مؤيديه كان كيرلس متحمسا لبدء جلسات المجمع. كان عقد المجمع قد تأخر فعلا لحوالى أسبوعين عن تاريخ بداية إنعقاده المحدد. وعلى هذا و بينما كان مندوبى أنطاكية مازالوا فى حاجة إلى نحو أسبوع للوصول إلى إفسوس وبينما كانت البعثة الرومانية حتى أكثر تأخرا ومع رفض نسطوريوس نفسه للحضور فقد قرر كيرلس أن يدعو المجمع إلى الإنعقاد. جاءت قرارات المجمع سريعة فخلال أربع وعشرين ساعة كان قد تم عزل نسطوريوس بإجماع أصوات المائة وسبع وتسعين أسقفا الذين حضروا المؤتمر.ٍ
ومع ذلك فقد تسبب قرار كيرلس المضى فى أعمال المؤتمر بدون حضور الوفد الأنطاكى – ورغم أن ذلك كان فى نطاق حقوقه فنيا - فى خلق هوة خطيرة بين الأسقفيتين. وعندما وصل جون أسقف انطاكية ومؤيدوه بعد أيام قليلة من إنعقاد المؤتمر أغاظهم قرار كيرلس بالبدء دون حضورهم ومن ثم رفضوا بقوة تأييد قرار المجمع ( بعزل نسطوريوس). وكرد فعل على ذلك – وبشكل مضحك – عقدوا جلستهم الخاصة وأدانوا فيها كيرلس ولعناته الإثنى عشر. وعندما وصلت أنباء ذلك الإنشقاق إلى الإمبراطور ثيودوسيوس قرر أن يُبطل كل ماجرى فى المجمع بطريقة تحيزية من قبل التجمعين المنفصلين ودعى إلى عقد مشاورة دينية جديدة بالقرب من العاصمة فى خلقدونية. وعلى مدى الثلاثة أشهر التالية حاول الإمبراطور ثيودوسيوس حل الخلافات بين الحزبين ولكنه لم يحقق أى نجاح وتطلب الأمر لنحو أكثر من عامين قبل أن تتصالح الإسكندرية وأنطاكية فى ( صيغة إعادة الإتحاد) سنة 433م.
وبرغم النتيجة الغير قاطعة لمجمع إفسوس فماكان يمكن للمصير العام لكل من نسطوريوس وكيرلس أن يكون أكثر إختلافا عما كان. فبالنسبة لنسطوريوس والذى كان يرغب فى ترك الحياة العامة والعودة إلى معتزله الديرى الأصلى فقد تخلى عن كرسيه الأسقفى بعد المجمع. وبعد ذلك بخمسة سنوات قرر الإمبراطور نفيه إلى حدود العالم الرومانى ، إلى البتراء أولا ثم إلى الواحات الكبرى بصحراء مصر الغربية. أما بالنسبة لكيرلس فقد عاد إلى مصر كبطل حيث مجدته الأجيال التالية فى الأدبين القبطى والإغريقى بصفته راعى وحامى الرهبان المصريين والمدافع عن العقيدة الحقة ضد نسطوريوس. أما مؤقتا ومع إحتلال شخص أقل إثارة للجدل لكرسى الأسقف فى القسطنطينية ( الأسقف مكسيميان) فقد تراجع التوتر مؤقتا بين الإسكندرية والقسطنطينية. وخلال العقد والنصف التاليين حل سلام حذر بين الأسقفيتين.

النزاع الدينى مع القسطنطينية حول طبيعة المسيح ( الجزء الثانى ).

وسرعان ما تحطم الوفاق الدينى بين الإسكندرية والقسطنطينية بشكل حاسم فى مجمع إفسوس الثانى سنة 449م. فهناك تمت مراجعة كثير من نفس المسائل المتعلقة بطبيعة المسيح ولو بواسطة مجموعة من النجوم الجدد حيث كان ديسقوروس (444-454م) قد عُين أسقفا للإسكندرية بعد وفاة كيرلس سنة 444م وفى القسطنطينية كان رجل يدعى فالفيان قد إعتلى العرش الأسقفى. وقد إنطلقت الشرارة الأولى لذلك النزاع المتجدد بواسطة راهب ذى سطوة يدعى إيوتيتش كان يرأس أحد الأديرة فى العاصمة الإمبراطورية القسطنطينية، ففى خلال السنتين السابقتين لمجمع إفسوس الثانى المذكور ، كان إيوتيتش قد بدأ يجذب إهتماما سلبيا بين قادة الكنيسة فى آسيا الصغرى وسوريا والذين راحوا يعبرون عن إعتراضات شديدة على تعاليمه حول الطبيعة الواحدة للمسيح.
لم تكن تعاليم إيوتيتش والخلاف الذى أثارته جديدة ، فقد كان كيرلس أسقف الإسكندرية نفسه قد إستخدم عبارة الطبيعة الواحدة من أجل أن يصف الإتحاد المجرد للمسيح. والواقع أن هذه العبارة كانت قد أثبتت بعد سنة 430م أنها مثيرة للخلاف ليس فقط مع نسطوريوس ولكن أيضا مع ألأسقف جون أسقف أنطاكية وأنصاره والذين كانوا يخشون من أن مثل لاهوت الطبيعة الواحدة ذاك قد يودى بطبيعة المسيح البشرية. وفى مواجهة مثل تلك المخاوف التى كان يعبر عنها الحزب الأنطاكى تحرك كيرلس كى يوضح ويلطف لغته. فقام أولا بشرح أنه قد علم الطبيعة الواحدة للكلمة وذلك من أجل أن يلقى الضوء على إهتمامه الأساسى بأن الكلمة المجسدة يجب أن تُدرك كالفاعل المميز و المصدر الفريد المانح للحياة لعمل الله الإفتدائى نيابة عن الإنسانية. وفى نفس الوقت وحتى بينما كان مازال يوظف نفس لغة الطبيعة الواحدة ليؤكد وحدة شخص المسيح ، كان كيرلس مستعدا لإن يبحث عن أرضية مشتركة مع منتقديه الأنطاكيين من خلال إقراره بأن خصوصية كل من طبيعة المسيح البشرية والإلهية كانت مازلت حاضرة بشكل ما فى تركيبهما. وفى النهاية فإن قيام كيرلس بإعادة الصياغة والتهذيب المتأن للاهوته بشأن طبيعة المسيح قد لعب دورا أساسيا فى تسهيل الوصول إلى صيغة إعادة الإتحاد السالفة الذكر التى وقعتها كنيستا الإسكندرية وأنطاكية سنة 433م.
وبينما تبع الراهب إيوتيتش كيرلس فى تأكيده على الطبيعة الواحدة للمسيح فقد أظهر قابلية أقل فى لباقة التعبير الدينى وإستعدادا أقل كثيرا للتفاهم فى تفسيره المتشدد لمعتقد الطبيعة الواحدة. فبالنسبة إليه فإن أى شخص كان قد إقترح إمكانية وجود طبيعتين للمسيح بعد الإتحاد هو – ببساطة – مذنبا بالإبتداع فى لاهوت طبيعة المسيح وكان ذلك بمثابة خطيئة كبرى فى الأوساط الدينية المسيحية المبكرة.
وفى تأييده لزعمه هذا فقد أشار – وبشكل صحيح هذه المرة - إلى أنه لم يكن هناك أى سابقة قديمة للغة ( طبيعتين ) حيث أنها لم تستخدم لا فى الكتاب المقدس ولا فى المجمعين المسكونين فى نيقية سنة 325م وإفسوس سنة 431م. وضد مثل ذلك الإبتداع المتصور إستمر إيوتيتش يردد صيغة طبيعته الواحدة كأنها وصفة طبية.ومن جانبهم فقد خشى خصوم إيوتيتش – بما فيهم ثيودورو أسقف قبرص وفالفيان أسقف القسطنطينية وليو أسقف روما - أن آرائه عن الطبيعة الواحدة سوف تتسبب حتما فى إبتلاع طبيعة المسيح الإلهية لطبيعته البشرية. وعلى ذلك وفى مجمع الوطن فى القسطنطينية سنة 448م قام فالفيان بإدانته وطرده لقرائته الخاطئة وتشويهه للاهوت كيرلس وقد أيد البابا الرومانى ليو ذلك الحكم واصفا إيوتيتش بالغباء والجهل المفرطين.
وعند هذه النقطة - وفى معارضتة لفالفيان وليو- قرر البابا المصرى ديسقوروس أن يلقى بثقله لصالح إيوتيتش. كان ذلك قرارا مصيريا لمستقبل الكنيسة المصرية. وبينما إتهم بعض المؤرخين المحدثين ديسقوروس بالإنتهازية فإن أسباب تدخله لم تكن - ببساطة – سياسية. فعلى المستوى الدينى يبدوأنه كان يشارك إيوتيتش بعض التفسير الثابت عن صيغة الطبيعة الواحدة وأيضا عدم رضى عميق عن بعض التنازلات التى قدمها كيرلس أثناء محادثاته مع الأنطاكيين من أجل التوصل إلى صيغة إعادة الإتحاد سنة 433م. وفى أى الأحوال وبصرف النظر عن دوافعه فقد إستطاع ديسقوروس أن يستفيد من مناخ سياسى كان مواتيا فى ذلك الوقت. ولإن إيوتيتش كان لديه حامى قوى فى البلاط الإمبراطورى- هو حاجب البلاط كريسافيوس - فقد أسرع ديسقوروس بطلب تأييد الإمبراطور ثيودوسيوس لعقد مجمع ثان فى إفسوس لمراجعة تلك المسألة. ومثل كيرلس فى المجمع السابق فى إفسوس قبل ثمانية عشر عاما مُنح ديسقوروس مزية ترأس الجلسات بصفته مندوب كنيسة الإسكندرية. وقد إستخدم نفوذه ببراعة وثقة حتى أكبر مما فعل سلفه. وبأغلبية ساحقة من الأساقفة الذين حضروا المؤتمر وبوجود القوات الإمبراطورية حاضرة لقمع أى تمرد أسرع ديسقوروس لتحقيق أجندته بحيث تمكن فى النهاية من تبرئة إيوتيتش وخلع فالفيان أسقف القنسطنطينية. ومرة أخرى لعب الرهبان المصريون دورا أساسيا فى مجرى الأحداث ، فتماما عندما كان التصويت على وشك أن يبدأ إندفعت جماعة منهم إلى قاعة الإجتماع – ومعهم حشد من الناشطين المسلحين - صائحين على المشاركين بتأييد أسقفهم. وخلال جلسات المؤتمر كان هناك فورات من الغضب وتركت الأساليب القاسية للحرس المسلح عددا من المشاركين مصابا بما فيهم الأسقف فالفيان نفسه والذى توفى خلال سنة من إنعقاد المؤتمر بسبب عدم قدرته على تحمل مشاق السفر إلى منفاه.
وعاد ديسقوروس إلى الإسكندرية منتصرا ولكن ذلك كان نصرا مكلفا قصير العمر. ففى أثناء عملية الدفاع عن إيوتيتش لم يكن قد أبعد القسطنطينية فقط ولكن أيضا أسقفية روما الرهيبة. ولم يستطع ليو أسقف روما نفسه حضور المجمع وأرسل بدلا منه وفدا بابويا ومعه خطابا تفصيليا لفالفيان يعارض فيه آراء إيوتيتش. لم تقرأ هذه الوثيقة أبدا – والتى عرفت بإسم كتاب ليو - فى المجمع حيث لم تكن تتناسب مع خطط ديسقوروس ومن ثم فقد تم تجاهلها. ومن الواضح أن ذلك لم يسر ليو والذى كان قد شعر بغضب شديد بسبب أساليب ديسقوروس فى قيادة المجمع بحيث أطلق علي مجمع إفسوس الثانى تسمية (مجمع اللصوص). وعلى هذا وعندما توفى الإمبراطور ثيودوسيوس بعد عام من ذلك التاريخ فى سنة 450م - كنتيجة لسقوطه عن صهوة جواده – وجد الأسقف السكندرى نفسه - وبشكل مفاجئ – فى موقف ضعيف بعد أن فقد أقوى حليف ومدافع دولى عنه.
وفى أعقاب وفاة ثيودوسيوس جاء رد الفعل ضد ديسقوروس سريعا وقاطعا إذ تحركت الإمبراطورة الجديدة بولشيريا – والتى كانت متعاطفة مع ليو – لإلغاء أعمال مجمع إفسوس الثانى ودعت إلى عقد مجمع جديد فى السنة التالية فى خلقدونية بالقرب من العاصمة القسطنطينية. وفى مجمع خلقدونية هذا سنة 451م تم عزل ديسقوروس- لمحاولته حرمان ليو من الكنيسة فى إفسوس - وتم شجب لاهوت إيوتيتش مرة أخرى كما تم التوصل إلى حل وسط يرتكز على ثلاث وثائق أولية هى كتاب ليو وخطاب كيرلس الثانى إلى نسطوريوس والصيغة السكندرية الأنطاكية لإعادة الإتحاد. كانت لغة قانون خلقدونية ( أى القرارات التى خرج بها المجمع) ذات مغزى . فحتى عندما ثبُتت العذراء مريم كأم للإله فقد تحدثت عن المسيح فى طبيعتين وبدون غموض أو تغير وبدون تقسيم أو إنفصال. وبالنسبة لمعظم أعضاء الوفد المصرى فإن التأكيد على طبيعتين للمسيح كان ينطوى على مسحة من فكر نسطوريوس. وبدا التقرير كأنه خيانة لميراث كيرلس. وبدا رفض المجمع لقبول لعنات كيرلس الإثنى عشر ضد نسطوريوس كأنه يؤكد ذلك الإنطباع.
وفى النهاية رفض معظم أعضاء الوفد المصرى بإصرار سلطة المجمع لعزل ديسقوروس. وبعد إنتهاء أعمال المجمع وحتى بعد أن أُرسل ديسقوروس إلى المنفى فى جانجرا (بافلاجونيا ) وأقيم مكانه أسقفا مؤيدا لقرارات خلقدنية يسمى بروتيريوس إستمر الأقباط المسيحيون فى إعتبار ديسقوروس بطركهم الشرعى.وبين المؤمنين المصريين – وخاصة بين الرهبان الأقباط - فقد بدا إقصائه القسرى عن منصبه فقط وكأنه يقوى من شهرته كقائد زاهد مقاتل والأخير فى سلسلة طويلة من البطاركة تشمل ديونيسيبوس وبطرس وأثناسيوس من الذين عرفوا تجربة النفى على يد الخصوم المعادين. والواقع أن شهرة ديوسقوروس كبطريرك منفى وديرى أثير سوف تحتفل بها الأجيال التالية من الكتاب والفنانيين الرهبان المعادين لقرارات خلقدونية فى مصر.
وهكذا فما نتج عن مجمع خلقدونية لم يكن حلا وسطا بشأن طبيعة المسيح يُنسب إلى جميع الأحزاب ولكنه كان إنشقاقا رسميا بين الكنيسة فى مصروالكنائس فى روما والقسطنطينية. وعلى مدى القرنين التاليين كان لهذ الإنشقاق تأثيرات عميقة على المشهد الإجتماعى والسياسى والدينى فى مصر حيث إستمرت الكنيسة المعادية لقرارات خلقدونية هناك فى مقاومة سيطرة الدولة البيزنطية، وحيث همشوا تحت الحكم السياسى للقسطنطيمية ، فسرعان ماأصبحت الكنيسة القبطية وبطاركتها منفيين فى وطنهم.



#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تركيا وروسيا وإسرائيل ، ثورة دبلوماسية، أم مؤامرة جديدة؟
- وداعاً 30يونيو
- الإتحاد الأوربى والمشروع الإسلامى
- حضارة بابل وخرافات الخمينى
- عصر الأنوار والحروب الدينية
- مصر والبحر المتوسط
- فى ذكرى جيفارا المصرى، شهدى عطية الشافعى
- أقليات الشرق وخداع الحداثة
- الشرق الأوسط وصراع الحضارات
- مابعد الدين والقومية
- تاريخ الشرق الأوسط-تأليف بيتر مانسفيلد-ترجمة عبدالجواد سيد
- ملحمة جلجاميش وجذور الفكر الدينى
- مختصر تاريخ مصر فى العصور القديمة
- الحلف السعودى الإسرائيلى المصرى والشرق الأوسط الجديد
- ثورة المعرفة والصراع الطبقى
- المسيحية من الإستبداد ، إلى الإصلاح ، الى الثورة العلمانية
- أساطير العهد القديم وأصل الإسلام
- محمد والقبائل والرسالة المزعومة
- صلاح الدين بين السنة والشيعة
- أنور السادات وسيد قطب ودستور الإرهاب المصرى


المزيد.....




- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...
- هل أصبحت أميركا أكثر علمانية؟


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجواد سيد - تاريخ البابوية القبطية المبكر-ستيفن ديفيز-ترجمة عبدالجواد سيد